البيوت الأولى

البيوت الأولى

ليس أكبر غبطة، وربما ليس أكبر دقةً من قول غاستون باشلار (1884- 1962م): «البيت كوننا الأول، البيت كون حقيقي، البيت ركننا في العالم». وكنت –وما زلت– قد وقعت في فتنة كتاب باشلار «جماليات المكان» الذي ترجمه غالب هلسا (1932-  1989م)، وصدر أول مرة في بغداد، حيث افتتحتْ به مجلة «الأقلام» سلسلة كتابها الدوري عام 1980م. بيد أنني منذ قرأت هذا الكتاب قبل أربعين سنة، وما زلت، أتساءل وأحزن كلما رأيت نفسي غريبًا على ما ذهب إليه باشلار من أن البيت الذي (ولدنا) فيه محفور بشكل مادي في داخلنا: «إنه يصبح مجموعة من العادات العضوية». وقد غاظني ما قرأت لزهير الخويلدي منذ حين من أن الإنسان عندما يفقد ذكرى بيته الأول، فإنه يصبح كائنًا مفتتًا، لا هوية له ولا أصل.

في لقائي الأول في نهاية 1979م بغالب هلسا في مطعم أم نبيل في بيروت، وعلى إيقاع زخّات الرصاص وانفجارات القذائف في الحرب الأهلية اللبنانية، قلت له: أنا لا أذكر البيت الذي ولدتُ فيه. غادرناه قبل أن أكمل الثالثة، وهو ليس محفورًا في داخلي، لا بشكل مادي ولا غير مادي. فضحك وقال: هو في جوانيتك، في لا شعورك. وقال: للجنين ذاكرته، فكيف بابن ثلاث سنوات؟ وبالانتقال إلى زهير الخويلدي، فأنا إذن كائن مفتت، بلا هوية، ولا أصل لي. لماذا؟ لأنني فقدت ذكرى البيت الأول. حسنًا. الآن أتذكر كم كنت –وما زلت- أكذّب الشاعر الذي أُحبه: أبو تمام (803- 845م) في قوله الشهير: «كم منزل في الأرض يألفه الفتى/ وحنينه أبدًا لأول منزل».

برج صافيتا

ولدت في حارة البرج من مدينة صافيتا التي تعلو البحر قرابة أربع مئة متر. وهذا البرج الذي يشمخ قرابة أربعين مترًا يرجح أنه كان موقعًا فينيقيًّا للدفاع عن (دولة جزيرة أرواد) مقابل شاطئ طرطوس. كان أبي يعمل (دركي خيال) أي شرطي له حصان. ومن أيام فرنسا إلى دولة الاستقلال إلى نهاية خمسينيات القرن الماضي، كانت إدارة الدرك تنقل الدركي من مخفر (في مدينة أو قرية) خلال سنة إلى ثلاث. وقد نُقل والدي من صافيتا إلى عامودا على الحدود التركية، أي على أكثر من سبع مئة كيلو متر عن صافيتا، بحسب سفريات تلك الأيام (1945 – 1948م).

غادرتُ صافيتا إذن قبيل الثالثة. ويبدو أني ضعيف الذاكرة؛ إذ لا أحمل من صافيتا غير أطياف، منها ما هو لجبال خضراء ومهيبة، سأعلم كبيرًا أنها جبل النبي متّى ذو ثلاث المئة نبع، وجبل النبي زاهر وجبل النبي صالح: ما قصة هؤلاء الأنبياء الرابضين على قمم الجبال؟

غالب هلسا

من تلك الأطياف ما هو ملموس وعياني، كالندبة التي أورثني إياها جرحٌ في جبهتي، كان جزاءً على عبثي بحنفية الماء الخفيضة على المصطبة الترابية أمام البيت، والمسوّرة بحجرٍ أُصرُّ على أنه أزرق – لماذا؟ – ومكلّل بالشوك. والعهدة في الذكرى على أمي، كما هي على أبي في طيفٍ لمن كان زعيمه وجاره وأمثولته: عبداللطيف اليونس (1914-2013م) الذي كان معلمًا وصحافيًّا وشاعرًا ومعارضًا للاستعمار الفرنسي، وهو ما اضطره للهرب إلى بيروت ثم البصرة، حتى جلاء الفرنسي عام 1946م.

وكم كان أبي فخورًا بالجرائد التي احتفظ بها طويلًا – أين اختفت؟- لأن اسم عبداللطيف اليونس يشعشع فيها: من اللاذقية جريدة «البلاد» وجريدة «صوت الحق»، ومن حماة جريدة «الفداء». كما كان أبي فخورًا بهدية اليونس له: كتابه (الجبل المريض – 1944م)، وكتابه (ثورة الشيخ صالح العلي – 1946م). وحين انتقلنا من صافيتا إلى عامودا كان قد مضى أكثر من سنة على سفر اليونس في جولة على البرازيل والأرجنتين وتشيلي بتكليف من رئيس الجمهورية شكري القوتلي (1891- 1967م) حيث ألقى محاضرات في الأندية والتجمعات العربية من أجل فلسطين، كما شرح لي أبي متباهيًا مرارًا، والحنين يمضّه في كل مرة.

عندما كنت أُعدّ لكتابة رواية «مدائن الأورجوان» قصدت برج صافيتا أتقراه لأول مرة عن ذكرى: أقبية الطابق الأرضي، السقوف نصف الدائرية، بوابات السراديب، الخزان المحفور في الصخر وقد ملأته الردميات والأوساخ. صعدت إلى كنيسة البرج في الطابق الثاني، خفقتْ ملء صدري أصداء لشتات من حديث أمي وأبي عن فرحة جيراننا باختيار اسمي (نبيل) الذي كان شائعًا بين المسيحيين، وكذلك حديثهما عن الحارة المسيحية التي أقمنا فيها، ويتوسطها البرج، وها هي البيوت الآن تزنّره تزنيرًا.

عامودا

كان أول نزولنا في تلك الديار المعروفة باسم الجزيرة، في (العظامية). الآن يتحدثون عن (العظامية شرقي) و(العظامية غربي) مما ليس في ذاكرتي. وكما في الغبش تتلامح لي أطياف من بيوت خفيضة معدودة، ومن بيت يتوسطها وأكبر منها –لعله أكثر من بيت– يعلو درجات عن الطريق الترابي، هو المخفر. وفي الغبش أيضًا صورة أبي على صهوة حصانه أمام البيت يُحدّث أمي بقسوة ويُلوّح بسوط وأنا أتفرج من نافذة البيت الصغيرة، وأرغط.

بعد سنة يتلاشى الغبش وتبدأ عتمة الذاكرة تتبدد، وقد انتقلنا إلى عامودا: بيت طيني، بالأحرى غرفة متطاولة جدًّا، أمامها ساحة ترابية واسعة. فضاء على مدّ البصر سيصير مثل بحر أخضر في الربيع. على طرف البلدة تلّ سأحفظ اسمه من بعد: شرمولا، وحارة هذا التل هي الحارة المسيحية مثل الحارة التي سكنّا فيها في صافيتا: كأني الآن أسمع أمي تهمس لجارة.

في أعماقي الآن أن هذا البيت ليس فقط هذه الجدران الطينية العالية، ولا هذا السقف الخشبي، بل هو أيضًا وتمامًا ثلاثة تلال خضراء، هو البيوت الطينية المجاورة والبعيدة التي سأراها برفقة أبي، كما سأرى ما سمعتهم يسمونه نهر الخنزير، ويتحدثون عن خنزير ذُبح ورُمي في النهر فأعطاه اسمه. وإذا كانت الحكاية ستبلوني بالذعر من النهر، فالذعر سوف يتضاعف عندما أسمع من تحدث أمي في حلقة من الجارات تَحَلَّقْنَ أمام البيت، عن طفل علقوه على عامود، فصار اسم هذه (الديرة) عامودا!

في الشتاء يتحول ما هو أمام البيت إلى مسبح حين تفتح السماء قِرَبها. وبعد صحو أيام أغوص مع أبناء الجيران في الطين، ويبدأ ابتلاء أمي بتنظيف مدخل البيت مما تحمل (الجزمة الكاوتشوك) من الطين، وما يحمل بوط أبي، والساتر الجلدي الأسود الذي يزنر ساقيه حتى الركبة، ويسمّونه الكاتر. أما إذا جاءت جارة فترمي حذاءها المتلّل بالطين أمام البيت وتدخل حافية.

فجأة تحول البيت إلى محشر. أخذتني أم هجار إلى بيتها الأقرب إلى بيتنا. أوصت بي هجار الذي يكبرني بسنة أو أكثر. تنبهت لأول مرة إلى أنه يتكلم مع شقيقتيه الصغريين بلغة غير التي يكلمني بها. حاولت أن أقلده فصرت مضحكة له ولشقيقتيه. ومع ذلك سأحفظ منه ومن أقران آخرين، من يوم إلى يوم، مفردات وعبارات كردية شتّى. ومما ما زالت أذكره أنه كان يناديني: واريه (تعال)، وأنني وهو وآخرون كنا نجري خلف عجوز وننادي: دينو (مجنون). وفي آخر مرة شاركتهم فيها ملاحقة هذا العجوز رأيناه يلتفت إلينا فجأة ويصرخ ويلوح بعصاه، ثم يندفع نحونا فاستدرنا وجرينا مذعورين، وكان هجار يصرخ بنا: پيپازن (اركضوا)، وتعثرت، ووقعت، وعندما نهضت كان العجوز قد أدركني والآخرون صاروا بعيدين. أوقفني المجنون، ومسح التراب عن وجهي، وربت على كتفي، وكان الآخرون قد توقفوا يراقبون.

حين أعادتني أم هجار إلى بيتنا كانت إلى جانب أمي لفافة صغيرة، وأشارت أمي لي، فاقتربت وهي تبتسم قائلة: صارت لك أخت، وسمّاها أبوك أمل، على اسم ابنة عبداللطيف اليونس. في عصر ربيعي اصطحبني أبي إلى دكانين بعيدتين. وبعدما جلس هو مع ثلاثة من الرجال اقترب شاب منهم، فأمره أحدهم بأن يسلّيني. سمعت الشاب يقول باسمًا ما لن أنساه: چي چامة (من عيوني). أخذني الشاب إلى بيتهم خلف الدكانين، وأتى بتنكة مفرغة من الجانبين الكبيرين، وألبس إحداهما قماشة بيضاء، ووضع التنكة على حجرة كبيرة، وأمرني بالجلوس على التراب أمامها، وبدأ يغني بما لم أفهم منه كلمة، بينما ظهرت على القماشة خيالات رجلين مضحكين يتعاركان ويتسابقان ويرتمي أحدهما ويتصارعان.. أليسا كراكوز وعيواظ؟

كان أبي يزين ليالينا –ولقاءاتنا المتباعدة بعدما تفرقت بنا الدروب– بفيض ذاكرته الوقادة عن البلدات والقرى التي تنقل بينها. وها هي ذكرياته تمتزج بذكرياتي عن عامودا، فأرى أمي تطالبه بأن يصطحبنا مرة إلى القامشلي، وهو يعدها ويحكي لها عن القصب الطويل وعن الجواميس على ضفة نهر جغجغ، عن ناعورة قدور بك، عن ناعورة الحمام، عن الحمّام الذي لن يهنأ له من بعد ما جرّبه، أن يغتسل في زاوية البيت، ولا أن تفرك أمي له ظهره بالليفة.

لمرة واحدة اصطحب الدركي أسرته إلى القامشلي. ولست متيقنًا الآن مما إذا كنت أتذكر أم أتخيل أم أردد خلف أبي: هذا نادي الرافدين وهذا نادي الهومنتمن، كرة القدم، سريان، أرمن، مباراة، والأب يعترف لابنه على كبر، موصيًا بالكتمان، بعشقه يهودية، وهذه مدرسة اليهود، وهذه مكتبة دار اللواء، سألاقي صاحبها كبيرًا: أنيس مديوايه من الرعيل الأول للحزب السوري القومي الاجتماعي، ولاجئ من لواء إسكندرون الذي ضمته تركيا إليها سنة 1939م.

وحين سأزور القامشلي كبيرًا، سوف يتراقص الزمن والصور، وسيكون لي أن أحدّث والدي عما تبدل، لكن القامشلي التي تخصّه لا تتبدل: مدرسة للبنات، مطعم كربيس، مجلة الخابور –أورثني منها عددًا يتيمًا– طاحونة البوظ، الحنطور، سوق عزرا أو دكان عزرا، قناديل الكهرباء…

منذ ذلك المشوار/ النهار بدأت أحكي لأقراني –لا أذكر إلا اسم هجار– عن العجائب التي شاهدت. كما بدأت أحكي لهم مما أسترقُ من حديث أبي عن فرنسا التي حرقت عامودا، وعن تاجر من ماردين يهرّب القماش منها، ومنه اشترى أبي لأمي فستانًا… وبين ليلة وليلة صرت أصحو من نومي، وأحدق في عتمة السقف، وأنادي إليه رجالًا وبغالًا محملة بالسكر والكاز، وأنادي سكة القطار وعساكر أتراكًا وحملانًا ترعى حول كنيسة، وكلابًا تتهارش، وشجرة زيزفون هائلة، وبرجًا هائلًا فوق كنيسة، وشاعرًا وملّا.. ثم صرت أسترقُ النظر من السقف في النهار، خائفًا، أحيانًا، مستعيدًا أحيانًا مما رأيت ليلًا، متشككًا ومستزيدًا، حتى إذا انتقلنا إلى الدرباسية غادر ذلك السقف يقظتي وسكن نومي.

الدرباسية

بعد حين –ربما أكثر من سنتين– انتقلنا إلى الدرباسية التي لم يكن قد مضى على عمرانها عشرون سنة، مقابل الدرباسية التركية، كما سمعت أبي يحدّث أمي وهي تهيئني لليوم الذي لن أنساه: الأول في المدرسة. كان بيتنا شبيه سلفيه في عامودا وقبلها العظامية. وكانت المدرسة عالمًا عجيبًا غريبًا. لا تكاد العربية تُسمع فيه إلا بلسان المعلم الوحيد الشاب الذي يعرف أيضًا الكردية والسريانية، كما سيشرح أبي لي عندما أتحدث عن الكرة التي يلعب بها الأستاذ مع التلاميذ الكبار.

في الطريق إلى المدرسة وفي العودة منها بصحبة أولاد الجيران ومن ينضمون إلينا، كنا نتفرج على المقهى والمخفر والكنيسة والجامع وألوان الثياب. وبينما كنت أدخر ما سأحكيه لأمي، كنت أنسى ما ادخرت إذا صادفت أبي أو أحدًا من زواره يحكي مرة عن القاجاغ (المهربين) والجوخ الإنجليزي والكاز والسكر، ومرة عن التجار القادمين من حلب ومن حمص ومن حماة. ومن مصادفة إلى أخرى صرت أصنف من أرى ثيابهم تختلف عن السائد في الطريق: هذا مهرب وهذا تاجر، وصارت عيناي تبحثان في الأفق عن الدرباسية التركية وعن ماردين التي أخذتها تركيا.

بعد أكثر من خمسين سنة من ذلك العهد الغرير، وبعد يوم لي في القامشلي كنت فيه محاضرًا في المركز الثقافي، تكرم أصدقاء بتلبية رغبتي في زيارة عامودا والدرباسية. وكانت الرغبة تضطرم كلما زرت الحسكة أو القامشلي أو الرميلان، لكنني توجهت لأول مرة إلى تلك البلدة الصغيرة التي صارت مدينة كبيرة، وصارت تعرف بموسكو الصغرى وبلد المليون شاعر وبلد المليون مجنون: عامودا التي خفق قلبي لِمَا تبقى فيها من البيوت الطينية الدائلة.

وغصصت لأنني لم أهتدِ إلى ما كان بيتنا أو إلى أي أثر له. كذلك كان الأمر في الدرباسية. وفي العودة أغمضت عينيّ مصطنعًا الرهق، وإنما كنت أغرق في الحنين، وكنت أقلّب السؤال على وجوهه عن اندغام أبي في الإهاب الكردي لعامودا أو الدرباسية أو العظامية، على الرغم من أنه الدركي العربي، قبل أن تبدأ سلطة حزب البعث بحملة التعريب والاضطهاد القومي، فلم تجن إلا الخراب، ليس للشرق والشمال السوري فقط، بل لسوريا كلها.

كانت الحشائش تزنّر البيت صيف شتاء. وكانت أمي تنكش من أمامه أو من حوله الخبيزة والسلبين، وكان من جاراتها من يشاركنها النكش أحيانًا. ولمّا كنتُ في سنّ الأسئلة التي لا تنتهي، صرتُ أعد أسئلةً ألاقي بها أبي، منها ما كان النهار يودعه فيّ، سواء من المدرسة أم من الطواف كل يوم بعد المدرسة أو طوال نهار الجمعة بين البيوت الطينية ومحطة القطار. ولم يكن أبي ليكتفي بأسئلتي، بل كثيرًا ما كان يتجاوزها ليروي من يومياته لأمي، واليوميات تتشكل أخيلة آسرة، ضاحكة أو مفزعة أو غامضة، فأنسى ما كنت قد سألت عنه، وأرى ثكنة فرنسية، والعلم السوري يرفعه شاب فوقها، وأرى أم الدرباسية: القرمانية على مسافة (شربة سيجارة) وأرى…

عين ظاط

في صيف 1953م انتقلنا من الدرباسية إلى عين ظاط التي تبعد من حمص 25 كلم ومن الدرباسية قرابة سبع مئة كيلومتر. من الفضاء الكردي السرياني الكلداني الأرمني البدوي العربي انتقلنا إلى الفضاء الشركسي. فقرية عين ظاط شركسية، وقد جرى تعريب اسمها في أثناء الوحدة السورية المصرية (1958- 1961م) فصار: عين النسر.

في بناء من طابقين كان بيتنا في الطابق الثاني، من غرفتين وحمام ومرحاض، وكان هذا وحده انقلابًا في حياتنا. كان الدرج المفضي إلى البيت خارجيًّا. ومع أني كنت في الثامنة، وفي الصف الثالث الابتدائي، إلا أنني لا أذكر ما إذا كان الطابق الأول مسكونًا أم فارغًا. لكن ما لا ينسى هو سور البناء، الباب الكبير من درفة واحدة وسط السور، الفسحة الترابية أمام الطابق الأرضي، وتتوسطها بئر، وفي هذه البئر سقطت أختي نوال ذات السنوات الثلاث، التي ولدت في عامودا أيضًا.

كنت قريبًا منها عندما سقطت فاندفعت خارج السور أصرخ وأستغيث. وسرعان ما اندفع رجلان –أو أكثر– ونزل أحدهم في البئر التي كان عمقها أمتارًا، ولا يعلو ماء نبعها على متر أو مترين. ومن الذكريات الأليمة لذلك البيت أيضًا أنه قد حلّت فيه ذات مساء شابة ستكون زوجة أبي الثانية، يرافقها أبوها وأخوها. وقد ابتدأ الألم ببكاء أمي بصمت وهي تعد العشاء. واستبدّ الألم في الليلة التالية، عندما رافقتُ وإخوتي أمي إلى منزل زميل لأبي هو أبو نجوان، كي يخلو بيتنا للعروسين، بينما غفوت على ضحك أبو نجوان –وهو دركي– وبكاء أمي وصديقتها أم نجوان.

عين ظاط لا تُنسى: سهل تلوّنه عرائش العنب كما تلوّنه شقائق النعمان. المخفر الذي سأرى فيه أبي وأبو نجوان يحطمان صورة رئيس الدولة أديب الشيشكلي بعد نجاح الانقلاب العسكري عليه. وعين ظاط المدرسة، والدبس الذي ما مثله عسل، والعرس الذي يراقص فيه الشاب شابةً. وعين ظاط اللغة الجديدة التي ما زلت أحفظ منها بشكر، بشكط، بشكش = 11، 12، 13… وهذه هي المساحة الترابية الفسيحة أمام البيت، قد ظللها الليل، وعلى البيت الصغير المقابل لبيتنا انتصبت سارية، وعليها تخفق قماشة بيضاء، وأحدهم يرمي بالجفت عليها، وصديقي قاسم ابن الجيران بيت جلوقة يشرح لي: في زاوية القماشة البيضاء بيضة مسلوقة، والرماية هي على الخيط الذي يربط البيضة، لكن البيضة سقطت، والساحة هاجت، وقاسم يرغط: عيب عيب، فالرامي أخفق. ومن جديد: بيضة وخيط، وجارتنا الأرملة (نارت) تشرع الجفت وترمي وتصيب الخيط، وجُنَّ جنون الساحة، ولن أنسى ما سمعت من حديث نارت لأمي ولضرّتها: العروس تبوس يد حماتها وأيدي المسنّات من الأقرباء، والحماة تدهن شفتي العروس بالعسل، وها هي الساحة تفور بالراقصات والراقصين من بعد صلاة العشاء حتى أذّن المؤذّن للفجر. عندئذٍ قادتني أمي فَقَدْتُ إخوتي: أين هو أبي إذن؟ وأين هي زوجته الجديدة؟ لماذا يختفيان دائمًا في البيت؟

والآن وأنا أعود إلى عين ظاط، وإلى عامودا والدرباسية والعظامية بعد أكثر من سبعين سنة، أفكر بأن تلك البيوت الأولى –وليس البيت الأول– هي التي جعلت في تكويني نبضًا كرديًّا ونبضًا شركسيًّا، نبضًا مسلمًا وآخر مسيحيًّا، ونبضًا سيريانيًّا وآخر أرمنيًّا، أي نبضًا تعدديًّا مفتوحًا على الآخر، ومندغمًا بالآخر، فألهج بقول الحارث بن عباد (464 – 570م): «أحنّ إلى تلك المنازل كلما/ غدا طائر في أيكةٍ يترنمُ»، وألهج مع الوليد بن يزيد (706 – 744م): «منازل لو مرتْ عليها جنازتي/ لقال الصدى يا حامليّ انزلا بيا»، وألهج مع لسان الدين ابن الخطيب (1313 – 1374م): «منازل هيجتْ للقلب شوقًا/ وللعينين دمعًا واكتئابا».

البيت الذي يسكننا

البيت الذي يسكننا

أقمت في حلب قادمًا من الرقة منذ نهاية يناير 1972م حتى نهاية سبتمبر 1978م. ومنذ ذلك الحين حتى تقطعت أوصال سوريا بعد زلزال 2011م، ومنها الطريق بين حلب واللاذقية، لم تفتني زيارة حلب مرات في السنة. ولم أزر حلب مرة إلا حججت إلى ذلك البيت المطل على جامع الميدان: أقف على الرصيف تحت مظلة موقف الباص، تفلت عيناي مني وتتمرغان على الفراندات الثلاث، على الأبجورات الخشبية، على الحيطان، تدمعان في قلبي وتجرّاني بعيدًا.

في واحدة من هذه المعانقات الليلية غالبًا، وبعد أكثر من عشرين سنة، رجّني رجًّا أن من يسكنون البيت بدّلوا لون الأبجورات من الأخضر إلى البنّي. أحسست أنهم اعتدوا عليّ في أخصّ خصوصياتي. ولئن ظل الحلم يعود بي إلى هذا البيت كل حين، فقد تضاعفت عوداته بعد ذلك الاعتداء. أما عناقنا الصباحي الأول فقد كان في زيارتي الأخيرة إلى حلب قبيل زلزال 2011م.

محمد جمال باروت

كنت قد نهضت مبكرًا على الرغم من السهر المتأخر بصحبة محمد قجه ويوسف زيدان وآخرين. ولأن موقع أوتيل الأمير –حيث ننزل في قلب المدينة– غير مناسب لرياضة المشي الصباحية، توجهت ببذلة الرياضة إلى البيت (35 دقيقة ذهابًا ومثلها إيابًا). ولأول مرة لم أكتفِ بالعناق عن بعد، بل دخلت إلى العمارة، وأذهلني الخراب الذي بدا عليه الدرج، ووقفت أمام الباب: لم يتبدل لونه، وعليه لوحة صغيرة باسم ساكنه الفنان.

أطاشتني الرغبة في أن أرى البيت من الداخل لأول مرة بعد 42 سنة، أن أرى حلمي رأي العين، ولأن ساكن البيت فنان فلا بد أن يتفهم حالتي، وضغطت على زر الجرس متهيبًا. ربما الجماعة في سابع نومة. لم ينفتح الباب. أعدت المحاولة بجرأة أكبر. لم يرد أحد. ضغطت للمرة الثالثة طويلًا ومستقتلًا. لا أحد. تمرغت عيناي على الباب وراحتا تدمعان في قلبي. استنجدت بالموبايل واتصلت بسميعة بركات (زوجتي). من دون صباح الخير سألتها: احزري أين أنا؟ قالت: أمام البيت. بكيت.

برلمان الشباب… والشيوخ

كتب محمد جمال باروت في تقديمه لكتاب: نبيل سليمان: حوارات وشهادات– 1995م ما يلي: «كان بيت نبيل سليمان في منتصف السبعينات، حين تعرفت عليه لأول مرة، برلمانًا لنا نحن الشباب الموسوم بالراديكالية آنذاك. (…) مما عشنا في ذلك البرلمان الصغير، في حي الميدان بحلب، تعرفنا نحن الذين بدأنا الكتابة والنشر يومئذٍ على أبرز المشكلات الخلافية المثارة في الثقافة العربية خصوصًا، وفي الحياة العربية عمومًا.

لقد كان هذا البرلمان الذي يتلامح في رواية «المسلّة» في لجّة ذلك كله تمامًا. كان شاهدًا على حيوية الحياة والثقافة آنذاك، وعلى ظهور جيل جديد من الكتاب، قُيّض له بفضل متابعته وإبداعه وروحه النقدية العالية أن يشعل الحياة الثقافية في سوريا، ويرسم بعض أبعادها، وصولًا إلى الحياة الثقافية العربية».

ليتني أعرف كيف كان لشاب في السابعة والعشرين من عمره، جاء إلى حلب لا يعرف أحدًا من الوسط الثقافي، وإذا ببيته –ما بين سنة وست سنوات- يصير ذلك البرلمان الذي تحدث عنه الباحث الصديق محمد جمال باروت، وليس للشباب فقط، بل أيضًا لكهولٍ وشيوخ.

من أعضاء البرلمان: هذا رياض الصالح الحسين (1954– 1982م) الذي رسمت تجربته منعطفًا شعريًّا حاسمًا. وهذا محمد هيثم الخوجة القاص القادم من الرقة إلى جامعة حلب فتلقفه المعتقل، وبعد خروجه بأسابيع رحل، وقد نشرتُ له مجموعته القصصية «القحط» بعد رحيله. وهذا محمد زاهد زنابيلي الذي سيؤسس دار التنوير في بيروت منذ أقل من 40 سنة. وفي البرلمان كان أيضًا ممن صاروا نقادًا وباحثين وأدباء وفنانين: شمس الدين الكيلاني وغريغوار مرشو ونذير جعفر وعبدالرزاق عيد ونيروز مالك، وعصبة الشعراء الفلسطينيين (الراحلان نظيم أبو حسان وعادل ديب آغا، ومعهما عصام ترشحاني ومحمود علي السعيد)… أما من الجيل الأكبر ممن جمعني بهم العمل مدرسًا في ثانويات حلب وفي دار المعلمين، ومن نجوم الوسط الثقافي والفني، فأضرب مثلًا بوليد إخلاصي ومحمد قجه وفؤاد المرعي… ومن الراحلين: جورج طرابيشي (1939– 2016م) ومؤسس المسرح السوري الجديد فواز الساجر (1948– 1988م)، والشاعر الكردي حامد بدرخان (1934– 2013م)، وجورج سالم (1933– 1977م)، وخليل الهنداوي (1906– 1976م).

حنا مينه

لم يكن أمر ذلك البيت وقفًا على المقيمين في حلب. ومن الكثير –ومنه الطريف أيضًا– أذكر أنني حضرت محاضرة للطيب تيزيني (1934– 2019م) في المركز الثقافي. وقد تجرأت وسلمت عليه بعد المحاضرة، وقدمت له نفسي، ولم أصدق أنه قرأ لي رواية «السجن» التي كانت قد صدرت في بيروت للتو (1972م). ولم يصدق هو أن هذا الشاب (أظنه ما كان يقصد إلا: هذا الولد) هو صاحب تلك الرواية. وزادت جرأتي فدعوته إلى العشاء في ذلك البيت/ البرلمان، فقال: يلّه، وأذكر من بين من دعوتهم على شرفه زميلي في دار المعلمين الفنان والكاتب الراحل نبيه قطاية (1934– 2001م).

أما حنا مينه (1924– 2018م) فحكايته حكاية لا أفتأ أحكيها، ابتداءً من برنامجه الإذاعي الأسبوعي الذي خصص حلقةً منه لروايتي الأولى (ينداح الطوفان– 1970م). ولما نقل لي صديق النبأ المزلزل ما عادت الرقة –حيث كنت أقيم– تسعني، وبخاصة بعدما حدثني آخرون، وآخرون عن آخرين، أنهم سمعوا اسمي في الراديو… الله أكبر!

أقيمَ سنة 1973م في حلب مهرجان للقصة القصيرة، وحضره من دمشق زكريا تامر وحنا مينه. وفي نهاية الجلسة المسائية الأولى تجرأت على أن أسلّم على حنا مينه، وقدمت له نفسي، ولم يصدق أن هذا الشاب (سيقول في البيت: الولد) هو صاحب «ينداح الطوفان». عندئذٍ زادت جرأتي ودعوته إلى العشاء، فاعتذر، فدعوته إلى الغداء، فاعتذر، ولم يبق إذن إلا أن أدعوه إلى الإفطار، فوافق.

كانت مجلة «روز اليوسف» تنشر له آنئذٍ رواية «الشمس في يوم غائم» على حلقات. وقد رأى على الترابيزة عددًا من المجلة فسأل عمن يقرأ الرواية، فأشرت إلى زوجتي، فسألها عن رأيها، وردت ببساطة: لم يعجبني ما قرأت حتى الآن. بعد الإفطار السريع، وفي موقف الباص، خاطبني بلهجة الأب الخبير: إياك أن تأخذ برأي زوجتك. لا يجوز للرجل أن يأخذ برأي زوجته.

من خارج حلب أحنى البيت أيضًا على الشعراء وفيق خنسة ونزيه أبو عفش ومحمد عمران (1934– 1996م)، وعلي الجندي (1928– 2009م)، والمفكر صديق العمر بوعلي ياسين (1942- 2000م)، والفنان الفلسطيني مصطفى الحلاج (1938– 2020م). وفي السنتين الأخيرتين من مقامي الحلبي سينضاف إلى كوكبة البيت المخرج سمير ذكرى والمخرج هيثم حقي، وقبلهما المترجم شوكت يوسف، والباحث فيما قبل التاريخ سلطان محيسن و…

من عالم المعارضة السياسية شهد ذلك البيت زيارات عمر قشاش (1926– 2016م)، ومنذر الشمعة (1934– 2015م) -وكانت ثانوية الحسن بن الهيثم قد جمعتنا سنة دراسية- ومنير مسوتي (1933– 2006م). وقد كان هؤلاء من قادة الحزب الشيوعي –المكتب السياسي– كما زار البيت فاتح جاموس من قادة رابطة العمل الشيوعي التي كانت قد تأسست للتو (1976م). وقد حمل لي عددًا من مجلة (دراسات عربية) ناصحًا بقراءته، ومن الطريف أنه كان مُلاحَقًا من المخابرات، وقد كانت لي في ذلك العدد دراسة، أما أحمد جمّول فقد فرّ إلى لبنان ومنها إلى الجزائر، وتوفي هناك عام 2015م.

كان برلمان الشباب يصخب بحواراتهم ومساجلاتهم في قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة، في مجلات الآداب ودراسات عربية، في شعر أدونيس ومحمد الماغوط ومحمود درويش، في أدب هزيمة حرب حزيران 1967م، في الفتوحات الروائية على يد صنع الله إبراهيم (تلك الرائحة ونجمة أغسطس) وهاني الراهب من «المهزومون» إلى «شرخ في تاريخ طويل» و«ألف ليلة وليلتان» إلى حيدر حيدر «الزمن الموحش». أما نجيب محفوظ وحنا مينه فقد شغلتنا رواياتهما جميعًا، ومعهما غسان كنفاني الذي زلزلنا اغتيال إسرائيل له في قلب بيروت. وكان برلمان الشباب عامة يودع الواقعية الاشتراكية غير آسف، ويتفذلك ويتفيهق ويتعلم أيضًا ما تيسّر من الحداثة.

ومن الشباب إلى الكهول والشيوخ كانت الحوارات والمساجلات تصخب في حرب التحرير الشعبية (التجربة الفيتنامية) والعمل الفدائي الفلسطيني وانشقاق الجبهة الشعبية بقيادة جورج حبش، وظهور المنشقين المغوي في الجبهة الديمقراطية التي تلوح براية الماركسية. وكان (التمركس) هاجس الجميع، حتى من كان منهم عضوًا في حزب البعث بشقيه الحاكم بقيادة حافظ الأسد، أو المعارض السري الذي اشتهر بجماعة (23 شباط 1968م) أو جماعة صلاح جديد.

كان لانشقاق الحزب الشيوعي السوري صداه الحاضر بقوة في البيت. وكان الغالب فيه هو صوت ما عرف بـ(المكتب السياسي) سواء أكانوا أعضاء أم متعاطفين، مقابل قلة قليلة من الأعضاء أو المتعاطفين مع الشق الموالي لموسكو، وظل يقوده خالد بكداش حتى مات. وكان من هؤلاء فواز الساجر وعبدالرزاق عيد ونيروز مالك. ومن الأصداء الكبرى التي أخذت تحضر في البيت مؤخرًا، كانت أصداء الاغتيالات في حلب كما في أغلب أرجاء سوريا، التي لم توفر عام 1977م حتى رئيس جامعة دمشق الدكتور محمد الفاضل.

الحميمية

كان ذلك البيت أشبه بخلية نحل في الثقافة والسياسة. لكن خلية النحل ليست ثقافة وسياسة فقط. هل من المبالغة أن أقول: إنها الحميمية أولًا؟ من الحميمية – مثلًا- كانت قصة الحب بين فواز الساجر وفاطمة ضميراوي، طالبة الطب ثم الممثلة من بعد. التي تكللت بالزواج، على العكس من قصة (ش و آ) التي غدر بها (ش) الماركسي حتى العظم.

ومن الحميمية –مثلًا– كان أن يتوافد على البيت ممن يؤدون الخدمة العسكرية الإلزامية، هاربين لليلةٍ من المعسكرات، يدخلون شتاءً بأبواطهم التي ستملأ مدخل البيت بالوحل، يتسابقون إلى دفء الحمام و(طبخ سميعة التي تتولى غسل ثياب بعضهم أيضًا). ومن كثير الحميمية أذكر أن الفنان مصطفى الحلاج كان ما إن يدخل إلى البيت حتى تندفع إليه ابنتي إيناس وولدت في حلب وكانت في الثالثة أو الرابعة ربما – فيجلسها في حضنه، وتبدأ عبثها بلحيته المؤبرة وهي تثغو: عمّو أبو شوكة.

جورج طرابيشي

من (أهل) البيت كان عدد من طالبات الجامعة – (سمر) التي غمرها رياض الصالح الحسين بشعره. وما أكثر ما كانت السهرات تغمر الجميع بذلك اللون الجديد الغريب من الأغنية الثورية، من الثنائي أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام إلى مارسيل خليفة إلى أحمد قعبور إلى الأغنية الفلسطينية.. وكنت أبدّل كلمات لنجم بكلمات سورية كما في أغنية (صباح الخير على الورد اللي فتح) حيث أقول: «وأهلًا بيكو في (المزّة) /ويللّي في الطريق جابين/ ما دامت سوريا ولّادة/ وفيها الطلق والسعادة/ ح تفضل شمسها طالعة/ برغم المزّة والزنازين». والقصد هنا هو سجن المزّة الشهير في دمشق شهرة سجن القلعة في القاهرة.

تقوم الحميمية خاصة في (منمنمات) البيت، مثل اللوحة الأولى التي عرفها، وكانت للفنان الحلبي الصديق سعد يكن، تكرّم بها عليّ يومئذ مقابل خمسين ليرة. وهذا معطف شتوي يليق ببرد الشتاء الحلبي، اشتريته بمساعدة جورج طرابيشي الذي سيغادرنا إلى بيروت ليعمل في دار الطليعة، مخلفًا الفراغ الذي لا يملؤه سواه. والمعطف يلبد في الخزانة الحديدية (أم بابين) وهي خزانة العرس التي ستحل محلها (غرفة النوم)، أي خزانة كبرى وكوميدانة عدد 2 وتواليت وسريران خشبيان يحلان محل سرير العرس الحديدي أيضًا، وكل ذلك بألفي ليرة.

في الليلة الأولى كنت أنام وأصحو لأتفرج على غرفة النوم غير مصدق، كما سنجلس –سميعة وأنا– على كرسيين خفيضين لنتفرج على الغسالة الأتوماتيك (ماركة جنرال إلكتريك) التي ساعدني محمد قجه بشرائها بألف وستماية ليرة، وعاشت معنا ربع قرن. ربما تبدو هذه (النمانم) نافلة، لكنها (التفاصيل)، وممدوح عدوان هو من عَنْون ديوانًا له بـ(لا بد من التفاصيل). أما فلسفة (فينغ شوي) الصينية، فمما تقول في البيت إن الأثاث وترتيبه قد يكون سببًا في القلق والإجهاد، أو قد يساعد على حفظ التوازن النفسي واتخاذ القرارات الصحيحة، ويحد من العدوانية.

يقول غاستون باشلار (1884– 1962م) في كتابه «جماليات المكان» الذي ترجمه غالب هلسا (132- 1989م): إننا حين نتذكر البيوت والحجرات فإننا نتعلم أن نسكن داخل نفوسنا. ويشدد باشلار على ما تعنيه الأدراج والصناديق وخزائن الملابس والأعشاش.. من أمر البيت.

في بيت حلب صارت للمكتبة الصغيرة غرفة صغيرة، وفيها كنت أقرأ وأكتب، لذلك كان لها مدفأة صغيرة. ويبدو أني ارتكبت خطأ فادحًا ما؛ إذ تسرب ذات عشية الدخان من المكتبة إلى حيث كنا نلغط في الصالون. كانت المدفأة ملتهبة والمكتبة تحترق. أشرعنا الباب والنافذة، وأطفأنا النار، وأنقذنا قليلًا من الكتب والمجلات، التي ظلت تحمل آثار الحريق إلى اليوم.

في هذه الغرفة/ المكتبة كتبت رواية «ثلج الصيف» التي صدرت عام 1973م، وأعدت كتابة روايتين كنت قد كتبتهما في أثناء الخدمة العسكرية: الأولى هي «جرماتي أو ملف البلاد التي سوف تعيش بعد الحرب» وقد صدرت في القاهرة عام 1977م، والثانية هي «المسلّة» التي ظلت تنتظر حتى صدرت في بيروت أيضًا عام 1980م، ومُنعتا من النشر في سوريا سنوات. وفي «المسلّة» ظلال لهذا البيت كما ذكر محمد جمال باروت. وإلى الروايات أنجزت في هذا البيت مع بوعلي ياسين الذي كان يقيم في دمشق الكتاب/ القنبلة: «الأدب والأيديولوجيا في سوريا من 1967م إلى 1973م» وقد صدر عام 1974م في بيروت، كما أنجزت كتاب (النسوية في الكتاب المدرسي السوري– 1978م)، وعددًا كبيرًا من الدراسات التي تؤرخ للنقد الأدبي في سوريا منذ مطلع القرن العشرين إلى منتصفه، مما سيشكل كتابي الأول في نقد النقد الذي صدر في بيروت عام 1980م.

هكذا كان بيت حلب ورشة عمل لي، كما كان برلمانًا للشباب وللكهول والشيوخ، وعشًّا للصداقة والحب، ووشمًا على الروح. ولا أدري ما حلّ به بعد زلزال 2011م، لكنني سأظل أردد كلما عنّ على بال –وهل يفارق البال– خلف طرفة بن العبد: لا تهلكْ أسًى، وتجلّدِ.

لقد غبت أنا وأسرتي عن ذلك البيت سنة ونصف السنة في أثناء أدائي للخدمة العسكرية الإلزامية في دمشق. وقد استعنت على تكاليف العيش بتأجير البيت لعدد من الطلاب الأصدقاء الذين درّست لهم في الرقة، ومنهم محمد هيثم الخوجة. وكنت قد اشتريت هذا البيت مصادفة مثل ورقة اليانصيب الرابحة، وبقرض من البنك العقاري، على الرغم من فرص التملك التي ضيعتها في الرقة، خوفًا من أن يزعل مني ماركس إذا تملكت بيتًا. وعندما قررت الانتقال إلى اللاذقية بعت البيت بعون من الشاعر حامد بدرخان الذي استعان بمكتب للأعمال العقارية. والآن إذ أتذكر (جريمة) البيع، أردد خلف الشاعرة إيمان مرسال من مجموعتها «حين أتخلى عن فكرة البيوت»: «البيت لا يصبح بيتًا إلا لحظة بيعه، تحتفظ بكوابيسك تحت السقف نفسه لنفسك، وسيكون عليك أن تخرج بها في حقيبة على أحسن الفروض».

أخيرًا، أؤكد أن هذا البيت لم يكن بؤرة جاذبة لأن صاحبه نجم، مثلًا. ولم يكن اكتناز البيت بكثير ممن ذكرت، وربما مثلهم ممن لم أذكر– بدعوة مني أو من زوجتي. فهل الأمر إذن إلا في سر البيت المستتر والمكنون بالدر، أي الحميمية في فضاء عام يفيض بالقيم النبيلة، على الرغم من أن عقدًا كان قد مضى على استيلاء الدكتاتورية على البلاد عام 1963م. ولعل مما يضيء هذا التفسير ويعززه أن استمرار الدكتاتورية واستفحالها قد قوّض ذلك الفضاء، ونال من تلك القيم، واستولد نقيضها.

تعويق الترجمة في عصر ما بعد الكولونيالية تدمير الذات في البلاد العربية

تعويق الترجمة في عصر ما بعد الكولونيالية

تدمير الذات في البلاد العربية

منذ سنوات بعيدة وعديدة سئلت عن تجربتي كروائي مع السينما والتليفزيون، فعنونت إجابتي بهذه العبارة: «أنا مضربُ مَثَل ولكن بالفشل». فما عرف من رواياتي السبيل إلى إحدى الشاشتين نَزْرٌ وهامشي، على الرغم من (هول) ما كتبت من الرواية ومن السيناريو، وعلى الرغم من شبكة علاقاتي المعمرة والواسعة والمكينة مع رهط من أهل ومن مؤسسات «الكار». ولا أوثر أحدًا بفضل العلة، فالعلة علّتي، أيًّا كانت المعوقات. واليوم تسرع العبارة التي أتلمظ وأنا أرددها: «أنا مضربُ مثلٍ ولكن بالفشل»، لأبدأ بها حديثي عن معوقات الترجمة. فعلى المستوى الشخصي من هذا الحديث، لم يعرف من رواياتي السبيل إلى الترجمة سوى رواية إلى الإسبانية وأخرى إلى الروسية و«نتاتيف» إلى الإنجليزية والدانماركية، على الرغم من شبكة علاقاتي المعمرة والواسعة والمكينة مع رهط من أهل ومن مؤسسات «الكار». لكنّ للحديث هذه المرة جانبًا غير شخصي، وهو الأكبر والأهم، وأستهلّه بمعجمية المعوقات، حيث تقول: عاقه يعوقه وعوّقه وأعاقه واعتاقه، أي صرفه وثبطه وأخّره. ومن يحول دون فعل الخير هو عَوْقة وعُوَّقة وعُوَّق وعَيِّق وعيَّق، وهو أيضًا العائق والعَوْق، والعُوق. وأخيرًا يطيب لي أن أشبه المترجم بالعيُّوق، والعيُّوق نجم يتلو الثريا ولا يتقدمها. أليس النصُّ المترجَم هو الثريا؟

بكل ذلك، هل التعويق إلا التأخير والتثبيط والتشويش والإرباك والتيئيس. والتتجير (من التجارة)؟ وهل المعوقات إذن إلا المؤخرات والمثبطات والمربكات والمُوئِسات والمغريات بالمال أو الحابسات له؟

الترجمة والصراع: مفارقات وتناقضات معًا

عدت من مؤتمر الرواية في القاهرة، في نهاية نيسان – إبريل الماضي، أحمل ثروة عنوانها: «الترجمة والصراع: حكاية سردية»، وهي كتاب لمنى بيكر، بترجمة أحسبها علامة فارقة في ألواح الترجمة الأسمى إلى العربية، قام بها وقدم لها طارق النعمان. وقد آثرت في عنونة هذه الفقرة «مفارقات وتناقضات» على «حكاية سردية» بوحي من صيغ أمينة الصنهاجي الحسيني في ترجمة عنوان كتيب للوكليزيو هو «في غاية التناقضات». وقد علل مقدم الكتاب هاني الصلوي في هامش له إيثار تناقضات على مفارقات في ترجمة paradoxes، بأن «مفارقات»، وهي الترجمة الحرفية، تأتي بمعنى تناقضات عندما تكون المفارقة عميقة، وبأن الكاتب يعيش تناقضًا بين ما يريده وما ينتظر منه، وبين ما يعيشه، فضلًا عن المعنى الفلسفي للتناقض، وما أحاط بمفردة «مفارقة» من ظلال نقدية مصطلحية.

للسرد حصة كبيرة في كتاب منى بيكر الذي يكشف العديد من آليات الهيمنة الاستعمارية وما بعد الاستعمارية في مجال الترجمة، كما يكتب طارق النعمان في تقديمه الفذ للكتاب. وهنا، وما دمنا بصدد درس معوِّقات الترجمة في عصر ما بعد الكولونيالية، يطلع السؤال الأول عن الدور الذي تلعبه الانتماءات والمواقع الأيديولوجية في المترجم. فهل ينطلق من السرديات التي ينتمي إليها؟ أم من خلال السرديات المبثوثة في النص المترجَم؟ أم تراه ينطلق من خلال سرديات القراء المحتملين؟ وبالتالي: ماذا يعني الانحياز لصالح سردية أو سرديات أخرى في الترجمة؟ هل هو معوِّق؟ هل هو حافز؟

من فيض الأمثلة التي تجلو وتؤكد كم هو الصراع معوِّق في الترجمة، تتساءل منى بيكر عن ترجمة المترجِم لـ«the muslim conquests»؟ هل يقول: الفتوحات الإسلامية؟ أم يقول الغزوات الإسلامية؟ لكن الجلاء الأكبر والتوكيد الأكبر يأتيان في ترجمة أسماء الأعلام، وهي التي لا يجيزها إبراهيم اليازجي منذ القرن التاسع عشر، وعدّ ترجمتها تحريفًا، وذهب يعقوب صروف هذا المذهب، بينما أجازها البستاني. أما منى بيكر فترى أن المترجم قد يحتاج إلى أن يضع في الحُسبان السرديات الكبرى التي ينتمي إليها النص المترجَم، كما في حالة الأسماء المتنافسة. ومثال ذلك ترجمة المترجم العربي والمترجم الإيراني لاسم العلم the Persian Gulf فالأول يكتب: الخليج العربي، والثاني يكتب: الخليج الفارسي: أليست الترجمة هنا صراع سرديات؟ وبالتالي أليس هذا الصراع معوِّقًا؟ وهذا اسم العلم: Jerusalem بين ترجمته: أورشليم، وترجمته: القدس. وماذا نقول عندما نرى الترجمة الإنجليزية للفِلْم التسجيلي (جنين جنين) الذي أنجزه محمد بكري، حيث الحديث الفلسطيني عن تدمير إسرائيل لمعسكر جنين في الضفة الغربية في نيسان – إبريل 2002م، ومن ذلك أن عبارة «لِسّه بندوّر شهدا من تحت الأرض» جاءت ترجمتها الإنجليزية أسفل الشاشة: «ما زلنا نرفع الضحايا من بين الأحجار». ومن ذلك أيضًا أن عبارات «متخلفين عقليًّا استشهدوا عندنا، معاقين استشهدوا عندنا، أطفال استشهدوا عندنا، نساء استشهدوا عندنا» جاءت ترجمتها الإنجليزية أسفل الشاشة: «لقد قتلوا بعض الأشخاص المعاقين عقليًّا، والأطفال والنساء في المعسكر».

لا تمارَس الترجمة في فراغ أو حياد، بل في عوالم تحكمها علاقات قوة معقدة ومتفاوتة. وإلى ذلك تكتب منى بيكر أن المترجم قد يحتاج إلى أن يضع في الحسبان السرديات الكبرى التي ينتمي إليها النص المترجَم، كما في حالة أسماء الأعلام والأسماء المتنافسة. فإذا ترك الاسم بلا تعليق، فهذا يعني أنه يشارك في الترويج غير النقدي لسردية قد تكون مذمومة أخلاقيًّا، وهذا ما تسميه (بن آري): التلاعب الأيديولوجي بالنصوص المترجَمة. وفي المقابل، قد يعتذر مترجم عن اضطراره إلى التدخل، وليس دومًا فقط من أجل إشكالية أسماء الأعلام أو الأسماء المتنافسة، بل من أجل ما قد يتعلل به المترجم من توفير المعنى الحقيقي، أو من أجل أن يكون المترجَم مفهومًا.

من نكد الترجمة

ومن المعوقات التي يمكن للمرء أن يتقراها في تأرخة زيتوني -في كتابه «حركة الترجمة في عصر النهضة – 1994م»- جمود اللغة العربية وضعفها في ذلك العهد المبكر؛ إذ قصّرت عن المعاني الحضارية والمسميات المستحدثة. ولعلة جذورها التي جعلت رائدًا مثل أحمد فارس الشدياق يشكو في «كنز الرغائب في منتخبات الجوائب» حال الترجمة، مما لا يزال صداه يتردد، فيقول: «ومن فاته التعريب لم يدر ما العنا/ ولم يَصْلَ نارَ الحرب إلا المحاربُ/ أرى ألف معنى ما له من مجانسٍ/ لدينا وألفًا ما له ما يناسبُ/ وألفًا من الألفاظ دون مرادفٍ/ وفصلًا مكان الوصل والوصلُ واجبُ/ وأسلوب إيجازٍ إذا الحال تقتضي/ أساليب إطناب لتُوعي المطالبُ/ فيا ليت قومي يعلمون بأنني/ على نكد التعريب جَدّي ذاهب».

منذ عصر النهضة حتى اليوم جرى في النهر ما جرى، ليس فقط من الماء الزلال، بل من الفضلات والملوثات أيضًا. وغابت معوقات، واستمرت وجَدّتْ معوقات، عشتُ وعايشت منها في مؤتمرات ودور نشر وصلات مع مترجمين–ومنهم مستشرقون أو مستعربون– وكتّاب، فرددت منذ سنين: «إنَّ البَقَرَ تَشابَهَ علينا»، ومن ذلك:

أولًا- يشترط مترجم ذو فضل في نقل روايات من العربية إلى الإنجليزية أن تكون له معرفة شخصية بمن يترجم له. أليس هذا بمعوِّق لترجمة الرواية العربية؟ وبخاصة أنه يعزز المعوق الأكبر المتمثل في تحكم العلاقات الشخصية والمزاج الشخصي، مما يعزز بدوره معوقًا أكبر فأكبر، يدعى بالتربيطات والتزبيطات وما أدراك.

ثانيًا- يأخذ عبدالرحمن الرياني فيما يعدد من إشكاليات ومعوقات ترجمة الأدب العربي إلى لغات أخرى أن المترجم الأجنبي يقصّر عن تمثّل المفردات والتعابير العامية، والأمثال والعادات. كما يشكو الرياني من غياب النقد الأدبي للمترجمات.

من المترجمين الأجانب أيضًا من ينظر إلى الكاتب العربي كأنه طفل، كما قال بحق المترجم المرموق جمال شحيد. وفي التفصيل قال: إن بعض المترجمين الفرنسيين يجرد النص العربي من بعض التفاصيل، أو يقدم فيه ويؤخر، باستعلاء، لكأن الكتابة يجب أن تتقفَّى نموذجًا بعينه، هو النموذج الأوربي، وهذا ما تشكو منه ترجمة الرواية اليابانية مثلًا إلى اللغات الأوربية. والمترجم الأوربي في ذلك أنموذج للمترجم الخائن، فهذا اللقب ليس حكرًا على المترجم العربي، ورحم الله الجاحظ الذي حذَّر قبل اثني عشر قرنًا بقوله: «فإنَّا نُوجِدكم من كذب التراجمة وزياداتهم».

ينتقد عبدالمقصود عبدالكريم في تقديمه لترجمته رواية د.هـ. لورانس «عشيق الليدي تشاترلي» ما سبقه من ترجمات لهذه الرواية، فمنها ما حذف نصف الرواية، ومنها ما قدم ترجمة (مهذبة). وهنا وفي حالات وفيرة تصير المسألة مسألة المترجم الرقيب، أو الموظف عند رقيب رسمي أو اجتماعي، وكل ذلك من صفات المترجم الخائن وخيانة الترجمة. ولكن ثمة من يقول بصفة حميدة واحدة على الأقل للمترجم الخائن ولخيانة الترجمة، تتمثل في الضرورات اللغوية وما يسمى بروح النص، فإذا بالخيانة هنا تسلخ جلدها وتغدو ما يُسمى بأقلمة النص أو تبيئته، وإذا بسؤال الخيانة يتلطف ويتعلق بالقدر الذي لا ضير منه من الخيانة، لكأنك تتحدث عن الملح في الطعام: كثيره مثل قليله، وشرّ فيه خير، وخير فيه شر، ودائمًا: لا بد منه.

ثالثًا- يتصل بهذا الاستعلاء ما هو المفضل لدى رهط من الناشرين الأجانب، من الروايات المعلولة بالإكزوتيكا، فتراها تبدي وتعيد في المثلية أو اضطهاد المرأة أو الإرهاب وما شاكل من مفردات عالم الشرق والحريم والإسلام، وحيث يتوقع أولاء الناشرون مثل هذا (الأفق) للقارئ في بلدانهم.

رابعًا- من المترجمين الأجانب المشهود لهم من يرى تعويقًا للترجمة في العلة الروائية العربية التي تُدعَى بشعرية اللغة الروائية، حيث فائض المجازات والاستعارات وما يُتوهَّم من تقليد للغة الشعرية. فهذا الفائض يتحول إلى عبء على الترجمة، وما أكثر ما دفع ذلك بالمترجم الأجنبي إلى (القصقصة) مراعاة لذائقة القارئ الأجنبي.

خامسًا- في فوران الجوائز العربية أخذت تبرز ظاهرة إيثار ترجمة الأعمال التي حصلت على جائزة مما يتحول إلى معوق بحسب ما تشكو هذه الجائزة أو تلك من العلل.

سادسًا- غياب المحرِّر الأدبي عن أغلب دور النشر العربية. ونُدرة مبادرات الناشر العربي (الرسمي والخاص) لمد الجسور مع الجهات الأجنبية المعنية. كذلك هي الحدود الدنيا غالبًا للمردود المادي للمترجم وللناشر.

سابعًا-في عام 1998م ترجم مصطفى صفوان مسرحية شكسبير «عطيل» وقدَّم لها بالعامية المصرية، بدعوى تجسير الهُوَّة بين العوام والمثقفين. وعلى الرغم من ندرة المحاولات المماثلة، ليس فقط للترجمة بالعاميات العربية، بل للكتابة بها أيضًا، فإن الأمر لا يزال ليس بذي بال، وإن تكن دلالته ذات بالين إن صح التعبير.

ثامنًا- في العلوم جميعًا، لا يزال «المصطلح» معوقًا، بدلًا من أن يكون ناظمًا وحافزًا. فالمصطلح في الترجمة يشكو غالبًا من ندرة التنسيق والتعاون بين المجامع اللغوية والأكاديميات والمؤسسات المعنية، ليغلب الجهد الفردي، ولتغلب ظاهرة الجزر الصغيرة المعزولة. وهنا أسوق مما يعدد السعيد بوطاجن في كتابه «الترجمة والمصطلح: دراسة في إشكالية ترجمة المصطلح النقدي الجديد – 2009م»: غلبة التعامل الظرفي على البحث التأثيلي، وعزل المصطلح عن محيطه، والافتقار إلى التأثيث المعرفي للمترجم في اللغتين المنقول منها والمنقول إليها، كذلك: البلبلة واللَّبْس والتعمية.

خاتمة

وبعد، فقد يكون كل ما تقدم ليس إلا أقل القليل وأهون الشرور، وقد يكون فيه ما فيه من المبالغة، والنظر بعين واحدة، والتشاؤمية. وعلى أية حال فالتعويل الأكبر على ما يسوقه من هو أولى مني، في تعويق الترجمة في هذه العقود الممتدة منذ أشرق بعد الحرب العالمية الثانية عصر ما بعد الكولونيالية، مما يؤثر آخرون منا إبداله بالقول بالاستقلالات العربية، وما أدراك ما الاستقلالات العربية والعالمثالثية أو الثلاثقارية كما يحدد روبرت يونغ في كتابه «الأم»: ما بعد الكولونيالية.

ولكن أليس السبب الأول والأخير والأكبر في هذا الذي هو حالنا عليه في الترجمة، ما حدده المترجم الألماني المعروف هارتموت فيندريش بتدمير الذات في البلاد العربية؟