المقالات الأخيرة

“لقاء مارس 02: تواشجات” دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

“لقاء مارس 02: تواشجات”

دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

فيما يشبه الالتزام الأخلاقي والجمالي، تبنى لقاء مارس السنوي، الذي تنظمه مؤسسة الشارقة للفنون، في دورته الجديدة التي انتهت أنشطتها قبل أيام، طيفًا واسعًا من القضايا والموضوعات والنقاشات وعروض الأداء، التي لئن اختلفت وتعددت وتنوعت، إلا أنها تذهب كلها إلى منطقة واحدة،...

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

أرض الإشارات.. أميركا في نثار اليوميات

بواسطة | مارس 1, 2022 | يوميات

نافذة في إطاريْن

ثمة تعارضات بين نافذة تنسي الجنوبية، ونافذة التذكر البغدادية. لكل منهما إطار مختلف. بغداد تكثف ضباب الذكرى على زجاجها. ونافذة تنسي تهب رشوة التأمل. ومن المفارقات أنني سأعلم من مواطن هنا، أن تنسي سميت باسم مدينة (تناسي) الصغيرة التي سكنها الهنود، أو السكان الأصليون كما يُسَمَّون، وتعني مكان اللقاء. بالنسبة لي كانت احتمال وداع لكتاب حياتي الذي جمعتُ صفحاته الخمس والستين بصبر وعناء. ولا لقاء هنا يطمئن حنيني إذن. الناس تتعارض خطاهم وطرقهم في لهفة واضحة لا تخفيها الرصانة المصطنعة والهدوء. ابتسامة باردة تطالعك يمكن تأويلها بمرادفات عدة. أحيانًا تمسك امرأة بمحدق فيها، فتقول كفى! بلغة الابتسام. وأحيانًا تكون هروبًا من كلام يخشون أن يجرَّ كلامًا، كما في الأليغورة الشعبية العربية.

ما يناله مقيم مسنٌّ لا يمكن أن يناله في بلاده التي فر منها خوفًا. تصلني برسائل نصية مواعيد تجديد الدواء واستلامه. ولا يبخل طبيب بمشورة. اخترت طبيبًا جزائريًّا ليس لتجاوز الحواجز اللغوية والثقافية، بل لدماثته وتعاونه. صار يعرف أدوائي حدسًا، قبل أية معاينة. طالما أوصاني بالرياضة. وفي المتنزهات الكبيرة والكثيرة هنا ما يغري بذلك. صباحًا في اعتدال الجو أتريض في متنزه أدوين ورنر القريب. متاهة من الشجر والممرات تتقاطع، وتمتد بلا نهاية واضحة للبصر. هو في الحقيقة متنزهان ضخمان لعائلة واحدة، أتيحا كحديقة عامة. أعمار مختلفة، وحبور صباحي على الوجوه، يزيده الطقس والطبيعة شعورًا بالرضا.

طبيعة تتنوع وتأسر الشعور. كنت أقف مع صديقي الشاعر فضل خلف جبر في كراند رابد بميشيغان، عند بدايات بحيرة ميشيغان، ثاني البحيرات العظمى الخمس، التي لا يرى لها ساحل. في الأفق تبتعد متسعة، لتمضي بمائها عبر أربع ولايات. ثم بعد أعوام سأقف عند ساحلها في شيكاغو. مد البصر تلوّح لك كصديق تلتقيه مجددًا. ماء يرش على الروح رذاذ الشجن والتذكر: الحبانية والكوت، ومياه كثيرة لا تكفّ عن الجريان في نهر الذاكرة.

