المقالات الأخيرة

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

يصف موريس بلانشو الأدب كمنفى في الصحراء، حيث يصبح الكاتب ضعيفًا تسكنه المخاوف مثل تلك المخاوف التي سكنت بني إسرائيل عندما قادهم النبي موسى، امتثالًا لطلب «يهوه»، في رحلتهم عبر صحراء سيناء إلى أرض كنعان؛ فالصحراء فضاء هندسي مناسب لاحتواء مفاهيم من قبيل العزلة...

الرواية الأورُبية المتعلقة بالتأريخ السنغامبي ما بين القرنين (15 -- 18م): القراءة والتأويل

الرواية الأورُبية المتعلقة بالتأريخ السنغامبي

ما بين القرنين (15 -- 18م): القراءة والتأويل

يتفقُ الباحثون في الشأن الإفريقي، على أنَّ القرن التاسع الهجري قد شهد تحولات مهمة على مستوى تطور الرواية المصدرية المتعلقة بتاريخ منطقة السنغامبيا(١)؛ حيث بدأ الوهن يأخذ مأخذه من الشهادات العربية، وهو ما جعلها تفقد ريادتها التي امتازت بها على امتداد ثمانية قرون (1-...

“لقاء مارس 02: تواشجات”

دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

بواسطة | مارس 10, 2024 | تقارير

فيما يشبه الالتزام الأخلاقي والجمالي، تبنى لقاء مارس السنوي، الذي تنظمه مؤسسة الشارقة للفنون، في دورته الجديدة التي انتهت أنشطتها قبل أيام، طيفًا واسعًا من القضايا والموضوعات والنقاشات وعروض الأداء، التي لئن اختلفت وتعددت وتنوعت، إلا أنها تذهب كلها إلى منطقة واحدة، كيف يمكن مواجهة العنف ومقاومة السائد، بشروط مختلفة وطرائق جديدة، أي العلاقة بين الثقافة والسياسة في إطار أوسع.

شكل “لقاء مارس”، الذي شارك فيه عدد كبير من الفنانين والكتاب والإعلاميين، منبرًا حرًّا للنقاش وتبادل الآراء ومشاركة الحضور مدى الصعوبات التي تعترض الممارسين الفنيين، وما يحتاجه هؤلاء من وسائل كي يتغلبوا على تلك الصعوبات، فضلًا عن تسليط الضوء على المجموعات التي تعمل ضمن المجتمع، لتعزيز العدالة الاجتماعية، انطلاقًا من الممارسات المشتركة.

موضوعات وورش وحوارات، تتداخل وتتشابك وتتواشج، معبرة عن لحظة زمنية مفارقة، ملؤها الدمار والإبادة في أشكالها الأكثر دموية. ومن هنا، أخذ اللقاء هذا العام عنوان “تواشجات”. ولا يبدو أن هوية المجموعات الفنية، المشاركة، تستقيم بعيدًا من تواشج العلاقة بين الفن وبناء المجتمع والمشاركة الاجتماعية. يذهب “لقاء مارس”، الذي أقيمت جلساته في مدرسة خالد بن محمد، إلى جوانب وتفاصيل، لا تبدو واضحة ولا متعينة بالنسبة للمتلقي، وغير متوقعة كذلك، لنأخذ مسألة التمويل، مثالًا. ليس صعوبة الحصول عليه، إنما عملية إدارته والتقارير التي تكتب عن هذه العملية، وما تستغرقه من وقت، قد يأتي على حساب الوقت الذي يحتاجه الفنان لإنجاز مشروعه الفني، وذلك بسبب الأنظمة والقوانين التي تأخذ وجوهًا عديدة منها ما هو سياسي، وهو الأمر الذي يمارس تهديدًا مباشرًا للعملية الفنية، في حال كفت عن الاستغناء عن التمويل، الذي يأتي مقرونًا بشروط صعبة.

حضور لقاء مارس كانوا على موعد مع كل ما من شأنه، من أساليب وطرائق، إعادة النظر في المقاربات الفنية التي يمكن أن تسهم في «إعادة تشكيل دور الفن والفنانين في واقعنا الحالي، كما تستعرض أشكال التجمع البديلة التي قد تكون بمثابة أدوات للعدالة الاجتماعية والتضامن والتوعية الفكرية». انطوى “لقاء مارس” على دعوة واضحة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا، ويقوم على مبادئ الاستدامة والعيش الكريم، وذلك بالاعتماد على أشكال متعددة من الإنتاج الثقافي والمعرفي ضمن الممارسات التعاونية.

في جلسات “لقاء مارس” يعرف المتلقي كيف يمكن للعمل التعاوني أن يعزز من مفاهيم التمثيل الفني الفاعل، لا سيما إبان الاضطرابات العالمية؟ وما دور مشاركة الموارد الفنية والثقافية في التعامل مع الهشاشة، وغياب الاستقرار، وتحفيز الحوار وتعزيز المساواة؟

تحدث مشاركون عن الأساليب التي تتحول إلى التشابك والعُقد. أنواع مختلفة من العُقد، والصبر هو الوسيلة الوحيدة لتفكيك هذه العُقد. لكن تبقى العقدة عقدة، في رأي هؤلاء، ما لم نستطع تفكيكها. الأمر نفسه ينطبق على المجموعات الفنية، فهي تتحول وفق الظروف وبالتالي تتغير وظيفتها. وأيضًا العقدة تلتف حول نفسها، وهكذا هي المجموعات الفنية. في الجلسات عاين المتلقي تفاصيل الزمن المحمل بالعنف والجوع في كل مكان. وكيف أن إصلاح نسيج الزمن، يحتاج إلى التركيز على ما هو غير مرئي، وتوقع المشكلات المحتملة. على أن المطلوب من المجموعات الفنية، ليس مجرد رد فعل على ما يطرأ من عنف، إنما بناء زمن طويل من الملاحظة والتحليل. فالأفكار تصل بطرق مختلفة، وبوسائل وأدوات تخلق شبكات متنوعة.

في “لقاء مارس” يكون المتلقي على موعد مع أشكال من المقاومة، ليس أقلها الحياكة والتطريز، لتعزيز الهوية ومواجهة الاندثار. إضافة إلى الفن النسوي، بصفته وسيلة مقاومة من أجل الاستمرارية. فالنساء لسن فقط شاهدات على التدمير، إنما بطلات تدافعن عن الحق، والتأكد من عدم نسيان ما حدث، مستقبلًا. كذلك الشعور بالسعادة والبهجة بصفتهما درعًا ضد ما يواجهنه يوميًّا. فالحاجة إلى الشعور بالسعادة والبهجة مسألة أساسية في ديناميكية الفن.

طرح “لقاء مارس” قضية المؤسسات والفضاءات الفنية غير الربحية، التي تعد شريان حياة للفنانين والمنتجين الثقافيين، لا سيما أولئك الذين عانوا تاريخيًّا من ضعف التمثيل أو البُعد من المراكز الفنية الغربية، ويتمثلون في تجارب فلسطينية ومن جنوب آسيا وإفريقيا. ومن تقاطعات الممارسات الفنية المعاصرة والهوية الثقافية والذاكرة الجمعية، إلى العلاقة بين الذاكرة والمادية وتواريخ النزاع؟ إضافة إلى كشف السبل التي يوحّد فيها الفن نضالات المرأة عبر مختلف الخطوط العرقية والدينية؟ مرورًا بمختلف الإستراتيجيات التي اتبعتها أبرز الشخصيات النسائية للتصدي للبنى البطرياركية، وإفساح المجال أمام الأصوات المهمشة، وتعزيز الخطاب العام الذي يحتضن الجميع. وتأكيد الحاجة إلى صياغة فضاءات جديدة للتعبير، وأنماط بديلة للعلاقات الاجتماعية، حيث يجد الفنانون والمجتمعات الإبداعية سبلًا للتنظيم الذاتي والتجمع والعمل والتخيل والإنتاج، فضلًا عن مقاومة التهميش وكراهية الأجانب والنزوح والإلغاء. وكيف بإمكان بعض الفضاءات احتضان ثقافات اجتماعية شاملة تزرع الأمل في أوقات الصراع؟

طارق علي: أن تكون في هذا العالم

الروائي والكاتب الباكستاني طارق علي، تطرق، في إحدى الجلسات وكانت بعنوان “أن تكون في هذا العالم”، إلى الوسائل والتقنيات الجديدة، ودورها في تسريع عملية انتقال منتج ثقافي أو فني إلى قاعدة عريضة من الجماهير، في بلدان مختلفة، في وقت قياسي. والكاتب البارز تحدث أيضًا عن الأزمات، وعن الدمار الذي لحق بغزة، مثالًا، وعن ردود الفعل المؤيدة لوقف الحرب، من ناحية، ومن ناحية أخرى كيف تعاطى الإعلام الغربي مع هذه الردود. ويرى طارق علي أن الإبداع قوة تستطيع إحداث التغيير والتضامن، والتحدي لمراكز السلطة، مما يرسم معالم خطاب عام يتقاطع مع الحراك الشعبي. وقد استشهد بعدد من النماذج الأدبية، التي تم إنتاجها في أزمنة متباعدة، وعبرت عن موقف من الحرب والإبادة الشاملة، وتبنت المقاومة، نماذج لسرفانتس وشكسبير وأبي العلاء المعري وولادة بنت المستكفي وبيكاسو وسعدي يوسف وسواهم، مؤكدًا أن السياق الذي أنتجت فيه هذه الأعمال، مؤثر وأثر في الجميع. ويلفت إلى أن المأساة التي يعيشها العالم، لا يمكن تجاهلها أو تناسيها. ويذكر أن الشرق الأوسط الجديد، يتم استعادته من جديد وبطرق جديدة. وليس فقط الشرق إنما العالم كله. وتحدث عن الإعلام، عبر أبرز وأكبر ممثليه، وكيف أن هذا الإعلام يضيق بالحقيقة، بل يحاول تشويهها وطمسها، مستشهدًا بصحيفة كبرى مثل النيويورك تايمز وما ترتكبه من تشويه وكذب، سابقًا حيال العراق ولاحقًا بالمعارضين ضد إسرائيل وحربها على غزة.

في عيون حاضرنا، نسمع فلسطين

حفل “لقاء مارس” بحضور لفلسطين، عبر أكثر من مجال، مثل التشكيل والموسيقا وعروض الأداء. فلسطين، كبؤرة متوترة وجرح مفتوح باستمرار، جرح يختبر المواقف العالمية والضمير الإنساني. فتحدث الفنان الفلسطيني تيسير البطنيجي عن تجربته، ممثلة في عمله التشاركي، “من باب الاحتياط”، الذي أنتجه كجزء من المشروع الفني “do it بالعربي” عام 2015م، وهو عبارة عن تصنيع نسخ من حمالات المفاتيح. والعمل، الذي يتعاطى مع اللحظة الراهنة التي تشهد ترحيل مليوني فلسطيني في غزة منذ بدء العدوان الإسرائيلي يوم 7 أكتوبر 2023م، في ظل تدمير نصف البنية التحتية للمدينة وإزالتها من الوجود، يمكن النظر إليه بصفته يترك أثرًا معينًا في مسار الشخص في هذا المكان والزمان، ولمحة من “موطن” المرء أو “نفسه” أو “مكانه الآخر”. في الجلسة تطرق البطنيجي إلى الفنان وكيف يمكنه التعبير عما يحدث. وإلى الفن المفاهيمي والسياق السياسي، وتطوير قدرات الفنان بالاطلاع على تجارب ناجحة، وكيف هو ضروري إيجاد بدائل، مثل المنصات الرقمية، وطريقة للتفاعل ودعوة الناس إلى التفاعل. وذكر البطنيجي أن الأدوات التقليدية لم تعد تجد، وأنه لا بد من اللجوء إلى الوسائل الحديثة.

وفي سياق حضور فلسطين، نظمت جلسة أدارها الرسام والكاتب إسماعيل رفاعي، وشارك فيها كل من فيرا تماري وسليمان منصور ونبيل العناني وتيسير بركات، ودارت حول مجموعة “نحو التجريب والإبداع الفنية”: الفن بوصفه فعل تغيير ومقاومة. تناولت الجلسة المحطات التي مرت بها هذه المجموعة، وانتقالهم من مرحلة إلى أخرى، في سياق مواجهة المحتل والتحريض عليه. وشملت هذه المحطات التغير في استعمال الأدوات والمواد وقبل ذلك الرؤى والأفكار حول الفن، والانتقال من الجماعي في التعبير إلى الفردي والخاص. وتوقف هؤلاء الفنانين عند الأثر العميق الذي تركته فيهم الانتفاضة الأولى، التي اندلعت في العام 1987م، إذ أدت الانتفاضة، التي كانت تحمل وعدًا متجددًا بالحرية والتحرر، إلى إحداث إصلاح جذري في مفهوم الممارسة الفنية وتطلعاتها، باعتبارها عنصرًا أساسيًّا في المقاومة الشعبية. وتناولت الجلسة “الظروف التاريخية والسياسية الفلسطينية، التي أفضت إلى نشوء فكرة المجموعة وتأسيسها، فضلًا عن دورها كحلقة وصل بين ممارسات الفنون الجميلة المحلية، والتيارات المعاصرة في الحراك الفني الفلسطيني”. في الجلسة تحدث المشاركون عن الخروج على القوالب الجاهزة، منفتحين على العالم عبر تفكير معمق حول الفن ودور الفنان في توصيل صوته إلى العالم. واستوعبت تجاربهم قضايا جديدة، مثل المرأة والجسد، وصار الفن مواجهة فردية مع جمهور المتلقين، الذين تغير دورهم أيضًا.

وفي السياق الفلسطيني نفسه قرأ الشاعر مصعب أبو توهة، في إحدى الجلسات، قصائد باللغة الإنجليزية، قصائد جاءت موسومة برائحة الحرب وندبات الشظايا، تشهد على استحالة العيش تحت الحصار في غزة. وفي جلسة أخرى، بمناسبة مرور 20 عاما على تأسيس فرقة “ثلاثي جبران” ناقش سمير جبران وسامر جرادات، التوازن الدقيق بين الطابع الفني الفردي والجهود الجماعية. ويربط الحوار بينهما، بين الجوانب الإبداعية والإدارية اللازمة لاستمرار المبادرات المشابهة لفرقة الثلاثي جبران، لا سيما فلسطينيًّا.

و”في عيون حاضرنا، نسمع فلسطين”، وهو عنوان معرض تم تدشينه في 23 ديسمبر ويستمر إلى 14 إبريل المقبل، ويعد تفصيلًا أساسيًّا في قماشة المشاركة الفلسطينية في “لقاء مارس”. يسلط المعرض الضوء على الإنتاج الإبداعي لمجموعة من الفنانين الذين كرّسوا ممارستهم الفنية لخدمة القضية الفلسطينية، والتعريف بتاريخ الاحتلال، والدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني. ويقام المعرض في ضوء المأساة المتواصلة التي تشهدها غزة، ويأتي في سياق الدعم المستمر من مؤسسة الشارقة للفنون لفلسطين وشعبها، ويمثل شاهدًا على النضال الفلسطيني الممتد لعقود دفاعًا عن الأرض والسيادة. وبينما تقف الأعمال الفنية المشاركة شاهد عيان على التهجير القسري والخسائر الفادحة، فإنها تحتفي بالموروث والهوية الفلسطينية الغنية، مفسحة المجال أمام التعبير عن روح التضامن مع الشعب الفلسطيني في قضيته العادلة. يسرد المعرض، الذي يقام في عيادة الذيد القديمة، وقصر الفنون (قصر الشيخ خالد بن محمد) في الذيد، حكايات متنوعة عن الشعب الفلسطيني ومناصريه، بما يؤسس لفضاء نتعلم منه ونتماهى فيه، ويضم أكثر من 60 عملًا فنيًّا تتراوح ما بين لوحات ومنحوتات وأعمال تركيبية وأعمال فيديو، والتي تعد جزءًا من مقتنيات مؤسسة الشارقة للفنون.

ترينالي الشارقة للعمارة: جمالية المتغير: عمارة التكيّف

يُمثل “ترينالي الشارقة للعمارة 02” جهدًا جماعيًّا لاستكشاف البيئة المبنية، والاحتفاء بالتقاليد المنسية في المنطقة لبناء مستقبل أكثر استدامة وإنصافًا للجميع. وتعد الشارقة، في رأي القيّمة للدورة الثانية توسين أوشينوو، مكان مثالي لاستكشاف هذه الأفكار، فقد عملت الإمارة على تشجيع التفكير النقدي عبر برامجها الداعمة لمبادرات التعليم والفنون والثقافة والتراث والتي تُسلّط الضوء على التاريخين الحديث والقديم. في هذا السياق، رُمّمت منطقة السوق في المدينة القديمة وأعيدت إلى حالتها التي كانت عليها قبل ستينيات القرن الماضي احتفاءً بنمط معماري قادر على التكيف مع الظروف المناخية القاسية، إلى جانب إبراز العلاقة المهمة بين المشاة والشارع على نقيض مدن المنطقة التي تغلب عليها حركة السيارات. ويشجع الترينالي على استكشاف المحلية والخصوصية من وجهات النظر المادية، والاجتماعية والاقتصادية والجغرافية.

يضم المعرض ثلاث توجهات متداخلة، أولًا، السياق المتجدد، ويعرض أعمالًا تعيد التقدير إلى مجتمعات ما قبل التصنيع، حيث عاش البشر في توازن مع الطبيعة. يعيد أصحاب هذه الأعمال التفكير في التقاليد، ويتفاعلون مع مفهوم إعادة التدوير، فيبرعون في إعادة استخدام المواد ويقترحون صيغًا لحداثة أكثر رفقًا. تتمثل هذه الحلول بلغة بصرية صريحة تحيل مادة البناء إلى أصلها ومنشأها. ثانيًا، سياسات الاستخراج ويعرض أعمالًا تركز على العلاقة المتوترة عادةً بين أطر الحوكمة والاقتصاد والبيئة. يُوثّق المشاركون هنا العمليات الاستخراجية التي يرتكز عليها التصميم ويتفاعلون معها. ثالثًا، أبنية غير ملموسة، تحتفي الأعمال هنا بالطبيعة سريعة الزوال لتفاعل الحضارة مع الطبيعة. عبر إزاحة الحد الفاصل بين المادي والمعنوي يطرح المشاركون رؤىً تعيد تخيل العالم من جديد وتطرح قضايا الحاضر على بساط البحث، مستلهمين في ذلك قيم الروحانية والتعاطف والاكتراث وإنهاء الاستعمار والمستقبلية.

من الأعمال المشاركة في ترينالي الشارقة، واحدا بعنوان “العتبة المجردة”، ونقرأ عنه في الكتيب الخاص بالترينالي ما يلي: في عالم يسهل فيه الوصول لأي شيء من أي مكان، تدفع الرأسمالية العالمية نحو المزيد من إفقار الهويات المحلية وصولًا إلى القضاء على أحياء تاريخية برمتها. يبرز هنا سؤال جوهري: ماذا تعني المحلية؟ مع تطوّر المدرسة القاسمية وتحولها من مبنى منعزل يفصله سور صغير إلى مساحة عامة تصل ما بين الحي الذي تقع فيه والمدينة، شكلت نقطة التقاء المداخل الجديدة شمالي وغربي المدرسة ما يشبه مصطبة خفيضة تتيح فرصة لإنشاء عتبة ترحيبية. تحدد “العتبة المجردة” هذه المساحة عبر تظليلها بما يهيئ ظرفًا أفضل للحضور في المكان. يتألف الهيكل الإنشائي للمشروع من أعمدة الكهرباء الخشبية التي بدأت هيئة كهرباء ومياه وغاز الشارقة في استبدالها ووضعت مكانها أخرى معدنية، في حين تتكون المظلة من العريش أو حصائر سعف النخيل المتوافرة بكثرة في المنطقة والتي يتم استخدامها بطرق مختلفة. ينتج هذا تدخلًا معماريًّا مجردًا وحسيًا يتألف من المواد الطبيعية في حوار حميم مع السياق المباشر. ستبقى “العتبة المجردة” بقدر الحاجة إليها، إذ أن لديها المرونة اللازمة لتفكيكها وإعادة تجميعها في مواقع أخرى. مع انتهاء الترينالي، سيُعاد استخدام الأعمدة بينما يمكن إعادة تدوير الحصائر في عدد من الاستخدامات أخرى. كذلك يمكن أن تتحلل هذه المواد تحللًا طبيعيًّا بما يكمل دورتها البيئية إكمالًا متناغمًا.

تستريح عند عش الطيور

في أثناء جولاتهما في المنطقة الصناعية في الشارقة، وبمحاذاة ساحات تجميع المواد والمنتجات معادة التدوير، يلتمس بابا أوموتايو وإيف ناجي أوجه الحياة في تلافيف المكان. من بين الركام الميكانيكي تظهر كومة من النفايات النباتية؛ برائحتها العضوية النفاذة تبدو غريبة عن المكان. في أثرها يظهر زقاق من المزروعات وعدد من المتاجر التي تتسع على صغر مساحتها لأقفاص الطيور، وأخيرًا، مكان للراحة بين النباتات والطيور أنشأه العمال المحليون. ماذا الذي يمكن أن يحدث إذا توافرت ضمن هذا المشهد الصاخب مساحة جماعية للراحة؟ يخلق “نستريح عند عش الطيور” مجموعة من أعشاش الطيور ومساحة الراحة. توفر المساكن الصغيرة المصفوفة والمصنوعة من الورق والأعشاب ملاذًا لاجتماع طيور المنطقة، تحكم بقاءها الطبيعة المتغيرة للبيئة ومادة بنائها التي تتألف من سقالة ومخلفات عضوية عُثر عليها في المنطقة.

الشارقة

يصوغ عمل ” الشارقة 1 X89 – 1X72″ رؤية استشرافية استعادية- مستقبلية تأملية عبر تمثيلات معمارية موسّعة تستجيب لتطور مفهوم الهوية الوطنية لإمارة الشارقة وموقعها الثقافي في دولة الإمارات العربية المتحدة. هناك تتداخل العمارة الحداثية مع “التاريخية” التي تسعى إلى تقليد جماليات العمارة “التقليدية”. تهدف تدخلات دجيفوس إلى خلخلة هذا التمازج بين وسط المدينة التاريخي (الذي يضم مباني سكنية وتجارية تعود إلى الستينيات والسبعينيات) والمباني التراثية (التي شهدت جهود إعادة الإعمار في التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين). يستخدم دجيفوس في صنع هذه السينوغرافيا المتخيلة مروحة متنوعة من نماذج البناء التقليدية والإقليمية إلى جانب الأشكال الحداثية بهدف إظهار فضاء واسع من الإمكانيات بأسلوب طريف بدلًا من الصرامة والبراغماتية. تمتد هذه السردية من لحظة تأسيس دائرة التخطيط والمساحة في 1X72 حتى استضافة الشارقة لكأس الأبطال في 1X89، وهو دورة روبن مزدوجة للكريكت تضم فرق الهند وباكستان وجزر الهند الغربية، وتقدم رؤية إبداعية لمدينة الشارقة، ومسارًا بديلًا لتطورها.

مدرسة الدار البيضاء: منصات وأنماط الحركة الطليعية

تزامن “لقاء مارس” مع إقامة معارض على مقدار كبير من التفرد والأهمية، ومنها معرض، مدرسة الدار البيضاء: منصات وأنماط الحركة الطليعية لمرحلة ما بعد الاستعمار 1962-1987م. ففي أعقاب استقلال المغرب عام 1956م، أثار موظفو وطلاب المدرسة العليا للفنون الجميلة بالدار البيضاء ثورة فنية، ومزجوا الفن التجريدي بالتقاليد الفنية الإفريقية والأمازيغية المستوحاة من السجاد والمجوهرات وفن الخط ورسومات الأسقف في المنطقة، ما أفضى إلى تبلور فن جديد في المغرب نابع من التراث الأفرو-أمازيغي، ساهم في إطلاق انتفاضة ثقافية تنامت وشكلت المستقبل.

وانطلاقًا من تراث متعدد الثقافات، أدخل العاملون في المدرسة وطلابها الفن إلى الحياة اليومية، من خلال استخدام اللوحات والملصقات والمجلات والجداريات الخارجية ومهرجانات الشوارع. ساهمت هذه “الموجة الجديدة” المغربية في تفعيل حراك اجتماعي وحضري ساعد في نهاية المطاف على بناء حركات تضامن فني بين أميركا اللاتينية وغرب آسيا وإفريقيا.

يستكشف المعرض، الذي أقيم في أستوديوهات الحمرية، هذه الرؤية الاستثنائية للحياة الحديثة، التي قادها خمسة فنانين ومعلمين بارزين من المدرسة العليا للفنون الجميلة بالدار البيضاء، وهم فريد بلكاهية ومحمد شبعة وبيرت فلينت وتوني (أنتونيلا) مارايني ومحمد المليحي. أثبتت هذه المجموعة الفنية المغربية المدهشة، المعروفة رسميًّا باسم “مجموعة كازابلانكا” وقد انضم إليها المزيد من الأعضاء، أثبتت أنها “كوكبة” من الفنانين أكثر من كونها مجموعة محددة. ويعتبر هذا المعرض المتحفي، الأول من نوعه، وهو يقدّم أعمالهم وإرثهم في المنطقة في منصات وصيغ مؤثرة وفاعلة، ويضم أعمالًا لـ 21 فنانًا وناشطًا من “مجموعة كازا” من مختلف الأجيال، بما في ذلك لوحات تجريدية، وجداريات حضرية، وأعمال طباعة ورسوم غرافيك وتصميم داخلي، فضلًا عن فِلم وأرشيفات مطبوعة ومجلات قديمة وصور فوتوغرافية نادرة.

لا لا روخ: إيقاع الجهات

يضيء معرض “إيقاع الجهات” على ممارسة الفنانة والناشطة الباكستانية لالا روخ (1948- 2017م) على امتداد ثلاثة عقود، ويتضمن أعمالًا أنتجتها على خلفية الاضطرابات السياسية والحركات النسوية في باكستان، سواء الرسومات والمواد المطبوعة والفوتوغراف والفيديو، بما يضعنا حيال أول معرض استقصائي عالمي لأعمالها حتى تاريخه. تصوّر تكويناتها الشعرية الآفاق وحركة القمر والمسطحات المائية والسواحل والمواقع الأثرية، ملتقطة تدرجًا من الإيقاعات عبر مفرداتٍ مكثفة من الخطوط والشيفرات والسواد.

يتضمن المعرض، المقام في المباني الفنية، أعمالًا قلّ عرضها من بداياتها الفنية، إلى جانب ملصقات ومنشورات ومقابلات أصلية مع أشخاص تعاونت معهم في أثناء عملها على الدفاع عن الحقوق المدنية والعدالة بين الجنسين، فضلًا عن بعض المواد الأرشيفية المهمة وأعمالًا من مقتنيات مؤسسة الشارقة للفنون، إلى جانب سلاسل، لم تعرف على نطاق واسع، من سيجيريا وسريلانكا وساحل جاداني الباكستاني. ويعرض كذلك لأول مرة في المنطقة عملها الأخير “روباك” (2016م)، الذي يمثّل تشابكًا انسيابيًّا بين صوغ العلامات والحس الموسيقي والصمت.

هينوك ملكامزر: رموز وصور الطلسم

يتضمن هذا المعرض حوالي مئة عمل للفنان الإثيوبي هينوك ملكامزر. وهي أعمال فنية تحتفل بالطلسم، وتستمد مكوناتها من الرموز والرسومات والنصوص التي تعكس أهمية روحية وفلسفية، عبر استلهام علم التنجيم والدين والروحانية، إذ تأثرت الأشكال المستخدمة في الفن الطلسمي على امتداد حقب طويلة بالتاريخ الاجتماعي والسياسي والثقافي لإثيوبيا، كما وظّفت أساليب التعبير الحديثة في معالجة أبرز المشكلات في العالم المعاصر، مثل كوارث المناخ والحرب والفقر.

وفن الطلسم عند ملكامزر يعد، في رأي حوار القاسمي، شهادة على تقليد غالبًا ما يتجاهله الفن الغربي، إلى جانب كونه ممارسة فنية متطورة تعيد تفسير العالم المعاصر من خلال حكمة السكان الأصليين. يقول هينوك ميلكامزر: «إن مفتاح قراءة الفن الطلسمي هو البدء من المركز، حيث تنزاح العيون تدريجيًّا نحو الخارج، وتبدأ كل تعريشة بكلمة أو مفهوم روحي يجسد العلاقة المضمرة بين اللون والشكل الأبجدي الخاص بلغة الطلسم». وعلى الرغم من أنّ “الطلسم” ما يزال ممارسة شعبية، والذي غالبًا ما تصفه الأوساط الغربية بأنه “فن التشافي” أو “فن التعويذة”، بحيث ينأى به هذا التوصيف عن العديد من مناقشات الحداثة، فإن معرض “هينوك ميلكامزر: رموز وصور الفن الطلسمي”، الذي قيّمته الباحثة إليزابيث جيورجيس، يتحدى مثل تلك المقاربة الحداثوية ذات البعد الأحادي، ويقدم لنا رؤية فريدة في واحدة من أكثر الممارسات الفنية الحداثية أهمية في إثيوبيا، والتي تجسّدت عبر أعمال هينوك ميلكامزر. يعدّ هذا المعرض، المقام في متحف الشارقة للفنون، أكبر معرض فردي لهينوك حتى الآن. توفر ممارسة هينوك الفرصة أمام الجمهور لاستكشاف العديد من التجليات الطلسمية في الوقت الراهن.

المنشورات ذات الصلة

1 تعليق

  1. مصطفى سالم

    تمنياتي لكم بمزيد من النجاحات والتوفيق والسداد ،دمتم ذخرا للإبداع الفكري ،ومنبرا للتبادل المعرفي

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *