الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر معاقل المسلمين في شبه الجزيرة الأيبيرية، ثم محاكم التفتيش التي أقيمت لتصفيتهم وتصفية تاريخهم، أو لإجبارهم على ترك الإسلام واعتناق المسيحية؛ جعلت من قضية الموريسكيين سردية تاريخية متصلة لأكثر من خمسة قرون تمتد من أوائل القرن السادس عشر حتى الوقت الحاضر، وعلى الرغم من مرور كل هذه السنوات فما زالت هذه القضية تختزن كثيرًا من الخبايا والأسرار التي تتكشف من وقتٍ لآخر، كلما قلَّب الباحثون والمختصون في تاريخ الأندلس.

قد يكون امتداد ظلال قضية الموريسكيين من بُعدها التاريخي الديني إلى البُعد الثقافي الأدبي، وتناولها في الأعمال الشعرية والمسرحية والروائية انعكاسًا تلقائيًّا لحالة الخفوت النسبي في النزعة العدائية الحادة للحضارة الإسلامية في الأندلس، تلك النزعة التي سادت لقرون عدة، وتبناها عدد غير قليل من المفكرين والمؤرخين والمثقفين الإسبانيين والأوربيين، وربما يكون أيضًا امتدادًا لبعض الأصوات الثقافية المنصفة للمنجز الحضاري العربي الإسلامي الذي تحقق في الأندلس، كالشاعرين الإسبانيين الشهرين: غوستابو أدولفو بيكر، وفدريكو غارثيا لوركا، وغيرهما ممن تبنوا رؤية موضوعية في النظر إلى الحضارة العربية الإسلامية، وأبدوا قدرًا من التعاطف مع الموريسكيين في أزمنة مختلفة، ولكن المؤكد أن ثمة تغيرات حدثت في نوعية الاهتمام الثقافي العربي بالموريسكيين في السنوات الأخيرة، حيث انتقل الاهتمام بقضيتهم من دوائر الدرس التاريخي الأكاديمي إلى دوائر الأدب، فرأينا عددًا من الأعمال الأدبية -الروائية على نحو خاص- تستعيد ذاكرة تلك المرحلة، وتطرحها برؤى سردية مختلفة تجمع بين الوقائع التاريخية، والتقنيات المعتادة في الكتابة الإبداعية، وهو ما يعكس تطورًا ملحوظًا في الوعي الثقافي بهذا الجزء المهم من التاريخ العربي وما صاحبه من أحداث، ويؤكد أن محاولات محو الذاكرة التي استخدمت ضد العرب والمسلمين في الأندلس على الرغم من قسوتها وفداحتها؛ لم تستطع تغييب الأثر العربي الإسلامي الذي ارتبط بالأندلس لثمانية قرون قبل سقوط غرناطة، ولا تزال آثاره باقية حتى الوقت الحاضر.

ونظرًا لأهمية هذه القضية، وتنامي الاهتمام بها في الكتابات الأدبية والأطروحات الثقافية والأكاديمية، فقد خصَّصنا ملف هذا العدد من مجلة «الفيصل» لمناقشتها، والتعرف إلى أبعادها من وجهة نظر بعض المثقفين والمختصين.

الدين والاقتصاد بين جوهر الرؤية وقصور المصطلح

الدين والاقتصاد بين جوهر الرؤية وقصور المصطلح

لعل النتيجة البحثية التي خلصت إليها الباحثة الأميريكية راشيل ماكليري، وهي (أن الدين يغير السلوك الاقتصادي للناس) أسهمت بشكل أو بآخر في النظر من زاوية مختلفة لعلاقة التدين بالاقتصاد، ولكن ليس بالضرورة تصنيف النظم الاقتصادية على أساس ديني، كأن ننظر لمصطلح «الاقتصاد الإسلامي» على سبيل المثال من منظور ديني فقط، فالصحيح أن المصطلح لا يعني التصنيف الديني بقدر ما يعني تأكيد وجود رؤية إسلامية للمفهوم الاقتصادي، أو المعاملات الاقتصادية التي تنظم العلاقة بين البشر والمجتمعات والمؤسسات، وتقودها نحو أفضل النتائج المحققة للعدالة الاجتماعية، وإلا سيكون لدينا اقتصادات مرتبطة بالأديان الأخرى السماوية والأرضية.

ربما يكون السياق الأصح لفهم جوهر المصطلح في عالمنا الإسلامي متمثلًا في تقنين الحدود التي وُضِعَتْ للمعاملات الاقتصادية وفقًا للقرآن الكريم والسنة النبوية، مع الأخذ في الحسبان ما نتج عنها من تطوير في مراحل لاحقة بدءًا من المتغيرات التي حدثت في عهد الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- والأوضاع الاقتصادية التي دفعته في حينها إلى إعادة تنظيم الضرائب باستحداث ضرائب لم تكن موجودة من قبله، وصولًا إلى الوقت الحاضر، وهو ما يؤكد أن النظام الاقتصادي في الإسلام يتطور وفق المتغيرات الزمنية من دون التفريط في ثوابته التي ترفض المعاملات المحرَّمة رفضًا قاطعًا، ويؤكد أيضًا أن السياق الديني أو الإنساني أو الأخلاقي في أي دين وفي أي مجتمع لديه القدرة على صياغة الوعي الاقتصادي بما يسهم في تنظيم التعاملات بين البشر على نحو عام، وليس بين المسلمين وحدهم، وهذا يعني أن القيم الدينية بما تشتمل عليه من قيم أخلاقية وإنسانية تسهم في الحد من الفساد والجشع والغش وما شابه ذلك من الأمور التي تُحدث خللًا واضحًا في النظم الاقتصادية.

من هذا المنظور قد لا تكون العلاقة بين الدين والاقتصاد علاقة علمية بمفهوم علم الاقتصاد المبني على الرياضيات، ولكن المؤكد أنها علاقة حاكمة لعمليات الانضباط والتنظيم والتقنين المبنية على القيم الدينية والأخلاقية العادلة والمعتدلة، ولذلك يمكن التسليم بأن الاقتصاد في كثير من جوانبه يرتبط بعلاقة وثيقة مع القيم الدينية، وفي المقابل يبدو تصنيف النظم الاقتصادية على أساس ديني يفتقد إلى الدقة في تحديد المصطلحات، وربما يكون اللَّبْس الحاصل في هذا الأمر ناتجًا عن وجود قصور في فهم المصطلح الذي يقدم تصنيفًا دينيًّا للاقتصاد، فنقول على سبيل المثال: «اقتصاد إسلامي» للتفريق بينه وبين مصطلحات وتصنيفات أخرى سياسية أو أيديولوجية.

ولأهمية النظر في هذه القضية ومناقشة أبعادها من وجهات نظر مختلفة، فقد خصصنا ملف هذا العدد من مجلة «الفيصل» لمناقشة العلاقة بين الدين والاقتصاد؛ إذ طرحنا القضيةَ على عدد من المختصين والمثقفين؛ للتعرّف إلى رؤيتهم في محاولة لإزالة اللَّبْس الذي يعتريها.

الثقافة في مواجهة الذكاء الاصطناعي

الثقافة في مواجهة الذكاء الاصطناعي

يبدو أن «الذكاء الاصطناعي» سيظل مدةً –قد تطول أو تقصر– مثار جدل بين طرفين؛ أحدهما يرى فيه خلاصًا لكثير من المشكلات البشرية، والآخر يرى فيه هدمًا لكثير من قيم الثقافات والحضارات الإنسانية، إلا أن المسار الأكثر هيمنة وغلبة ينطلق من مفهوم القوة التقنية بوصفها الأداة الفاعلة في يد السلطة التي تسعى إلى قيادة العالم بآليات جديدة وثقافة مختلفة؛ إذ يؤكد أنصار هذا المسار أن «الزعامة» التي ستحققها البلدان المتقدمة في مجال الذكاء الاصطناعي تعني بالضرورة أن تلك البلدان ستكون الأكثر سلطة وهيمنة ونفوذًا وتأثيرًا في العالم.

وهذا يعني –بصورة ما– أن نفوذ الذكاء الاصطناعي يسير بخطى متسارعة؛ لتعزيز مفهوم العولمة بالمعنى الذي يسعى إلى تذويب الثقافات والحضارات، وقَوْلَبَتها في نسق التبعية الاستهلاكية لثقافة المصدر المهيمن بما يمتلك من أدوات تقنية يُعَدُّ الذكاء الاصطناعي أحد أكبر تجلياتها المعرفية المعقدة، وهو المفهوم نفسه الذي تنطلق منه التعريفات التي تَعُدّ الذكاء الاصطناعي «مفهومًا شاملًا للتطبيقات التي تؤدي مهام مُعقدة، وترتبط بقدرة الحاسوب الرقمي أو الروبوت على أداء المهام العامة المتصلة بالكائنات الذكية».

وهو ما دفع العديد من الشركات الكبرى إلى توجيه حصص كبيرة من استثماراتها إلى «علم البيانات الذي يجمع ما بين الإحصاءات وعلوم الكمبيوتر؛ لاستخلاص القيمة من مصادر البيانات المختلفة»، وذلك في إطار تعزيز سلطة الذكاء الاصطناعي الذي بدأ الآن يفرض نفسه على مختلف الاتجاهات والمستويات، بعد أن تكللت محاولات العلماء منذ منتصف القرن العشرين بالنجاح في «تطوير نظام قادر على تنفيذ المهام التي يُنظر إليها على أنها تتطلب ذكاءً بشريًّا، ومن بينها الألعاب الإلكترونية، وفهم اللغة الطبيعية؛ حتى أصبح الذكاء الاصطناعي هاجسًا للمنظومات المؤسسية، ومنها المؤسسات الثقافية بطبيعة الحال»، ومن ثم أفرزت الأنظمة الحالية للذكاء الاصطناعي عددًا من البرامج المساعدة في عملية الكتابة، وعلى الرغم من أنها لم تحظَ حتى الآن بالمصداقية المطلوبة كمصدر موثوق للمعلومات، فإنها قد تصبح كذلك في السنوات القادمة في ظل التطور السريع الذي يشهده هذا المجال.

وفيما يتصل بقدرة الذكاء الاصطناعي على صناعة المحتوى الأدبي أو الإبداعي؛ قد يبدو الأمر –حتى الآن على الأقل– تكرارًا لأنماط ونصوص كُتبت من قبلُ، وليست جديدة ولا مبتكرة بالمفهوم الإبداعي، وهو ما يعني أن هذا المحتوى لا يزال يفتقد صفات القدرة الإبداعية، ويفتقد أيضًا القدرة على تكوين شخصية أدبية للكاتب، ومع ذلك يرى بعض المشتغلين في المجال أن هذه البرامج تنتج عددًا من العوامل الداعمة للكتّاب من حيث سرعة الحصول على المعلومة، أو سرعة إنتاج المحتوى، ويبقى السؤال الأهم: هل العوامل المساعدة ستبقى الهدف الأسمى للذكاء الاصطناعي، أم إن التطلعات أكبر وأكثر تعقيدًا مما نظن؟

إنها قضية بالغة الأهمية وبالغة التعقيد في الوقت نفسه، ونظرًا لخطورة نتائجها على الثقافات، فقد خصصنا ملف هذا العدد من مجلة «الفيصل» لمناقشة موضوع الذكاء الاصطناعي وعلاقته بالثقافة، وطرحنا الأمر على عدد من المثقفين والمختصين للتعرّف إلى رؤيتهم لمستقبل الثقافة في ظل تداعيات الهيمنة التي يكرّس لها الذكاء الاصطناعي، إضافة إلى تسليط الضوء على أبرز التجارب العالمية في هذا المجال.

السيرة الذاتية والمحاذير الذهنية

السيرة الذاتية والمحاذير الذهنية

انتقل فن السيرة الذاتية إلى الأدب العربي منذ مرحلة مبكرة وكافية لأن يبلغ مرحلة النضج الفني كواحد من الأشكال الأدبية المؤثرة، إلا أن ذلك لم يتحقق بالصورة المأمولة، ولعل السبب الرئيس في هذا الأمر يتمثل في أن السيرة الذاتية في أدبنا العربي تفتقد إلى جرأة المكاشفة التي قامت عليها في الثقافة الغربية، ففي حين تقوم كتابة السيرة الذاتية في الثقافة الغربية على فعل الاعتراف والتجرد من سطوة المحاذير الذهنية والرقابة الذاتية، والحسابات العائلية والاجتماعية والدينية، نجدها لدينا أسيرة لكل هذه التحفظات والحسابات التي تجعل الكاتب محاطًا بمجموعة من الأسوار العالية، فيضطر إلى تفريغ أجزاء من سيرته الذاتية في أعماله الأدبية، وينسبها إلى شخصياته السردية التي يبنيها وفق رؤيته الإبداعية بالصورة التي تضمن له البقاء في وضع آمن كلما تشابه الواقع بالخيال.

نعم؛ لدينا في الثقافة العربية، ما يُعرف اصطلاحًا بأدب السيرة الذاتية، وقد حقق هذا المصطلح قدرًا كبيرًا من الرسوخ الأدبي والأكاديمي، ولدينا أيضًا بعض النماذج المميزة التي انحاز كتّابها العرب لمعطيات الثقافة الغربية من حيث الجرأة والمكاشفة والقدرة على الاعتراف، وبينما يرى بعض النقاد أن هذه النماذج لا تمثّل سوى نسبة قليلة من مجمل الإنتاج العربي المتعلق بأدب السيرة، وأن الأدب العربي لم يتخلص بعدُ من سطوة الرقابة بأشكالها المختلفة، يؤكد بعضُهم الآخرُ وجودَ لَبْسٍ في الذهنية العربية، يتعلق بمفهوم السيرة الذاتية وما تنطوي عليه في جوهرها من عناصر؛ إذ يراها بعض الكتّاب والمهتمين مرادفًا للفضائحية، وكلما أصدر أحد الكتّاب العرب كتابًا وصنَّفه تحت باب السيرة الذاتية، تَبادَرَ إلى ذهن القارئ سؤالٌ: هل كان جريئًا وهو يكتب سيرته؟

في الحقيقة؛ يكشف هذا السؤال عن فهْمٍ قاصر لمعنى السيرة الذاتية، وعن تقليلٍ من جهود الكتّاب العرب الذين كتبوا سِيَرَهُم، وتناولوا فيها كثيرًا من المحاذير، فكانت مهمة، وكاشفة، وممتعة رغم بُعدها مِن شَرَكِ الفضائحية.

ونظرًا لأهمية هذه القضية الأدبية، وهذا الشكل الأدبي المرتبط بالذات المبدعة، فقد خصصنا ملف هذا العدد من مجلة «الفيصل» لمناقشة السيرة الذاتية في الأدب العربي، وطرحنا الأمر على عدد من المثقفين والمختصين للتعرّف إلى رؤيتهم لفن كتابة السيرة الذاتية، وأسباب تسريب الكتّاب لسيرهم بأساليب غير مباشرة من خلال أعمالهم الإبداعية، وغير ذلك من التساؤلات التي يجيب عنها ملف هذا العدد.

تصحيح الصورة الذهنية المغلوطة

تصحيح الصورة الذهنية المغلوطة

في السابق، كان يُعتقد أن شبه الجزيرة العربية بعيدة من المواقع الأساسية للتطور البشري، وكانت هناك صورة نمطية حول تاريخ الجزيرة العربية وسكانها في الحقبة السابقة للإسلام، وقد أُطلق عليها العصر الجاهلي استنادًا إلى الاعتقاد أن في تلك الحقبة الزمنية كانت هناك مجتمعات توحيدية في حين لا توجد في الجزيرة العربية مجتمعات مماثلة، وأن مجتمعات الجزيرة العربية في تلك الحقبة كانت متخلفة حضاريًّا، والطابع الغالب عليها الصلافة والحدة، ولكن هذه الصورة النمطية البعيدة من الحقيقة تغيَّرت مع بدء الأنشطة الاستكشافية وأعمال التنقيب الأثري التي تهدف إلى اكتشاف تاريخ الجزيرة العربية.

فقد أوضحت نتائج البحث العلمي والاكتشافات الأثرية وجود حضارات قديمة في مناطق مختلفة من خريطة الجزيرة العربية، وهو ما أشارت إليه بعض الكتابات المسمارية القديمة التي أسهمت – مع غيرها من الدلائل العلمية– في تغيير النظرة السائدة عن تاريخ الجزيرة العربية والحضارات التي استقرت فيها، أو مرت عليها، أو اتصلت بها، ودحضت جهودُ الباحثين من العلماء في مجالات الآثار والتاريخ تلك الصورةَ الذهنية المغلوطة، ومع كل اكتشافٍ جديدٍ تنجلي ملامح الصورة الحقيقية تدريجيًّا نتيجة للجهود التي تبذلها فرق البحث والتنقيب المحلية والدولية في الجزيرة العربية عامة، وفي مختلف مناطق المملكة العربية السعودية خاصة.

وفي ملف هذا العدد؛ تحاول «الفيصل» مع الباحثين والمتخصصين في هذا المجال التعرف إلى نشأة الحضارات القديمة في الجزيرة العربية من حيث أبعادها التاريخية الآثارية والثقافية والدينية، واستعراض الكشوفات الأثرية وجهود البحث العلمي في تاريخ الجزيرة العربية، وسكانها القدماء، والحضارات التي تعاقبت عليها، وتسليط الضوء على صورتها الحضارية في المصادر القديمة غير العربية، وكذلك تأثير الهجرات المتعددة من الجزيرة العربية وإليها وأهميتها في تطور الحضارات الإنسانية. إضافة إلى ذلك، يحاول الملف الكشف عن الأسئلة الجديدة المطروحة اليوم على المعنيين بدراسات تاريخ الجزيرة العربية.