عطايا الجنوب

يهب الجنوب لساكنيه ومهاجريه فكرةَ قراءةٍ تقوم على سمة المحافظة. فلا ترى ما ستراه في المدن الكبرى. دور العبادة الكثيرة لا تتلاءم حتى مع عدد السكان. تحيط بسكني في حي صغير ثلاث كنائس كبيرة تتقابل وجهًا لوجه. ولكن لا تديّن يبدو في العمق. فهو ممارسة توصل أبناء مهاجرين قدامى بماضيهم، حين عثروا في المكان الأميركي على ملاذ من الاضطهاد الديني في أوطانهم الأولى، ولا سيما في أوربا. وستزدهر بسبب ذلك موسيقا الغاسبل الدينية أو الإنجيلية، والترانيم المصاحبة لها، التي أسهم فيها الموسيقيون والمغنون من الأميركان الأفارقة حتى في عصر استعبادهم. وسيكون للخطاب الديني حضور مظهري. أكبر سلسلة مستشفيات ضخمة في المدينة باسم سانت توماس. وفي عياداتها، حتى في قاعة العلاج الطبيعي، نسخ من الكتاب المقدس، وعرضٌ لمن يريد أن تقام له الصلاة. وتسهيلًا يمكن تلبية طلبه عبر الهاتف أو الزوم مؤخرًا، اضطرارًا للتباعد الذي فرضته الجائحة. ولكن ذلك يتم بما لا يضايق الحريات الشخصية، أو الخصوصيات الدينية الأخرى.

ما يخفف ذلك السكون الاجتماعي، والقنوط العام في الأمزجة هو أن مدينة ناشفيل، العاصمة التي تسقط الياء منها تخفيفًا في اللفظ، هي مدينة موسيقا الريف كما تعرفها الولايات كلها. هنا يتزاحم السيّاح على قاع المدينة، ومركزها حيث الموسيقا الحية تبدأ منذ الضحى. ضجيج تخلقه تقاطعات العزف من محل لآخر في شارع واحد بجانبيه وتفرعاته. اسمه يوجه إيقاع رواده: برودواي. إحياء لاسم المسرح الشهير في نيويورك، والشارع المسمى باسمه، وعروضه الموسيقية. هنا أيضًا عدة شركات للتسجيل والإنتاج الموسيقي الأشهر في الولايات المتحدة. ويكاد قاع المدينة أن يكون حكرًا للسيّاح. إنه ينبض بالحياة والفن. لكنه صاخب ومكتظ. من الصعوبة أن تجد موقفًا مناسبًا لسيارتك، ولا سيما أيام العطل الأسبوعية والمناسبات.

تتنازل أرقام الشوارع وسط المدينة، وتتداخل تفرعاتها، لكن الرمزي هو أن نهر المدينة (كمبرلند) ينتهي كهامش على متنها، ويكون رقمه صفرًا في متوالية الترقيم. وعلى ضفته تنزوي بضع مبانٍ تراثية تذكّر بتاريخ المدينة، تبدو كجزيرة وسط المباني الحديثة وناطحات السحاب. تجاورها كيدًا ومفارقة بناية الاتصالات الكبرى. يسميها الناس الباتمان؛ لأنها تنتهي بجناحين بارزين كعمودين يحيلان إلى رداء الباتمان الشهير.

تضررت المباني التراثية التي تذكّر بطراز العمارة القديم، بفعل قنبلة فجَّرها مواطن مهووس أول أيام عام 2020م. وجاءت متوافقة مع كارثتين: عاصفة دمرت جزءًا من أحد أحياء المدينة. وطلائع فيروس كورونا الذي بدا زائرًا عابرًا حينها. بالقرب من ذلك المكان يقف عازف بنصف إغماضة، وبجانبه كلبه، ينتظر ما يرمي له العابرون في قبعة أودعها عند قدمي الكلب الأماميتين، كأنما ليعلن هذا الفراق بين ماضي المدينة المدمر بالتفجير، وحاضرها الذي ينمو بالعزف على مقربة من ركام الدمار. قريب منه مكان كان يستخدم لحبس المستعبَدين وأسرى الحرب الأهلية أو حرب الاستقلال. أحد الجسور هو جسر جون سيجنثلر، مخصص الآن للمشاة. من هناك أطل على المدينة غالبًا، وأرى أحشاء عماراتها وهياكل مبانيها القديمة وسطوحها. بضع حانات متواضعة يبدو عليها القِدم، تركها أصحابها هكذا لتجذب فضول الزبائن السائحين الباحثين عما هو مختلف واستثنائي. ثمة فرصة هنا ليتابع عابرو الجسر البطِرون أقدام الأسرى الذين كانوا يُؤخَذون في الحرب الأهلية إلى الجهة الأخرى من النهر المسماة (شلبي)، لِيُتَخَلّص منهم.

جسر المشاة تخليد جميل قرأته بكونه عقابًا للصمت ونسيان العناء الإنساني، كما حاق بالذاهبين إلى مجهول المصاير. عن يمينه تريد المدينة أن تستعيد عافيتها، فيطالعني ملعب نيسان الذي أناور أسيجته وفضاءاته وأهرب منه إلى الكورنيش القريب. إنه مخصص لكرة القدم الأميركية التي لم أستطع التآلف معها نظامًا ولعبًا. لا تعجبني كرتها الإهليلجية الشكل. مهووسون كثر يحملونها رمزًا حتى في لوحات مفاتيحهم. بدأ أحفادي يتفهمونها ويتابعون مباريات فريق التايتانز الذي يمثل الولاية. انشطار آخر بيني كمهاجر عجوز في ذاكرته كرة القدم التي تضج بها ملاعب الطفولة المتواضعة، وبين أحفادي الذين نشأت المدينة في وعيهم جزءًا فجزءًا، ووجدوا في عراك اللاعبين للحصول على الكرة بأيديهم متعة ودهشة. دومًا أحاججهم لتسفيه اللعبة، أنها مغالطة تبدأ من عنوانها. فهي كرة قدم لكنها تلعب بالأيدي. يقول صديق بحت له بمفارقة التسمية. فردَّ غامزًا انحيازي الشعري. إنها قصيدة نثر تنتمي للشعر. لكنها تكتب سطورًا كالنثر!

النهر، يا صاحبي القديم

ارتباطي بنهر المدينة جعلني أصحب الزوار والأهل لرؤيته، والسير على الكورنيش. وبشهيتي السابقة أوَّلت مجراه وضفتيه، بنهر دجلة الذي يماثله في عرضه، ويشق بغداد في لهاث جريانه للقاء فراته. فسَّرتُ ارتباطي بالنهر بالحنين وتطمينات المكان أيضًا، متخفيًا في رومانسية وذاكرة شعرية. من العراق رآه أخي عبدالستار زائرًا، وابنتي هند وأولادها من كندا، وصديقي القديم باقر الذي يصر على زيارة وسط البلد والكورنيش، كلما زارني قادمًا من ولاية كنتاكي الملاصقة لتنسي. وكثيرًا ما تصحبني زوجتي وابنة اخي وأولادها. وهم جميعًا يعيدون التشبيه. إنه يحيلنا لمرأى دجلة بضفتيه، أو (صوْبَيه) كما يثنّونها في اللهجة العراقية.

عازفات وعازفون ومغنون ومغنيات شبان غالبًا، متفاوتو الموهبة والصوت يطلّون من وراء الزجاج، كأنهم يشيرون للمارة بأن يندمجوا في هذا الطقس الفريد. كثيرًا ما شعرت بالألم، وأنا أرى بعضهم يعزف أو يغني دون متلقين في وقت الظهيرة. أحس أن بضاعة الفن تعرض كسلعة مما يباع في المخازن المجاورة. كازينوهات ومطاعم وحانات تعج بالسيّاح، وتزدحم موائدها بهم، بينما يفضلون الاستماع وقوفًا، أو من سطوح البناية وطبقاتها العليا. وتتأثث تلك الزيارة للجنوب وموسيقاه الريفية بمزيد من علامات التقاليد التي ينحو الجنوبي لترسيخها، جزءًا من هوية له. والهوية هنا موضع سؤال ثقافي دائم.

يتهافت الزوار على اقتناء قبعات الكاوبوي، وأحذية جلدية طويلة، وسترات مرقّطة، والتجول بعربات تجرها الخيول الهرمة التي تجلب غالبًا من قرى الآميش الذين يعيشون حياة بدائية. لم أستطع تفهّم تلك الموسيقا الريفية التي يصدني عنها تكرار إيقاعها الممل وتماثلها الصاخب، على الرغم من تعلقي بأغاني الريف العراقي، وتفضيلها على ما ينتشر كالفيروس في الوسائط التواصلية من أغانٍ هابطة المحتوى واللحن. على الرغم من ذلك انصعت لفضولي وزرت متاحف موسيقيي المدينة؛ مثل متحف مشهوري العازفين والمغنين الريفيين، والمتحف الخاص بالمغني جوني كاش. وفي ممفيس، سأرى لونًا آخر يتسيده الجاز الزاعق، ولمشهوري عازفيه متحف خاص. بينما ستأخذني زيارة بيت إلفيس بريسلي ومتحفه إلى تنويعات موسيقا الروك، حيث وصلتْ من هناك إلى العالم.

ثياب إلفيس الشاب الوسيم وأثاث بيته، ثم طائرته وسياراته وألبومات أغانيه وقيثاراته كلها معروضة للمشاهدة. ولا بأس أن ينمو على هامشها سوق لبيع التذكارات التي يحرص الزائرون على اقتنائها، كأنما ليؤكدوا زيارتهم تلك. وليجني العارضون أرباحًا كثيرة، شأنهم في ذلك شأن كل مرفق ثقافي تحتشد في تفاصيله بضائع ومطبوعات وتذكارات سياحية عن المكان؛ لترسخ في ذاكرتي ثنائية السلعة والمعالِم.

سؤال الهوية: مفارقات التميز

تشكل الهوية وتأكيد الذات إشكالية كبرى في المزاج الأميركي. إنهم يبحثون عن التميز. لابأس، ولكن أحيانًا بنسْخ ما لدى سواهم، ولا سيما في جانب الحضارات والآثار.

تؤكد ذلك رؤية مبنى البارثنون الضخم في السنتينْيَل بارك في ناشفيل، حيث الفضاءات الخضراء والبحيرة والزوار والمتسكعون. الناس هنا يسمون المبنى (أثينا الجنوب) استعارة فنية أو علامة حضارية وفنية، لكنها تشتغل في غير مكانها. قرابة مئة وثلاثين عامًا عمر هذا المبنى المحاكي للفن اليوناني، والريليفات -النحت الناتئ- على جوانبه. إنها استعارات كولاجية تكثر في أميركا تعويضًا عن هاجس الهوية. البارثنون على قمة جبل الأكروبولس. مقر الآلهة والحكام.

فهل أرادوا صياغة أخرى لمركز الكون على هذه الأرض؟ بينما أعيش كمهاجر حنينًا عكسيًّا إلى أرض الرافدين الأولى التي تدوس الأقدام فيها على حضارات نائمة. حين تأملتُ تمثال الحرية في الجزيرة الضائعة بين نيوجيرسي ونيويورك، وقرأت بعض الشروح المرفقة بالنصب، أحسست أن ثمة اقتراضًا حضاريًّا أيضًا. الفنان الفرنسي فيردريك أوغست بارثولدي يعبر الأطلسي بفنه، ليكون التمثال علامة أخرى تعمل منذ قرابة قرن ونصف. وسيكون مناسبة لإظهار غضب الغاضبين من المدينة الصمّاء بمبانيها المتطاولة في الفضاء، وضجيجها، ومداخن مصانعها، وبهرجتها التي يلخصها الشارع الخامس، والوول ستريت، ومنهاتن، والتايم سكوير.

العبودية تذكّرك بها كل الأمكنة هنا. لا يزال عدد من الغيتوات في مناطق معينة حيث يتكدس ذوو البشرة السمراء. إنهم في كابوس طويل من عناء الحصول على حقوقهم المدنية التي يلخصونها بالمساواة. الجنوب نفسه شهد أكثر مآسي العبودية دموية ومهانة، ولا تزال المعارض تستعيد صورًا منها وتمثلاتها في الفن والأدب.

لم يكن معلموها ينالون مثل أجر زملائهم في مدارس البيض، والفصل العنصري ضدهم في المدارس الحكومية والخاصة. واستمرار ذلك حتى الستينيات… وسيتميز الأفارقة الأميركان حتى بنبرة صوتهم وتلفظهم وبعاداتهم وطرق حياتهم. سألحظ كل أحد أن الكنائس قربنا لا يؤمها إلا البيض. ثمة كنائس أخرى للديانة نفسها في أماكن خاصة باللاتين والإسبان.

في عيد الهالوين: امتلأت البيوت من الخارج -حيث لا أسيجة هنا لحجب الرؤية- بشتى تمثيلات الرعب: جماجم وعظام ويافطات بيض كالأكفان، فزاعات، ودُمى، صور الرعب التقليدية، لم تفتني ملاحظة غياب الكنيسة عن الحياة. على الرغم من الشكليات، فهناك في النسغ والمخفي تدين شبه إجباري: المخازن الكبرى لا تبيع الخمور أيام الآحاد مثلًا. سيدة سمراء تُري صديقتها صورة لصغيرها، محتضنًا سانتا كلوز -بابا نويل- أبيض البشرة، فتكلمها صديقتها بصوت منخفض قليلًا يكفي ليسمعه من يجاورها: ولماذا ليس سانتا كلوز أسود؟ لقد جاء لكنيستنا والتقطنا معه الصور.

التكلس حول الجماعة تمنح الفرد الغريب هنا أمانًا يمثله. للعرب والشرقيين مثلًا، أحياؤهم وأسواقهم. تحت سقوفها تنهل النوستالجيا المزيد من تطمينات الحنين. الأسر العراقية الكردية التي وصلت هنا بعد حرب الخليج، ومهاجرو المدن الأخرى ولا سيما الجنوبية تكدسوا في شرق المدينة. والذهاب إلى هناك يجعلني أشعر بأني ذاهب للعراق. تطمين من الحنين بنسخة غير مستنسخة! تنقلك محلاتهم في أسمائها ومحتوياتها إلى الوطن، أي شيء محليٍّ مهما صغر، سيكون فوق رفوفها، كالهامشيات التي نُسيت ربما حتى في موطنها. ويتعزز ذلك بالأدخنة المتصاعدة من المطاعم ومأكولاتها الوطنية، تجاورها محلات المكسيكيين والآسيويين المهاجرين، وكأنها جماعة أممية مصغرة تتربع في هذه المساحة… دخان تصوره مخيلتي بإيحاء الشم هذه المرة، احتراقًا لمقولات نظريةٍ شاعت عن العولمة، وكوكب العالم الصغير كقرية أو غرفة، لا اغتراب فيها أو أغراب. غرفة الكون الافتراضية تصاغرت، حتى صارت غرفة نائية، تؤثثها النوستالجيا، في عالم متعدد الغرف ومتفرِّقها.

لكن وسط ذلك كله لن تجد مكتبة عربية واحدة، أو مطبوعة عربية. وتلك قصة أخرى سيتكفلها النظر من نافذتي الجنوبية إلى الثقافة التي تسير على قدم واحدة هنا، هي البصريات. الاحتفاء بالشعر معدوم تقريبًا، وشهرة كاتبي الأغاني تطغى على أي شاعر حق. وشجعهم على الإسراف في ذلك فوز بوب ديلان بنوبل للآداب عن تطويره -أو ما خلق- من تقاليد في الأغنية الأميركية، كما تقول لجنة الجائزة، مستعيرة دون شك ما يعرف به ديلان في أميركا. وإذ تعاين ما تضخ المكتبات من جديد دائم أو يومي، لا يتعدى الروايات التي انصرفت للخيال العلمي أو الكتب المصورة، وكثيرًا ما تصدر مصحوبةً بالنسخ السمعية التي تعكس المزاج العام النافر من المعاينة الورقية.

كتب السير والشعبويات العامة هي المتسيدة، وكتب الأفضل مبيعًا تحددها الصحافة وتعرضها المكتبات بأسعار مرتفعة، وستجدها بعد أسابيع رخيصة في مكتبات الكتب المستعملة التي توفر كل شيء. في مكتبة مَككي الشهيرة التي دخلتها أول مرة مع صديقي الأقدم إقامة علي الموسوي. قاعة كبيرة تصطف على أرففها: الكتب المتنوعة، والأشرطة الفلمية، والمسلسلات المستعملة، والسيديهات، والألبومات الغنائية والموسيقية القديمة، طالب جامعي شاب مدَّ يده إليَّ، وهو يحمل نسختين مترجمتين من ملحمة جلجامش. هما في الحقيقة تلخيص سردي مبسط لوقائع الملحمة، وبعض فصولها مع مقدمة تحليلية. كيف حدس أنني من بلد جلجامش؟ لم يكن ذلك في حسابه. بل اكتشف من لون بشرتي أنني شرقي، وذلك عالم واحد بالنسبة له. ابتعت النسختين لأدع إحداهما في مكتبة أحمد عدي، حفيدي المهووس بكل ما هو عراقي.

في المدارس الثانوية يركزون على العلامات الفارقة في السرد الأميركي. يتصدر ذلك (غاتسبي العظيم) لترويج شخصيته التي تمثل البراغماتية المتحكمة في الحياة. إنه يصل إلى ما يريد ولو بأعمال غير قانونية. سررت اليوم لأن أحمد قرر أن يأخذ مسرحية (هاملت) لتكون موضوع الملخص القرائي الذي سيقدمه لأستاذ اللغة. أن تكون أو لا تكون ذاك هو السؤال. ولتتسع يداك وعقلك وقلبك للمزيد.

لا وقت للقراءة المعمقة إلا للمختصين. تقلصت الموسوعية هنا. وتحددت الاختصاصات بدقة غريبة. وما يجمع هو الكتب السطحية. فتفوق كتب الكلمات المتقاطعة والأسلحة والإعلانات والموضة ومجلاتها ما يصدر في الفنون الأخرى. لا تباع هنا مجلات الشعر العريقة مثل مجلة (شعر) الأميركية، وستهديني أعدادًا منها الصديقة الشاعرة دنيا ميخائيل التي تسطع في سماء الشعر، وتدعى لتقديم قراءات في أهم الأمكنة في الجامعات وسواها، وتنصرف لهمِّها الكتابي بدأب وصبر.

وزاد الاهتمام بها بعد عملها «سوق السبايا» الذي يعرض سرديًّا جرائم داعش في القرى اليزيدية. أتقصى أخبارًا جديدة عن أحداث الشعر وقضاياه في كل زيارة لها، ومازن يوسف زوجها المثقف الذي يبادلني دومًا بالهاتف استعادة الذكريات الثقافية وشخوصها، ووقائعها الدقيقة التي شهدها فتيًّا ببغداد، في ملتقيات الكتّاب والأدباء وكتاباتهم وأنشطتهم. وقراءاته الحميمية لكل جديد.

يعادل هذا الغياب ما تقدمه الثقافة البصرية التي عوضت لي أيضًا فقدان تواصلي مع المطبوعات. تكفَّل البصر بلغته التي بلا وسائط بردم الفجوة. وإن غزته الوسائط وصار رقميًّا أو عبر المواقع. قاعات العرض هنا صارت جزءًا من ملاذاتي، زياراتي ببطاقة العضوية لمركز فِرسْت للفنون البصرية الذي احتفل مؤخرًا بمرور عقدين على افتتاحه، ستكون فرصًا لمعاينة المعارض الحديثة، وكذلك الاستعادية التي ينقلونها أحيانًا عبر القارات. معرض لشخوص بيكاسو، وآخر لفان غوخ ومعاصريه، وثالث لتيرنر، وللانطباعيين، وللفن زمن الحرب العالمية، ومعارض لمصوّرين محترفين من العالم، وللفن المكسيكي، والكوبي، وللأهرام، وللسكّان الأصليين، ولنساء القبائل الأميركية الأصلية… وسواها. قاعات العرض الخاصة سمتها البيع. لكنَّ قليلًا منها يُعنى بحداثة الرسم وتياراته. ويُصدر مطبوعات دورية. يوزَّع بعضها مجانًا.

عناوين ومشاهد

– أميركا بلد الشعراء. يقول الشاعر صلاح فايق في حوار إسكندر حبش معه، مستدلًّا على ذلك بأعدادهم التي تفوق عشرات الآلاف في ولايات أميركا الخمسين. ذهب بريق الذرى التي كانت في تاريخ الشعر الأميركي. وتعددت مراكز الشعر تفكيكًا شاملًا في أزمنة الحداثة وما بعدها. اهتمام متواصل بقصيدة النثر. كثير منها يكتب بشكل مقاطع طويلة كالنثر العادي. والسطر الشعري يكاد يختفي. لكن الصورة والانزياح يظلان ملازمين لما ينشر. وتضج به المواقع الشبكية.

لكن (ظاهرة) الشعر تخضع لسطوة الميديا أيضًا؛ كالأحداث الأخرى. كنت أستمع لما ينقله التلفاز في حفل تنصيب بايدن رئيسًا مطلع عام 2021م. ستقرأ الشابة السمراء ذات الاثنين والعشرين عامًا أماندا غورمان قصيدة عنوانها «التل الذي تسلقناه». الضمير هنا للأميركان كلهم في سعيهم للاتحاد الذي ركزت عليه القصيدة.. تلتهب الأكف بالتصفيق. كلام عادي، لكنه يأخذ أثره من حادثة الهجوم على مبنى الكابيتول التي جرت قبل الحفل بأيام، والتي ضمنتها آماندا في قصيدتها. كثيرون قارنوا بين قصيدتها وما قدم في حفلات التنصيب عبر التاريخ. وأهمها قصيدة روبرت فروست في حفل تنصيب جون كينيدي. أخذت الفتاة نصيبًا كبيرًا من الشهرة. وأصدرت ديوانًا بالعنوان نفسه. وصرحت بأن توني موريسون ومايا إنجلو من مصادرها المؤثرة. من بعد سترشح قصيدة لآماندا مع بعض كلمات أغاني فرقة البيتلز، لتذهب عام 2021م في مركبة فضائية. وترجمت قصيدة التنصيب وحدها، إلى عشرات اللغات في العالم. سيجيء الإنقاذ لماء وجه الشعر الأميركي وتاريخه، حين فازت عام 2020م بنوبل الآداب الشاعرة لويز غلوك.

– أميركا سوداء: متحف الموسيقيين الأميركيين. في وسط المدينة يقع متحف الموسيقيين الأفارقة الأميركان. الباب الصغير لا يمثل سعة الداخل ورحابته وتعدد قاعاته. هكذا أيضًا دخل العازفون والمغنون السود إلى عالم الفن في أميركا. ترميز يستثير شهية التأويل. تصدح موسيقا الجاز والأغاني بلغات إفريقية قديمة. والصور تعزز في الذاكرة كارثة الفصل العنصري المهين الذي تعرضوا له.

صورة استوقفتني طويلًا: جمع منهم يرقصون ويعزفون في استراحة لمالك المزرعة وضيوفه. عبيده الذين يسحبون عناءهم النهاري وذلهم يرقصون كالطيورر الذبيحة. وأوائل أغانيهم كلها بلغات قبائلهم التي عاشت في إفريقيا، قبل استعبادهم للعمل في أراضي العالم الجديد ومزارعه. حتى مغنو الأناشيد الدينية وعازفوهم لم يجدوا عدلًا من سادتهم. لم تشفع لهم الصلوات والأغاني الممجدة للرب. ظل السيد يسوس العبد ويمتلك وجوده كله، حتى يحين الموعد الأخير بتحقيق حلم مارتن لوثر كينغ. تغافلوا هنا عن مقتله ربما لتفادي التذكير بالانشطار، وجعلوا يوم مولده عطلة وطنية، واحتفالًا يمجّد كفاحه ضد العنصرية. صوره تصطف بجانب لافتات «حياة السود مهمة» في الجامعات والأماكن العامة.

– أميركا منشطرة: خرجت المسألة إلى العلن، بعد أن كنا لا نكاد نلحظها إلا عبر إشارات وتلميحات. يختلفون حول ملكية السلاح وحق حمله. يقول لي رونالد الذي عرفته سنوات هجرتي الأولى: إن ذلك يحمينا ويؤمن حياتنا. ذاك هو المتدين المبشر بالتسامح. وماذا عن الجرائم التي تفوق التصور؟ كنت أكتب عند انتصاف الليل، وسمعت صوت الطلقات، كأنها تتفجر خلف نافذتي. وإذ أخرج مستطلعًا أصدم برؤية جثة شاب لا يتعدى السابعة عشرة ممددًا. سيتبين أنه اختلف مع بائع مخدرات. هرب، فتبعه البائع بسيارته، وأرداه قتيلًا، ثم ادعى، كما جاء في الصحف المحلية، بذريعة الدفاع عن النفس. كلما خرجت من سكني أرى مكان جثته، وأسترجع دوي الرصاصات، وصورة الجسد المسجى كنائم. وأفكر بمحل بيع السلاح القريب الذي لا يتطلب شراء السلاح منه شيئًا، أكثر من بطاقتك ونقودك. أخذ الخلاف سمتًا سياسيًّا، واصطف الأميركيون خلف الشعارات والأفكار، ليتخذوا موقفًا من ذلك الخطر القائم.

وهم مختلفون حول الكورونا. تحول فاوتشي كبير مستشاري الأوبئة والمتمسك بالتطعيم، وارتداء الماسك، والتباعد، إلى شخصية يتداولونها في نكاتهم. المتشددون خاصة من رافضي الإجراءات بحجة الحرية الشخصية والخصوصية. الرسام الكاريكاتيري لجريدة حيّنا الأسبوعية، رسم في عيد الهلاوين رسمًا يظهر فيه فاوتشي، وهو يقدم الحلوى المعتادة بالمناسبة من داخل البيت، من دون أن يظهر، وبوساطة رافعة تجتاز الجدار الخارجي، لتصل إلى القادمين لبيته؛ كما وضع لافتة على الباب تقول: للمطعَّمين بالفاكسين فقط!

انقسم الأميركيون علنًا حول الفيروس ومقاومته. وأسبغوا عليه ظلًّا أو لونًا سياسيًّا. لا تضع الكمامة؟ إذن أنت جمهوري، ترى أن الفيروس مؤامرة مفتعلة. وخبر زائف! أما الموت (تعدى عدد الموتى الثماني مئة ألف)، والإصابات من حولك (بلغت قبل أيام أكثر من مليون إصابة)، فهي مصادفات وأمراض عابرة كالإنفلونزا!

– أميركا ورقية: على الرغم من أنها مصدر الانبعاث التقني والرقميات الحديثة، فلا تزال أميركا تتعامل بالورق؛ لتدفع فاتورة الكهرباء. يصلني بالبريد مغلف ممتلئ بالدعايات والشروح والتفاصيل مع القائمة. وأدهشني شاب في عيادة طبيب، قدمتْ له موظفة الاستقبال رزمة ورق ليملأها، قبل أن يحين دوره. تصفحها بضجر وتعب. ثم ردّها للموظفة قائلًا: لو كان بإمكاني أن أملأ كل هذه الأوراق ما جئت للعيادة!

أرسلت شركة الاتصالات قائمة بخمسة دولارات، تمثل فرقًا لم يضف للشهر السابق. لكن المغلف يحتوي قرابة خمس أوراق، إعلانات وعروض. بعضها ملون ومصور. لا أشك أن ثمن الطابع البريدي والمغلف وحدهما، يفوقان المبلغ الذي طالبوني به.

ألف القيمومة

تبدأ أميركا بألف. ذاك الذي يعده ابن عربي (قيّوم الحروف) في كتاب له بعنوان كتاب الألف. تذكرت ذلك في مقايسة غريبة عنّت لي. بحسب ابن عربي، فإن كل شيء في الحروف متعلق بالألف، ولا يتعلق هو بأحد. فاكتسب صفة الأحَدية. ألف أميركا يعمل كإشارة لتفوّقٍ مضمر: كل شيء يتعلق بها، ولا تتعلق هي بشيء. وجود طارد لسواه. هذا يفسّر جزءًا من معضلة الهوية أيضًا. علينا مثلًا أن نتعلق بها. (أمة) تتفوق وتزهو.

سترى حضارتك، من خلال ما اختزنوه منها. لا يهم في هذا التعلق من أين جاءت القيمومة الممثلة بألفها. فكرت في ذلك، وأنا أتأمل تمثالًا لملك لغش غوديا الجالس، وابنه أور- نينغرسو في متحف المتروبوليتان في نيويورك. نظرت كأني أخاطبه: ماذا تفعل أيها الأمير السومري هنا؟ وأية ريح حملتك؟ مفارقة ألف أميركا القيّوم في حروفنا العربية، ستخذله تصنيفات رامبو = أسود عنده. لن يرضي هذا كثيرين. أن تبدأ أبجديتهم بذلك. A للحروف. ف. ظلت أميركا أرض الإشارات: من جهتين؛ حداثة تاريخها وسكناها، وهذا التنوع البشري والأعراق والأديان والألوان والثقافات فيها. فهي بلد مهاجرين: بنوه وسكنوه. محفل إشاري تتيه فيه الخطى والثقافات، وتتعايش وتتصادم… لكنها تجد على هذه الأرض ملاذًا، وترى نفسها نبتًا في تربته، لا يكفُّ عن الإشارة بشتى السبل، إلى منبته الأول.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *