المقالات الأخيرة

“لقاء مارس 02: تواشجات” دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

“لقاء مارس 02: تواشجات”

دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

فيما يشبه الالتزام الأخلاقي والجمالي، تبنى لقاء مارس السنوي، الذي تنظمه مؤسسة الشارقة للفنون، في دورته الجديدة التي انتهت أنشطتها قبل أيام، طيفًا واسعًا من القضايا والموضوعات والنقاشات وعروض الأداء، التي لئن اختلفت وتعددت وتنوعت، إلا أنها تذهب كلها إلى منطقة واحدة،...

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

خواطر وأفكار عن المشهد الثقافي في تونس

بواسطة | مايو 1, 2022 | بواكير الحداثة العربية

بعد انهيار نظام ابن علي، في الرابع عشر من شهر يناير 2011م، كثر اللغط والحديث في وسائل الإعلام بمختلف أنواعها، وأيضًا في المنابر والندوات والملتقيات الثقافية، عن أوضاع الثقافة التونسية، وعن إمكانيات تجديدها، وتخليصها من أزمات، ومن شوائب عانتها في حقبتَيْ نظام بورقيبة، ونظام ابن علي. ولم يتردد أولئك الذين رحّبوا بـ«ثورة الكرامة والحرية» في القول: إن تونس عاشت في الحقبتين المذكورتين «تصحّرًا ثقافيًّا مريعًا»؛ لذا لا بد من العمل على إعادة الاعتبار للثقافة والمثقفين بهدف انبعاث «ثورة ثقافية» بالمعنى الحقيقي للكلمة تقوم على تشجيع الطاقات الإبداعية والفنية التي كانت مُجمّدة ومقصيّة ومهمّشة، على النشاط والخلق والابتكار في ظل «الديمقراطية الجديدة» التي جاءت بها الانتفاضات الشعبية التي أطاحت بنظام ابن علي.

أبو القاسم الشابي

والحقيقة أن تونس لم تعش «تصحّرًا ثقافيًّا» لا في عهد بورقيبة، ولا في عهد ابن علي، ولا في الحقبة الاستعمارية، بل عاشت ظروفًا أخرى سوف نحاول أن نشير ولو باختصار إلى أهمها. وما يعكسه التاريخ التونسي منذ بداية القرن العشرين، إن لم يكن قبل ذلك بنحو نصف قرن، وهو أن الحقب الثقافية المضيئة كانت مرتبطة دائمًا وأبدًا بالصراع بين القديم والجديد. ففي عام 1904م مثلًا، وبفضل تأثيرات الحركات الإصلاحية التي كانت مُشعّة آنذاك في العديد من البلدان العربية والإسلامية، أصدر الشيخ عبدالعزيز الثعالبي (1876-1944م) كتابه الشهير: «روح التحرر في القرآن»، مُطلقًا من خلاله أطروحات وأفكارًا جريئة لم يسبق لها مثيل، وتطرَّق إلى قضايا ساخنة مثل الحجاب، والتسامح الديني، والعلاقة بين الأديان، والعلاقة بين الشرق والغرب، وفصل الدين عن الدولة، وغير ذلك من القضايا التي لا تزال تشغل العرب والمسلمين إلى حد هذه الساعة. وما نستخلصه من كتاب الشيخ عبدالعزيز الثعالبي هو أنه دعا إلى ضرورة جعل القرآن «دستورًا» للدفاع عن التحرر، والتقدم والرقي، مُهيبًا بالعلماء المسلمين أن يجتهدوا من أجل تنوير العقول، وتحرير مجتمعاتهم من قيود الماضي للخروج بها من عصور الانحطاط والجهل والتخلف والقهر.

وقد أثار كتاب: «روح التحرر في القرآن» جدلًا ساخنًا في أوساط النخبة التونسية بجميع فصائلها وتياراتها. وكان من الطبيعي أن يجد الفصيل المتطلع إلى الإصلاح والتحديث في الكتاب ما يدعم مواقفه وطموحاته وآماله. أما الأوساط الرجعية والمحافظة فقد شنّت على صاحبه حملة عنيفة، مُتّهمة إيّاه بـ«الكفر والإلحاد»، و«الدوس على الإسلام ومقوماته». وعلى الرغم من ذلك، رفض الشيخ الثعالبي التراجع عن أفكاره، مواجهًا الحملة المضادة له بشجاعته المعهودة التي تحلى بها طوال مسيرته النضالية المديدة.

تحولات ما بعد الحرب

بعد الحرب الكونية الثانية، تجددت المعركة بين المناصرين لحركة التقدم والتحديث، وبين الرافضين والمُعادين لها لتشمل في هذه المرة مجالات أخرى غير مجال الدين والفقه، وما يتصل بهما؛ إذ برزت للوجود أجيال شابة طموحة، ومُتعطشة للمعارف الحديثة العاكسة لحضارة العصر. ومنذ البداية كان واضحًا أن تلك الأجيال تطمح إلى التسلح بأدوات معرفية غربية لمواجهة تحولات وأوضاع مجتمعها. ومع مطلع الثلاثينيات، برز للوجود تيار فكري جديد، أعني بذلك الفكر الاجتماعي مُتجسدًا خاصة في كتاب «امرأتنا في الشريعة وفي المجتمع».

وعلى الرغم من أن الطاهر الحداد، صاحب ذلك الكتاب، كان من طلبة الجامعة الزيتونية، معقل الشيوخ المحافظين، فإنه انجذب مبكرًا إلى الحركة الإصلاحية، وناصرها بقوة مناديًا بضرورة تحرير المرأة من القيود الاجتماعية والنفسية التي تكبلها لتكون مساهمة مع الرجل في بناء المجتمع الجديد. كما أنه تأثر بأفكار ابن الجنوب، محمد علي الحامي الذي عاد من برلين في عام 1924م، ليشرع في تأسيس أول نواة لنقابات عمالية تونسية، مستقلة عن النقابات الفرنسية. ومعه طاف في مناطق مختلفة من البلاد ليكتب تحقيقات ميدانية عن أوضاع العمال لتصدر فيما بعد في كتابه الذي حمل عنوان: «العمال التونسيون». وكان لصدور كتاب: «امرأتنا في الشريعة وفي المجتمع» وقع كبير في أوساط النخبة التونسية، عكسته الهجمات الشرسة التي تعرض لها من جانب شيوخ الجامعة الزيتونية الذين لم يترددوا في هذه المرة أيضًا في نعت مؤلفه بـ«الكافر»، و«الملحد». بل إنهم حرضوا العامة لتعنيفه في الأسواق، وفي الشوارع.

الطاهر حداد

إلى جانب الفكر الاجتماعي، برزت تيارات جديدة في المجال الأدبي يدعو أتباعها إلى التجديد، وإلى الثورة على القديم. وكان أبو القاسم الشابي (1909-1934م) أول من انتقل بالشعر التونسي الذي كان يعاني حتى ذلك الوقت الابتذالَ والسطحيةَ والركاكةَ، إلى الحداثة شكلًا ومضمونًا. وعلى الرغم من أنه كان «يطير بجناح واحد» كما كان يحب أن يقول تعبيرًا عن عدم حذقه للغة الفرنسية، فإنه تمكّن بفضل صديقه محمد الحليوي من الإلمام بجوانب مهمة من الشعر الأوربي، وبخاصة الرومانسية. إلى جانب ذلك تأثر بشعراء المهجر، وبخاصة جبران خليل جبران. وهذا ما يعكسه ديوانه اليتيم: «أغاني الحياة». وقد تلقت الأوساط الأدبية المحافظة ذلك الديوان، وأيضًا كتاب الشابي النقدي: «الخيال الشعري عند العرب»، كما لو أنهما صفعة قوية، ودعوة للتمرد عليها، وعلى مناهجها، وعلى مفاهيمها للأدب والحياة؛ لذلك تصدّت للشابي بعنف مثلما فعلت مع الطاهر الحداد لتجبره على «الهجرة» بقصائده إلى مجلة «أبولو» المصرية.

وفي تلك المرحلة الغنية بمختلف التجارب، أي مدة ما بين الحربين، لمع في المشهد الثقافي التونسي تيار أدبي تمثّل فيمن أصبحوا يُسمّون بـ«جماعة تحت السور». و«تحت السور» هو اسم المقهى الذي كانت ترتاده تلك الجماعة في حي «باب سويقة» بمدينة تونس العتيقة. وجميع أعضائها ينتمون إلى عائلات فقيرة، أو متوسطة الحال، كما أنهم انقطعوا مبكرًا عن الدراسة «قبل أن تُبْلى سراويلهم» بحسب عبارة «عرّابهم» علي الدوعاجي. وبفضل اللغة الفرنسية، تعرفوا إلى آداب أوربا الحديثة، وتأثروا بكتاب وشعراء من أمثال غي دو موباسان، وتشيكوف، وفلوببر، وبودلير، وفيكتور هوغو، وغوغول… وقد كان لتلك الجماعة التي كانت تعيش حياة «بوهيمية» – والمتمثلة على نحو خاص في «الثنائي الرهيب» علي الدوعاجي ومحمد العريبي- دور في تحديث القصة والشعر والأزجال، وبعض الصحف اعتنت بالدفاع عن الثقافة الجديدة المناهضة للتزمت والرجعية.

تحرير اللغة والشعر

تزامنًا مع ظهور جماعة «تحت السور»، برز في المشهد الثقافي التونسي، محمود المسعدي (1911-2005م) الذي حقق حضورًا قويًّا بفضل عملين مُهمّين هما: «السد»، و«حدث أبو هريرة قال…». وكان المسعدي قد عاد من باريس حيث كان يَدرُسُ في جامعة «السوربون» مُحمّلًا بأفكار جديدة تولّدت عنده بعد قراءته أعمال الكبار من الغربيين في مجال الرواية، والفلسفة، والشعر، أمثال: شوبنهاور، ونيتشه، ومالرو، وغيرهم. والجديد الذي أتى به المسعدي هو الأدب الذي يقوم على التأملات الذهنية والفلسفية، وعلى التجريد. وخلافًا لجماعة «تحت السور» الذين بسّطُوا اللغة لتكون قريبة من اللغة الشعبية اليومية، وحرروها من البلاغة الثقيلة، عَمَدَ المسعدي إلى إعادة الإشراق للغة العربية القديمة مثلما كان حالها عند الجاحظ، والتوحيدي، وأبي الفرج الأصفهاني، وعبدالله بن المقفع، ومحيي الدين بن عربي.

محمود المسعدي

وبقدر ما كان كلاسيكيًّا في لغته، كان المسعدي حداثيًّا في أفكاره، وفي مفهومه للأدب والحياة. ففي «السد» مثلًا هو يتطرق إلى طموح الإنسان إلى تحدي ما يبدو له مستحيلًا. وهي قضية انشغل بها الوجوديون في الفلسفة وفي الأدب. وأما في «حدث أبو هريرة قال» فقد طرح مسألة شائكة ومعقدة تتعلق بحيرة العربي المسلم في زمن يبدو فيها مقصيًّا ومهمشًا كما لو أنه يعيش في زمن غير زمنه.

بعد حصول تونس على استقلالها عام 1956م، شهدت الثقافة التونسية انتعاشة كبيرة. فقد برز جيل جديد من الشعراء والكتاب يطمح إلى آفاق جديدة في الكتابة شكلًا ومضمونًا. وجُلّ أبناء هذا الجيل كانوا متأثرين بالتيارات الحداثية في فرنسا، وبالعالم الغربي عمومًا مثل الوجودية، والسوريالية، والرواية الجديدة وغيرها… ولم تكن الواقعية الاشتراكية غائبة عن تلك التأثيرات خصوصًا في مجال الشعر حيث برزت في المشهد موجة جديدة سماها أصحابها: «في غير العمودي والحر». وقد انشغل شعراء تلك الموجة بالدفاع في قصائدهم التي تكثر فيها تعابير اللغة الشعبية لدى الكادحين وبسطاء الناس. وفي البداية تعامل نظام بورقيبة من تلك التيارات الجديدة بكثير من التسامح، فاتحًا لها صحفه ومجلاته الرسمية. إلا أن الانتفاضة الطلابية التي اندلعت خلال حرب 1967م، دفعت النظام إلى التراجع، فبادر بغلق المنابر والصحف والمجلات أمام الرافضين
لسياسته ولتوجهاته واختياراته…

مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، عاشت تونس انتعاشة ثقافية جديدة أذابت بسرعة جليد عقد السبعينيات الذي تميز بكثرة المحاكمات السياسية خصوصًا ضد اليساريين والنقابيين، وباشتداد الرقابة على الفنون والآداب. ولعل ذلك يعود إلى ما سماه بعضٌ بـ«ربيع الديمقراطية» حيث قرر نظام بورقيبة، بعد أحداث مدينة قفصة الدامية في أول عام 1980م، تعديل سياسته والجنوح إلى المصالحة الوطنية؛ بهدف التخفيف من حدة الاحتقان السياسي والاجتماعي الذي كانت تعيشه البلاد آنذاك؛ لذلك سمح لبعضٍ من حركات المعارضة المعتدلة بالنشاط وبالحركة، وبإصدار صحف ومجلات.

كما أطلق سراح العشرات من النقابيين واليساريين. وبذلك استعادت الحركة الثقافية حيويتها فتعددت الأصوات في جميع مجالات الفن والأدب. وكانت مسرحية «غسالة النوادر» (أي أمطار بداية الخريف)، لفرقة المسرح الجديد، من بين أهم الأحداث الثقافية والفنية التي عاشتها تونس في تلك المدة؛ إذ إنها جاءت بديعة في إخراجها، وفي أداء ممثليها، وفي مضمونها الذي ارتكز على نقد التطرف اليساري في عقد السبعينيات.

لذلك كانت تلك المسرحية بمنزلة الغيث النافع الذي أعقب جدبًا ثقافيًّا طويلًا. وأما الحدث الثقافي الآخر فقد تمثل في العرض الافتتاحي لمهرجان قرطاج في صيف العام المذكور آنفًا. ففي ذلك العرض الرائع اكتشف التونسيون، وبخاصة سكان المدن الكبيرة، ثراء الفنون الشعبية، وجمال الموسيقا الفولكلورية في مختلف مناطق البلاد.

وبفضل الشعراء والكتاب والنقاد الجدد الذين برزوا في تلك المدة، تمكنت الثقافة المضادة من أن تفرض نفسها، مُجبرة الثقافة الرسمية التي كانت مُهيمنة في عقد السبعينيات على الانكفاء والتراجع. وفي هذه المرة، سيغضّ نظام بورقيبة الطرف عن تلك الثقافة الصاعدة بقوة، إلا أن حركة «الاتجاه الإسلامي» التي ستصبح فيما بعد حركة «النهضة» الإسلامية، ستحاول في العديد من المرات، التصدي لها بعنف، وبالتهديد والوعيد، كما فعلت مع عدد من الكتاب والشعراء الذين كانوا ينتقدون التزمت الديني، والأفكار الظلامية. وكان الاتجاه الإسلامي يُصدر في بياناته، ومنشوراته الناطقة باسمه، مقالات تندد بالتوجهات «الغربية» في الثقافة التونسية، وتنعت كبار الفلاسفة والمفكرين الغربيين بأقبح النعوت.

الحلم وإكراهات الواقع

منذ التسعينيات من القرن الماضي حتى سقوطه المدوي في التاريخ المذكور آنفًا، وفّر نظام ابن علي للثقافة الرسمية كل الوسائل الممكنة، المادية منها والمعنوية، بهدف التصدي للثقافة المضادة في جل تعابيرها، إلا أنه فشل في ذلك فشلًا ذريعًا؛ إذ ظلت تلك الثقافة تقاوم بجرأة وحماسة كل العراقيل والعقبات للمحافظة على وجودها واستقلاليتها وحريتها. كما ظلت محافظة على قوتها في التعبير عن تحولات المجتمع، وعن تطوراته. وهذا ما انعكس في العديد من الأعمال الشعرية، والقصصية والروائية والفنية سواء كانت في المسرح، أم في السينما، أم في الموسيقا، أم في غيرها من التعابير. أما الثقافة الرسمية فقد ظلت منكمشة على نفسها، جامدة كعادتها، وسجينة المكاتب الرمادية…

وكان المثقفون التونسيون بمختلف توجهاتهم ومشاربهم يتطلعون إلى مستقبل مشرق بالإبداع الأدبي والفني بعد انهيار نظام ابن علي، إلا أن الواقع سرعان ما خيّب آمالهم وأحلامهم وأمانيهم العريضة. فقد أظهرت حركة النهضة بزعامة راشد الغنوشي، التي اكتسحت المشهد السياسي منذ البداية، عداءها القديم للمثقفين والفنانين والمفكرين الرافضين لأطروحاتها، وتوجهاتها. وبتحريض علني منها، قامت جماعات متطرفة بالهجوم على قاعات السينما في العاصمة، وبالاعتداء على مثقفين وفنانين ومبدعين في العديد من الفضاءات الثقافية والفنية في مختلف مناطق البلاد. ولم تسلم الجامعات والمدارس من تلك الهجمات، ومن تلك الاعتداءات.

ولم يتردد المنصف بن سالم، وهو أحد كبار قادة حركة النهضة في إظهار كراهيته لرموز النخبة التونسية الذين صنعوا مجد الثقافة التونسية في مراحل مختلفة من التاريخ المعاصر، مطالبًا بحذف نصوصهم من البرامج المدرسية، وناعتًا جماعة «تحت السور» بـ«الكحوليين المارقين عن الدين». وقد استغلت الحركات السلفية المتطرفة هيمنة حركة النهضة على المشهد السياسي في المدة الفاصلة بين 2011 و2014م لكي يُجاهر قادتها وأنصارها بعدائهم المطلق لمختلف التعابير الأدبية والفنية. وفي غياب كامل للردع، ولغياب القوانين، دأب هؤلاء على مدى ثلاث سنوات على التهجم اللفظي والمادي على الفنانين، والمثقفين.

كما أنهم عطّلوا ندوات فكرية، ومنعوا نشاطات ومهرجانات فنية. وفي العديد من الجامعات استعملوا الأسلحة البيضاء والهراوات لترهيب الأساتذة والطلبة. ولم تتوقف حركة النهضة عند تلك الحدود، بل استغلت إشرافها على أول حكومة بعد انتخابات خريف 2011م؛ لكي تخفض ميزانيةَ وزارة الثقافة ليجد العديد من الفنانين والكتاب والشعراء أنفسهم بلا مورد رزق. وفي السنوات الماضية، توفي بعضهم جراء الإهمال والإذلال وعدم القدرة على شراء الدواء. كما توقفت فرق فنية ومسرحية عن العمل، وحُرم مخرجون سينمائيون من إنجاز أفلام كانوا يحلمون بها. وعالمة أنها بلا فنانين وبلا كتّاب وبلا مفكرين وبلا شعراء، سعت حركة النهضة حال هيمنتها على المشهد السياسي إلى «شراء ذمم» بعض أشباه المثقفين والفنانين الذين غالبًا ما يكونون قادرين على «تغيير جلودهم» بحسب الظروف والمصالح.

وعلى الرغم من أنها نجحت في ذلك نسبيًّا، فإنها لم تتمكن من تنفيذ مخططها الرهيب المناهض لكل شكل من أشكال الثقافة الحرة، والتفكير الحر. وفي السنوات القليلة الماضية، اشتدت المعارضة الثقافية والفنية لحركة النهضة لتنعكس في العديد من الأعمال الروائية والقصصية والشعرية، مانحة «ثقافة الحياة» قدرات وأساليب فنية وأدبية لمواجهة «ثقافة الموت» التي تمثلها النهضة.

مافيات ثقافية

ثمة ظاهرة أخرى تتوجب الإشارة إليها، وأعني بذلك استغلال بعض من الانتهازيين لـ«ثورة الكرامة والحرية» للحصول على مناصب وامتيازات مادية خاصة. وجميع هؤلاء كانوا في طليعة المستفيدين ثقافيًّا وماديًّا من نظام ابن علي. وبعضهم كانوا يتمتعون بمناصب رفيعة في المؤسسات الثقافية، وفي الجامعات. لكن حال سقوط نظام ابن علي، وضعوا أقنعة جديدة، معلنين من دون خجل أو حياء أنهم كانوا «معارضين» لذلك النظام، ناسبين لأنفسهم بطولات وهمية. وباسم «الثورة»، روّج هؤلاء لأدب هزيل، ولفنون تافهة، ولمسرحيات وأفلام لا هدف من ورائها سوى الركوب على الأحداث، وتوفير أرضية لبروز ثقافة سطحية تقوم على الأكاذيب، وعلى الشعارات الجوفاء.

ولأنهم بارعون في حبك المؤامرات القذرة، وفي بعث «مافيات ثقافية» موالية لهم، فإن هؤلاء تمكنوا من الهيمنة بشكل كبير على المشهد الثقافي التونسي من خلال المؤسسات الثقافية التي أصبحوا يسيطرون عليها، ويديرونها بحسب أهوائهم ومصالحهم الخاصة مثل «بيت الرواية» الذي يشرف عليه كاتب من الدرجة الثانية، ليس في رصيده سوى مجموعتين قصصيتين، على الرغم من أنه قارب سن الستين. وبسبب هذه «المافيات الثقافية» التي استغلت الفوضى المدمرة التي تعيشها البلاد على جميع المستويات منذ عشر سنوات، فقدت الجوائز الأدبية مثل جائزة أبي القاسم الشابي، وجوائز معرض الكتاب، مصداقيتها لأنها أصبحت تمنح لمن لا يستحقونها سواء في القصة أم في الرواية أم في النقد الدبي أم في غير ذلك.

ومن بين المظاهر السلبية الأخرى، قلة المجلات والملاحق الثقافية التي تُعنَى بالآداب والفنون. والمجلتان الوحيدتان اللتان تصدران راهنًا، لكن ليس بانتظام دائمًا، هما «مجلة الحياة الثقافية» التي تشرف عليها وزارة الثقافة بشكل مباشر، ومجلة «المسار» الناطقة باسم اتحاد الكتاب التونسيين. لكن اهتمام القراء بالمجلتين المذكورتين يكاد يكون منعدمًا؛ إذ إن المواد المنشورة في كل عدد من أعدادهما تفتقر إلى المستوى الأدبي والفني المطلوب. وليس ذلك بالأمر الغريب. فرئيس تحرير مجلة «الحياة الثقافية» التي أسسها الكاتب الكبير محمود المسعدي، يشرف على تحريرها كاتب بمجموعة قصصية واحدة، كل قصة من قصصها لا تتجاوز السطرين. وحجته في ذلك هو أنه من مبتكري ما يُسمّى بـ«القصة الومضة». أمّا مجلة «المسار» فيديرها من لا يفكرون أصلًا في الثقافة، بل في مصالحهم الخاصة التي لا يضمنها لهم سوى البقاء على رأس اتحاد الكتاب…

وفي النهاية يمكن القول: إن الثقافة المضادة -التي جسّدت ولا تزال تجسد الثقافة في مفهومها الأصيل والعميق منذ ثلاثينيات القرن الماضي حتى اليوم- تواجه راهنًا تحديات خطيرة، وتواصلها رهين بالفاعلين فيها، الذين يتوجب عليهم مواصلة «المقاومة» لمواجهة وتذليل العقبات التي تضعها أمامهم التيارات الرجعية والسلفية، و«المافيات الثقافية» لعرقلة مسيرتهم المجيدة…

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *