المقالات الأخيرة

“لقاء مارس 02: تواشجات” دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

“لقاء مارس 02: تواشجات”

دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

فيما يشبه الالتزام الأخلاقي والجمالي، تبنى لقاء مارس السنوي، الذي تنظمه مؤسسة الشارقة للفنون، في دورته الجديدة التي انتهت أنشطتها قبل أيام، طيفًا واسعًا من القضايا والموضوعات والنقاشات وعروض الأداء، التي لئن اختلفت وتعددت وتنوعت، إلا أنها تذهب كلها إلى منطقة واحدة،...

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

البيوت الأولى

بواسطة | سبتمبر 1, 2021 | يوميات

ليس أكبر غبطة، وربما ليس أكبر دقةً من قول غاستون باشلار (1884- 1962م): «البيت كوننا الأول، البيت كون حقيقي، البيت ركننا في العالم». وكنت –وما زلت– قد وقعت في فتنة كتاب باشلار «جماليات المكان» الذي ترجمه غالب هلسا (1932-  1989م)، وصدر أول مرة في بغداد، حيث افتتحتْ به مجلة «الأقلام» سلسلة كتابها الدوري عام 1980م. بيد أنني منذ قرأت هذا الكتاب قبل أربعين سنة، وما زلت، أتساءل وأحزن كلما رأيت نفسي غريبًا على ما ذهب إليه باشلار من أن البيت الذي (ولدنا) فيه محفور بشكل مادي في داخلنا: «إنه يصبح مجموعة من العادات العضوية». وقد غاظني ما قرأت لزهير الخويلدي منذ حين من أن الإنسان عندما يفقد ذكرى بيته الأول، فإنه يصبح كائنًا مفتتًا، لا هوية له ولا أصل.

في لقائي الأول في نهاية 1979م بغالب هلسا في مطعم أم نبيل في بيروت، وعلى إيقاع زخّات الرصاص وانفجارات القذائف في الحرب الأهلية اللبنانية، قلت له: أنا لا أذكر البيت الذي ولدتُ فيه. غادرناه قبل أن أكمل الثالثة، وهو ليس محفورًا في داخلي، لا بشكل مادي ولا غير مادي. فضحك وقال: هو في جوانيتك، في لا شعورك. وقال: للجنين ذاكرته، فكيف بابن ثلاث سنوات؟ وبالانتقال إلى زهير الخويلدي، فأنا إذن كائن مفتت، بلا هوية، ولا أصل لي. لماذا؟ لأنني فقدت ذكرى البيت الأول. حسنًا. الآن أتذكر كم كنت –وما زلت- أكذّب الشاعر الذي أُحبه: أبو تمام (803- 845م) في قوله الشهير: «كم منزل في الأرض يألفه الفتى/ وحنينه أبدًا لأول منزل».

برج صافيتا

ولدت في حارة البرج من مدينة صافيتا التي تعلو البحر قرابة أربع مئة متر. وهذا البرج الذي يشمخ قرابة أربعين مترًا يرجح أنه كان موقعًا فينيقيًّا للدفاع عن (دولة جزيرة أرواد) مقابل شاطئ طرطوس. كان أبي يعمل (دركي خيال) أي شرطي له حصان. ومن أيام فرنسا إلى دولة الاستقلال إلى نهاية خمسينيات القرن الماضي، كانت إدارة الدرك تنقل الدركي من مخفر (في مدينة أو قرية) خلال سنة إلى ثلاث. وقد نُقل والدي من صافيتا إلى عامودا على الحدود التركية، أي على أكثر من سبع مئة كيلو متر عن صافيتا، بحسب سفريات تلك الأيام (1945 – 1948م).

