المقالات الأخيرة

“لقاء مارس 02: تواشجات” دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

“لقاء مارس 02: تواشجات”

دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

فيما يشبه الالتزام الأخلاقي والجمالي، تبنى لقاء مارس السنوي، الذي تنظمه مؤسسة الشارقة للفنون، في دورته الجديدة التي انتهت أنشطتها قبل أيام، طيفًا واسعًا من القضايا والموضوعات والنقاشات وعروض الأداء، التي لئن اختلفت وتعددت وتنوعت، إلا أنها تذهب كلها إلى منطقة واحدة،...

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

بواكير الأدب المغربي الحديث.. مفاهيم وتمثيلات

بواسطة | مارس 1, 2022 | بواكير الحداثة العربية

أحتاج في مدخل هذه المقالة إلى وضع وترتيب بعض المحذورات المنهجية، ولتدقيق ولو عابر لمصطلحات تحُوزُ قوة المفهوم وتستقل بدلالات تحميها من زَلل الاستعمال العام الفضفاض. كذلك نحتاج إلى الانتباه للبيئة التي تُستعمل فيها بما تمتلك من خصائص سوسيوثقافية، وإلى الزمن التاريخي المنتسبة إليه، أقرب لما ندعوه بالسياق، فلا مصطلح يوجد مطلقًا مجردًا.

1

لقد درجنا لغةً على استخدام مصطلح حديث، مقابل ما هو قديم، فيكون لفظًا، حسب الرازي في (معجم الصحاح، مادة حدث) بمعنى المستحدَث في الخبر، وجدَه جديدًا، ومنه رجلٌ حَدَث (بفتحتين) أي شابّ، فإن ذكرتَ السنَّ قلتَ حديث.

واستُعمل لفظُ المحدَث اصطلاحًا في العصر العباسي على مرحلة من الشعر والشعراء تميزت بالخروج على تقاليد القصيدة العربية المتوارثة منذ العصر الجاهلي باعتماد التصوير والمحسّنات البديعية واستلهام وجوه وعناصر البيئة مباشرة، أعلامها بشار بن برد وأبو تمام وأبو نواس وابن الرومي(1). وبعد انطلاق حركة النهضة العربية في المشرق، مصر خاصة، ظهر تيار أدبي حديث شمل البارودي وشوقي عني بصقل الشعر وبعثه مما وصف بالانحطاط، ولذلك سمي (مدرسة الإحياء)(2). تلته مدرسة الديوان أكثر نزوعًا إلى تجديد الموضوعات والتعبير الوجداني والوحدة العضوية للقصيدة(3). ولا شك أن ظهور شعر التفعيلة منذ نهاية الأربعينيات مثّل التجلي الأبرز للشعر العربي الحديث، قاطعًا مع القصيدة العمودية(4)، فكيف ب(قصيدة النثر) التي ذهبت شوطًا بعيدًا، منفصلة كليًّا عن التحديث المستجد بإبدال مضاد(5).

ويمكن التماس ظهور وتبلور مفهوم الحديث في تعبيرات غير الشعر، في النثر، الذي تأسست فيه أجناس أدبية غير مألوفة في الأدب العربي، نعني القصة القصيرة والرواية والمسرح. أشكال وافدة مهما قيل عن جذور تراثية لها ذلك أن جميع آداب الشعوب تتضمن الحكاية.

وباختصار، استُعمل مصطلح (الحديث) عُمم على المنزاح عن قواعد وأساليب الأدب العربي القديمة منذ الجاهلية حتى مطالع القرن الماضي، ويستخدم نعت (الكلاسيكية) حدًّا بين مرحلتين، القديم والجديد، وأحيانًا الجامد والمتجدد، في حين أنه لا يصبح كلاسيكيًّا إلا التراث الأصيل المكين.

إن للحديث تاريخًا في الآداب والفنون والفلسفة والعلوم والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية (6) هو ظاهرة عند كل الأمم التي تنتفض ضد الجمود، ما ميّز الغرب أولًا، منذ ثار فكريًّا على الجمود، ضد سلطة الإقطاع وهيمنة الكنيسة وانتقل إلى عهد الأنوار ومرحلة الاكتشافات العلمية وانطلاق الثورة الصناعية والتيارات الليبرالية والتوسع الاستعماري بغزو بلدان قابعة في الجمود والتخلف قياسًا بالنموذج الوافد إليها وأصبح يمثل نقيضًا لصورتها، النموذج الغربي الحديث متعدد الأشكال والمواد الذي امتد تدريجيًّا إلى جميع الميادين. لنقل إن التعليم أحدها، والنظم والقوانين، فسُمي كذلك عصريًّا moderne نقيض تقليدي traditionnel.

عرف مفهوم الحديث في الفكر والأدب الغربيين مراحل ومعاني عدة، ويكفي أن نقول: إن بودلير (1821ـ1867م) المعدود أبًا للشعر الفرنسي الحديث هو شاعر كلاسيكي الآن، قياسًا بمن لحق به، رامبو ولوتريامون وسان جون بيرس، وكذلك فلوبير الروائي العصري الأول هو قديم إزاء بروست، وأندري جيد، بينما ستأتي جماعة ألان روب غريي لتَعُدّ سردَها هو الممثل الحقيقي لما سيُدعى مدرسة الرواية الجديدة، تطوّح بكل الحديث الذي سبقها(7). فإن انتقلنا إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية اختلّت الموازين، وخصوصًا بدءًا من الستينيات عندما وقعت تحولات جذرية في دراسات العلوم الإنسانية، في اللسانيات والفلسفة خاصة، حيث سيتبلور بمعنى مغاير تمامًا مفهوم الحداثة.

إن الحداثة هنا مفهوم ينتمي دلاليًّا إلى الحقل الفلسفي، ويعمل أداة لتحليل ما يسميه أزمة الفكر الحداثي أو الحداثة، لذلك انتمت الأبحاث الفلسفية في هذا المجال إلى مرحلة ما بعد الحداثة بناء على القطيعة الإبستمولوجية التي أنجزها الفلاسفة في دراساتهم (فوكو، ليوتار، دولوز)، وكذلك في دراسة الأدب بأداة التحليل السيميائي، وفي المعمار والسينما ومفهوم النص(8).

لذلك نرى خطأ وشططًا استعمال مصطلح حداثة عوض حديث، ولو من باب الاستخدام الإجرائي، باعتبار السياق التاريخي لكل مصطلح، والنسقي للمفهوم، أو سنخلط الحابل بالنابل. وأدونيس، الذي عمم هذا الخطأ بناءً على كتابه المعلوم «الثابت والمتحول» كان يفتقر إلى مصادره الفلسفية ويخلط في المعاني، ويحوّل المفهوم إلى شعار، فجاء (بحثه) سجاليًّا لا علميًّا رصينًا. لذلك نبّه محمد عابد الجابري وشدّد على أهمية تبيئة المفاهيم لتأخذ المعنى الملائم لها وفق ثقافة معينة وفي سياقها الخاص، وهذا ما نحتاج إليه لزومًا لقراءة موضوعنا وتبيانه، فيكون أنسب تسميته «بواكير تحديث الأدب المغربي الحديث»(9).

2

نحتاج كذلك إلى ما يضبط تاريخ هذه المرحلة، ولا يتأتّى هذا إلا بتدقيق لفظة (البواكير) لغةً، وعلى نحو ما يُراد منها امتدادًا منه إلى ما يشبه الاصطلاح غير متوافر نقديًّا بعد فيما نعلم. الباكورة، أول ما ينضج من التمر «أول الفاكهة» (الصِّحاح). وجاء في لسان العرب: «أولُ كل شيء باكورتُه»، و«بِكرُ كل شيء أوّلُه» فيُستخلص منه معنى البدايات.

وإذا كان هذا يُقرن عادةً بالمحسوس والمرئي في الطبيعة، أي قابل أن نتحقق منه بالبصر واللمس والذوق، أيضًا، كيف نقوّم ونقدّر غيرَه الصوري الرمزي، اللغوي والأدبي والفكري، بالحرِي هي عملية صعبة وتبقى متفاوتةً مهما حاولنا حصرَها في الزمن وأخضعناها لتحكيم معايير في النوع. كان الأدب ويظل إنتاجًا تختلف بشأنه الملَكات وتتعدد المقتربات وتتباين الأذواق، يتعذّر إقامةُ الحدود الفاصلة ولا الحواجز الشائكة في مضماره والجزم بانتقالات حاسمة تُثبت القطيعة، من دون هذه لا حديث ولا حداثة، وإنما على سبيل التكييف والتنسيب ضربٌ من التحديث، ولهذا فإن موضوعنا كما شغَلنا أكاديميًّا ونقديًّا سابقًا يستدعي دائمًا المرونة والتأويل لإعادة قراءته.

3

من هنا نسجل أن مادة ومياسم ما نتواضع على تسميته بواكير في الأدب المغربي ـ وننقل الباكورة تبعًا لهذا إلى صعيد المصطلح ليدُلّ على بداية/ بدايات مادة مختلفة، لا نقول جديدة بالضرورة، ومياسمُها، قياسًا بسابق ـ تبدأ في مدة محددة، لكنها غير منتهية، ولهذا علاقة بفهمنا للمادة تكوينًا وشكلًا ونسَقًا وأفقًا، نفضل طرحه مسبقًا لأننا ننظر ونعدّ الأدب العربي والمغربي ضمنه في مجمله ما زال يعيش مرحلة البدايات، وكلّه بواكير، ولا يمكن فصله عن مناخه الثقافي الاجتماعي الكلّي الذي لم ترسخ فيه بعد أسس (الحداثة) وهو متنازع فكرًا وأهواء.

غالبًا ما يغفل دارسو هذا الموضوع مسألة شديدة البداهة، وينبغي أن تكون منطلق التحليل حين نستعملها نحن العرب خاصة، تكمن في مغزى كلمة الحديث ومصدرها الذي هو أجنبي بإطلاق. وعليه فهو نقل محمول خارجي، من محيط مختلف إلى آخر داخلي وزرعه في جسده لحاجة هذا الجسد لما يُبرئه من عِلل، الجمود أولها. من نافل القول أن عملية التلقيح تُحدث تأثيرات بسبب المادة الدخيلة ويكون لها تفاعلات يمكن مراقبتها بيولوجيًّا بدقة وتأنٍّ بالتحليل الكيميائي، لكنها أصعب وضوحًا وتميّزًا وتأثيرًا وتمثلًا مع الأفكار ونصوص الأدب.

لا بد، إذن، من الاحتراز وما نستطيعه هو اجتزاء قسم من المتن العام وتخصيصه بالوصف والتقويم لا أكثر، وفي الذهن أن المخاض طويل، والولادة عسيرة، والمولود بين كامل وخديج. تطرح المسألة فكريًّا على صعيد وضع (statut) لنسقين ثقافيين: الغربي الممثلُ فيما حمَله الفرنسي وأقرّه بنيات مادية وظواهر تعليمية وحياتية، تمثيلًا للمدنية الحديثة؛ ونسقٌ مغربي عربي إسلامي مكوناته التعليمية من الكُتّاب القرآني والمدارس الدينية والزوايا رمزُه جامعة القرويين، ومجالس ومناظرات وحلقات دراسية وصوفية. سيخلخل النسق الأوربي، فرنسي إسباني، الثاني، ويظهر تأثيره تدريجيًّا بوساطة التعليم في المدن الحضرية الكبرى والإدارة.

نلتقي نحن معشر دارسي الأدب المغربي الحديث حول عقد الأربعينيات حقبةَ هبوب نسمات أولى غذّت الغصون اليابسة لشجرة أدبنا التي كانت قد ذوت وتيبّس عُودُها، زقّومٌ ثمارُها أو لا نفع فيها. كانت تُدوّنُ قبلها وخلالها أيضًا المتون الفقهية بشروحها وحواشيها، والرسائل والمقامات وباقي أغراض النثر التقليدية من خطب ومناظرات ومحاضرات وإفادات، كلها بأسلوب يغلب عليه السجع وتُرصِّعه المحسنات البديعية. (10) بجوارها الشعر منظوم حسب المعهود في القصيدة العمودية وعلى طرز أختها المشرقية.

الناثر والشاعر كلاهما كان ينشئ على منوال هو المثال إذا أجاد فيه فذاك المراد وغاية المنال، قِبْلَتُه الموروثُ الذهبي من كتب الأدب العربي تليدِها وما لحق بها إلى زمانه، فإن الكاتب والشاعر في المغرب الأقصى كان يستسقي من ضروع مشرقية وفي الأزجال والموشحات هو وريث الينابيع الأندلسية، بذا فالاتّباع عنده أصلٌ لا تقليد، وكفايةٌ لا نقصان، ويعلو مقامه وإما منخفض بحسب مجاراة ومراعاة يراعه لقاموس ومعايير بلاغية وأسلوبية ونَظمية متوارثة منسقة من عهد امرئ القيس إلى البارودي وشوقي، ومن ابن المقفع إلى حسين المرصفي والمويلحي.

هذه الذخيرة مجملة يقف عليها الدارس وكل راغب في استشهاد وإبانة عن صورة أدبنا قُبيل وعلى عتبة نقلته نحو حقبة التحديث في المصنف الجامع الباهر الذي ألفه العلامة الفقيه الأديب عبدالله كنون وأطلق عليه بحق عنوان: «النبوغ المغربي في الأدب العربي» (1929 تطوان(11) لا يزال بإجماعٍ المرجعَ الأشملَ والأوفى لهذه المرحلة، أشاد به الكبار مثل الأمير شكيب أرسلان قال فيه: «من لم يطلع على هذا الكتاب لا يحق له أن يدَّعي في تاريخ المغرب الأدبي علمًا ولا أن يُصدر على حركاته الفكرية حكمًا(…) لم يخرج إلى قراء العربية أحسن منه في بابه».

4

بدءًا من الأربعينيات وما تلاها طفقنا نشهد تغيّرًا طفيفًا أولًا ثم ناميًا بالتدريج في حقل الكتابة الأدبية شمل الشعرَ والنثر. لم يعد الأول مقتصرًا على الأغراض التقليدية من مدح ورثاء وهجاء وصار يُعنى بوصف بعض الظواهر الاجتماعية والأحداث الوطنية وهو ما سيبرع فيه محمد بن إبراهيم المراكشي، الملقب بـ(شاعر الحمرا) (1897-1955م) ويقترن اسمه بقصيدة شهيرة (المطعم البلدي) هجا فيها مطعمًا بمدينة طنجة في أثناء زيارة لها وذهبت مثلًا، وهي حقًّا قصيدة طريفةٌ في نوعها، ثاقبةٌ في نقدها ووصفها، بنتُ بيئتها ومطبوعةٌ بمفردات وصور زمانها، على السجية بلا تكلف، وتنبئ عن تحول، وله مثلُها بساطةً ولطفًا وجزالةً (12). ومحمد الحلوي (1922-2004م) رغم تمسّكه بالقصيدة العمودية لم يَحِدْ عن نظامها قط. يحضر الشعر المغربي متبنيًا القضية الوطنية بإيمان في مرحلة الحماية التي بدأت من 1912م، وتطورت إلى استعمار كامل بدءًا من الثلاثينيات، تأسست خلالها الكيانات الأولى لتنظيم الحركة الوطنية، في شمال المغرب الذي خضع للاستعمار الإسباني، ووسطه وجنوبه لفرنسا.

ويمثل الشعر الوطني أقوى تعبير في المدونة الأدبية للمرحلة، نحن نرى أن اعتناقَ الدفاع عن السيادة ومناهضةَ المستعمر والاصطفافَ في جبهة الحركة الوطنية ابتداءً من الأربعينيات وصُعدًا يمثل بموضوعاته والتزامه نزوعًا للتحديث على الرغم من بقاء هذا الشعر في القالب التقليدي. لقد كان الهمّ الأوْكد، وليس للشاعر شاغل كسر هذا القالب ما دام يؤدي واجبه ويقين ضميره. لم يوجد الشاعر المتفرغ، شوقي مثلًا، بل هو من عيار الفقيه الأديب ورجل الكفاح، خير مثال الزعيم الوطني علال الفاسي (1910-1974م)(13).

كان حظ الشمال المغربي أفضل من جنوبه، حيث تأتّى للثقافة العربية أسباب الازدهار والتفتح، منها تواصلٌ شبه منتظم مع المشرق العربي عن طريق البعثات التعليمية والمطبوعات كتبًا وصحفًا ومجلات، وفيها وجد أبناءُ ما كان يسمى (المنطقة الخليفية) نصوصًا غير مألوفة عندهم تحمل سيما أدب يتطور شكلًا ومضمونًا، تتحرر فيه اللغة من حوشيّها، والأسلوب من العبارة المسجوعة والتنميقات ويصبح مرسَلًا ومشذّبًا ومحددًا بلا استطرادات، وفي قلب هذا يفرد مكانًا للمشاعر، وفي الشعر خاصة يبوح الشاعر بلواعج النفس، وهو ما أسهم في خلق تيار شعري رومانسي قريب ما فتئ يكبُر متأثرًا أولًا بالمقروء في المجلات المصرية والمنابر اللبنانية أيضًا، ثم منبثقًا لاحقًا من روح محلية تُزاوج بين الإحساس الذاتي والشعور الوطني. جدير بالذكر أن هذا التأثر ما لبث أن امتد إلى البنية الشكلية للقصيدة في نوع من الشعر المرسل، وإن بقيت الغلبة للنظم التقليدي وقد لفحته نار المدرسة الرومانسية تبرزها أشعار عبدالكريم بن ثابت، وعبدالقادر حسن، ومصطفى المعداوي في الخمسينيات.

بالمختصر كان تخلّق القصيدة الحديثة صعبًا وبطيئًا في المغرب في وقت تسلمت قصيدة التفعيلة الزمام في المشرق (نازك الملائكة والسياب ونزار قباني…) ذاهبة نحو خلق تحديث شعري جديد (14).

5

بينما يمكن القول: إن بواكير التحديث كانت أسرَع وأجلى في النثر منها إلى الشعر، نعني في القصة والمقالة خاصة، ساعد على هذا دخولُ المطبعة وتوسّعُ نشر الصحف. لقد أثرت الصحافة تأثيرًا فعالًا في تطوير وتنويع الكتابة النثرية بتوخّي البساطة والوضوح وبالتخفّف من الحُليّ البلاغية الزاهية لمعالجة القضايا الوطنية والاجتماعية وشؤون الساعة هدفُها جلب القارئ والتوعية والمنافحة عن شواغل حزبية وأهلية وسياسية متضاربة، علينا أن نستحضر في هذا السياق أنها حقبة استعمارية، ما ظهر خلالها من تعابيرَ أدبية وتبلور أفكار وتيارات، ووُجد أو وُئِدَ من حركات وتباشير تغيير، شدٍّ وجذب وصراعٍ بين قديم وحديث، خضع كلُّه لظروف الهيمنة الاستعمارية أولًا بأشكال عسفِها وأدوات تسلّطها في النواحي كافة، ولردود أفعال والمقاومة السياسية والفكرية لها في البداية، قبل الانتقال إلى مقاومة مسلحة (15).

سعيد حجي

أمكننا الوقوف على التغيّر الذي اعترى أساليب العربية في المنابر الصحفية والمجلات الأدبية نمثل لها خاصة بمجلتي «الأنيس» و«رسالة المغرب» وفي جريدة «العلم» ابتداء من 1949م.

إن المقالة نوع نثري حديث في كتابتنا؛ لأنها ابنة الصحيفة وجمهورها وهو بدوره مستحدث، تختلف عن أدب الرسائل بأنواعها المتواترة في تراثنا، ولنا منها حصاد لا بأس به في المجلات والصحف الصادرة إبان الحماية والاستعمار نعدُّها والمخصصة لمسائل نقدية وإبداعية من أنضج باكورات الأدب المغربي الحديث دافعت عن قيم التجديد في وجه الجمود والتقليد. بل إنها ارتقت، دائمًا في الأربعينيات وامتدادًا إلى الخمسينيات، إلى مستوى الدعوة إلى بدائل في مفاهيم الإبداع والتصوير والجمال والثقافة، وعمومًا ما يؤسس بنية أدبية مغايرة، بديلة، للبنية التي سادت في الثقافة التقليدية.

إنني أعني تحديدًا الأفكار الرائدة التي بشّر بها سعيد حجي (1912-1942م) أحد أبرز حملة الأقلام من النخبة المستنيرة بين الثلاثينيات والأربعينيات فكان من أوائل من حرث حقل المعرفة الأدبية، نعني فهمَ الأدب لا تقسيمه إلى شعر ونثر، بإدراكه من حيث ماهيته، وبوصفه كيانًا نصيًّا وقولًا فنيًّا هو تعبير إنساني عن مَرام محددة. مرجعُنا مقالة فريدة لهذا الكاتب الصحفي الألمعي «الأدب: مراميه وآفاقه» (16) نراها سبّاقةً وجامعة لجُل ما يمثل تباشير أدب المغرب الحديث من جهة عقلها ولتأسيس وعي أدبي خلاق ضمن نسق ثقافي عصري نقيضٍ للنسق التقليدي؛ فالأدب عنده هو «الميدان الذي تتجلى فيه العاطفة بكل ما تزخر به من انفعالات وأحاسيس وحقيقتُه تتمثل في إنجازه لتصويره معبرًا عن الأحاسيس الباطنة ويركب العملية الأدبية من المكونات الثلاث الآتية: 1ـ التصوير، بأن يصور الأدب الحياة من طريق التعبير عن جزئياتها الحقيقية ووصف مظاهر الوسط داخل المجتمع وصفًا دقيقًا»؛ 2ـ التعبير مقترنًا عنده بالتصوير، وقبل ذلك في أساس بناء المفهوم: «الأدب يحاول دائمًا أن يعبر عن كثير من الإحساسات التي تضطرم في أحشائنا (…) وظيفته الرئيسة أن يبيّن عن تلك الإحساسات كما هي»؛ 3ـ تعليم ذوق الجمال: «أنّ الأدب يكوِّن منا أفرادًا لتذوّق الجمال بواسطة شعور سامٍ نتلمّسه في أحشائنا (…) فوظيفة الأدب أو مهمته تسعى لأنْ تحيط بالجمال المطلق وتَدمجه لا بأجسادنا ولكن بأرواحنا»؛ ولكن كيف؟ لم يفُت السؤال وبعده الجواب على سعيد حجي الذي هدَته فطنتُه ومذهبُه إلى ما يأتي: «يلزم الأديبَ أن يتناول موضوعَه بصورة الوصف للوصف والتعبير للتعبير» بل مطلوب منه أكثر من هذا: «أن يُبدع في الوصف».

كذلك ارتباط الأدب حتمًا بمحيطه فإذا كان يراه: «يتناول الناحية الشعورية بوجه خاص» فإن السياسة تؤثر فيه وكل شيء له صدى فيه. وقد كتبت نصوص عبارة عن خواطر ونفثات مصدرها الشعور كما دعا حجي أولًا، ولكنها بقيت محتشمة أو مندرجة في سلك أقاصيص تستلهم الطبيعة وتتغنى بالحب نجد مثالًا لها عند محمد الخضر الريسوني (1929-2007م). في الخمسينيات فقط، سيعرف هذا النوع من المقالة الخاطرة تفتّحَه الواسع، ويصبح له يَراعٌ معلوم به يُزاوله بموهبة وطلاقة، ويبدع فيه نصوصًا زاهية هي من أجمل النثر المغربي الحديث والعربي لعهده، من عيار وعلى منوال ما عند جبران خليل جبران، أعني لدى الكاتب الشاعر محمد الصباغ (1930-2013م) الذي كتب جواهر منها: «التعبير الملتهب» (1953م)؛ «اللهاث الجريح» (1955م(17)، و«عنقود ندى» (1964م).

لم يكن مقدّرًا لهذا اللون النثري فيض الخاطر والوجدان أن يزدهر أكثر مما ظهر منه، نعود فنذكر أن الأدب الحديث في المغرب ظهر وترعرع في أتون الحقبة الاستعمارية، وجميع الأدباء انتموا للحركة الوطنية وعاشوا في كنفها وهم متشبعون بمبادئها بل منهم رواد فيها، يعدّون كتابتهم خادمة لها، ينبغي أن تتوجه موضوعاتها إلى الإصلاح والتوعية والتحذير من مخاطر الغزو الأجنبي وتبِعات الاستعمار على الهوية الوطنية، وسواه ترفٌ خارجَ وقته. وسيظل الأدب المغربي خاضعًا لهذا التوجيه بعد الاستقلال، ويرزَح تحت عبء تبعاته يصعب عليه الانصراف إلى الأدب صياغةً فنيةً من دون الالتزام بالمجتمع وقضاياه، وفرضت عليه أيديولوجيات مهيمنة إسكات صوته الخاص، ولذلك فإن البواكير طُبعت بأزمة كبت الذات.

6

أما النوعان الأساسان اللذان شخّصا بجلاء بواكير أدبنا ونزوعه نحو التحديث، فهما: القصة القصيرة، أولًا، ثم الرواية، وربما نوع مزيج بينهما فلم يكن الفصل واضحًا بينهما.

لنوضح بأن حديثنا عن القصة القصيرة اصطلاحًا هو من قبيل تقريب ما كتب إلى قالبها لا كما هي معلومة شكلًا فنيًّا ضمن جنسها المعيّن؛ إذ إنه غريب عن أدبنا العربي ولا حاجة لأي جدال في علاقته بالحكاية والخبر ومثلهما. نحن أمام فن قصصي غربيّ تأثر الأدباءُ العرب بما قرؤوا منه مباشرة أو مترجمًا وله روادُه، في مصر مثلًا، محمد ومحمود تيمور وطاهر لاشين، وتأثر بهم المغاربة لاحقًا، اطلعوا على نصوصهم فيما كان يصل إلى الحواضر الثقافية مثل فاس وتطوان وطنجة وسلا، وقلة كانت تقرأ وتكتب بالفرنسية. وجد بعض حملة القلم الأدبي عندنا إذن في هذا الفن طريقة مستحدثة للتعبير، لا أقول عما يجيش في صدورهم كما أحبّ سعيد حجي، وإنما قبل كل شيء وسيلة قولية لدور يرونه مُناطًا بهم في الاجتماعي والكفاح الوطني، وهما مهمتان جليلتان تولّاهما الفقهاء وأهلُ العلم والمعرفة، والأدباءُ كانوا فئة منهم وفي صلبهم (18).

لذلك جاءت القصص الأولى التي حُررت ونشرت في الأربعينات أخلاقيةً وعظيةً وخطابيةً مباشرة، حظُّها من هذا الفن قليلٌ وثقلُها في ميزانه خفيف، ما دامت تتقصى التوجيهَ وتقويمَ الاعوجاج وتحضَّ على صراط مستقيم في شؤون الخُلق والمجتمع والوطن. نحن ننسبها إلى القصص القصير (19) تجوّزًا لأنها التمست إليه بعض عناصره من حكاية وشخصية وعقدة ووقوعها بين بداية ونهاية، لكنها عناصر متراخية واهية الصلة بينها مفتعلة، أقرب إلى وعاء للمادة الإصلاحية المبثوثة فيها.

تلتها وجاورتها محاولات أمهر من حيث تملّك هذه العناصر وتوفير الحبكة بتنسيق أدق، تسرِد وتصف، لنقل المرئي بوفاء وإنطاق الكائن والموجودات، بلغة مبسطة وأسلوب مشذّب من زوائد الزينة بلا تكلف، أي أنها لغة أخرى تختلف عن المستعملة للنثر القديم، وهذه سمة تحديث مهم سوف تتسع لتصبح في الخمسينيات وما بعدها خاصة الوجهَ الغالب، لغةَ الصحافة والمقالة والأدب بدقة. يبقى هدف القص هو الإصلاح والنقد الاجتماعي ورصد بعض ملامح ما طرأ على الحياة من تغيرات جراء الاحتكاك بنموذج ثقافي وافد، النسق الأوربي الفرنسي خاصة، تارة يُنظر إليه بدهشة كما في وصف الاستغراب من دخول جهاز الراديو وما أحدثة من بلبلة على تغريد العصافير، كما في قصة «حتى الطيور في حيرة» لأحمد بناني (ت: ديسمبر 1978م)، أو للاستنكار والنقد إزاء بداية تداول تدخين السجائر، عند عبدالرحمن الفاسي أيضًا، وغيرها من الصور الملتقطة بعدسة القاص عبورًا، وإما بؤرةً تحضن حالة فردية واجتماعية في مفترق طرق بين الماضي والحاضر، الثبات والتحول، وهو ما تكشف عنه المجموعة القصصية «فاس في سبع قصص»(20) ومثلها قصص على النهج ذاته وبمستوى أدائي مماثل قصص عبدالرحمن الفاسي(21). وأهمها ما كتبه أحمد عبدالسلام البقالي (1932-2010م) في مجموعته «قصص من المغرب» (1956م) رسم فيها أجواء مسقط رأسه أصيلة، والعلاقات الاجتماعية وتربية جيله وصباه، ومن قبيله. ونحن نغلِّب صفتي (الصورة القصصية) و(اللوحات) لم لا (الانطباعات) على هذه النصوص أكثر من وسمها بالقصة القصيرة نوعًا مقننًا بسننه الفنية، ستعرفها في مرحلة النضج بعد الاستقلال.

وسنَدُها شاغلُ الإصلاح الاجتماعي والتوجيه الخلقي لصون الهوية في وجه المستعمر الحامل ثقافةً تهددها، تعبّئ الحماس الوطني لمناهضته والذود عن السيادة فذهب كتاب وطنيون إلى كتابة قصص تستوحي التاريخ الوطني والعربي في ذكريات قوة ومجد برموز شخصيات منتصرة، كما نجد في قصص عبدالله إبراهيم (1918-2005م) وعبدالمجيد بن جلون (1919- 1981م) في مجموعته «وادي الدماء»(22).

الحاصل، أنه ابتداء من الأربعينيات شرَع أهل القلم الأدبي المغاربة في نسج القصة الحديثة، أي الغربية، أو ما يشبهها بتأثير من قراءة نماذجَ مشرقية كُتبت في الثلاثينيات كانت بدورها بدئيةً لم تمتلك النضجَ المرموق لهذا الفن، وبهذه الخطوة نقلوا النثر إلى مجال غير مطروق، ما نعده نزوعًا نحو تحديث أدب. لنا من هذا تآليف لا بأس بها هي جزءٌ معتمدٌ من خزانتنا الأدبية الحديثة، أجل كانت مشروطة بظروف زمانها، غايتها الأولى كما قلنا خلقية وحماسية مؤطر بمذهبية الحركة الوطنية، وهذا طبيعي، فـ«كل التواريخ الأدبية قامت على دعائم وطنية كفاحية» حسب روبيرت إسكاربيت.لا غرو، إذن، أن يولد النص القصصي التحديثي المغربي ويترعرع داعية وحامل رسالة. وسيستمر وقتًا ملتزمًا وإن في رونق وبحُلة أفضل.

7

تسمح محاولات كتابة الرواية بتبيّن مظهر آخرَ في تحديث الأدب المغربي، طريقها سالكة؛ إذ هي جزء من مدوّنة القصة التي شرع المغاربة يتمرنون عليها، ويصدُق عليها من نواحي ظروف النشأة والمحيط الثقافي وفعل التعلم والتأثر ما ذكرناه عن القصة القصيرة أو شبهها. محاولات الرواية بدأت أيضًا في عقد الأربعينيات(23)، وإن أكثر احتشامًا وأشدّ تعثرًا، ليس لدى واضعيها إدراك بطرائقِ وخصائصِ هذا الجنس الأدبي، وهم إنما يروون حكايات طويلة، أو يكتبون قصصًا أطول، وهذا راجع بالطبع إلى شروط التعلم والتأثر والانتقال من السرد القديم إلى العصري. نلفت النظر مرة أخرى إلى عدم وجود الكاتب الذي صرف جهده ليأتي سردُه وفق ضوابط هذا الفن وتفرّغ له، هو نفسُه الفقيهُ والمؤرخُ والمصلحُ والوطني أي الأديبُ بالمعنى الشامل المستوعب لمعارف عصره وخصوصًا التقليدية وبعض المحدثات مما اتصل بها. أتته من المشرق، حيث الرواية فتيةٌ بعد، بنت العشرينيات (24)، ولم يتهيأ لها الوجود الوازن إلا بعد عقدين بل أكثر، وما ظهر قبلها سرود أغلبها تاريخية أو التاريخ وشخصياته مجالها كما نعلم عند جورجي زيدان (1861- 1914م)، ولا عجب أن الباني الفني للرواية العربية نجيب محفوظ (1911-2006م) دشّن بها في ثلاثيته (عبث الأقدار، رادوبيس، كفاح طيبة) (1939-1944م).

في هذه المرحلة كتب محمد بن عبدالعزيز بن عبدالله قصتي: «شقراء الريف» و«الجاسوسة»(25) استوحاهما من بطولات مغربية، وشحنهما بروح الحماس الوطني للماضي البطولي، فيها قناع مقابل لحاضر الاستعمار ويؤلب ضده لاستنهاض الهمم، وهكذا هي ثيمة رواية المرحلة والمراد منها قبل أي طموح فني، وإن كنا لا نستبعد اطلاع عبدالعزيز بن عبدالله على روايات فرنسية بحكم معرفته للغتها وثقافتها، لكنه كان منغمسًا أكثر في مناخ العربية، ولا بد أن نحمَد له تطويعَه اللغة وسبكها متحررًا من المسكوكات ومعتنيًا بالوصف حابكًا قصته حول عقدة غرامية وموفرًا لها عناصر تشويق وإثارة وراسمًا لوحاتِ بطولة شخصية لرواية تاريخية.

من نحو آخر، نجد التِماس الكتابةِ الروائية يمر عبر السيرة الذاتية، وهذا ما أنجزه الفقيه والأديب التهامي الوزاني (1903-1972م) في كتابه المعنون «الزاوية» الصادر مجموعًا سنة 1942م بعد أن نُشر مسلسلًا في جريدة «الريف» التطوانية(26)، وفيه يعرض الوزاني الذي عرف بورعه والتزامه نهج التصوف مع العمل التربوي والخط النضالي لمرحلتين من حياته. تبدأ الأولى وهو يافع بعد معاناة أزمة نفسية بحث لها عن شفاء بـ«الارتماء في أحضان القوم» القصد أهل التصوف بـ«صحبة شيخ عارف بالمسالك».

جديرٌ بالذكر وضعُه عنوانًا فرعيًّا «كيف أحببت التصوف» لذا يصف أطوار هذه التجربة وما كابده في اختياره بينها وبين الواقع، وفي هذا القسم نجد حقًّا استبطان الذات وحميمية الشخص بصياغة أدبية شفافة تنِمّ عن أسلوب مؤلفها وتحدد قوام شخصيته ومجريات حياته ونزوعًا إلى البوح؛ وفي القسم الثاني يضع حدًّا لسرد تاريخه الشخصي وينتقل فجأة إلى عرض سيرة المتصوف محمد الحراق وفضاء الزاوية التي كان المؤلف على صلة بشيخها ووضعها في سياق تاريخي اجتماعي.

  لقد عُدّ هذا النص لاحقًا عند بعض الدارسين استهلالًا لأول سيرة ذاتية في أدب المغاربة الحديث على مستوى التجنيس(27)، رأي يزيد عن حده نظرًا لموقع كتابتها بين مرتبتي الفهرسة والتراجم، وتدوين المتن الصوفي، في وسط ديني كانت السلفية نسغه الروحي وقوته الثقافية، وما كان لمؤلفه نزوع تدوين سيرة ذاتية بالشكل الحديث وأدواته وجوهريًّا بالحضور المركزي لمؤلفها، عكس ما نجده عند عبدالمجيد بن جلون قد أفلح فيه بعد سنوات في سيرته «في الطفولة» (1949م) نُجمع نحن دارسي الأدب المغربي على أنها باكورة هذا النوع عندنا وعلامة مضيئة له، وتعد المدخل الناضج للرواية المغربية بلا جدال(28).

نريد أن نختم قائلين: إن علامات البواكير لهذا الأدب زادت نماءً في الخمسينيات بتفتح أكبر، على الرغم من أنها كانت مرحلة نضال وطني بالدرجة الأولى تجندت فيها الأقلام الأدبية جميعها حول الاستقلال، وكل كاتب هو أدبي وطني داعية. وامتدت إلى الستينيات التي نرى أنها العقد الذي شرع فيها الأدب المغربي الحديث يأخذ طريقه نحو التأصيل للأجناس الحديثة من قصة قصيرة ورواية ومسرحية وشعر تبلورت فيه قصيدة التفعيلة والنثر، أيضًا، وكذلك بعض المصطلحات والمفاهيم النقدية غير الكلاسيكية في درس ونقد الأدب. مع بداية السبعينيات يمكن القول: إن هذا الأدب بدأ يرسخ ويقترح إبدالات التجديد في إبداعه ولا يتوقف عن السعي إلى الحديث الذي تطور وتفرع إلى (حداثات) لو شئنا وفي كل حال تجاوز المقدمات وأرسى أعمدة (29).

ملحق

من الغبن وعدم الأمانة العلمية الاقتصار على المتن العربي في الأدب المغربي في دراستنا لبواكير تحديثه؛ ذلك أن له شِقًّا أو مُكوّنًا لغويًّا ثانيًا ومهمًّا بالفرنسية، كتبه المغاربة خلال المرحلة الاستعمارية، وأبدعوا فيه شعرًا ونثرًا على أحسن وجه، وهو مستمر بنصوص متينة مشرقة وتيارات، تولّد عن تلقّيهم تعليمَهم في المدارس الفرنسية التي أنشأها المستعمر بعثات أجنبية، ومنهم من أكمل الدراسة في فرنسا، وهي نخبة ذاتُ بال أغلبُها من أبناء الأعيان، وقسم منها تولى مقاليد البلاد بعد الاستقلال (1956م).

عما أبدعته هذه الفئة، ونسميه نحن (الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية littérature marocaine d’expression française) يصعب منهجيًّا درسُه في سياق واحد مع المتن العربي؛ نظرًا لأنه ارتبط بالأدب الفرنسي مباشرة وتملّك خصائصه الفنية، فهو إذن جزء من النسق الأصلي للأدب الحديث لا متفرع، عوالمه ومحكياتِه السردية مُرَاوِحَة بين رؤيتين للعالم وثقافتين، وعندنا في رواية «Le passé simple»(الماضي البسيط) (1954م) لإدريس الشرايبي (1926ـ2007م) خير مثال. ونظرًا لأن هذا المتن الأجنبي لغة، ويبقى مغربيًّا روحًا ومحتوى ومخيالًا، يستوعب أقوى وجوه الأشكال والتعابير الحديثة، فإننا نرى أنه يستحق قراءة وحده، فهو حديث حقًّا بلا منازع. له تمثيل قوي في الأدب الجزائري، وتونس، وفي لبنان، ولا يمكن أغفاله لتكمل صورة أدبنا.


هوامش: 

(١)  (درويش) العربي حسن. الشعر والشعراء المحدثون في العصر العباسي. القاهرة، الهيئة العامة للكتاب، 1987م.

(٢)  (هدّارة) محمد مصطفى. دراسات في الأدب العربي الحديث. بيروت، الدار العربية للعلوم، 1990م.

(٣)  (العقاد) م عباس، و(المازني) إبراهيم. الديوان في الأدب والنقد. القاهرة، نهضة مصر.

(٤)  (الملائكة) نازك. قضايا الشعر المعاصر، بيروت، دار العلم للملايين.

(٥)  Bernard ,Suzanne. Le poème en prose , de Baudelaire jusqu’à nos jours.Paris,Nizet,1959.

(٦)  Habermas,Jurgen. Le discours philosophique de la modérnité.Paris ,Gallimard ,NRF,1988

(٧)  للاطلاع على هذه المفاهيم وتحولاتها، انظر كتابنا: كيف نفهم الرواية الجديدة. الدار البيضاء، منشورات ملتقى الطرق، س مواعد، 2021م.

(٨)  انظر Habermas,op.cit,XII le contenu normatif de la modérnité ,pp397 -455

(٩)  انظر كتابنا: الأدب المغربي المعاصر. بغداد، 1983م، ط1، ودار النشر المغربية ط2.

(١٠)  (القباج) محمد عباس. تاريخ الأدب العربي بالمغرب الأقصى. الرباط، 1929م. ط أولى. وصدرت طبعة موثقة ثانية عن وزارة الثقافة المغربية، مطابع فضالة، 1979م.

(١١)  (كنون) عبدالله الحسيني، النبوغ المغربي في الأدب العربي، بيروت، دار الكتب العلمية، ط الرابعة. اقرأ تقديم شكيب أرسلان لعنوان: «عرض وتحليل» صص.65- 73. انظر أيضًا كنون: أحاديث في الأدب المغربي الحديث، القاهرة، معهد الدراسات العربية العالية، 1964م.

(١٢)  (اليبوري) أحمد. في شعرية ديوان روض الزيتون لشاعر الحمراء. الدار البيضاء، دار الثقافة، 2021م.

(١٣) الشعر الوطني المغربي في عهد الحماية (1912- 1956م). الدار البيضاء، دار الثقافة.

(١٤)  انظر: (الطريسي) أحمد. الرؤية والفن في الشعر العربي الحديث. الدار البيضاء، المؤسسة الحديثة للنشر والتوزيع 1987م. وانظر له كذلك في هذا الموضوع: الإبداع الشعري والتحولات الاجتماعية والفكرية بالمغرب من أواخر القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين. منشورات كلية الآداب بالرباط، 1992م (بحوث ودراسات.4).

(١٥)  يقول عبدالله كنون عن هذه الحقبة: «بالنسبة للأدب، فالواقع أنه لم تكن هناك ثقافة أدبية رسمية مطروحة في الساحة، بل كان الذين يتشوفون لهذه الثقافة يلاحقون ويتابعون الشخص الذي يعتقدون أنه كفء وأنه قادر على مدهم بعطاء أدبي (…) وبالنسبة لمن يطمح للجديد عليه أن يبحث عنه في مجالات أخرى». النبوغ المغربي. م. س. ص 20.

(١٦)  مجلة المغرب، الرباط، ع يونيو 1934م.

(١٧) كتب ميخائيل نعيمة مقدمة لهذا الكتاب، مما جاء فيها عن الصباغ: «فهو كاتب تتفجر عواطفه وأفكاره من شق قلمه عنيفة، صاخبة، ولذلك تراه يتنكب العادي والمألوف من قوالب البيان. إذا نظم تبعثر وزنه وقافيته كما تشهد مجموعته «شجرة النار». وإذا نثر كسا مفرداته وعباراته خليطًا من الألوان بين زاهية وقاتمة، ثم أطلقها تدرج على أوتار تعددت مفاتيحها».

(١٨)  يقول عبدالله كنون معرفًا ما تعنيه تسمية فيه في المغرب في إبّانه: «تعني ما تعنيه اليوم كلمة «مثقف» وليس الفقيه معناه أن علمه منحصر في الفقه (…) تطلق على الوزير والقاص حتى على الشاعر، الشاعر فقيه أيضًا». النبوغ المغربي. م. س. صص. 25- 26.

(١٩) انظر كتابنا: فن القصة القصيرة في المغرب: في النشأة والتطور والاتجاهات. بيروت، دار العودة، 1980م.

(٢٠)  (بناني) أحمد. فاس في سبع قصص. الرباط، مطبعة الرسالة، 1968م.

(٢١)  (الفاسي) عبدالرحمن. عمي بوشناق، الرباط، وزارة الثقافة، س«والقلم» 2، 1972م.

(٢٢)  (بن جلون) عبدالمجيد. وادي الدماء، نشرت قصصًا متفرقة في صحف ومجلات، منها مجلة (رسالة المغرب، وضمت مجموعة قصصية سنة 1957م. من دون دار نشر.

        انظر كتابنا مع جماعة من المؤلفين: عبدالمجيد بن جلون، الكاتب الوطني. الرباط، المكتبة الوطنية للمملكة المغربية، 2019.

(٢٣)  انظر كتابنا: الكتابة السردية في الأدب المغربي الحديث- الرؤية والتكوين. الرباط، المعارف الجديدة، 2000م. وهو زبدة أطروحتنا لدكتوراه الدولة في جامعة السوربون 1990م.

(٢٤)  نعني هنا رواية «زينب» (1913) لمحمد حسين هيكل، بعنوانها الفرعي: (مناظر وأخلاق ريفية) ذاته العنوان الفرعي الذي وضعه Flaubert  فلوبير لروايته الشهيرة «مدام بوفاري» Madame Bovary (1957) وهو Mœurs de province ( أخلاق ريفية).

(٢٥)  (بن عبدالله) محمد بن عبدالعزيز. شقراء الريف. بيروت، دار النجاح، 1973م.

(٢٦)  (الوزاني) التهامي. الزاوية. تطوان، 1942م.

(٢٧)  انظر للتوسع: (الشاوي) عبدالقادر: الذات والسيرة (الزاوية) للتهامي الوزاني. الرباط، منشورات الموجة، 1996م.

(٢٨) عبدالمجيد بن جلون الكاتب الوطني. م. س.

(٢٩)  انظر كتابنا: السرد بين الكتابة والأهواء ـ من النظرية إلى النص. الرباط، دار الأمان، 2019م. انظر خاصة الفصل المعنون بـ«السرد العربي وتمثلات الحداثة» ص.ص 23-46.

(٣٠)  من أجل فكرة مجملة عن هذا الأدب نحيل إلى الكتاب الجامع الآتي:Dejeux,jean. Maghreb, littérature de langue française. Paris , Arcantère éditions ,1993.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *