نص يترجم لأول مرة.. بعض الذكريات

نص يترجم لأول مرة.. بعض الذكريات

مات جورج حنين، مؤسس الحركة السريالية في مصر، في باريس ليل 17-18 يوليو 1973م. بعد سنوات من صراعه مع سرطان في الحنجرة. في الذكرى الأولى لوفاته، يوليو 1974م، صدر في القاهرة كتاب بالفرنسية والعربية بعنوان: «تحية لجورج حنين»، أعدّه صديقه مجدي وهبة وكتب مقدمته. نُشِر على غلافه أنه «آخر كتاب في الأدب التطبيقي». كما نُشِر اسم «حصة الرمل La Part du Sable»، وهي دار النشر التي كان أسسها جورج حنين، وعُدّ هذا الكتاب آخر إصدار لها. طُبِع 298 نسخة فقط! من هذا الكتاب الذي تضمن مقالات كتبها ثلاثون من أصدقاء جورج من دول مختلفة.

وأنا أعدّ لكتابة نسخة نهائية مرجعية لكتابي «السريالية في مصر»، صدرت طبعته الأولى عام 1986م في القاهرة، لحظت أنه لم تصدر طبعة أخرى حتى الآن من كتاب «تحية لجورج حنين» على الرغم من أهمية جورج نفسه وأهمية من كتبوا فيه. كنت ترجمت في كتابي خطابات جورج حنين إلى الشاعر والناقد اليوناني الأميركي نيكولا كالاس، نقلًا عن كتاب «تحية لجورج حنين» لكني لم أترجم المقدمة التي كتبها كالاس عن جورج.

اليوم أقدم هنا ترجمة عربية كاملة للمرة الأولى للمقدمة التي كتبها مجدي وهبة لكتاب «تحية لجورج حنين Hommage à Georges Henein». كتبتُ الهوامش التي رأيتها لازمة لفهم النص، وهي كثيرة جدًّا بسبب ثقافة مجدي العريضة واستطراداته وتشبيهاته من جهة، وبسبب الحوارات والأحداث الثرية التي ينقلها لنا من لقاءاته مع حنين وصحبه في ذلك الزمن الذهبي الذي مرت به مصر ولم يعد.

تعرف مجدي وهبة وهو فتى في السابعة عشرة إلى جورج حنين الذي كان يكبره بأحد عشر عامًا. ونتابع في المقال رحلة مجدي مع جورج وصحبه من جماعة الفن والحرية، وقد التحق بهما متأخرًا بعد تعرفه إلى حنين. لم يمنع فارق السن «حنين» من أن يشرك معه «مجدي» في كتابة كتابين هما: «لمحات عن كافكا» 1954م، و«آراء حول كيركيغارد» 1955م، والكتابان من إصدارات «حصة الرمل» دار النشر التي أسسها حنين في القاهرة. كانت من مزايا حنين المهمة الانفتاح على الشباب واجتذابهم والعمل معهم. العجيب المدهش أنني لم أجد أثرًا لهذه الكتب في أي ببليوغرافيا أو سيرة ذاتية منشورة لمجدي وهبة!

نعيش في مقدمة مجدي وهبة هنا أجواء جماعة «الفن والحرية» السريالية وتطوراتها. وشخصيات أعضائها ذات الصلة بالأوساط الثقافية اليسارية في أوربا وأميركا، وأجواء اجتماعاتهم ومناقشاتهم التي يغلب عليها الحوار السياسي اليساري، وأجواء من المجتمع المصري وقتها. كانت الجماعة والمجتمع تزخران بشخصيات من أديان وأصول مختلفة: مسلمين ومسيحيين ويهود ومصريين ومتمصرين وأجانب، وكتاب وفنانين وأدباء مغمورين ومشهورين وصعاليك. كانت مصر في النصف الأول من القرن العشرين في أزهي أوقات نهضتها… كما أشرت إلى ذلك في مقدمة كتابي «السريالية في مصر». ونظرًا لتكرار الاستشهاد به فسأكتفي فيما يلي بذكر كلمة « كتابي» للدلالة عليه.

رمسيس يونان

على نحو خاص يقربنا مجدي وهبة من فهم شخصية جورج حنين، البسيطة الذكية التي تميل إلى السخرية الخفيفة، والاستمتاع بها. أضاف لي هذا النص شخصيًّا الجديد مما كنت لا أعلمه. منه مثلًا السبب الحقيقي لدخول السرياليين المصريين في «المجلة الجديدة» التي أسسها سلامة موسى، ثم تولى رمسيس يونان سكرتارية تحريرها قبل أن ينتقل إليه امتياز المجلة، ثم يصبح رئيسًا لتحريرها. كذلك يوضح النص مواقف سياسية لجورج حنين لم أذكرها في كتابي. كما عرفت لأول مرة أين دُفن جورج حنين في القاهرة.

أما مجدي وهبة نفسه فقد وُلد في الإسكندرية عام 1925م، والده مراد باشا كان قاضيًا في المحكمة العليا ثم وزيرًا. جده رئيس الوزراء يوسف وهبة باشا. مع ذلك انضم مجدي للحزب الشيوعي المصري في شبابه. حصل على دبلوم الدراسات العليا في القانون الدولي من جامعة السوربون في باريس (1947م). تحول إلى الأدب الإنجليزي والتحق بكلية إكستر بجامعة أُكسفورد وحصل على درجة البكالوريوس عام 1957م. ودرَّسَ الأدب الإنجليزي في جامعة القاهرة.

شغل منصب وكيل وزارة الثقافة في مصر لمدة أربع سنوات بين عامي 1966-1970م. ترجم لنجيب محفوظ وطه حسين إلى الإنجليزية. كما ترجم أيضًا إلى العربية. أصبح معجم المصطلحات الأدبية الذي نشره عام 1974م وأعيد إصداره مرات عدة أداةً مهمة لعلماء الأدب المقارن في العالم العربي. في عام 1989م أصدر «المختار: قاموس موجز للغة الإنجليزية والعربية». تبع المختار كتاب النفيس الذي نشر بعد وفاته. ومن اتساع علم وثقافة مجدي وهبة أن طلب منه الدكتور ثروت عكاشة مراجعة ترجمته لكتاب الشاعر أوفيد «مسخ الكائنات» على الأصل اللاتيني للكتاب. وقد طُبعت الترجمة عام 1984م في هيئة الكتاب المصرية. كان عضوًا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة وعضوًا في المجمع العلمي. مات بالسرطان في لندن 1991م.

عنون مجدي مقالته: «بعض الذكريات»، وصدّرها بعبارة لجورج حنين: «هناك عصر الإيمان ومن ثم هناك عصر يشيخ فيه الإيمان».

ملحوظة: كل الصور المرفقة من أرشيف سمير غريب الخاص، باستثناء صورة مجدي وهبة، بعضها منشور في كتبه، ثم انتشرت في مطبوعات ومواقع أخرى دون ذكر المصدر طبقًا للتقليد العربي الأصيل.

المترجم

نص المقال: بعض الذكريات

«هناك عصر الإيمان ومن ثم هناك عصر يشيخ فيه الإيمان».

                                                                           جورج حنين

تعرفت إليه عام 1942م على الغداء عند أصدقاء لوالده. كنت في السابعة عشرة من عمري، كان في الثامنة والعشرين، بدأت محادثتنا ببعض الصعوبة، كما لو كنا نبحث عن الموجة التي تسمح لنا بالتحدث بجدية عن الأشياء التي بدت مهمة بالنسبة لنا. كنت في السنة الأولى في كلية الحقوق. أيقظ الجدل الشديد لزميل قديم في الدراسة(١) وعي البرجوازي السيئ، كان مبكر النضوج ومثقفًا، علمني أيضًا أن أقرأ أناتول فرانس. منحني جورج، الذي تسبقه سمعته كثوري كبير وشاعر جيد، إثارة اللقاء الأول مع رجل أصيل من الأدباء.

حاولت والدتي، الجالسة بجانبه، إبقاء المحادثة خفيفة، وسألت جورج أسئلة حول صحة والدته، وطلبت منه الموافقة على أن الطعام الذي تناولناه كان جيدًا جدًّا. بين ورق العنب المحشو والدجاج المشوي، أجاب بأدب شديد أن الأسرة مؤسسة عفا عليها الزمن، وأن فكرة قائمة الطعام لا يمكن أن تجعلنا ننسى أن غالبية المصريين يعانون الجوع. دون أن تفقد رباطة جأشها، سألته والدتي عن أخبار الحرب(٢)… ثم فجأة، لا أعرف تمامًا كيف، تحدث إلينا عن ظلام العالم الذي تعلمنا أن نعيش فيه، وعن عبثية المجازر المتبادلة وصراع الطبقات الذي سيعقب هذه الحرب، داخل مجتمعات تراجعت إلى عجز ثم إلى مستوى إمبراطوريات ممزقة في صراع مع القوميات. كان يتحدث بحزن، تتخلل كلماته الأنيقة نكات وتوريات، لم نفهمها جيدًا.

مع تناول الحلوى، غلف هذا الغداء «البرجوازي» ضباب رثائي، جعلنا نفقد الإحساس بوجودنا في القاهرة، في حضن عائلة مضيافة. أعطتنا كلمته المجنحة لمحة عن مصيرنا على نطاق عالمي، وعرضت لنا الاعتبارات التاريخية التي فصلتنا حتى عن المكان الذي كنا نتحدث فيه. دخل اسم روزا لوكسمبورغ(٣) في الحديث، وفهمنا أن التجربة الثورية لم تكن محصورة في مكان واحد، وأن مصر لم تكن إلا قطرة في محيط متغير.

روزا لوكسمبورغ! ها قد وجدنا الموجة المناسبة! استمعت إلى جورج بإدراك عميق للظرف المأساوي للفعل المختار، وضرورة الاستجابة إلى الثورة أو رفضها، الاستجابة لمفهوم الحياة نفسها. أخبرنا أنه استجاب، وبصراحة، رجاني أن أذهب لرؤيته في منزله، في الشقة التي يشغلها في بيت والديه.

منتصف مناقشة حية

بعد أيام قليلة ذهبت لرؤيته. التقيتُ هناك رمسيسَ يونان وألبير قصيري ولطف الله سليمان وسلامة موسى. وصلت في منتصف مناقشة حية إلى حد ما. كان جورج المحرك لمجلة «التطور» خلال عام 1940م. تحت إدارة أنور كامل، أصبحت منبرًا بدأ فيه جورج، بلغة عربية شديدة التنقيح، تقديم السريالية الأوربية للقارئ المصري. استغرقت المجلة أقل من عام بقليل، وكان جورج يعتز بها أداة لمواصلة تعريب مخاوف وأوهام أوروبا أثناء الحرب. كان سلامة موسى، رائد علمنة الفكر المصري، يتقدم في السن وأراد التنازل عن المجلة التي أصدرها، «المجلة الجديدة» إلى «رسول» للتقدم. هذا فسر ذلك اللقاء عند جورج. سلامة موسى، الذي كثيرًا ما قدم داروين وشو وفولتير وأوغست كونت وبرودون للقارئ المصري، كان يحلم ب «أوفكليرانج Aufklärung»(٤) الذي سيكون هو نفسه موسى مندلسون(٥)، أقلية متحرِّرة ومُحررة. تحدث عن العلم والعقلانية، عن السلمية والعالمية، عن الحضارة الشرعية وعن اللغة العربية.

رد جورج، متحدثًا عن الثورة الدائمة، عن خيانة الدعوة الثورية في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية، وتحول وجه أراغون(٦). اقتبس من مالاتيستا Malatesta(٧)، قارئًا بصوت مرتفع، نداء ماكس إيستمان(٨) في مجلة «الأممية الرابعة»(٩)، سخر بلطف من «لا باسيوناريا La Passionaria»(١٠)، وعبث عندما تحدث عن النثر الستاليني في «السؤال القومي La Question Nationale، وهو كتيب كان من المفترض أن يكون له تأثير كبير في اليسار المصري. قال كل ذلك بنبرة خفيفة، حيث اختلط الاستهزاء والسخرية بالمفارقة.

احتفظت لجورج، في ذلك اليوم، بانطباع أنه أنيق ولديه لا مبالاة ظاهرية، وقوة فريدة من نوعها في الحكم. في مواجهة هذا الحوار بين الرجل العجوز والشاب، وكلاهما كرس نفسه لظهور مجتمع، كما أوضح بيان عام 1848م(١١)، سيكون فيه التطور الحر لكل فرد هو الشرط للتطور الحر للجميع. أجرؤ على القول، جعلنا هذا الحوار لا ننطق بحرف وأذرعنا تتدلى وأفواهنا مفتوحة. مفهومان للتقدم، صِيغَا بقراءات أجنبية. كانت الحرب في إسبانيا قد انتهت للتو بخسارة مأساوية، وكانت محارق الجثث ممتلئة دائمًا في أوربا النازية، وملايين الروس لقوا حتفهم في ظل الحكم النازي. كانت القاهرة مدينة ملذات خادعة للعسكريين من الحلفاء القادمين من الصحراء الغربية، مدينة تساءل فيها ملوك منفيون عما سيكون عليه الغد، حيث كانت القومية المصرية تقعقع في صمت. كان جورج حنين وسلامة موسى يتحدثان مثل اثنين من المنشفيك(١٢) في مقهى بنيويورك!

إقبال، حيويته وجمال يومه

جاء لقائي الثالث مع جورج، بعد بضعة أشهر، في مقر دار نشر «ماس Masses»(١٣). في ذلك المساء تعرفت إلى إقبال، الإنسانة التي كانت نور حياته، «حيويته وجمال يومه». أضفى وجود بولا (إقبال) على اجتماع يساريين مصريين في هذا اللقاء امتيازًا مطلقًا، وضرورة لأصالة كاملة. ظل جورج متكتمًا في الخلفية، معطيًا الكلمة لمن ستصبح زوجته. كان يقوم بين الحين والآخر بالتدخل حيث يحاول إعادة الانفعالات النارية لأصدقائه إلى روح الدعابة والفكاهة. كانت هذه اللقاءات تعقد في شقة ضيقة، كان الجيران مجموعة من الحاخامات الشبان يقومون بتفسيرات للتوراة بأصوات منخفضة، دون أن يشُكّوا في الكلام المشتعل الذي يتوعد بتقليص المقدس حتى إسكاته. كان جورج بطرق متقنة يذكرنا بالنظام بواقعية وابتسامة. كان يخشى من الدوغماتية ولا يثق في الأيديولوجية. لم يفكر قط في مدينتي Morus و Campanella(١٤) إلا بحزن. ملأته الاسمانية(١٥) في السياسة بالرعب؛ لأنه رأى بوضوح شديد المسار الذي يقود من الفكرة السخية إلى المحرقة. لقد احتفظت له بذكرى حية ودقيقة من هذه اللقاءات لم يحجبها الزمن.

د. مجدي وهبة

كان يتأمل الحماقة بحزن على أنها ضعف، لكن تجارة الذكاء دائمًا تملؤه بالمرح. للأسف، لم نمنحه كثيرًا الفرصة للفرح. كان تفكيره الثوري شديد الدقة بالنسبة لرفاقه. لقد دفعناه على كتابة البيانات والكتيبات على طريقة باكونين(١٦)، لكن حسًّا قويًّا، لاتينيًّا تمامًا، كان يرعاه ويحفظه من مخاطر الذوق السيئ. كانت عقدة رد الفعل الجوردية Le nœud gordien(١٧) التي أردنا قطعها بالسيف مجرد مزحة عريف بالنسبة له. كان يعلم أن العنف ينتهي في كثير من الأحيان إلى ذيل السمكة وأن معظم رفاقه سينتهون إلى تقبل واقع الحياة. أما هو، فكان الشيء الرائع هو فك العقدة الجوردية!

آمن جورج حنين بالثورة، لكنه اعتقد أنها بعيدة. هذا لم يمنعه من المشاركة بنشاط كبير في التحضير للحملة الانتخابية لمرشح للبرلمان أعلن أنه المرشح الوحيد لليسار الاشتراكي(١٨). انضم مرشحنا بحسن نية إلى مشهد طريف، كان مظهره معبرًا تمامًا لجذب فضول الجماهير. أراد أن يكون ممثلًا للبروليتاريا المصرية، فارتدى ثياب عمل من ابتكاره. كان لجورج من الكياسة بحيث لا يخيب أمله؛ لأنه شكل نوعًا من حل وسط لكل الجماعات اليسارية التي أرادت المشاركة في الانتخابات، دون التخلي على الأقل عن مناخ الخلاف الذي لم يؤثر فيها.

انطلق جورج بقلب حزين في حملة كان يعرف مسبقًا أنها خاسرة، هو عدو كل أرثوذكسية لكنه لم يُرد أن يكون فارسًا وحيدًا. كان لطف الله سليمان يحاضر في الجماهير كل ليلة بقوة نموذجية. قام رمسيس يونان بترجمة مقاطع من الأممية The International(١٩) إلى العربية، وكنا نرددها بأفضل ما نستطيع بتحدّ في أوقات متأخرة من الليل في الأحياء المزرية من دائرتنا الانتخابية. كان المتفرجون يضحكون، واستيقظت العائلات العاملة لتلقي علينا وابلًا من السباب. وضعت الشرطة نهاية لهذا الفصل فصادرت منشوراتنا وانهالت علينا بالهراوات الثقيلة.

إقامة جبهة شعبية

كانت هذه إشارة إلى إدراك عدم جدوى أي عمل ليس موحدًا. بدأت المحادثات بين مختلف المنظمات لعمل مشترك وإقامة «جبهة شعبية». كان جورج يؤمن بالحاجة إلى الاتحاد، وبخاصة العمل النقابي والعمالي، لكنه كان حذرًا أيضًا من المفهوم الهيغلي الزائف عن الحزب– الشخص، والشخص الخارق. كانت الاشتراكية ذات «الوجه الإنساني» هي الموجّه له في حركته داخل مصر نفسها، لكن حلمه نقله على نحو غير محسوس تقريبًا إلى الساحة الأوسع للأممية الإنسانية والثورية. كانت المعارك السياسية القريبة بشكل أساسي من قلبه هي تلك التي تدور في الغرب، والجدلية الوحيدة التي رأى أنها صالحة هي تلك التي عارضت الفوضويين والستالينيين على نطاق عالمي. لم يتفاجأ عندما رأى العديد من رفاقه المصريين يسقطون في صفوف الحركة الستالينية.

كانوا يفعلون ما عدُّوه العمل الصادق الوحيد تجاه واقع البلد. كان جورج، ربما بإيحاء من صدق أعمق، حريصًا على عدم التحالف مع حزب جامد (monolithe). إنه لم ينسَ كلمة لينين التنبوئية، الذي كان يفكر بقلق، في نفس عام وفاته، في «التشوه البيروقراطي» للثورة. كانت الأممية تحرك حلم جورج، الأممية التي قبلت بحرية هذه الأرواح التي عدّت الاشتراكية امتدادًا للحماسة السخية لعام 1848م لجوريس(٢٠)، وكارل كراوس(٢١) وأوغست بيبل(٢٢). كان يفكر في فيينا الحمراء(٢٣)، وجيرنيكا(٢٤)، ورايخستاج كلارا زتكن(٢٥).

طلب منا جورج حنين في عام 1944م، أن نقرأ كتابًا عن التقليد التحرري في ألمانيا بعنوان In Tyrannos (الشعار الجميل لأولريش فون هيتن)(٢٦). كان الكتاب عملًا جماعيًّا كتبه لاجِئون ألمان فروا من النازية، أشاد بالنزعة الإنسانية الألمانية في وقت لم يكن من المألوف فيه بالتأكيد التحدث عن ألمانيا إلا بعبارات ازدراء. جورج شجع بولا على اختيار مختارات مع تعليق على التقليد الإنساني الألماني، كانت بعنوان: «فضيلة ألمانيا»، نشرتها مطبوعات ماس.

من الآن فصاعدًا، كانت معركته في مكان آخر، في ساحة عالم فيكتور سيرج(٢٧)، وجيمس تي فاريل(٢٨)، وشارل بلينييه(٢٩) وهنري كالي(٣٠)… وكل أولئك الذين تركوه من أجل الأرض، للحوار مع القومية، بدؤوا حجهم من المقاومة السرية إلى السجون.

بعد خمس سنوات عدت إلى مصر من إقامة طويلة في إنجلترا. وجدت جورج وبولا وقد تخلصا من الإحساس بالتزامهما بالعمل السياسي، يستعدان للزواج، والمشاركة الكاملة في حركة الأفكار في العالم. كانا يذهبان كل صيف إلى باريس، سُرة هذا الجسد الفكري الذي امتد من أثينا إلى نيويورك. كانا يقيمان في فندق ماديسون، بالقرب من المقاهي الأدبية والمكتبات والمسارح. في القاهرة كنا كل مساء تقريبًا، نتناول العشاء معًا في مطعم Savile، حيث تجري المناقشة حول طبق من الكُلى بنبيذ مادير Madère في جو مبهج، تعززه روح الدعابة لدى جورج. هناك التقينا بماري كافاديا(٣١) ومنير حافظ(٣٢) وإميل سيمون(٣٣)، وأحيانًا الرفاق القدامى في العمل السياسي، هادئين يعانون، غالبًا ما تعذبهم مشاكل عاطفية.

اعتدنا الذهاب إلى مطعم «الاتحاد»؛ لأنه كانت هناك أوركسترا «بوزوكي Bouzouki»(٣٤)، كانت تدعو الشباب اليوناني في المدينة للانطلاق في الرقص، مثل نفوس يعذبها بحث باطني صوفي. كنا نراقبهم أثناء شرب الريتسينا Retsina، ونحن نستمع أيضًا إلى خطب أولئك الذين انضموا إلى طاولتنا.

شرح لنا روبرت ليدل، الروائي الإنجليزي، أعمال آيفي كومبتون- بورنيت(٣٥)، علّق إيدي جاتورن- هاردي(٣٦) على كفافي(٣٧)، فيما تحدث منير حافظ عن التصوف الإسلامي، وتحدثت ماري عن تقبل «الإشعاعات الكهربية وكشف الينابيع»la radiesthésie. رد جورج بقراءة صفحات كاملة من كتابات مدرسة الباتافيزياء(٣٨)! ضحكنا، لكن كانت هناك كهرباء في الهواء. كان من المقرر طرد روبرت وإدي من البلد اللذين أحباه، لدرجة أن أيرلنديًّا عجوزًا متعاطفًا، وأستاذ اللغة الإنجليزية التجارية وملحنًا لرقصة التانغو الأرجنتينية، كان سيهلك في حريق نادي سباق الخيل، وتوفيت ماري بعد مدة وجيزة على الرغم من بندولها، وذهب منير إلى فرنسا وألبير قصيري أيضًا… كان هناك شيء فاسد في المملكة(٣٩)…

بعد ربع قرن، حدث التغيير. تحولت الهجرة الجماعية إلى منفى، وتغيرت الوجوه في المقاهي، وتحولت المقاهي نفسها إلى أطواق، وأصبحت الفرنسية لغة يتعلمها المرء في معمل سمع بصري، وتأسست الأفكار على قالب عربي، وأخذت القومية المنتصرة مكانها في العالم، وذهبتُ إلى المقبرة المدنية الدولية لأستجمع نفسي أمام قبر جورج. عبر أشجار طريق غير ممهد يصل المرء إلى مدفن عائلته. اختار جميع أعضائها أن يرقدوا بين أولئك الذين لم يقبلوا قط أصفاد الأرثوذكسية المفروضة. عند مدخل هذه المقبرة الرائعة، توجد لوحة لذكرى جيوردانو برونو Giordano Bruno(٤٠)، ولوحة أخرى لذكرى جوزيبي غاريبالدي Giuseppe Garibaldi(٤١). تحت العلامة المزدوجة للحرية والإنسانية، هنا يرقد أولئك الذين، مثل جورج، كانوا منفتحين على كل جسارات التأمل وبَجّلوا القدرة المطلقة للحب، قانون العالم.


الهوامش:

(١) يقصد جورج حنين الذي درس الحقوق أيضًا، ضمن ما درس، في جامعة السوربون في باريس.

(٢) تقصد الحرب العالمية الثانية التي كانت مستعرة.

(٣) روزالكسمبورغ Rosa Luxemburg (1871 – 1919م) فيلسوفة ماركسية ألمانية من أصول بولندية يهودية.

(٤) أوفكليرانج Aufklärung تعبير ألماني يعني التنوير، فعل التنوير أو حالة التنوير.

(٥) موسى مندلسون Moses (Moïse) Mendelssohn (1729- 1786م) فيلسوف ألماني من حركة التنوير وجد المؤلف الموسيقي فيلكس مندلسون.

(٦) لوي أراجون Louis Aragon (1897- 1982م) شاعر فرنسي اشترك مع أندريه بريتون في تأسيس الحركة السريالية الفرنسية، ثم انفصل عنها بعد انتمائه للحزب الشيوعي الفرنسي.

(٧) إريكو مالاتيستا Errico Malatesta (1853- 1932) فوضوي إيطالي واشتراكي ثوري. قضى معظم حياته في المنفى، كما قضى أكثر من عشر سنوات في السجن.

(٨) ماكس إيستمان Max Eastman (1883- 1969م) كاتب أميركي كان داعمًا للتقدمية قبل أن يتحول عنها ويعادي الاشتراكية.

(٩) الأممية الرابعة The Fourth International منظمة اشتراكية دولية أسسها التروتسكيون، أتباع ليون تروتسكي، في فرنسا عام 1938م بعد طرد تروتسكي من الاتحاد السوفييتي.

(١٠) لا باسيوناريا La Passionaria هو اسم الشهرة واسمها الحقيقي إيزيدورا جوميز Isidora Dolores Ibárruri (1895– 1989م) كانت مقاتلة مع الجمهوريين في الحرب الأهلية الإسبانية، أصبحت أمينًا عامًّا للحزب الشيوعي الإسباني فيما بعد.

(١١) بيان عام 1848م هو بيان الحزب الشيوعي أصدره كارل ماركس وفريدريك إنغلز في لندن في 21 فبراير من ذلك العام.

(١٢) المنشفيك أو الأقلية كانوا أحد الفصائل الثلاثة في الحركة الاشتراكية الروسية عند نشوئها، كان البلشفيك هم الأغلبية وقد تزعمهم لينين.

(١٣) دار نشر ماس Masses أسسها جورج حنين في المبنى نفسه الذي كانت فيه المجلة الجديدة.

(١٤) مدن مثالية قام بتخيلها Thomas Morus توماس موريس أو مور (1478– 1535م) كاتب إنجليزي، وتوماسو كامبانيللا tommaso Campanella (1586– 1639م) فيلسوف إيطالي.

(١٥) الاسمائية Nominalism في الميتافيزيقيا، الاسمية هي مذهب فلسفي يقول: إن المسلمات والأشياء المجردة لا توجد في الواقع بخلاف كونها مجرد أسماء أو تسميات.

(١٦) باكونين Mikhail Bakunin (1814– 1876م) فوضوي ثوري روسي ومؤسس الفوضوية الجماعية.

(١٧) nœud gordien تشير «العقدة الجوردية» إلى مشكلة غير قابلة للحل عمليًّا. هذا التعبير يستند إلى قصة الملك جوردياس ملك فريجيا في اليونان القديمة، الذي صنع عقدة معقدة للغاية. هناك حكاية أسطورية إلى حد ما عن الإسكندر الأكبر تقول: إنه قطع العقدة الجوردية بسيفه. هذا ما رمى إليه مجدي وهبة هنا.

(١٨) يقصد هنا فتحي الرملي والد الكاتب المسرحي لينين الرملي. كتب الدكتور لويس عوض في مقالة له نشرها في كتاب «تحية لجورج حنين» وصفًا دقيقًا لمظاهرة انتخابية شارك فيها مؤيدة للرملي.

(١٩) نشيد الأممية The International كتبه الشاعر الفرنسي التقدمي أوجين بوتييه تخليدًا لذكرى كومونة باريس التي تأسست في مارس1871م. تُرجِم هذا النشيد إلى الروسية، وأصبح النشيد الوطني للاتحاد السوفييتي بين عامي 1917 و1944م.

(٢٠) معروف باسم جون جوريس Jean Jaurès (1859- 1914م) كان زعيمًا اشتراكيًّا فرنسيًّا.

(٢١) كارل كراوس Karl Kraus (1874 – 1936م) كاتب مسرحي وشاعر نمساوي معادٍ للصهيونية.

(٢٢) أوغست بيبل August Bebel (1840 – 1913م) كاتب وسياسي اشتراكي ألماني.

(٢٣) فيينا الحمراء كان الاسم العامي لعاصمة النمسا بين عامي 1918 و1934م، عندما احتفظ حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي النمساوي (SDAP) بسيطرة سياسية أحادية الجانب تقريبًا على فيينا، وعلى النمسا كلها لمدة قصيرة.

(٢٤) جيرنيكا Guernica لوحة بيكاسو الجدارية الشهيرة.

(٢٥) كلارا زتكن Clara Josephine Zetkin (1857- 1933م) سياسية ألمانية مثلت الحزب الشيوعي الألماني في البرلمان (الرايخستاج) في عهد جمهورية فايمار من 1920 إلى 1933م.

(٢٦) أولريش فون هيتن Ulrich von Hutten (1488– 1523م) فارس وشاعر وكاتب ساخر ألماني، أصبح فيما بعد من أتباع مارتن لوثر ومصلحًا بروتستانتيًّا.

(٢٧) فيكتور سيرج Victor Serge (1890– 1947م) كان ماركسيًّا ثوريًّا روسيًّا، وروائيًّا، وشاعرًا، ومؤرخًا. كما كان في الأصل فوضويًّا.

(٢٨) جيمس فاريلل James Thomas Farrell (1904– 1979م) روائي أميركي وكاتب قصة قصيرة معروف بصوره الواقعية للطبقة الأيرلندية المتوسطة في شيكاغو، المستمدة من تجاربه الخاصة.

(٢٩) شارل بلينييه Charles Plisnier (1896– 1952م) يساري بلجيكي، روائي وكاتب قصة قصيرة، شاعر وكاتب مقالات معروف بكتابته التحليلية المكثفة.

(٣٠) هنري كاليه Henri Calet (1904– 1956م) كاتب وصحفي وإذاعي فرنسي كانت تربطه بجورج حنين صداقة شخصية ولهم مراسلات متبادلة، ترجمت بعض منها في كتابي.

(٣١) ماري كافاديا Marie Cavadia (1901– 1970م) شاعرة وكاتبة رومانية من أصل يوناني، عاشت في مصر وانضمت لجماعة الفن والحرية، كان لديها صالون أدبي في القاهرة وتزوجت من الوزير ممدوح رياض.

(٣٢) منير حافظ (1911- 1998م) كاتب مصري بالفرنسية، من أعضاء الفن والحرية، عاش معظم سنوات حياته في باريس ومات فيها.

(٣٣) إميل سيمون صحافي مصري كان من جماعة الفن والحرية.

(٣٤) بوزوكي bouzouki، آلة موسيقية وترية شعبية يونانية.

(٣٥) آيفي كومبتون- بورنيت Ivy Compton-Burnett (1884– 1969م) روائية إنجليزية اهتمت بصورة خاصة بتشريح العلاقات الشخصية في الطبقة الوسطى في عصر الملك إدوار السابع.

(٣٦) إيدي جاتورن- هاردي Edward Gathorne-Hardy  (1901- 1978م) كان اشتراكيًّا بريطانيًّا بوهيميًّا.

(٣٧) كونستانتين كافافي Constantine Peter Cavafy (1863– 1933م) شاعر يوناني معروف في مصر عاش ومات في الإسكندرية.

(٣٨) الباتافيزياء Pataphysique علم الحلول الخيالية. تأسست كلية الباتافيزياء في 11 مايو 1948م في باريس. ابتكر هذا المصطلح الكاتب الفرنسي الفريد جاري. هذا يعني أن اللقاء الذي تحدث عنه مجدي وهبة هنا في المطعم مع جورج حنين وصحبه تم بعد هذا التاريخ.

(٣٩) يقصد المملكة المصرية حينذاك.

(٤٠) جيوردانو برونو Giordano Bruno (1548– 1600م) الفيلسوف وعالم الفلك وعالم الرياضيات وعالم السحر والتنجيم الإيطالي.

(٤١) جيوزيبي جاريبالدي Giuseppe Maria Garibaldi (1807– 1882م) جنرال إيطالي ثوري جمهوري. شارك في توحيد إيطاليا.