غادرتُ صافيتا إذن قبيل الثالثة. ويبدو أني ضعيف الذاكرة؛ إذ لا أحمل من صافيتا غير أطياف، منها ما هو لجبال خضراء ومهيبة، سأعلم كبيرًا أنها جبل النبي متّى ذو ثلاث المئة نبع، وجبل النبي زاهر وجبل النبي صالح: ما قصة هؤلاء الأنبياء الرابضين على قمم الجبال؟

غالب هلسا

من تلك الأطياف ما هو ملموس وعياني، كالندبة التي أورثني إياها جرحٌ في جبهتي، كان جزاءً على عبثي بحنفية الماء الخفيضة على المصطبة الترابية أمام البيت، والمسوّرة بحجرٍ أُصرُّ على أنه أزرق – لماذا؟ – ومكلّل بالشوك. والعهدة في الذكرى على أمي، كما هي على أبي في طيفٍ لمن كان زعيمه وجاره وأمثولته: عبداللطيف اليونس (1914-2013م) الذي كان معلمًا وصحافيًّا وشاعرًا ومعارضًا للاستعمار الفرنسي، وهو ما اضطره للهرب إلى بيروت ثم البصرة، حتى جلاء الفرنسي عام 1946م.

وكم كان أبي فخورًا بالجرائد التي احتفظ بها طويلًا – أين اختفت؟- لأن اسم عبداللطيف اليونس يشعشع فيها: من اللاذقية جريدة «البلاد» وجريدة «صوت الحق»، ومن حماة جريدة «الفداء». كما كان أبي فخورًا بهدية اليونس له: كتابه (الجبل المريض – 1944م)، وكتابه (ثورة الشيخ صالح العلي – 1946م). وحين انتقلنا من صافيتا إلى عامودا كان قد مضى أكثر من سنة على سفر اليونس في جولة على البرازيل والأرجنتين وتشيلي بتكليف من رئيس الجمهورية شكري القوتلي (1891- 1967م) حيث ألقى محاضرات في الأندية والتجمعات العربية من أجل فلسطين، كما شرح لي أبي متباهيًا مرارًا، والحنين يمضّه في كل مرة.

عندما كنت أُعدّ لكتابة رواية «مدائن الأورجوان» قصدت برج صافيتا أتقراه لأول مرة عن ذكرى: أقبية الطابق الأرضي، السقوف نصف الدائرية، بوابات السراديب، الخزان المحفور في الصخر وقد ملأته الردميات والأوساخ. صعدت إلى كنيسة البرج في الطابق الثاني، خفقتْ ملء صدري أصداء لشتات من حديث أمي وأبي عن فرحة جيراننا باختيار اسمي (نبيل) الذي كان شائعًا بين المسيحيين، وكذلك حديثهما عن الحارة المسيحية التي أقمنا فيها، ويتوسطها البرج، وها هي البيوت الآن تزنّره تزنيرًا.

عامودا

كان أول نزولنا في تلك الديار المعروفة باسم الجزيرة، في (العظامية). الآن يتحدثون عن (العظامية شرقي) و(العظامية غربي) مما ليس في ذاكرتي. وكما في الغبش تتلامح لي أطياف من بيوت خفيضة معدودة، ومن بيت يتوسطها وأكبر منها –لعله أكثر من بيت– يعلو درجات عن الطريق الترابي، هو المخفر. وفي الغبش أيضًا صورة أبي على صهوة حصانه أمام البيت يُحدّث أمي بقسوة ويُلوّح بسوط وأنا أتفرج من نافذة البيت الصغيرة، وأرغط.

بعد سنة يتلاشى الغبش وتبدأ عتمة الذاكرة تتبدد، وقد انتقلنا إلى عامودا: بيت طيني، بالأحرى غرفة متطاولة جدًّا، أمامها ساحة ترابية واسعة. فضاء على مدّ البصر سيصير مثل بحر أخضر في الربيع. على طرف البلدة تلّ سأحفظ اسمه من بعد: شرمولا، وحارة هذا التل هي الحارة المسيحية مثل الحارة التي سكنّا فيها في صافيتا: كأني الآن أسمع أمي تهمس لجارة.

في أعماقي الآن أن هذا البيت ليس فقط هذه الجدران الطينية العالية، ولا هذا السقف الخشبي، بل هو أيضًا وتمامًا ثلاثة تلال خضراء، هو البيوت الطينية المجاورة والبعيدة التي سأراها برفقة أبي، كما سأرى ما سمعتهم يسمونه نهر الخنزير، ويتحدثون عن خنزير ذُبح ورُمي في النهر فأعطاه اسمه. وإذا كانت الحكاية ستبلوني بالذعر من النهر، فالذعر سوف يتضاعف عندما أسمع من تحدث أمي في حلقة من الجارات تَحَلَّقْنَ أمام البيت، عن طفل علقوه على عامود، فصار اسم هذه (الديرة) عامودا!

في الشتاء يتحول ما هو أمام البيت إلى مسبح حين تفتح السماء قِرَبها. وبعد صحو أيام أغوص مع أبناء الجيران في الطين، ويبدأ ابتلاء أمي بتنظيف مدخل البيت مما تحمل (الجزمة الكاوتشوك) من الطين، وما يحمل بوط أبي، والساتر الجلدي الأسود الذي يزنر ساقيه حتى الركبة، ويسمّونه الكاتر. أما إذا جاءت جارة فترمي حذاءها المتلّل بالطين أمام البيت وتدخل حافية.

فجأة تحول البيت إلى محشر. أخذتني أم هجار إلى بيتها الأقرب إلى بيتنا. أوصت بي هجار الذي يكبرني بسنة أو أكثر. تنبهت لأول مرة إلى أنه يتكلم مع شقيقتيه الصغريين بلغة غير التي يكلمني بها. حاولت أن أقلده فصرت مضحكة له ولشقيقتيه. ومع ذلك سأحفظ منه ومن أقران آخرين، من يوم إلى يوم، مفردات وعبارات كردية شتّى. ومما ما زالت أذكره أنه كان يناديني: واريه (تعال)، وأنني وهو وآخرون كنا نجري خلف عجوز وننادي: دينو (مجنون). وفي آخر مرة شاركتهم فيها ملاحقة هذا العجوز رأيناه يلتفت إلينا فجأة ويصرخ ويلوح بعصاه، ثم يندفع نحونا فاستدرنا وجرينا مذعورين، وكان هجار يصرخ بنا: پيپازن (اركضوا)، وتعثرت، ووقعت، وعندما نهضت كان العجوز قد أدركني والآخرون صاروا بعيدين. أوقفني المجنون، ومسح التراب عن وجهي، وربت على كتفي، وكان الآخرون قد توقفوا يراقبون.

حين أعادتني أم هجار إلى بيتنا كانت إلى جانب أمي لفافة صغيرة، وأشارت أمي لي، فاقتربت وهي تبتسم قائلة: صارت لك أخت، وسمّاها أبوك أمل، على اسم ابنة عبداللطيف اليونس. في عصر ربيعي اصطحبني أبي إلى دكانين بعيدتين. وبعدما جلس هو مع ثلاثة من الرجال اقترب شاب منهم، فأمره أحدهم بأن يسلّيني. سمعت الشاب يقول باسمًا ما لن أنساه: چي چامة (من عيوني). أخذني الشاب إلى بيتهم خلف الدكانين، وأتى بتنكة مفرغة من الجانبين الكبيرين، وألبس إحداهما قماشة بيضاء، ووضع التنكة على حجرة كبيرة، وأمرني بالجلوس على التراب أمامها، وبدأ يغني بما لم أفهم منه كلمة، بينما ظهرت على القماشة خيالات رجلين مضحكين يتعاركان ويتسابقان ويرتمي أحدهما ويتصارعان.. أليسا كراكوز وعيواظ؟

كان أبي يزين ليالينا –ولقاءاتنا المتباعدة بعدما تفرقت بنا الدروب– بفيض ذاكرته الوقادة عن البلدات والقرى التي تنقل بينها. وها هي ذكرياته تمتزج بذكرياتي عن عامودا، فأرى أمي تطالبه بأن يصطحبنا مرة إلى القامشلي، وهو يعدها ويحكي لها عن القصب الطويل وعن الجواميس على ضفة نهر جغجغ، عن ناعورة قدور بك، عن ناعورة الحمام، عن الحمّام الذي لن يهنأ له من بعد ما جرّبه، أن يغتسل في زاوية البيت، ولا أن تفرك أمي له ظهره بالليفة.

لمرة واحدة اصطحب الدركي أسرته إلى القامشلي. ولست متيقنًا الآن مما إذا كنت أتذكر أم أتخيل أم أردد خلف أبي: هذا نادي الرافدين وهذا نادي الهومنتمن، كرة القدم، سريان، أرمن، مباراة، والأب يعترف لابنه على كبر، موصيًا بالكتمان، بعشقه يهودية، وهذه مدرسة اليهود، وهذه مكتبة دار اللواء، سألاقي صاحبها كبيرًا: أنيس مديوايه من الرعيل الأول للحزب السوري القومي الاجتماعي، ولاجئ من لواء إسكندرون الذي ضمته تركيا إليها سنة 1939م.

وحين سأزور القامشلي كبيرًا، سوف يتراقص الزمن والصور، وسيكون لي أن أحدّث والدي عما تبدل، لكن القامشلي التي تخصّه لا تتبدل: مدرسة للبنات، مطعم كربيس، مجلة الخابور –أورثني منها عددًا يتيمًا– طاحونة البوظ، الحنطور، سوق عزرا أو دكان عزرا، قناديل الكهرباء…

منذ ذلك المشوار/ النهار بدأت أحكي لأقراني –لا أذكر إلا اسم هجار– عن العجائب التي شاهدت. كما بدأت أحكي لهم مما أسترقُ من حديث أبي عن فرنسا التي حرقت عامودا، وعن تاجر من ماردين يهرّب القماش منها، ومنه اشترى أبي لأمي فستانًا… وبين ليلة وليلة صرت أصحو من نومي، وأحدق في عتمة السقف، وأنادي إليه رجالًا وبغالًا محملة بالسكر والكاز، وأنادي سكة القطار وعساكر أتراكًا وحملانًا ترعى حول كنيسة، وكلابًا تتهارش، وشجرة زيزفون هائلة، وبرجًا هائلًا فوق كنيسة، وشاعرًا وملّا.. ثم صرت أسترقُ النظر من السقف في النهار، خائفًا، أحيانًا، مستعيدًا أحيانًا مما رأيت ليلًا، متشككًا ومستزيدًا، حتى إذا انتقلنا إلى الدرباسية غادر ذلك السقف يقظتي وسكن نومي.

الدرباسية

بعد حين –ربما أكثر من سنتين– انتقلنا إلى الدرباسية التي لم يكن قد مضى على عمرانها عشرون سنة، مقابل الدرباسية التركية، كما سمعت أبي يحدّث أمي وهي تهيئني لليوم الذي لن أنساه: الأول في المدرسة. كان بيتنا شبيه سلفيه في عامودا وقبلها العظامية. وكانت المدرسة عالمًا عجيبًا غريبًا. لا تكاد العربية تُسمع فيه إلا بلسان المعلم الوحيد الشاب الذي يعرف أيضًا الكردية والسريانية، كما سيشرح أبي لي عندما أتحدث عن الكرة التي يلعب بها الأستاذ مع التلاميذ الكبار.

في الطريق إلى المدرسة وفي العودة منها بصحبة أولاد الجيران ومن ينضمون إلينا، كنا نتفرج على المقهى والمخفر والكنيسة والجامع وألوان الثياب. وبينما كنت أدخر ما سأحكيه لأمي، كنت أنسى ما ادخرت إذا صادفت أبي أو أحدًا من زواره يحكي مرة عن القاجاغ (المهربين) والجوخ الإنجليزي والكاز والسكر، ومرة عن التجار القادمين من حلب ومن حمص ومن حماة. ومن مصادفة إلى أخرى صرت أصنف من أرى ثيابهم تختلف عن السائد في الطريق: هذا مهرب وهذا تاجر، وصارت عيناي تبحثان في الأفق عن الدرباسية التركية وعن ماردين التي أخذتها تركيا.

بعد أكثر من خمسين سنة من ذلك العهد الغرير، وبعد يوم لي في القامشلي كنت فيه محاضرًا في المركز الثقافي، تكرم أصدقاء بتلبية رغبتي في زيارة عامودا والدرباسية. وكانت الرغبة تضطرم كلما زرت الحسكة أو القامشلي أو الرميلان، لكنني توجهت لأول مرة إلى تلك البلدة الصغيرة التي صارت مدينة كبيرة، وصارت تعرف بموسكو الصغرى وبلد المليون شاعر وبلد المليون مجنون: عامودا التي خفق قلبي لِمَا تبقى فيها من البيوت الطينية الدائلة.

وغصصت لأنني لم أهتدِ إلى ما كان بيتنا أو إلى أي أثر له. كذلك كان الأمر في الدرباسية. وفي العودة أغمضت عينيّ مصطنعًا الرهق، وإنما كنت أغرق في الحنين، وكنت أقلّب السؤال على وجوهه عن اندغام أبي في الإهاب الكردي لعامودا أو الدرباسية أو العظامية، على الرغم من أنه الدركي العربي، قبل أن تبدأ سلطة حزب البعث بحملة التعريب والاضطهاد القومي، فلم تجن إلا الخراب، ليس للشرق والشمال السوري فقط، بل لسوريا كلها.

كانت الحشائش تزنّر البيت صيف شتاء. وكانت أمي تنكش من أمامه أو من حوله الخبيزة والسلبين، وكان من جاراتها من يشاركنها النكش أحيانًا. ولمّا كنتُ في سنّ الأسئلة التي لا تنتهي، صرتُ أعد أسئلةً ألاقي بها أبي، منها ما كان النهار يودعه فيّ، سواء من المدرسة أم من الطواف كل يوم بعد المدرسة أو طوال نهار الجمعة بين البيوت الطينية ومحطة القطار. ولم يكن أبي ليكتفي بأسئلتي، بل كثيرًا ما كان يتجاوزها ليروي من يومياته لأمي، واليوميات تتشكل أخيلة آسرة، ضاحكة أو مفزعة أو غامضة، فأنسى ما كنت قد سألت عنه، وأرى ثكنة فرنسية، والعلم السوري يرفعه شاب فوقها، وأرى أم الدرباسية: القرمانية على مسافة (شربة سيجارة) وأرى…

عين ظاط

في صيف 1953م انتقلنا من الدرباسية إلى عين ظاط التي تبعد من حمص 25 كلم ومن الدرباسية قرابة سبع مئة كيلومتر. من الفضاء الكردي السرياني الكلداني الأرمني البدوي العربي انتقلنا إلى الفضاء الشركسي. فقرية عين ظاط شركسية، وقد جرى تعريب اسمها في أثناء الوحدة السورية المصرية (1958- 1961م) فصار: عين النسر.

في بناء من طابقين كان بيتنا في الطابق الثاني، من غرفتين وحمام ومرحاض، وكان هذا وحده انقلابًا في حياتنا. كان الدرج المفضي إلى البيت خارجيًّا. ومع أني كنت في الثامنة، وفي الصف الثالث الابتدائي، إلا أنني لا أذكر ما إذا كان الطابق الأول مسكونًا أم فارغًا. لكن ما لا ينسى هو سور البناء، الباب الكبير من درفة واحدة وسط السور، الفسحة الترابية أمام الطابق الأرضي، وتتوسطها بئر، وفي هذه البئر سقطت أختي نوال ذات السنوات الثلاث، التي ولدت في عامودا أيضًا.

كنت قريبًا منها عندما سقطت فاندفعت خارج السور أصرخ وأستغيث. وسرعان ما اندفع رجلان –أو أكثر– ونزل أحدهم في البئر التي كان عمقها أمتارًا، ولا يعلو ماء نبعها على متر أو مترين. ومن الذكريات الأليمة لذلك البيت أيضًا أنه قد حلّت فيه ذات مساء شابة ستكون زوجة أبي الثانية، يرافقها أبوها وأخوها. وقد ابتدأ الألم ببكاء أمي بصمت وهي تعد العشاء. واستبدّ الألم في الليلة التالية، عندما رافقتُ وإخوتي أمي إلى منزل زميل لأبي هو أبو نجوان، كي يخلو بيتنا للعروسين، بينما غفوت على ضحك أبو نجوان –وهو دركي– وبكاء أمي وصديقتها أم نجوان.

عين ظاط لا تُنسى: سهل تلوّنه عرائش العنب كما تلوّنه شقائق النعمان. المخفر الذي سأرى فيه أبي وأبو نجوان يحطمان صورة رئيس الدولة أديب الشيشكلي بعد نجاح الانقلاب العسكري عليه. وعين ظاط المدرسة، والدبس الذي ما مثله عسل، والعرس الذي يراقص فيه الشاب شابةً. وعين ظاط اللغة الجديدة التي ما زلت أحفظ منها بشكر، بشكط، بشكش = 11، 12، 13… وهذه هي المساحة الترابية الفسيحة أمام البيت، قد ظللها الليل، وعلى البيت الصغير المقابل لبيتنا انتصبت سارية، وعليها تخفق قماشة بيضاء، وأحدهم يرمي بالجفت عليها، وصديقي قاسم ابن الجيران بيت جلوقة يشرح لي: في زاوية القماشة البيضاء بيضة مسلوقة، والرماية هي على الخيط الذي يربط البيضة، لكن البيضة سقطت، والساحة هاجت، وقاسم يرغط: عيب عيب، فالرامي أخفق. ومن جديد: بيضة وخيط، وجارتنا الأرملة (نارت) تشرع الجفت وترمي وتصيب الخيط، وجُنَّ جنون الساحة، ولن أنسى ما سمعت من حديث نارت لأمي ولضرّتها: العروس تبوس يد حماتها وأيدي المسنّات من الأقرباء، والحماة تدهن شفتي العروس بالعسل، وها هي الساحة تفور بالراقصات والراقصين من بعد صلاة العشاء حتى أذّن المؤذّن للفجر. عندئذٍ قادتني أمي فَقَدْتُ إخوتي: أين هو أبي إذن؟ وأين هي زوجته الجديدة؟ لماذا يختفيان دائمًا في البيت؟

والآن وأنا أعود إلى عين ظاط، وإلى عامودا والدرباسية والعظامية بعد أكثر من سبعين سنة، أفكر بأن تلك البيوت الأولى –وليس البيت الأول– هي التي جعلت في تكويني نبضًا كرديًّا ونبضًا شركسيًّا، نبضًا مسلمًا وآخر مسيحيًّا، ونبضًا سيريانيًّا وآخر أرمنيًّا، أي نبضًا تعدديًّا مفتوحًا على الآخر، ومندغمًا بالآخر، فألهج بقول الحارث بن عباد (464 – 570م): «أحنّ إلى تلك المنازل كلما/ غدا طائر في أيكةٍ يترنمُ»، وألهج مع الوليد بن يزيد (706 – 744م): «منازل لو مرتْ عليها جنازتي/ لقال الصدى يا حامليّ انزلا بيا»، وألهج مع لسان الدين ابن الخطيب (1313 – 1374م): «منازل هيجتْ للقلب شوقًا/ وللعينين دمعًا واكتئابا».

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *