المقالات الأخيرة

“لقاء مارس 02: تواشجات” دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

“لقاء مارس 02: تواشجات”

دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

فيما يشبه الالتزام الأخلاقي والجمالي، تبنى لقاء مارس السنوي، الذي تنظمه مؤسسة الشارقة للفنون، في دورته الجديدة التي انتهت أنشطتها قبل أيام، طيفًا واسعًا من القضايا والموضوعات والنقاشات وعروض الأداء، التي لئن اختلفت وتعددت وتنوعت، إلا أنها تذهب كلها إلى منطقة واحدة،...

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

جورج صليبا: علم الفلك العربي نقد بَطْلُمْيوس وبنى نظرياته على التجربة

ودور «بيت الحكمة» الثقافي لا تؤكده المصادر

بواسطة | مارس 1, 2023 | حوار

يُعد الأكاديمي اللبناني ومؤرخ العلوم جورج صليبا من أكثر المؤرخين اهتمامًا بتاريخ وتطور العلوم الإسلامية، خصوصًا علم الفلك، فنشر أكثر من ثلاثة عشر كتابًا باللغة الإنجليزية، ونحو 200 مقال في المجلات الأكاديمية الدولية في مجال تخصصه. من بين كتبه: «العلوم الإسلامية وقيام النهضة الأوربية»، «الفكر العلمي العربي، نشأته وتطوره»، «تاريخ علم الفلك العربي، مؤيد الدين العرضي (المتوفى سنة 664هـ/ 1266م): كتاب الهيئة» (تحقيق وتقديم). هو أيضًا المدير المؤسس لمركز فاروق جبر للعلوم والفلسفة العربية الإسلامية بالجامعة الأميركية في بيروت، وأستاذ فخري للغة العربية والعلوم الإسلامية بجامعة كولومبيا في نيويورك. شغل، من بين مناصب أخرى، منصب باحث أول متميز في «مركز جون كلوج» (John Kluge Center) بمكتبة الكونغرس (2005-2006م) وباحث في مركز كارنيغي (2009-2010م). حصل صليبا على العديد من الجوائز، من بينها: جائزة تاريخ العلوم من «أكاديمية العالم الثالث للعلوم» (Third World Academy of Science) عام 1993م، و«جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي» عام 1996م.

يخصّ صليبا مجلة «الفيصل» بحوار مفصل يدور حول محاور عدة: بدايات علم الفلك العربي والتصويبات على علم الفلك اليوناني وتأثيره في أوربا، العلاقة بين انطلاق حركة الترجمة زمن الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان وتأسيس الدولة، الأثر الفارسي في حركة الإنتاج في العلوم الإسلامية ولا سيما الفلسفة، اللغة السريانية وتفاعلها مع البيئة الحضارية والثقافية والنصية للإسلام، وأخيرًا، وليس آخرًا، اللغة العربية وجدلية الإبداع والتقدم.

وفيما يأتي تفاصيل الحوار:

«المجسطي».. التصويبات وبناء علم الفلك العربي

  شكل كتابك «العلوم الإسلامية وقيام النهضة الأوربية» محطة مهمة في مسيرتك التأليفية والعلمية، ويمكن النظر إليه بوصفه استعادة لموقع العلوم الإسلامية في علم الفلك والرياضيات، وقد كشفتَ فيه كيف أن علماء العرب كانوا بناة علوم وفككوا خلاصات الرياضي وعالم الفلك اليوناني بَطْلُمْيوس ونقدوها، فلم يكتفوا بما قدمته المصادر اليونانية في هذا المجال، بل طوّروها، ووضعوا نظريات فلكية خاصة بهم. هل يمكن أن تشرح لنا الدور الذي اضطلع به العلماء العرب المبدعون؟

  عندما تعرف العلماء العرب على علم الفلك اليوناني، أهم كتاب كُتب في تلك المدة، هو كتاب «المجسطي» لبَطْلُمْيوس وهذا الكتاب صدر نحو سنة 150 ميلادية وتُرجم للعربية لأول مرة في القرن التاسع الميلادي في بغداد بعد مرور 700 سنة تقريبًا. إن أي ظاهرة علمية مهما كانت دقيقة في تسجيل نتائجها خصوصًا الظواهر مثل حركات الكواكب تخضع لمتغيرات الزمن. السؤال: كيف اهتدى العرب إلى المصادر اليونانية عن علم الفلك؟ الترجمات الأولى التي أتت من اليونانية إلى العربية، خصوصًا الكتب المعقدة التي هي كتب تقنية مثل كتاب المجسطي، الذي تُرجم ترجمات مختلفة لم تعد موجودة، ولكن الترجمة التي نعرفها ولدينا نسخة من مخطوطتها هي ترجمها الحجاج بن مطر التي أنجزها نحو829م أواخر حقبة الخليفة المأمون، والمخطوطة الآن موجودة في جامعة لايدن. نلحظ أن الحجاج عندما كان يقرأ النص اليوناني الذي ترجمه وجد أخطاء بالنص الأصلي، فصحّح الأرقامَ في النسخة المترجمة، وهذا يعني أن النص العربي المترجم أدق من اليوناني. فالحجاج مثلًا عندما نظر في كتاب المجسطي وجد أن مقياس دورة الشهر القمري 29 يومًا و31 على ستين من اليوم، ولكن الحجاج كرر الحساب فوجد أن ثمة أخطاء فصححها.

تعرَّف الكندي (ت: 873م) على هذه الترجمة فكان كلما قرأ في كتاب بَطْلُمْيوس يعود لنص الحجاج المترجم. لم تكن هذه النسخة الوحيدة فكتاب «الفهرست» لابن النديم يشير إلى وجود أربع ترجمات إلى خمس ترجمات، هناك ترجمات قديمة عفا عليها الزمن. لا نعرف عن الحجاج أي شيء إطلاقًا: أين تعلم؟ وماذا قرأ؟ لا نعرف حتى مكتبته. ولكن عندما نقرأ النص المترجم فهو مكتوب بلغة عربية سليمة وبألفاظ تقنية كاملة؛ وهنا نتساءل من أين أتى بهذه الألفاظ الدقيقة في صوغ نص جديد؟

قام بنو موسى وهم: محمد وأحمد والحسن بن محمد بن موسى بن شاكر، وهم رياضيون وفلكيون نحو سنة 835م، بالتعليق وتصويب ما جاء في كتاب المجسطي. وقبل استكمال هذه الفكرة أشير إلى أن موسى بن شاكر والدهم كان من قُطّاع الطرق، والمأمون حين أتى من خراسان لكي ينزع أخاه عن الحكم ويتولى السلطة جلبه معه، وأبناؤه هؤلاء كانوا في منتهى الذكاء، وقبل وفاة والدهم طلب من المأمون الاهتمام بهم، فوضع لهم معلمين، فتعلموا الرياضيات والعلوم ودرسوا على أبي معشر البلخي وغيره.

عندما بدأ بنو موسى قراءة المجسطي وجدوا أخطاء أيضًا في النص اليوناني وتُوبِعَ العمل بعد حقبة المأمون؛ الذي انشغل في تثبيت سلطته، والشائع أنه كان يحمل الحضارة الإسلامية على عاتقه، لكن الوقائع التاريخية تفيدنا بأن معظم الإنتاج العلمي لم يكن في مدة حكمه. حتى بيت الحكمة والأسطورة التي أحيطت به، والكتب التي وجدت فيه ودوره الثقافي، يطرح تساؤلات كثيرة، هناك كلام في المصادر عنه، ولكن لم نصل إلى أي مصدر أو كتاب كُتب عليه، أن هذا الكتاب كُتب في بيت الحكمة. نعرف أن فلانًا يُروَى أنه كان له علاقة بصاحب بيت الحكمة. وصديقي ديمتري غوتاس (Dimitri Gutas) في كتابه (Greek Thought, Arabic Culture) «الفكر اليوناني، الثقافة العربية»، يؤكد أنه لم يكن هناك بيت الحكمة بالمعنى الثقافي المتداول والشائع، وإنما كان هناك خزائن يضعون فيها دواوين الدولة، وهي لا تحتوي على ترجمات أو أناس يعلمون في الترجمة وأناس علماء.

أهم المترجمين عن اليونانية

وبالعودة إلى بني موسى فهولاء الإخوة تعرفوا إلى حُنَين بن إسحاق (ت: 873م) أهم المترجمين عن اليونانية، وحين تُوفي المأمون كان عمره أقل من خمس سنوات، أي نشأ في زمن المتوكل، حيث يقول لنا المؤرخون: إن في مدة حكمه عرفت «عودة أهل السنة» بعد أن أفرج عن ابن حنبل الذي سجنه المأمون، وطلب توقيف النقاش في القضايا العقدية؛ لأنها تُشتّت المؤمن، لماذا أذكر هذا؟ لأننا نجد أن غالبية الترجمات من اليونانية، التي قام بها المترجمون مثل: حُنَيْن بن إسحاق وقسطا بن لوقا، كانت في زمن المتوكل.

أسس بنو موسى على تصحيح الحجاج واكتشفوا أن هناك أخطاء في كوزمولوجية مهمة، يقولون مثلًا: نحن نقرأ في كتاب بَطْلُمْيوس أن عدد الأفلاك حولنا يصل إلى الفلك الثامن الذي فيه النجوم الثابتة، هذه الكواكب الثابتة لها الحركة نفسها، وهنا يدخل المنطق اليوناني الذي يقول: إن كل جزء يتحرك يجب أن يكون له محرك.

يقول بنو موسى: إذا كان الفلك الثامن هو المسؤول عن حركة النجوم الثابتة التي تنتقل درجة كل مئة سنة، كما قال بَطْلُمْيوس، ونقل عنه أحمد بن كثير الفرغاني، فهناك حركة ثانية مسؤولة عنها هي الحركة اليومية، وهي تشمل كل الأفلاك، مما يعني أن هناك فلكين: فلك الحركة اليومية، والثاني يحرك الكواكب بحركة النجوم الثابتة. واستنتج محمد بن موسى أن بَطْلُمْيوس يقول لنا: إن لدينا فلكين، فلكًا للكواكب الثابتة، وفلكًا للحركة اليومية، ويتقاسمان المركز نفسه، وهذا مستحيل من الناحية الفيزيقية؛ أي من الناحية الكوزمولوجية؛ لأن أرسطو يقول: إن المادة التي تتكون منها الأفلاك هي مادة الأثير، والأثير بسيط مثل المادة المجردة التي يتكون منها العالم وهي: الماء والهواء والنار والتراب.

حاول محمد بن موسى أن يفسّر حركة الكواكب البطيئة والحركة اليومية، فرأى أن الكواكب إذا شاركت في المركز يعني أن هناك حركة تجرّ الأخرى، وهذا لا يجوز لأن هذه العناصر ليس فيها ثقل أو خفة، فيقول محمد: من الناحية الفيزيقية لا يجوز أن يكون هناك فلك تاسع بعد الفلك الثامن الذي هو للأفلاك الثابتة.

كل هذا كان في بداية الترجمات العربية. هذا التعرض للفكر اليوناني لم يأتِ بسهولة، وإنما عبر النقاش، ومن حسن حظنا أن لدينا المخطوطات التي تضمنت النقاشات، ومعظمها أصبح منشورًا ما عدا كتاب الحجاج؛ لأن نشره صعب وتحقيقه كذلك بسبب تعدد الترجمات، فلدينا ترجمة لإسحاق بن حُنين، وترجمة لثابت بن قرة، ولذلك من الصعب تحقيقه، وسبق أن كتبت عن هذا الموضوع، وطرحت فكرة: لماذا لا يكون عندنا «المجسطي العربي» الذي شارك في قراءة وترجمة ونقد كتاب المجسطي، لكي نتعرف إلى الترجمات وحركة النقد والنقاشات والتعقيبات والنظريات الجديدة.

لقد بنى علم الفلك العربي نظرياته في حقبة ما بين المأمون والمتوكل، ونقد أفكار بَطْلُمْيوس التي من بينها على سبيل المثال، أن نجم قلب الأسد يُفترض أن يكون قد تحرك منذ أيام بَطْلُمْيوس نحو 7 درجات، ووجد الفلكيون العرب أنه تحرك نحو 13 درجة. إذن كل الأرصاد التي أخذناها من اليونانية فيها مشكلات يجب أن نرصدها من جديد فذهبوا إلى المصادر الأصيلة التي بُني عليها علم الفلك اليوناني وأعادوا بناءها على نتائج أرصادهم. رأى الفلكيون العرب أن بَطْلُمْيوس لم يخطئ فحسب، بل أعطانا أرقامًا أو تقديرات غير صحيحة، ولا سيما في حسابه حول المنقلب الصيفي والشتوي.

تحديد الأخطاء وبديلها

باختصار، أهم ما فعله علم الفلك العربي زمن المأمون والمتوكل أن علماء الفلك حددوا الأخطاء وبديلها. الفكرة المحورية التي ابتدعها العلماء العرب هي فكرة ضرورة التوافق بين القوانين والتصورات الرياضية التي تستخدم لتفسير الظواهر الطبيعية مثل حركات الكواكب وغيرها، وتطابق هذه القوانين والتصورات على الظواهر المشاهدة فعلًا في الظواهر الطبيعية. أي لا يجوز أن نتصور، على سبيل المثال، حركات تحدثها حركات كرات فلكية حيث لا يوجد مثل هذه الكرات بالفعل. للتمثيل على ذلك لا يمكن أن يسمح العالم بوجود كرات تدور بحركات دورية منتظمة حول محاور لا تمر بمراكز هذه الكرات كما تصور الفلك اليوناني خطأ.

يجب أن يُبنى العلم على التجربة والملاحظة فأبو حامد الغزالي عندما كتب كتابين: الأول «مقاصد الفلاسفة» شرح فيه بكل وضوح وإخلاص ماذا كانت تقوله الفلسفة اليونانية، وعاد في الكتاب الثاني «تهافت الفلاسفة» فردّ على أخطاء الفلاسفة في فهم مغزى الفلسفة، ورأى أنه كان عليهم الالتزام بالمنطق الفلسفي الذي تعلموه من اليونان، ويُطَبَّق، ولا يقصد الفلسفة عامة، وإنما ابن سينا والفارابي والفلاسفة العرب الذين ادعوا أنهم ينقلون عن الفلسفة اليونانية.

الغزالي وابن تيمية.. قراءة عكس التيار

  تحدثتم عن الغزالي وكتابيه «مقاصد الفلاسفة» و«تهافت الفلاسفة»؛ لماذا صوره بعضٌ بأنه معادٍ للفلسفة؟

  كان الغزالي (ت: 1111م) من أفضل الفلاسفة المسلمين؛ لأنه قرأ ما كتبه ابن سينا والفارابي والكندي الذين فسروا الفلسفة اليونانية وكيفية تطبيقها في مجال التراث العربي. وجد أنهم يتبعون الفلسفة اليونانية بشكل أعمى بأخطائها، مثلًا: عندما يقول الغزالي إذا أردتم أن تضعوا النتائج العلمية بناءً على الاختبار، تقولون إذا قربنا قطنة من النار تحترق؛ ونقول عندها: إن النار تحرق القطنة وتكررون ذلك، فتصلون إلى نتيجة بأن النار بطبيعتها تحرق القطنة؛ لماذا لا تتساءلون بأننا لا يمكننا امتحان كل الحالات، ففي جوهر العلم لا يمكن أن نصل إلى حقائق مطلقة، وهذا ما قاله لاحقًا ابن تيمية (1328م) الذي قرأ الغزالي بشكل وثيق، وابن تيمية متهم بأنه حنبلي وأنه ارتد إلى الدين أكثر من الغزالي.

ناقش ابن تيمية الغزالي في كتابه مقاصد الفلاسفة، وجرى هذا النقاش بين فقهاء وفلاسفة ما بين القرنين الحادي عشر والثاني عشر في قلب الحضارة الإسلامية. في رأيي ما قام به الغزالي وابن تيمية، المصنفان بأنهما من حماة الدين والإسلام، يؤسس لــ«فلسفة العلم»؛ لذا فاتهام الغزالي بأن كتابه «إحياء علوم الدين» هو حركة ارتداد إلى الوراء وأنه أوقف حركة المعتزلة وتأثير الفكر اليوناني، يحتاج إلى مزيد من الدقة. كانت غاية الغزالي القول: إن الفكر الفلسفي لا يمكن الاستغناء عنه وهدفه تصويب الفلسفة؛ لأن تحكيم العقل جزء من الإيمان بالشريعة، وهذا ما قاله ابن تيمية الذي كتب كتابًا شهيرًا هو «درء تعارض العقل والنقل».

  أرجعت بداية حركة النقل أو الترجمة إلى عهد الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان، اعتمادًا على كتاب «الفهرست» لابن النديم محمد بن إسحاق الذي أعاد ظهور العلوم عند العرب، إلى الاحتياجات الإدارية في الدولة في عهد عبدالملك؛ أي أن العوامل الاقتصادية والاجتماعية هي التي قادت حركة الترجمة. هل يمكن أن توسع لنا هذا الطرح عبر تحديد العلاقة بين تطور مؤسسات الدولة والعلوم في الحضارة الإسلامية؟

  ابن النديم من أفضل المؤرخين للعلوم في التاريخ الإنساني. يقول لنا: إنه حينما بدأت الترجمة بدأت في حركة الديوان لأن الإدارة الإسلامية التي استلمت أنظمة الإمبراطوريات القديمة مثل الإمبراطورية الساسانية والبيزنطية، استلمت أيضًا المنظومة الاقتصادية كما هي، فالذين عملوا في الديوان، لم يتغيروا، وهذا من خصائص الفتوحات الإسلامية الأولى التي تركت الحياة العادية كما هي، وأجرت إصلاحات، على جباية الضرائب وتحويلها من الإمبراطوريات السابقة إلى الدولة العربية.

آنذاك وجد عبدالملك بن مروان (ت: 705م) أن التقارير عن الضرائب والغلال وبيت المال التي تأتيه من الشرق مكتوبة بالفارسية، ومن الغرب باليونانية عبر سرجون بن منصور، فبرزت الحاجة إلى تعريب الدواوين. هنا ظهرت بوادر الفكرة عند الحجاج بن يوسف الثقفي (ت: 714م)، بعدما طلب منه عبدالملك ضبط اضطرابات في العراق، وبعد أن تولى الحكم في واسط، وكُلِّف في إدارة شؤون الدولة، اكتشف أن ثمة موظفين يقدمون تقارير بالفارسية لم يفهمها فطلب منهم ترجمتها. وهكذا عبر ترجمة الدواوين أو تعريبها جرى تثبيت أركان الدولة وسلطتها، وترجم الديوان من الفارسية إلى العربية، وهو ما يؤشر إلى أن الحركة الاقتصادية أدت إلى إطلاق حركة الترجمة، أي أن الترجمات بدأت بالأمور الديوانية مثل: المساحة والحسابات وانتقلت إلى الترجمات الأخرى.

جدير بالذكر أنه في أوائل الدولة العباسية، زمن المنصور، كان هناك عائلة بختيشوع، التي تعني بخت يشوع، أي الحظ الذي يأتي من المسيح. هذه العائلة المسيحية الفارسية، عملت في الديوان العباسي وجاء منها عدد من الأطباء وبقيت مدة مئة عام تقريبًا؛ فمنذ أيام المنصور حتى المتوكل كان طبيب الخليفة من عائلة بختيشوع، وهذا يعني أن الفرس انتقلوا في الدولة العربية من الدواوين إلى مرتبة أعلى، فأصبحوا أطباء وندماء للخليفة.

باختصار، كان ابن النديم مؤرخًا للعلوم من الطراز الأول؛ إذ إنه بحث عن الدوافع المؤدية إلى حركة الترجمة، ولم يكن يتصور ترجمة تحدث بفعل التواصل بين الحضارات أو الاحتكاك الثقافي، كما كان يتصور المؤرخون الباقون. حاول ابن النديم ربط هذه الحركة بمتطلبات قيام الدولة الحديثة وقتها. ومن هذا المنظار أظن أن ابن النديم حاول تفسير نشأة العلوم بالمتطلبات السياسية والاقتصادية، وفسر حركة الترجمة بكونها حاجة اجتماعية واقتصادية أكثر من كونها رغبة خليفة أو وزير، يتمنى حدوث مثل تلك الترجمات؛ لذلك يقول في غضون سرد آرائه حول ترجمة الديوان: «وهذا كان أول نقل من لغة إلى أخرى».

  أشرت في كتابك «العلوم الإسلامية وقيام النهضة الأوربية» إلى أن موسى بن ميمون (ميمونيدس) كتب أعماله الفلسفية والطبية بالعربية، بينما احتفظ بالعبرية للإنتاج الديني والقانوني. هل يمكن أن تُفسّر لنا السبب؟

  لم يكن ابن ميمون الوحيد الذي كتب بالعربية كتبًا فلسفية وعلمية، بل كان مثل كثيرين من العلماء والفلاسفة اليهود الذين كانت ثقافتهم العلمية والفلسفية، تستخدم العربية؛ لأنها في زمنهم كانت لغة الفلسفة والعلوم من دون منازع، وكانت هي اللغة العلمية والفلسفية السائدة في جميع البقاع التي دانت بنمط الحياة الإسلامية التي تبنّت نحت المفاهيم العلمية والفلسفية، بلغة يفهمها المتخصصون وليست اللغة التي كانوا يتكلمون بها بالضرورة في حياتهم العادية أو مع عائلاتهم داخل منازلهم.

كان للجالية اليهودية دور علمي في الحضارة الإسلامية، ولم يضطهد اليهود بل على العكس عملوا في الديوان أو أطباء. في المدة التي نشأ فيها ابن ميمون بين القرن العاشر والحادي عشر الميلادييْنِ كانت الثقافة اليهودية، هي الثقافة العربية، وكانت كل العلوم تُكتب في العربية، كان هناك تفاسير للقرآن بالعربية، لكن العلوم الدينية مجال، والعلوم النقلية مجال آخر؛ لذا كتب ابن ميمون العلوم العقلية بالعربية وباقي الكتب الدينية والفقهية بالعبرية سوى كتابه «دلالة الحائرين».

عندما كان ابن ميمون يكتب العلوم العقلية كان يكتبها بالعربية؛ لأن الذين يريدون أن يناقشوه يتحدثون العربية ولا سيما أنه منذ تعريب الدواوين أيام عبدالملك بن مروان أصبحت اللغة العربية هي اللغة السائدة، وكما يقول ابن خلدون: لغة الدولة هي الشائعة.

العلوم الإسلامية في فضائها الحضاري

  ما أهم الإنجازات التي قدمها علم الفلك العربي في الحضارة الإسلامية؟ وما تأثيره في علم الفلك في أوربا؟

  أهم ما قدمه علم الفلك الإسلامي/ العربي هو المنهجية العلمية التي اعتمدت التوافق بين العلوم النظرية والمشاهدة بالعين. هذا المنحى أطلق عليه العلماء تعبير الاعتبار، ويمكن الإشارة إليه اليوم بالمنحى التجريبي للعلوم، وليس منحى التصور والتخيل وافتراض ما يجب أن يكون عوضًا عمّا هو كائن حقًّا.

نعطي مثالًا تطبيقيًّا على ذلك: شخص مثل الفلكي ابن الشاطر المتوفى سنة 1375م كان مُوَقِّتًا في الجامع الأموي في دمشق، شكّك في نظرية بَطْلُمْيوس اليوناني حول أن القمر حين يكون عمره أسبوعًا يكون حجمه مضاعفًا عندما يكون بدر، وقد أكد ابن الشاطر أنه لم ير شيئًا مماثلًا بالمشاهدة، وهو ما يعني أن علم الفلك اليوناني لم يُخضع نظرياته للعِيَان.

  كيف يمكن تعريف «العلوم الإسلامية» في السياق الكلاسيكي وفي إطار عملكم عليها؟ وهل تسمية «الإسلامية» التي اكتسبتها هذه العلوم أتت بالمعنى الحضاري أو الديني؟

  التعبير «إسلامية» كما أستخدمه في كتاباتي هو تعبير حضاري محض، وأستعيض عنه أحيانًا بتعبير «العلوم العربية» وفي كلتا الحالتين أحاول تجريد هذه التعابير من محتواها العرقي والديني، وأشدد على أن كثيرين ممن أنتجوا علومًا وفلسفة في الحضارة الإسلامية، لم يكونوا عربًا ولا مسلمين. وابن ميمون لم يكن سوى واحد منهم.

  انشغلت في مسيرتك التأليفية في التأريخ للعلوم الإسلامية، ما الذي دفعك باتجاه هذا الحقل؟ وما المنهج الذي اعتمدته؟ وما أبرز الصعوبات التي واجهتك؟

  عندما تخرجت من الجامعة الأميركية في بيروت في شهادة الرياضيات في الستينيات من القرن المنصرم، كانت الجامعة في طور التأسيس لكرسي الدراسات الإسلامية ودعت آنذاك سيد حسين نصر لإلقاء محاضرة حول علاقة الحضارة الإسلامية بالعلوم، وقد استمعت إليها، بحضور المؤرخ نقولا زيادة (ت: 2006م) فقال لي: أنت تعرف الرياضيات وتعرف العربية، ألا ترى هذا الحضور الكبير الذي يستمع إلى سيد حسين نصر، لماذا لا تهتم بالعلوم الإسلامية، وبهذا فقد زرع هذه البذرة داخلي، وأنا كان لدي ميل علمي للتعرف إلى حركة العلوم وإنتاجها. أما منهجي بعبارة مقتضبة هو الرجوع إلى المصادر الأولية لهذه الحضارة، ولا أولي اهتمامًا كبيرًا للذين يكتبون ويناقشون معالم هذه الحضارة بالرجوع إلى ما قيل عنها وليس ما قالته عن نفسها. أما الصعوبات تكاد لا تحصى، أهمها الوصول إلى هذه المصادر الأولية، التي ما زالت قابعة في مكتبات العالم في صورة مخطوطات لم تُدرس أو تُحَقَّق بعد، وتاليًا الوصول إلى هذه المصادر باهظ الثمن يتطلب وفرة من الإمكانات المادية التي لا تتوافر لي دائمًا.

  كيف أثرت الحضارات غير العربية ولا سيما الفارسية والتركية في حركة الإنتاج في العلوم الإسلامية وبخاصة علم الفلك والفلسفة؟

  إن طبيعة الإسلام منفتحة على الأعراق والأديان، وقبول الآخر ظاهرة أصيلة فيه. ولما كانت اللغة العربية لغة العلم، فقد أثرت في كل الشعوب التي امتزجت في الحضارة الإسلامية. في هذا المجال يفيدنا تعبير العلوم الإسلامية بالمعنى الحضاري؛ إذ جميع هذه الأقوام التي تذكرينها، كانت تعيش في رحاب حضارة تسربلت بسربال الإسلام، وطغى عليها هذا السربال عوضًا عن انتماءاتها العرقية والجنسية الأخرى.

الفلسفة واللغة العربية وحركة الإبداع

  ما رأيكم في مقولة: إن أهم ما أُنتج في سياق الفلسفة الإسلامية قدمه فلاسفة من أصول غير عربية؟

  كان للنظرة الاستعمارية دور في مثل هذه الافتراضات التي سماها إدوارد سعيد «الاستشراق»، حتى الرؤية الاستعمارية الفرنسية لم تقل بأنها أتت لاحتلال الشعوب بل من أجل «مهمة مُمدِّنة/ مُحضِّرة». إن القول: إن أهم ما كُتب في الفلسفة جاء من أصول فارسية، وليس عند العرب إلا الكندي؛ قولٌ عنصري ورثناه منذ القرن التاسع عشر من الفكر الغربي، الذي بدأ مع منظرين وفلاسفة مثل هيغل القائل: إن قمة الفكر الفلسفي هي يونانية ونحن ورثناه والبقية لا قيمة له. وبما أن الحضارة الإسلامية، انفتحت على الأعراق الأخرى، قالوا: إن الإنتاج الفلسفي أتى من بلاد الفرس. هذا التحليل العنصري تبناه المستشرقون وقد استمر حتى المستشرق الأميركي برنارد لويس.

  كانت اللغة العربية، اللغة العلمية في الحضارة الإسلامية لقرون طويلة؛ ما السبب الأهم في نكستها في التاريخ المعاصر بوصفها لغة بين اللغات العلمية؟

  اللغة شأنها شأن جميع المرافق الحضارية، تنتعش وتزدهر إذا انتعشت الحضارة ذاتها وازدهرت، وتنحسر إذا انحسرت. يكمن الجواب في كون هذه الحضارة، انتقلت بفعل التسلط الاستعماري واستيلاء الآخرين عليها من حضارة تبدع وتنتج -وتستخدم لغتها في هذا الإبداع والإنتاج- إلى حضارة تستهلك ما ينتجه الآخرون بلغتهم فتقتفي الحضارة المستهلكةُ أثرَ الحضارة المبدعة الخلّاقة.

ليست المشكلة في اللغة بل في الفكر الذي يقود اللغة. حين أراد الحجاج بن مطر الترجمة من اليونانية وليس عنده مفردات مقابلة، خلق مفردات عربية تُعبّر عن المصطلح اليوناني مثل ترجمة كلمة (Horizon) إلى «أفق».

عندما يكون هناك فكر خلّاق؛ يمكن خلق المفردات الجديدة. عندما تصبح الحضارة منتجة علميًّا لا يكون هناك مشكلة في إنتاج المفردات، وإنما اليوم الحضارة العربية هي حضارة مستهلكة للحضارات الأخرى، وشيء غريب أن جامعة الدول العربية أسست مكتب تنسيق التعريب في الرباط، وهذا في رأيي مؤشر مقلق عن تراجع الحضارة العربية.

  إلى أي حد تتفق مع الرأي القائل: إن اللغة العربية غير قادرة على مواكبة حركة الإبداع والابتكار في العلوم الحديثة، بدءًا من العلوم المحضة وصولًا إلى العلوم الإنسانية؟

  في هكذا مقولة افتراء عظيم على جوهر اللغة العربية، التي لم تتردد على طوال امتدادها التاريخي في استنباط المفاهيم والتعابير الملائمة، لما كان يطرأ عليها من أفكار جديدة. ولكن الحضارة المقهورة المغلوبة على أمرها التي توقفت عن الإبداع والإنتاج، وانتقلت إلى حضارة مستهلكة، تحت وطأة الاستعمار الخارجي، فلا تستطيع مواكبة التطور الحادث. إن اللغة التي واجهت اللغة الفلسفية والعلمية اليونانية، عندما كانت في أوج نشاطها، لم تبخل على العالم بالتعابير والمفردات التقنية. ليست المشكلة في اللغة نفسها، وإنما في العقل الذي يستخدمها، ويفكر فيها ويظنها عاجزة ومتخلفة.

  أود التوقف معكم عند قضية أثارت وتثير سجالات قوية وأحيانًا عنيفة حول أثر اللغة السريانية في اللغة العربية والقرآن. كيف يبرز هذا التأثير في مستوى اللغة العربية؟ وهل وصل إلى النص القرآني؟ وإذا وجدنا هذا الأثر فعلًا، لماذا تثور حوله هذه التوترات طالما أن القرآن انعكاس لمحيطه الحضاري واللغوي؟

  هذا سؤال مهم جدًّا. السريانية، مثلها مثل العبرية والعربية والآرامية لغة سامية مؤاخية للغات السامية الأخرى، فلا يُستبعد أن تتنقل الظواهر اللغوية بين الأخوات وتأخذ الواحدة ما يناسبها من الأخرى. فورود تعابير مثل تعبير ملكوت في النص القرآني هو أقرب إلى صيغة المصدرية المجردة، لا يكثر استخدامها في اللغة العربية، كما نعرفها اليوم، ولكن من الذي يستطيع أن يحدد في أثناء تطور اللغات، الذي يحدث باستمرار، في أي وقت استقلت السريانية عن أختها العربية بصيغة المصدرية المجردة هذه، وكيف نعرف أن الأخت العربية، لم تكن تعرفها في طور من أطوارها، كما تسرب إليها في برهة من تاريخها لفظ ستراتا (Strata) اللاتيني وأصبح صراطًا في العربية اللغة المضيفة، لتعرف بدورها بلفظ الصراط العربي وتتميز عن ستراتا اللاتينية.

إن التشابه بين اللغات أمر طبيعي؛ وكثيرًا ما يحدث من دون أن يكون هناك أسبقية للغة على أخرى. اللغات يأخذ بعضها من بعض، كما هي الحال في اللغات الأوربية، ولهذا عادةً لا أستغرب طرح أسئلة حول أثر السريانية في اللغة العربية، ولا سيما أنني درست السريانية لسبع سنوات، ولكن سبب التوتر الذي قد يثيره وجود ألفاظ سريانية في القرآن الكريم هو الآية (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا). وأنا متأكد أن الرسول كان يعرف أن ألفاظًا مثل لفظة «ستراتا» اللاتينية ليس لها مقابل بالعربية، فالمنطقة التي نشأ فيها القرآن كانت في الأصل ملاصقة للإمبراطورية الرومانية التي كانت تتحدث اللغة اللاتينية التي أثرت بعض ألفاظها في اللغة العربية التي هضمتها واستخدمتها، وهذا ما ينطبق على اللغة السريانية، التي هي لغة طقسية؛ لأن العرب تعرفوا إلى السريانية عبر حُنَين بن إسحاق ويحيى بن عدي (ت: 974م) وآخرين من الذين عرفوا السريانية لأسباب دينية.

حول المنهج والإيمان

  أمضيت مدة طويلة في الولايات المتحدة الأميركية تعرفت فيها إلى علومها وجامعاتها ومناهجها وأعلامها. كيف تنظرون ولو بإيجاز إلى الاكتشافات الكبيرة والنظريات في مجال علم الكون (Cosmology) في المجال الأميركي؟

  عندما تُمَوَّل مشروعات علمية جديدة يمكن إنتاج علم جديد. عبدالملك بن مروان عندما مَوَّل صكّ الدينار العربي، كان في ضائقة مالية، وكان البيزنطيون يحاربونه بالذهب الذي يصك فيه الدينار البيزنطي الذي كان العملة المتداولة في المناطق التي كانت تحت السيطرة البيزنطية، فاستشار ابن عمه خالد بن يزيد المشهور في التراث العربي أنه أول من اهتم من العرب بعلم الكيمياء، فقال له: نحن نصك الدينار العربي.

ما أريد الاشارة إليه عبر هذا المثال أن حركة العلم ترتبط بدوافع عدة؛ منها الدافع المرتبط بالتحدي السياسي والاقتصادي، فالولايات المتحدة تفاجأت سنة 1957م بأن الاتحاد السوفييتي أطلق صاروخ سبوتنك (1) الذي دار حول الأرض. لذلك ماذا فعلوا؟ فورًا صرفوا أموالًا طائلة على الجامعات حتى تدرس العلوم كافة من ضمنها مجال علم الكون، وهذا يعني أن الدولة عن قصد سعت إلى أن تنشط العلوم بتحويل نوعية التفكير فيها وأن العامل التنافسي له دور في حركة العلم.

  يلازم السؤال عن وجود الله الوعي البشري، ويشكل حجر الرحى في مسألة النزاع بين الإيمان والإلحاد. سؤالي هنا من شقين: أين أنت من الرهان العقلي على وجود الله كما فعل باسكال؟ وهل في رأيك يتحدى التطور التقني والرقمي والذكاء الاصطناعي العقل الديني التوحيدي ويهدد أركانه الإيمانية؟

  هنا أعتذر عن الاسترسال في هذا النمط من التفكير؛ إذ لا أظنه يثمر الكثير. وفي رأيي المتواضع قضية الإيمان قضية وجودية شخصية والإيمان الذي يورث برد اليقين، على حد تعبير الإمام الغزالي، يرقد في جبلة الإنسان. ولا أظن أن أحدًا يستطيع الغوص في أعماق أعماق النفس البشرية، الذي قد يكون في نهاية المطاف نفحة من نفحات الله التي ندعي دائمًا أن نعرض لها وليس عنها. وكلي ثقة أن الإيمان نفسه ليس سوى ذلك النور الذي يقذفه الله في القلب بحسب عبارة الحديث الشريف.

أما الذكاء الاصطناعي فهو ليس أكثر بكثير من الحاسوب الذي ترجم عبارة «من خيار قومه» بعبارة (from the cucumber of his people). ومهما تقدمت التقنية الاصطناعية يبقى اصطناعيًّا ما لم يدخله التبحّر الإنساني الذي يكتسبه من قوة التمييز الخاصة به، وهذه القوة التمييزية من الناحية النظرية تختلف من شخص لآخر، ولا أظنه يمكن مكننتها بأية آلة اصطناعية أو غير اصطناعية..

المنشورات ذات الصلة

مصطفى محسن: اشتغال عالم الاجتماع على المسألة الاجتماعية ينبغي ألّا يفهم منه تحوله إلى واعظ أو داعية إلى ثورة

مصطفى محسن: اشتغال عالم الاجتماع على المسألة الاجتماعية ينبغي ألّا يفهم منه تحوله إلى واعظ أو داعية إلى ثورة

يتحدث عالم الاجتماع المغربي الدكتور مصطفى محسن عما يميز مساره النقدي من ترحال موضوعاتي، يصفه بأنه ضروري لحرفة عالم...

المستشرق الإيطالي جوزيبي سكاتولين: لا بد للحوار بين الأديــــان أن يكون جادًّا وحقيقيًّا وليس لأغراض شكلية أو لتوظيف سياسي

المستشرق الإيطالي جوزيبي سكاتولين: لا بد للحوار بين الأديــــان أن يكون جادًّا وحقيقيًّا وليس لأغراض شكلية أو لتوظيف سياسي

جاء المؤتمر الدولي في ميلانو الذي عقد في مايو الماضي لتكريم المستشرق الإيطالي جوزيبي سكاتولين، تتويجًا لجهوده بوصفه...

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *