محمد علي لقمان.. الذات والمدينة والريادة المنسية

محمد علي لقمان.. الذات والمدينة والريادة المنسية

في أقصى نقطة من جنوب الجزيرة العربية، حيث مدينة عدن التي كانت البوابة البحرية المشرعة على العالم الخارجي بمختلف اتجاهاته، وتحديدًا منذ بدايات النصف الأول من القرن الماضي، بعد أن كان للبحر معها أكثر من لقاء في صياغة وعيها المديني وحداثتها النابتة من عمق التاريخ وغزواته وتراجيدياته، في هذه المدينة كان محمد علي لقمان المحامي يعد اختزالًا منطقيًّا لتماهي الذات والمدينة، فلا يمكن تصور الحالة المدينية التي شهدتها عدن وقتئذ، بعيدًا من أسماء مؤثرة في تاريخها الفكري والثقافي، وفي طليعتهم محمد علي لقمان المحامي، رائد حركتها التنويرية الصاعدة، بما نادى به من أفكار ودعوات كانت طليعية وقتئذ، وأقرب إلى مبادئ الليبرالية، وقد امتد أثره إلى خارج حدودها الجغرافية، مثلما كان يمتد أثرها إلى أبعد من محيطها الإقليمي، بوصفها مدينة ميناء كوزموبوليتانية تعبر إلى أطراف العالم وثقافاته مع كل عبور سفينة إليها، في اتصال تاريخي استثنائي. وقد مثل كل منهما: لقمان وعدن مشروع حداثة مجهضة وريادة منسية، وهو ما يستدعي المزيد من التأمل في خطاب الذات والمدينة. وتداخل سيرة الذات بسيرة المدينة.

تماهي الذات والمدينة

ولد محمد علي لقمان في عدن عام 1898م في الوقت الذي كانت الحركة التجارية والاقتصادية في عدن في أوجها، وملامح حداثتها العمرانية والتجارية تتشكل بوساطة البريطانيين والشركات العالمية التجارية، وفي أثناء ذلك كانت تتشكل معرفة جديدة بالآخر وثقافته وأفكاره. لحظة تاريخية مفارقة في جنوب الجزيرة العربية، لها خصوصياتها وأسئلتها وحيرتها في المجتمع العدني، وفي هذه اللحظة كان محمد علي لقمان ابنًا لموظف في إحدى الشركات البريطانية، وهذا يعني أنه قادم من قلب الطبقة المتوسطة بكل دلالاتها ووظائفها كما يصفها السوسيولوجيون، وهو ما وَفّر له حظًّا من التعليم والنباهة والوعي المبكر، وفي هذا المهاد الخصب تشكل وعيه في موازاة لتشكل الحالة المدينية لعدن التي كانت تموج بمقومات الحياة الجديدة.

وذلك ما ظل يخبرنا عنه في مذكرات «رجال وشؤون وذكريات» حيث تقاطع أحداث الحياة الخاصة بالتحولات العامة والتاريخية للمدينة وأناسها، وفي عمق مشهدية الاتصال المباشر بالآخر الأجنبي المفارقة لغة وثقافة وهوية، حيث المدينة الكولونيالية الكوزموبوليتانية: خليط بشري من أجناس بشرية ومعتقدات وثقافات عديدة: بريطانيون وفرنساويون وإيطاليون وجنسيات أوربية أخرى، وهنود وصومال وآسيويون وأفارقة، وخليط من الديانات والمذاهب: مسلمون ومسيحيون ويهود وهندوس وبهرة إسماعيليون ومجوس، أعراق وثقافات متعددة، فضلًا عن الطابع المديني ومظاهر الحداثة في المؤسسات والإدارة والآلات والوسائل، والنقابات والهيئات والجمعيات وغير ذلك.

علامات الوعي المبكر

في هذا الفضاء، وقبل أن يكتمل عقده الثاني ظهرت علامات الوعي المبكر عند الشاب لقمان في الارتباط بقضايا الناس والمجتمع، منذ بدايات العمل العام بكتابة العرائض باللغة الإنجليزية والترجمة، وجسارة هذا الشاب الصغير في مخاطبة المندوب السامي البريطاني في عدن من أجل حقوق المواطنين وقضاياهم. وستتطور هذه الجسارة إلى المطالبة بوجود قضاء مدني ومحاكم أهلية في عدن، بدلًا من القضاء العسكري البريطاني الذي كان يمثل أمامه المواطنون، ولعلها أولى الإشارات التي ستدفع به إلى اختيار مهنة المحاماة، وتطور علاقته في الثلاثينيات من القرن الماضي من الفردي إلى ما هو عام واجتماعي، وبداية الارتباط بقضايا الوطن وحريته واستقلاله من الاحتلال البريطاني. وهو الوقت الذي أخذت المدينة تعبر عن روح جديدة تتخلق في رفضها وتمردها من خلال ظهور النقابات والإضرابات العمالية والاحتجاجات، وتصاعد الحركات الوطنية في عدن، التي كانت ثمرة الوعي بالذات والهوية القومية والوطنية على المستوى الجمعي.

كانت ريادة محمد علي لقمان تتشكل في فضاءات معرفية وثقافية واجتماعية عديدة، وهو ما انعكس على خطابه التنويري في تأكيده أهمية التعليم المدني الحديث وتحرير المرأة وفتح مدارس تعليم البنات، وحرية الفكر والتعبير والأحزاب، ثم تكلل دوره الكبير في تأسيس الصحافة في اليمن، من خلال إصدار «فتاة الجزيرة» في الأول من يناير 1940م وهي أول صحيفة عربية على مستوى الجزيرة العربية، وثمرة حلم طويل ظل يتقدم بتراخيصه منذ عام 1927م. وقد شكلت «فتاة الجزيرة» منبرًا إعلاميًّا مهمًّا لنشر أفكاره ودعواته الإصلاحية والتنويرية، وكان لها صدى واسع في جنوب الجزيرة العربية، بما في ذلك ارتباطها بتاريخ النضال الوطني شمالًا وجنوبًا، فضلًا عما ينشر فيها من موضوعات ثقافية عن الفنون والآداب، منها المؤلف والمعرب والمترجم، بل كانت هذه الصحيفة نواة لنشر الأفكار الليبرالية التي تُسمع للمرة الأولى، مثل دعوات إصلاح التعليم والمجتمع، والحريات الفكرية والسياسية، وتأسيس الأحزاب والجمعيات والنقابات، وتبني قضايا العمال الوطنيين وحقوقهم في مواجهة الامتيازات الممنوحة للشركات والموظفين الأجانب.

وعلى المستوى الاجتماعي كان إسهامه واضحًا في تأسيس الأندية الأدبية والثقافية في عدن، وهي ظاهرة ثقافية جديدة في العشرينيات والثلاثينيات على مستوى مدينة عدن والجزيرة العربية. وكان من أثرها الاهتمام بالأدب العربي، ونشر الوعي القومي، وظهور جيل جديد من الأدباء والشعراء والكتاب في عدن، وهو ما شكّل ريادة إبداعية غير مسبوقة، وكان من ثمارها تأسيس المجلس الثقافي العدني، وظهور أول رواية تصدر في جنوب الجزيرة العربية، بعنوان «سعيد» كتبها لقمان في 1939م، ثم بعد مدة أصدر روايته الثانية «كملاديفي» ومن خلالهما مرر العديد من أفكاره التي كان ينادي بها، وصاغها في قالب روائي لوعيه بأهمية الشكل الروائي في تمرير الخطابات والأفكار، شأنه في ذلك شأن العديد من كُتاب التيارات الإصلاحية والتنويرية في مختلف البلدان، وهو ما يعزز ريادة لقمان التنويرية والإعلامية والإبداعية المتقاطعة مع ريادة عدن التاريخية آنذاك. وربما ليس من المبالغة وصفه بطهطاوي اليمن، بل لا نبالغ إذا قلنا: إن نقاط التشابه بينهما كثيرة في العديد من العلامات والأدوار، فكلاهما تأثر بالثقافة الغربية وعاد إلى موطنه حاملًا أول جذوة من مشاعل التنوير الحضاري، ورائدًا في مجال الإصلاح الاجتماعي والفكري، وقد وصفه المفكر عمر الجاوي بأنه أول من أدخل الأفكار الحديثة في علاقة المرأة بالرجل وبعضًا من أفكار الثورة الفرنسية، وشعارات العدالة والحرية والمساواة إلى اليمن، وغير ذلك من الأفكار الليبرالية.

هكذا كان محمد علي لقمان رائدًا تنويريًّا يمثل أنموذجًا لتشكل وعي مديني، من خلال ما كان ينادي به من أفكار جديدة وجريئة في كتبه ومقالاته التي نشرها في صحيفة فتاة الجزيرة، أو ما يقوم به من أعمال اجتماعية تصل خطابه التنويري بمشكلات الواقع مدة ثلاثين عامًا على الأقل. غير أن هذه الحالة المدينية بكل أسئلتها ومشكلاتها وحيرتها لم تخلق استمرارًا أو تراكمًا بعد لقمان؛ إذ سرعان ما دخلت عدن في الأفق الستيني الشمولي وتحولاته العنيفة، لحظة ولادة الدولة الوطنية عقب الاستقلال الوطني، وهو ما دفع بلقمان ومختلف النخب الفكرية والثقافية إلى الهجرة القسرية خارج حدود الوطن ودوائره الحمراء، التي حملت أيديولوجياتها وخطاباتها الجديدة.

بِمَ تقدم الغربيون؟ وأسئلة النهضة

لمحمد علي لقمان العديد من الكتابات ذات الطابع الاجتماعي والحقوقي والفكري، غير أن كتابه «بماذا تقدم الغربيون؟» الذي كتبه وهو في سن الأربعين، وكتب مقدمته المفكر العربي شكيب أرسلان، هو أهم كتب لقمان التي تربو على اثني عشر كتابًا، جاء يحمل هذا السؤال العريض وارتياد مغامرة الإجابة التي أرّقت رواد النهضة والمفكرين العرب، سؤال في نهضة الأمم والبحث عن أسبابها ومقوماتها، وقد اختار لقمان في محاولته الإجابة، نموذج الثقافة الغربية التي وجدها قد سادت العالم في العصر الحديث، فكان لا بد -كما يرى لقمان- من فهم الأسباب التي مكنتهم في هذه السيادة والتفوق على كثير من الشعوب في الشرق.

محمد علي لقمان

وقد جعل مدخله إلى ذلك، البحث في أخلاق الأوربيين، والأخلاق هنا تحمل دلالة ثقافية أكثر من كونها دلالة على صفات سلوكية، انطلاقًا من معايشة واتصال مباشر بعد أن قضى جل عمره في التعامل مع أجناس أوربية عديدة في مختلف مراحل حياته، ومحاولة فهم الآخر ومقوماته الحضارية. وبحسب سمير الشميري، فقد «أراد لقمان أن يسلك مسربًا غير مطروق بالنسبة لقسط معتبر من المفكرين في ذلك الزمان، فأخذ يدرس ويشاهد ويلاحظ، وقرأ بإمعان الواقع، ولم يتغافل عن كثير من الحقائق والمسلكيات، فقدم تصورًا ومشاهدات حية عن عادات وأخلاق الأوربيين وألوان حياتهم دون رياء أو مبالغات مجانية، فاستطاع أن يضع إصبعه على الجرح». وكانت خلاصته في تحديد أسباب التفوق الغربي، التي يجب أن نفهمها الآن في سياقها التاريخي الذي يعود إلى نحو مئة سنة من الآن، تكمن في العديد من الزوايا التي غفل عنها الشرقيون -كما حددها لقمان في فصول كتابه- وكانت سببًا في تأخره، مثل تجديد الغربيين نظام التعليم والمدارس، واعتمادهم على الذات في مقابل التواكل عند العرب، وتكريس قيم العمل والإنتاج والابتكار، والاهتمام بالرياضة البدنية، والعزم على تحقيق الأهداف، والاستعداد وتحمل المسؤولية، واغتنام الفرص، والنظام والترتيب، والأسفار والاستعمار، والاتحاد في مواجهة الآخرين، والتخصص في مجالات العلوم والفنون، ونمو الشعور القومي والاعتزاز بمكونات الهوية، والنصح والإرشاد، وحرية الفكر والتعبير، وتقديرهم للذات والمكافأة. ومن الملحوظ أن لقمان كان يعرض لهذه العناصر الكامنة في الثقافة الغربية ويضعها في مقابل العناصر السلبية الكامنة في المجتمعات الشرقية والعربية، وفقدان القيم الحضارية العربية الأصيلة التي كانت سببًا في التخلف، لكنه لا يقدم النموذج الغربي مجردًا من سلبياته كذلك، كاتخاذهم أسلوب التفريق بين الشعوب والطوائف والمجتمعات الأخرى في خدمة أهدافهم الاستعمارية، فالآخر الأورُبي (الاستعماري) وإن أخذ بأسباب التفوق الحضاري على الشرق، لم يزل يرتكب الأخطاء والجرائم بحق الشعوب الأخرى.

يقول لقمان في مذكراته: إن كتابه هذا حقق نجاحًا وانتشارًا بين الناس، وتلقفته بوعي الأيدي التي كانت تمثل نخبة بواكير النهضة الثقافية والفكرية في عدن، المدينة الحالمة التي كانت تتلمس طريقها نحو حداثة وإن كانت في إهاب من الاتصال بالآخر وثقافته، وفهمه في ظل الوقائع والمنجزات التي يقدم نفسه من خلالها، لا كما نتصوره، ولا سيما أن المجتمع العدني قد تفشت فيه مظاهر الجهل والخرافات وبعض العادات السلبية التي انتقدها لقمان مرارًا، وهو ما تطلب خطابًا تنويريًّا يستند إلى مقارنات ومعطيات واقعية، وليس مجرد دعوات وتصورات ذهنية. وبحسب المفكر هشام علي، كان «من الواضح أن لقمان يتأثر في هذا البحث الأخلاقي -أي الكتاب- بالخطاب الغربي ذاته كما صاغه الاستشراق، مضيفًا إلى ذلك إحساسًا بالمرارة إزاء تأخر اليمن، فقد شهد وهو المثقف الواعي تقدم أوربا ونهضتها خلال سِنِي دراسته في بريطانيا في كمبردج وليدز، لكن هذا الإحساس لم يخلق لديه نوعًا من رد الفعل السلبى أو الشعور بالاغتراب والضياع، فبادر إلى العمل الفكري كمدخل لإصلاح المجتمع».

والواقع أن ما طرحه لقمان منذ نحو مئة عام من دعوات إصلاحية وتشخيص واضح لأسباب التخلف، ومساءلات مرة للواقع المتخلف، نبعت من شعور وطني وإنساني صادق لمثقف مهموم بقضايا وطنه وأُمّته، ونجد تلك التساؤلات لا تزال ماثلة أمام واقعنا المعاصر، وتلامس جوانب مهمة منه حتى اليوم.