المقالات الأخيرة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

يصف موريس بلانشو الأدب كمنفى في الصحراء، حيث يصبح الكاتب ضعيفًا تسكنه المخاوف مثل تلك المخاوف التي سكنت بني إسرائيل عندما قادهم النبي موسى، امتثالًا لطلب «يهوه»، في رحلتهم عبر صحراء سيناء إلى أرض كنعان؛ فالصحراء فضاء هندسي مناسب لاحتواء مفاهيم من قبيل العزلة...

مراهقٌ زادُهُ الخيالُ.. أبواب حديدة

بواسطة | يناير 1, 2022 | يوميات

«يُغمض المراهق عينيه ويفكر: الآخرون يرونني».

عندما سأقرأ ذلك وقد طويت خمسًا وستين سنة، أجزم أن إدواردو غاليانو قد كتبها لي وحدي.

ها هو الدركي المنقول من حديدة إلى الدريكيش يكوّم في السيارة الصغيرة (جيب لاندروفر) زوجتيه وأبناءه وبناته وصررًا متخمة بالثياب وفرشًا وألحفة وطناجر نحاسية وصحونًا من التشينكو وملاعق خشبية… وقبل أن يأمر السائق بالانطلاق تسرق عيناه نظرة من الشريطة السوداء على شكل حرف V، التي زيّنت عضده منذ أيام، معلنةً أن الدركي بدر عبدالهادي عباس سليمان قد تم ترفيعه إلى رتبة صنف أول، أي نصف عريف.

تنطلق السيارة، وأتكوّر في عمقها. أغمض عينيّ؛ كي أتسلل منذ الصباح إلى الخان الطويل العريض العتيق. أبي يحكي لزوجته الجديدة –أنا ابن العتيقة– أن هذا الخان الذي تلعب فيه الخيل، وجدرانه أعلى من شجرة الدلب خلف بيتنا، بناه جبّار ليس مثله جبّار، لا من الإنس ولا من الجن، باسمه تسمّت هذه القرية (حديدة)، والناس كانت تعبده في زمن الكفر، أعوذ بالله.

على كِبَر سأستعيد حديث والدي لنصرة –اسم زوجته الثانية– وأنا مغمض العينين، أفكر في أنه/ أنهم كانوا يرونني أقطع الساحة التي ينهض بيتنا على طرفها المحاذي لطريق السيارات من حمص إلى طرابلس أو إلى اللاذقية.

وقبل أن أبلغ الخان تكون سعاد بنت جارنا الدركي جوزيف بيطار الذي لم يتم ترفيعه إلى رتبة صنف أول، قد لحقت بي، فينفرد الطفلان ابني العاشرة فيما نظّما من الأحجار السود الصغيرة، لترسم بيتًا لهما وحدهما، مقابل بيوت مثله لإخوتها وإخوتي. وقريبًا وبعيدًا من بيوت الأطفال أحجار هائلة تزينها بالحُفَر والنتوءات نقوشٌ عجيبة، أصغرها يربو طوله على متر، وعرضه كما ارتفاعه يربو على نصف متر. فالخان الذي تلعب فيه الخيل، ويحتشد بالتوابيت الحجرية، تقوّض، وأنا سأقص كبيرًا على أبي وعلى نصرة –أين هي أمي؟- أن هذا الخان كان معبدًا للإله حدد، إله العواصف والأمطار الذي يرمح في السماء على عربة يجرها حصان مثل حصان أبي –كان للدركي الخيال حصان– ويجلد الغيوم بسوطه فتتساقط الأمطار، بينما يزمجر الثور الذي يجر عربة الإله فترتجّ الأرض بالرعود.

بينما كنت ألملم وجعي

لن أنسى أن نصرة قاطعتني تتمايل ظفرًا: حصان أم ثور يجر العربة يا ذكي يا متعلم يا ابن المدارس؟ فاندفعت في عراكها: أنت ماذا تعرفين؟ هل تعرفين أن الجامع الأموي بدمشق قد قام على معبد الإله حُدُد؟ هل تعرفين معبد الإله حُدُد في قلعة حلب؟ الآن أكتب اسمها مجردًا: نصرة، لكن أبي علمني وإخوتي من أمي على أن ننادي هذه الغريبة: خالتي، وأمرنا أن نقبل يدها كما نقبل يد أمي في الوداع أو العيد أو… وخالتي نصرة هي من بسببها حفظت صغيرًا من الأمثال ما حفظت. ومن ذلك ما كانت أم سعاد تقوله لأمي التي كانت تندب حظها: عقربة في الغار ولا ضرّة في الدار، فتنهدت أمي عميقًا وزفرت زفرة كاوية، وقالت: الضرة مُرّة ولو كانت جرّة. وفي مصادفة أخرى كانت أمي وأم سعاد واقفتين تحت شجرة الدلب العملاقة، وكنت أتلصص عليهما من خلف شبك النافذة الصغيرة، سمعت أم سعاد تقول: زوج التنتين يا قادر يا فاجر، فردت أمي: حرام عليك، أبو نبيل لا قادر ولا فاجر.

بعد دقائق اقتربت السيارة من المفرق الذي يقود صعدًا إلى أن يبلغ قرية المشيرفة الأصغر من حديدة. أبالغ في التكور في عمق السيارة كي أحمل حقيبتي القماشية المحشوة بكتبي وزوادتي، وأنتظر مع أبي أية سيارة عابرة تنقل ابن الدركي –وكل دركي مهاب– إلى مفرق المشيرفة. يتسلى حذائي الكاوتشوكي بحصى الطريق القصيرة إلى أن تنمهد الساحة الصغيرة أمام بيت صغير هو المدرسة الابتدائية ذات الصفوف الخمسة والمعلم الوحيد. أتحسر على البيت الصغير المقابل لبيتنا في حديدة، فهو المدرسة الابتدائية ذات الصفوف الأربعة والمعلم الوحيد. ولأن ابن الدركي في الصف الخامس، في صف الشهادة (السرتفيكا) الابتدائية، فعليه أن ينتقل إلى المشيرفة، وينام في بيت المختار، ويسرح بعد المدرسة مع أقرانه الجدد من الفتيان والفتيات– ليست سعاد هنا.

في العصر الربيعي نمضي من المدرسة وسط القرية إلى خدّها المرشوش بالزهور من أعلاه وبيت المختار إلى منتهاه في النهر الذي يفصل سوريا عن لبنان: هنا الحدود. نهر صغير يمكن لمثلي أن يقطعه. ابن المختار وحده يحثّنا، يعيرنا، يروح ويجيء، يمثل أن دركيًّا لبنانيًّا ضبطه وهو يقاوم. ابن المختار تفوق على ابن الدركي هنا. لكن ابن الدركي السوري تفوق هناك، في المدرسة، وسيذهب الولدان المتنافسان إلى ثانوية عبدالحميد الزهراوي في أطراف حمص ليتقدما إلى امتحان الشهادة الابتدائية.

في بيت صديق للدركي –لا بد أنه دركي مثله– في حيّ بلا اسم في حمص، يودع الدركي ابنه أيام الامتحان. كنت أخرج من البيت الذي لم تحتفظ ذاكرتي منه برسم، فأمشي محاذيًا سكة القطار حتى باب ثانوية الزهراوي، وصوت أبي وصديقه يلاحقانني: لا تمشِ وسط السكة. لا تعرف متى يظهر لك الترين ويبلعك شربة ماء. لا تبتعد عن السكة فتضيع. أنت في حمص، لست في حديدة ولا المشيرفة.

مثل حلم جميل يوشيه الخوف أحيانًا مضت أيام الامتحان. وفجأة ركبنا البوسطة: أمي وإخوتي من أمي وأنا –مطرودين؟ ربما– وبقيت الزوجة الجديدة وبناتها في حديدة التي ودعتها خائفًا، أغالب البكاء. ودعت مفرق المشيرفة، ها هي (جسر قمار) القرية الأصغر من حديدة ومن المشيرفة، نحن في الأرض اللبنانية، وهذا نهر الكبير الجنوبي، وهذه الأرض السورية، والسيارة تهرّ وهي تصعد إلى صافيتا حيث ولدت، ثم تترجرج نزولًا إلى طرطوس، بانياس، جبلة. ومن المفرق الذي يقودنا إلى قريتنا (البودي) تستأجر أمي حمارًا لها وللصغيرات، بينما نتبع الحمار أنا وأخي الذي يصغرني: ثلاث ساعات صعودًا، ومن يوم إلى يوم تصير حديدة وسعاد وأبي ونصرة وبناتها بعيدين بعيدين حتى النسيان. وفجأة يناديني عمي الشاب ملوحًا بظرف كبير وورقة كبيرة، وعندما وقف قبالتي أخذ يدور حول نفسه راقصًا وراغطًا، ثم حملني وقذفني عاليًا وتركني أسقط على التراب الأحمر. وبينما كنت ألملم وجعي بارك نجاحي وصاح عاليًا ومباهيًا بابن أخيه الذي نشرت الجريدة خبر نجاحه، وصار يحمل السرتفيكا.

صياحُ عمي صيّرني جنّيًّا يفتح جريدة الفيحاء الدمشقية على مصراعيها، ويسابق سبّابة العم إلى اسمي الذي خطّ أبي سطرًا تحته بالقلم الأحمر. والصحف كانت إذن في خمسينيات القرن الماضي تنشر أسماء الناجحين في الشهادات في عموم سوريا… يا للهول.

بيوت بلا أبواب

اخترقت السيارة صافيتا وتركتني أتقرى مطرح ولادتي، وتابعتْ هريرها إلى الدريكيش. ولأن عيني أمي امتلأتا دمعًا، ولأن صوتها حشرج وهي تترحم على أيامها في صافيتا، ضاعفت من تكوّري في عمق السيارة، ومن إغماض عينيّ، كي أرى أمي عروسًا جاء بها الدركي الخيّال الشاب من قرية جرماتي التي لا يفصلها عن قرية الدركي (البودي) غير واديين صغيرين، تصل بينهما تلّة مجلّلة بأشجار السنديان والبلوط والخرنوب العملاقة.

رأيت أمي فتاة قروية ساذجة، بالطبع أمية، مبهورة بالمدينة الصغيرة– بالأحرى: البلدة، رأيتها تنظر إلى أبي والهةً وغير مصدقة، رأيتها تنام حاملًا وتصحو عليّ في حضنها، ثم تنام حاملًا وتصحو على أخي في حضنها، ثم تظل تنام حاملًا وتصحو على بنت في حضنها، فبنت ثانية، فثالثة، وإذا بشابة أصغر منها تشاركها الدركي والبيت (نصرة)، ورأيت أمي تبكي ملء بيتنا في حديدة.

بيتنا؟ أي بيت هذا؟

هي غرفة من الحجر البازلتي مثل بيوت حديدة وكل هذا الأفق المترامي من ثانوية الزهراوي في حمص إلى الحدود اللبنانية. رحم الله نسيب عريضة الذي صب لوعته شعرًا: يا حمص يا أم الحجار السود. الغرفة مربعة وكبيرة، يتجاوز ضلعها خمسة أمتار، تتحول في الليل إلى فراش يضيق بأمي وأبنائها الذين ازدادوا أخًا فصرنا ستة. ويضيق الفراش الهائل بنصرة وابنتها الأولى وأبي. الذي ما عاد ينام إلا محشورًا بين الحائط ونصرة.

ذات ليلة حلمت –يقظان أو غافيًا– بأبي يطرد من الغرفة البيضاء المغناج (نصرة) وأمي (السمراء المتحفظة) تحل محلها. وذات نهار حلمت –يقظان أو غافيًا– بأمي تذكّر ضرتها: جئت لا تعرفين كيف تعملين فنجان قهوة، علّمتك كيف تمشطين شعرك وكيف تطبخين وكيف تلمّعين بوط جوزك، والآن تتنمّرين عليّ؟ زعقت نصرة: الجدي ما بيضلّ جدي، بيكبر وبيصرلو قرون، بعدين لمّا أنت ستّ وأنا ستّ مين بدها تكب الطشت؟

لا، لم يكن حلمًا. كان كابوسًا اشتبكت فيه الضرتان: واحدة تنتف شعر الأخرى، والأخرى تعض ذراع الواحدة، وأنا أحاول أن أفكّ الاشتباك وأصرخ مستنجدًا إلى أن جاء جارنا أبو سعاد وأم سعاد وبددا الكابوس.

لا، لم يتبدد الكابوس. خرجت من الغرفة/ البيت ولم أعد حتى أعتمت: أين هو الباب؟ ولماذا لن أراه من بعد؟ لماذا لن أرى بابًا على المدرسة، ولا على بيت/ غرفة جيراننا، ولا على الدكان الذي تظلله شجرة الدلب العملاقة، ولن أراه من بعد في مدرسة المشيرفة ولا في بيت المختار، ولم أجرؤ على أن أكلم أحدًا بذلك إلا سعاد التي جرتني إلى أمام بيتها وبيتي والمدرسة، ومرّغت كفيّ على كل باب، وضحكت وجرت صوب الخان وجريت خلفها جذلان.

وإذا كنت سأصحو يومًا على صوت الراديو يلعلع بالغناء، وأسمع أبي يوشوش نصرة: هذا عرس الملك حسين في عمّان، فجافاني النوم، إلا أنني صحوت يومًا ويومًا وثالثًا على أمي تبكي و/أو على نصرة تحبس ضحكة أو شهقة، و/أو على أبي يشتم أمي ويتوعدها. وفي كل مرة أتكور في عمق الفراش وأغفو عميقًا على هدهدة خوفي وقلقي. وكان مثل هذا الخوف ومثل هذا القلق يتسللان إليّ في غفلة مني، أو يهجمان فجأة في غفلة أيضًا، عندما كان الأستاذ كامل حصرية يثني عليّ أمام التلاميذ، وينصّبني عريفًا على الصفوف الأربعة المحشورة في غرفة واحدة شبيهة ببيتنا -غرفتنا وبيت- غرفة جيراننا، حيث سعاد بنت الدركي المسيحي. أما سبب قلقي وخوفي من أستاذي فجاء بعدما حذرني أبي من أن أدع الأستاذ يلاطفني أو يقترب مني كما يفعل مع شقيق سعاد– ماذا كان اسمه؟

بعد انتقالي إلى مدرسة المشيرفة بمدة سمعت أمي تحدّث ضرّتها عن الأستاذ الذي (نزع) الولد –أي شقيق سعاد– وعن حبس الأستاذ في نظارة (تخشيبة) المخفر.

والآن، وبينما تلوح الدريكيش وهي تتعربش –تتسلق– على الجبل، أتكور في عمق الجيب اللاندروفر، وأغمض عينيّ لأرى جدي الشيخ عبدالهادي بقامته الطويلة وصلعته اللامعة وقنبازه المخطط الغامر لسرواله الأبيض، ينزل في بيتنا –غرفتنا المربعة السوداء، ثم أراه يمسك بكفي وإلى يساره أبي، ونحن في ساحة قرية (قزلاخر) القريبة من حديدة: ضوء باهر ربما كان لأكثر من (لوكس) أو للقمر في تمامه، رجال ونساء، أولاد مثل ابن الدركي، صخب ربما كان غناءً أو تهليلًا، الجد يتشامخ ويزداد طولًا ومهابة ولا يفلت كفي. هل هو عرس؟ عيد؟ استقبال للشيخ؟

العودة إلى حديدة

قزلاخر: كروم الزيتون، الزعتر البري مروج فوّاحة برائحة تميل بالرأس وترقّص خطوات وضحكات ابن الدركي في الغروب الذي تحررت كفّه فيه من كف جده، محطة للقطار مقدودة من الحجر الأسود، منام وذكريات مفلوشة. وسوف يظل كل ذلك غامضًا مثل غموض الشهور القليلة التي أعقبت حملي لـ(السرتفيكا). ما هو جليّ أنني عدت إلى حديدة في نهاية الصيف. وبعد أيام اصطحبني أبي إلى بيت صديق له في مدينة تلكلخ– من المؤكد أن ذلك الصديق لم يكن دركيًّا، فماذا كان إذن؟- حيث افتُتح في مدرستها الابتدائية منذ السنة الماضية الصف السادس (الأول الإعدادي).

كان بيت أبو صبري أول بيت في تلكلخ يستقبل القادم من حمص، أو آخر بيت يودع القادم من طرابلس أو طرطوس أو اللاذقية. كان بيتًا مقدودًا أيضًا من الحجار السود. غرف عديدة متلاصقة أمام فسحة/ حديقة مسوّرة ولكن بلا باب، تمرح فيها القطط السود دائمًا، وكلاب سود أحيانًا، الغرفة التي سينام فيها ابن الدركي مقابلة لغرفة نجيحة. وسوف أنسج من شتات ما أسمعه في البيت، لأرى نجيحة تفكّ الحرف، وتحفظ جدول الضرب، وأرى أم نجيحة، أي أم صبري –لماذا لم يظهر صبري خلال شهوري الثلاثة في بيت ذويه؟- قد ابيضّ شعرها، وانحنى ظهرها كأنها وجدتي لأبي (نمنوم) توأمان. ومع كل يوم جديد كنت أقضيه في هذا البيت كنت أزداد دهشة من نشاط هذه العجوز، ومن أنها زوجة هذا الذي يبدو أوفر شبابًا من أبي– لم يبلغ الأربعين أي منهما– فلماذا تزوج من هي في عمر أمه؟ وصبري الذي لا يغيب ذكره عن السهرة، أين هو؟ ولماذا تريدني نجيحة أن أعلمها إلى أن تجيد القراءة والكتابة مثل بنات الأكابر؟

أما الأكابر في تلكلخ، فكنت أسمع أبو صبري يتحدث في العشايا عمّن عرف منهم: الأستاذ عبدالرزاق الدندشي الشاب الذي أسس مع زكي الأرسوزي ومع صبري العسلي وأساتذة كثيرين (عصبة العمل القومي) في قرنايل في لبنان قبل عشرين سنة، بل أكثر. وفي السهرة التي روى فيها أبو صبري ذلك، غزلت عيناي الساهمتين لعبدالرزاق الدندشي صورة من وجوه من رأيت من الأساتذة في المشيرفة وفي ثانوية عبدالحميد الزهراوي وفي ابتدائية/ إعدادية تلكلخ. وحين كانت تتلامح صورة الأستاذ كامل حصرية كانت عيناي تمزقانها.

ها هو صوت أبو صبري يسحج كأنه يغالب البكاء أو الانفجار: اغتالوا عبدالرزاق الدندشي. تسأل نجيحة: شو يعني؟ تشرح أم صبري: قتلوه. ليش؟ تسأل نجيحة. ينهض الأب وبالكاد يُسمع صوته: قوموا ناموا.

في ليلة أخرى كانت هبّات الهواء فيها تصمّ الآذان وتخلع الشبابيك والأبواب كما تقول أم صبري وتسأل الله اللطف بعبيده؛ في تلك الليلة سمعت «أبو صبري» يسأل ضيفه –ستخبرني نجيحة أنه عمها، وأنه سينام في البيت– عن ابن العم الذي يغني في الإذاعة: (سمعت عنين الناعورة/ وعنينا شغل بالي/ هيّ عينينا ع الميّة/ وأنا عنيني ع الغالي/ أوف يابا). وفاتني من الكلام ما فاتني بسبب العاصفة القادمة من (فتحة) حمص. وقالت أم صبري متباهية: معن ابن عمنا، أبوه شاعر، وأمه ليس لها مثيل في العزف على العود، وهي علمت «معن» العزف. صوت أم معن ولا صوت أم كلثوم، ولا صوت أسمهان. وذات نهار سأرى نجيحة قد ألصقت أذنها بالراديو، وأمها واقفة تصغي بتأثر. وحين انتهت الأغنية –ماذا كانت؟- تروي أم صبري أن ابن عمنا معن هو من درّب فيروز على أن تغني (أبو الزلف) و(ع اللالا) و(الدلعونا) و(بردا بردانة بردا). وكنت أحب هذه الأغاني، وأرى أبي يميل برأسه يمينًا ويسارًا عندما يسمع إحداها ونصرة تدندن مع الراديو.

حضر والدي مرة واحدة إلى بيت صديقه. ورأيتهما يشربان كلٌّ من كأس بلون الحليب، سأعلم بعد سنوات أنه العرق ممزوجًا بالماء. وسمعت أبو صبري يحدّث أبي عن أبيه الفارس الذي كانت له فرس ليس لها أخ ولا أخت. والدنادشة يا صاحبي عشاق الخيول الأصلية: قال، وروى عن أبيه أنه كان من قواد المقاومين الذين تصدوا للجيش الفرنسي سنة 1919م، ورفضوا رفع علم فرنسا على السرايا –ربما كانت السرايا وحدها في تلكلخ من طابقين– وأنهم رفعوا علم الحكومة العربية في دمشق، وأن جنودًا من الجزائر كانوا في صفوف الجيش الفرنسي. وسوف يكون لكل ذلك حضوره الفعّال في الجزء الأول (الأشرعة) من رباعية (مدارات الشرق).

في حضن نجيحة

في الليلة التالية، وقبل أن أذهب إلى المدرسة، سمعت أم صبري تأمر نجيحة: إياك أن تظهري ما دام خطيبك هنا. انقبري في غرفة نبيل حتى يرحل عريس الهنا. ولعَنت أبا العريس وأمه. وما همني من ذلك إلا أن نجيحة ستكون حبيسة غرفتي. وفي الطريق إلى المدرسة تمنيت أن ينام العريس في البيت لتنام نجيحة في غرفتي. واستذكرت متلذذًا طوال الدرس الأول –كان للغة الفرنسية التي فرضتْ علينا لأن تلكلخ ليس فيها من يدرس الإنجليزية– المرات التي ضمتني فيها نجيحة إلى صدرها، أو داعبت شعري، أو قرصت خدي. بيد أن الدرس التالي، وكان للرياضة، جعل نهاري غمًّا. كانت الأمطار لم تهدأ منذ أيام، لكنها صحت فجأة في الفرصة الفاصلة بين درسَيِ الرياضة واللغة الفرنسية. وسبق أستاذ الرياضة إلينا أمره بالخروج إلى الساحة حيث بدأ يدربنا على السير مثل العسكر. ثم بدأ يدربنا على الاستدارة بأمره: يمين دُرْ، يسار دُرْ. وفجأة عميت أذناي وعيناي، فدرت يمينًا عندما أمر بالدوران يسارًا، والعكس بالعكس في الأمر التالي. وفيما يشبه البرزخ بين النوم واليقظة، رأيت الأستاذ يترك زملائي ويقبل عليّ، يأمر فأنفذ، ولكن عكس ما يأمر به، ينفجر صوته ويتطاير زبده، وأنا أمعن في الخطأ غير قاصدٍ لا والله. ما الذي برمجني على الدوران عكس ما يأمر به؟ ولماذا يضحك الملاعين؟ لماذا يضربني الأستاذ على خدي الأيمن ويأمرني: يمين دُرْ، فأدور يسارًا وأدير له خدي الأيسر، فيغرس أصابعه في خدي ويأمر، وأخيرًا أوقعتني لبطة منه على أرض الساحة المنقوعة بالماء والطين.

في نهاية الدرس مسحت الطين عن بنطالي، غسلت، ساعدني زملاء، صرت مبللًا بالماء، وقضيت بقية النهار أرتجف، حتى إذا عدت إلى البيت تسللت يتأكلني الخجل، وكانت نجيحة لي بالمرصاد، شهقت وسألت ولم تنتظر جوابًا. تسللت بي مدارية أمها إلى الحمام. لا بد أني صرت عاريًا بين يديها حتى وقعت مغشيًّا عليَّ، أو هكذا شبه لي إلى أن كستني وأدفأتني –بماذا؟- وفي العشية لم تدعني أغادر حضنها بينما كان خطيبها في ضيافة أبيها وأمها.

غافيًا أو يقظان قذفتني انفجارات الرعد من حضن نجيحة إلى باب الغرفة. اختفى الباب. عدوتُ إلى الصالون. اختفى الباب. اختفت الأبواب المفضية إليه. غافيًا أو يقظان طرت إلى المدرسة. لم أر لبيتٍ بابًا، وأنفاس نجيحة تلفحني الآن وأنا مغمض العينين، متكور في عمق الجيب اللاندروفر التي دخلت الدريكيش. نجيحة تتسلل كل ليلة بعد أن يغفو أبواها إلى غرفتي، تملأ فراشي وتحضنني، تدفئني وتحكي ما لا أذكره، إذ أكون مغشيًّا عليّ. ولما عدت إلى حديدة في نهاية الأسبوع لطوت في المساء قرب باب غرفة /بيت سعاد/ غرفتها، وطال انتظاري، وهمست مناديًا، ولما ظهرت احتضنتها، فملصت مني، فاحتضنتها بقوة كأنني صرت نجيحة، فلبدت في حضني إلى أن جلجل صوت أمها: وينك يا سعاد؟ وينك يا مضروبة؟

لم أر حديدة من بعد إلا في المنام. ولم أرها في منام إلا كانت أبوابها مخلّعة، ثم صرت أراها بلا أبواب، حتى إذا انطوت خمسين سنة…

كنت عائدًا من لقاء بين فنانين تشكيليّين وكتّاب، نظمته مديرية الثقافة في السويداء باقتراح مني. وكان الناقد صلاح صالح يقود السيارة على أوتوستراد حمص اللاذقية. ولما اقتربت السيارة من المفرق الذي يقود إلى حديدة، طلبت من صلاح أن يمضي إليها. وحدثته عن مقامي فيها. ولما وقفت السيارة في وسط الساحة، رجّني قبل أن أنزل منها أن بيتنا بلا باب كما في المنام الذي نسيني منذ سنوات. وهذا بيت سعاد بلا باب، وهذا بيت المدرسة، والدكان، والمخفر الذي لوّح لي بصورة أبي من بعيد بلا أبواب. هذه أبواب حديدة التي تضاعفت بيوتها أضعافًا بلا أبواب.

عدت مبلبلًا، كسيرًا، إلى السيارة، وأسلمت روحي إلى صوت فيروز تغني:

وبوابْ بوابْ/ شي غربْ شي صحابْ/شي مسكّرْ وناطرْ تيرجعوا الغيّابْ/ آه يا باب المحفور عمري فيك/رح انطرْ وسمّيكْ باب العذابْ/ في باب غرقانْ بريحة الياسمينْ/ في باب مشتاقْ/ في باب حزينْ/ في باب مهجور وأهلو منسيّيين/ هالأرض كلها بوابْ/ يارب خلّيها/ مزينة ببوابْ ولا يحزنْ ولا يتسكّر باب.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *