مصطفى محسن: اشتغال عالم الاجتماع على المسألة الاجتماعية ينبغي ألّا يفهم منه تحوله إلى واعظ أو داعية إلى ثورة

مصطفى محسن: اشتغال عالم الاجتماع على المسألة الاجتماعية ينبغي ألّا يفهم منه تحوله إلى واعظ أو داعية إلى ثورة

يتحدث عالم الاجتماع المغربي الدكتور مصطفى محسن عما يميز مساره النقدي من ترحال موضوعاتي، يصفه بأنه ضروري لحرفة عالم الاجتماع. ويوضح أن العمل الميداني يستوجب حذرًا معرفيًّا وخيالًا سوسيولوجيًّا نقديًّا، وتجنب الباحث ومُتلقي المعرفة الاجتماعية من الوقوع في شرك تصورات وقناعات يقينية محدودة الأفق. كما يشرح، في حواره مع «الفيصل» مفهومه للنقد المتعدد الأبعاد وشروطه وأهدافه، ويصفه بأنه نقد تكاملي، وحواري، وتواصلي، ودينامي ومنفتح على مختلف تجارب وخبرات النقد، وعلى الرؤى والتصورات المتعددة للذات والآخر والعالم. ويؤكد مصطفى محسن أن ما يهم في جهوده النقدية ليس «المنجز الفكري أو الثقافي أو التربوي» وإنما هي تلك السيرورة المتطورة المتجددة والمتفاعلة في مرجعياتها وميكانيزمات اشتغالها.

ويؤكد عالم الاجتماع المغربي أن الاشتغال بالمسألة الاجتماعية ينبغي ألّا يفهم منه تحول عالم الاجتماع إلى واعظ أو مرشد أو داعية إلى ثورة.

  المتتبع لإسهاماتك الفكرية، يلحظ أن السمة الأساسية المميزة له هي الترحال الموضوعاتي بدل الاستقرار. ألا يؤثر هذا الترحال في تعميق بعض طروحاتك؟ وما الهواجس المتحكمة فيه؟

  إن ما وسمته في سؤالك بـ«الترحال الموضوعاتي»، الذي ترى أنه سمة مميزة لأعمالي الفكرية والبحثية، يُعَدّ، في إطار هذا الفهم الدينامي «المتعدد الأبعاد» بما يدعى «الظواهر الاجتماعية»، أمرًا طبيعيًّا ووضْعًا «محايثًا» لحرفة عالم الاجتماع وحقول عمله. فظواهر وقضايا اجتماعية مثل: الأسرة والمدرسة والدولة، والطفولة والشباب والمرأة، والتنمية والتحديث والديمقراطية، والتفاوت أو التراتب الاجتماعي الطبقي والمساواة والعدالة وتكافؤ الفرص… إلخ، ليست قصرًا على اهتمام أو شغل السوسيولوجي وحده، وإنما هي موضوعات بحث مشتركة بينه وبين مقاربات مختلف العلوم الاجتماعية والإنسانية، مثل: الاقتصاد وعلم النفس الاجتماعي، والأنثروبولوجيا والتاريخ وعلم السياسة، وغيرها… إلا أن ما يمنح المقاربة السوسيولوجية خصوصيتها المميزة يتمثل في منظومة متكاملة من القواعد والشروط، لعل من أبرزها ما يلي:

ضرورة تموقع هذه المقاربة في «نقطة تقاطع» منظورات وزوايا المقاربات الاجتماعية المتعددة الأخرى. وهكذا، فإذا كان الاقتصادي يهتم في دراسته للظاهرة المبحوثة ببعدها الاقتصادي بالذات، والمؤرخ بالبعد التاريخي (الزمني ومتغيراته المتطورة)، وعالم النفس بالبعد السيكوسوسيولوجي… إلخ، فإن عالم الاجتماع ينبغي أن يركز على ما يمكن توصيفه بـ(البعد المشترك) بين مختلف مقاربات التخصصات الاجتماعية المعنية هنا.

ألان تورين

على عالم الاجتماع أن يبذل، أكثر من غيره، جهدًا مضاعفًا ليعطي لهذا التموقع الرؤيوي دلالته ومعناه، أو كما يرى (ألان تورين)، على «أن ينتزع الوقائع السوسيولوجية من الظواهر أو الوقائع أو الأفعال الاجتماعية» موضوع البحث، أي استخلاص ما هو مطلوب من دراستها من محددات «معرفة علمية» مبنية على فهم سوسيولوجي دقيق لموضوعها الاجتماعي. وذلك في إطار تميز هذه المعرفة، وكذلك تمايزها وتواشجها في الآن ذاته مع المعارف المستنتجة من بحوث (العلوم الاجتماعية والإنسانية المتنوعة).

ولعل من أهم المقومات والشروط، التي يمكن أن تشكل «تمحيصًا» نظريًّا وعمليًّا لـ«الترحال الموضوعاتي» السابق ذكره، ما يفترض أن يمتلكه الباحث من «رؤية أو منظور أو بوصلة» مرشدة هادية لمجمل مسارات بحثه واشتغاله. والمقصود بذلك هو ما يطلب منه اعتماده من «منظومة» متكاملة من «البراديغمات الإرشادية والأطر النظرية والمنهجية الموجهة» مما ينتظر منه أن يجنبه مغبات السقوط في منزلقات أو التشتت أو التعثر أو الضياع، وهو يترحل أو ينتقل من موضوع بحث إلى آخر، وبلا مقصدية هادفة أو «وحدة منظورية» واضحة المعالم والتوجهات والأهداف، وهو الأمر الذي يمكن أن يجعل من هذا الترحال مصدر إثراء للجهود العلمية للباحث. إنها، في تقديري، نقطة مفصلية شارطة في تشكيل رؤية نقدية تقييمية أو تقويمية لهذا الترحال في تجارب بحثية وفكرية معينة، وتمييز وفرز الإيجابي المنتج منها عن المتهافت الذي لا ينتج عنه سوى ما سلف ذكره من تشتت في الجهد والفكر، ومن ضحالة في قيمة ومستوى المنتوج، ومن ضعف في «صدقية نجاعته المعرفية والاجتماعية والتاريخية» المطلوبة والمنتظرة.

وهكذا، فلا أخالني مجانبًا للصواب إذا زعمت أنني، في مجمل أشكال «الترحال الموضوعاتي» المميز لبعض جهودي الفكرية المتواضعة، قد حاولت جاهدًا وعلى قدر ما أستطيع، أن أعتمد على هذه التحوطات الإبستمولوجية والسوسيولوجية المشار إليها، وأن أهتدي بها نظريًّا وعمليًّا، وفي مختلف آليات التفكير والبحث والتحليل والفهم والتفسير والتأويل ومقاصد إنتاج الدلالة والمعنى. وذلك بمحاولة الالتزام بالتموضع في زاوية ومنظور عالم الاجتماع، معتبرًا ما اشتغلت عليه من موضوعات متنوعة بمنزلة «نوافذ» أسعى إلى الإطلال منها على الواقع الاجتماعي المتعدد الأبعاد. مع ضرورة الوعي بأهمية ودلالة هذا التعدد، وبما له من تأثيرات في سيرورات ومخرجات المعرفة في ميادين العلوم الاجتماعية المختلفة.

  هل يمكن عد هذا الترحال الموضوعاتي محاولة لموضعة ذات الباحث بين المسألة الاجتماعية والمسألة السوسيولوجية؟ كما قد يبدو من خلال مضامين أعمالك؟

  لقد اهتممت بالفعل في مجمل أعمالي المتواضعة، بمحاولة الاجتهاد قدر الإمكان من أجل إيجاد صيغة تكاملية بين المسألتين المعنيتين هنا. ولعلي لا أجانب الصواب إذا أقررت بكونك من أوائل من نوه بذلك في قراءة تحليلية معمقة لهذه الأعمال. غير أن ما أريد تأكيده هنا هو أن هذا الاجتهاد المشار إليه فيما سلف قد كان موجهًا -في إطار اهتمامي بـ«المسألة السوسيولوجية»- باحترام قواعد وشروط الالتزام بدور وحدود مساهمة عالم الاجتماع في رفد وتطوير وإغناء سيرورات إنتاج المعرفة العلمية الموضوعية المدققة لواقع اجتماعي محدد في الزمان والمكان.

وبناء على ذلك، فإن اشتغال عالم الاجتماع على مكونات وقضايا هذه «المسألة الاجتماعية» يعد أمرًا طبيعيًّا، ما دامت عناصرها ومشكلاتها تحيل مباشرة إلى تخصصه وعمله: «الظواهر الاجتماعية» عامة. إلا أن هذا ينبغي ألّا يفهم منه تحول مهام عالم الاجتماع من موقع المساهمة في إنتاج المعرفة العلمية إلى مواقع الوعظ أو الإرشاد، أو الدعوة المباشرة إلى التغيير أو الإصلاح أو الثورة… إلخ؛ إذ تلك من المسؤوليات الموكولة إلى فاعلين وفعاليات وجهات أخرى. وبخاصة إذا كان المجتمع المعني مهتمًّا في ذلك بدعم «المعرفة العلمية»، سياسةً وخُطةً ومشروعًا وأسلوبَ مأسسةٍ وتنظيمًا وتمويلًا لمؤسسات البحث والتكوين والتوزيع والتداول العادل لـ«الرأسمال المعرفي»، بل استثماره الممنهج في مسارات وبرامج وتوجهات التنمية والتحديث، وتجديد مقومات وآليات اشتغال النسق
المجتمعي العام.

من الكلي إلى الجزئي

  كل متتبع لإنتاجاتك، يلحظ أنك تنتقل في التحليل من الميكروسوسيولوجي إلى الماكروسوسيولوجي، في الوقت الذي تقوم فيه أغلبية الإسهامات السوسيولوجية بعكس ذلك؛ كيف تُفسّر هذا «الانتقال المعكوس» الذي تقوم به؟

  يبدو مفيدًا أن أذكّر، في مستهل الإجابة عن هذا السؤال، بأن الملاحظة التي تشير إليها لا تنطبق دومًا على أسلوب التحليل المعتمد في جُلّ أعمالي؛ ذلك أني أحاول جاهدًا أن أعالج كل إشكالية أو موضوع أو قضية ما، سواء في إطار بحث مستقل قائم بذاته، أو في محاضرة أو عرض أو درس أكاديمي أو حتى في حوار محدود أو مفتوح… وفق خصوصية الموضوع المبحوث، وكذلك مراعاة لشروط ومقتضيات «مطابقة الكلام لطبيعة المقام»، كما يقال.

ولعل من أهم ما تعلمته من الاشتغال في حقل التربية والتكوين، بحثًا وتدريسًا وتأطيرًا وتواصلًا بيداغوجيًّا محدد الأهداف، هو أن مجمل عمليات البحث العلمي وإنتاج الأقوال والخطابات، بل «كل عمل كتابي»، هو بشكل ما وبقدر معين ورؤية ما، «منتوج بيداغوجي». يُفترض فيه؛ كي يحقق مقاصده، أن يعتمد بعض قواعد تداول «الخطاب»، التي تقتضي التكامل والتناغم بين أطرافه الأساسية: مصداقية وموقع مُرسِل/ باعث الخطاب، والإرسالية التي يتضمنها، وضعيات المتلقي، فردًا أو جماعةً أو أوسع من ذلك.

وهكذا، واستئناسًا بخبرتي البيداغوجية السالفة الذكر، فقد اعتمدت في كثير من أعمالي «منطقًا استنتاجيًّا»، يقوم على الانتقال من الماكروسوسيولوجي العام إلى الميكروسوسيولوجي الجزئي الخاص، الذي يقوم الانتقال منه إلى الماكرو العام على «منطق استقرائي»، فقد بدا لي بناءً على تجاربي التربوية المذكورة، أن «المنطق الاستنتاجي» الذي يسير على نهج الانتقال من «الماكرو» إلى «الميكرو»، أي من الكلي إلى الجزئي، هو الأكثر ملاءمة لخطاب معرفي ثقافي يسعى إلى اعتماد «بيداغوجيا فعالة منتجة»، تستهدف أساسًا «جودة» التبليغ والتواصل التفاعلي بين المُرسِل والرسالة والمتلقي. وسواء كان المقصود بهذا الخطاب بحثًا أو دراسة أكاديمية (رسالة أطروحة…) أو عرضًا أو مقالة أو درسًا تلقينيًّا محدد المضامين والأهداف… إلخ.

ولتوضيح هذه المسألة بشكل تقريبي، نضرب لذلك مثالًا كالتالي: ففي مقاربتي السوسيوثقافية لـ«المسالة النسائية» في سياقنا المغربي والعربي، عملت على موضعة هذه المسألة، بداية في ظل أهم المتغيرات والمستجدات التي رافقت أبرز التحولات الثقافية والسوسيوقيمية والحضارية التي يعرفها المجتمع المعاصر على المستوى الكوني العام، ثم التركيز، بعد ذلك، على البعد الثقافي الذي يهمنا بالأساس في مقاربة المسألة، لِيُتَدَرَّجَ بالتحليل نحو ما هو خاص، أي أوضاع المرأة في مساق مجتمعاتنا العالمثالثية والعربية، ثم الانتقال إلى ما هو أخص، لِيَكُنِ المجتمع المغربي مثالًا. ويستحسن أن نذكّر، هنا، بأن كل مراحل وتدرجات المقاربة المشار إليها يجب ألّا يُنظَر إليها كوحدات أو مكونات مستقلة متفارقة بعضها عن بعضها الآخر، وإنما التعامل معها بما هي «منظومة نسقية» متفاعلة العناصر والمضامين، وذلك ضمن تكاملية خطوات المنطق المعتمد في التحليل.

ويبدو لي، من خلال تجاربي البيداغوجية المتواضعة -وهي ملاحظة لا ألزم بها أيّ أحد أبدًا- أن انتهاج الأسلوب «الاستنتاجي»، أي الانتقال من الماكرو إلى الميكرو، من العام إلى الخاص، تلقينًا وبحثًا وتلقيًا…، يساعد المعنيَّ في هذه الوضعيات على فهم الإشكالية أو القضية موضوع النظر والبحث في إطار سياقها العام، بشتى جوانبه ومكوناته، ويضمن له –ضمن حدود وعيه بذلك- ملاءمة الانتقال التدريجي في معالجتها مرتبطة بإطارها الشامل. مما يساعده ويُمكّنه من الوصول بهذه المعالجة: (الدرس/ البحث/ أي نص كتابي…)، إلى الجزئيات الخاصة المتفرعة عن مستواها العام.

في حين تدعو بعض الملحوظات المنهجية والبيداغوجية إلى أهمية التزام «حذر نظري وعملي» مضاعف عند اعتماد المقاربة «الاستقرائية» طريقة في التحليل. فقد يؤدي تناول قضية أو إشكالية ما، عبر التدرج بها من الجزء إلى الكل، إلى أن يقع الباحث هنا في منزلق السقوط أو الانحباس في شرنقة الجزئي المحدود، متجاهلًا أو متناسيًا -بقصد واعٍ أو من دونه- تلك الوشائج أو الروابط الجدلية التي تصله بالكل الذي ينتمي إليه، ويكسب من خلال هذه الصلات المركبة، طبيعته ومعناه وخصوصيته المتميزة. وهو الأمر الذي قد يُوقع التحليل في بعض أعطاب «التبسيطية والاختزال»، والنظر إلى الجزء المحدود، على عكس طبيعة معناه، أي كما لو كان هو الكل، يتضمن مجمل مكوناته، يُمثّله ويعبر عنه، وهو ما يتنافى مع الواقع المبحوث، وما ينتظمه من «تفاعلية مستديمة» بين الجزئي والكلي والخاص والعام، وفي إطار منظور تحليلي تفاعلي متعدد الأبعاد…

كما أن من أهم الملحوظات التي يمكن التشديد على أهميتها في السياق ذاته أيضًا هي أن مسألة الانتقال في البحث الاجتماعي من «الماكرو أو الميكرو»، أي من «منطق استنتاجي أو استقرائي» وفق التحديدات السابقة، ليست مسألة مفاضلة بين المنطقين أو الرؤيتين، أي لا تقوم -بالتالي، ومن الناحية المبدئية التي تستلزم تعاملًا حياديًّا مع مجمل القضايا النظرية والمنهج في هذا المجال- على أي دعوة إلى تفصيل اعتماد منطق آخر؛ لأن ذلك الأمر يتعلق هنا بـ«الاختيارات النظرية والمنهجية» للباحث، وبما يعتمده من تبرير علمي لها، في سياق معرفي محدد في الزمان والمكان… ذلك أن «المسألة المنهجية» في تقديري تعتبر مكونًا أصيلًا في سيرورة كل بحث علمي؛ إذ هي الدعامة المفصلية في إيصاله إلى «معرفة علمية» مدققة، ثم تحصينها عبر حالاته المتعددة بـ«عدة نظرية ومنهجية» من المفاهيم والمنظورات المنهجية، وأدوات وتقنيات البحث، ونماذج التحليل والتفسير والتأويل… وذلك في مقابل «المعرفة العامة أو العامية» أو «معرفة الحس المشترك»، التي تخضع في عمليات إنتاجها وإعادة إنتاجها وتطويرها وتبادلها إلى «آليات وميكانيزمات» تختلف في جوهرها عن مقتضيات وشروط المنهج العلمي.

غير أن الأهم عندي -إضافة إلى دور إجرائية وفاعلية وصرامة وعقلانية «المسار المنهجي» للبحث– هو عملية وصدقية «المخرجات والنتائج» التي يخلص إليها، وكذا نجاعتها المعرفية والاجتماعية. علمًا أنّ جُلّ خلاصات العلوم الاجتماعية والإنسانية تظل موسومة دومًا بـ«النسبية» وبكونها لا تستطيع –مهما اجتهد الباحث في تحصينها بالممكن من شروط ومعايير الموضوعية والحياد- تجاوز حدود «خطاطات معرفية» قابلة للنقد والتجاوز. أي «شبكة/ شبكات» بيانات ومعطيات، ينتظر منها أن تشكل «دليلًا علميًّا وعمليًّا» مرشدًا لتقريبنا من التعرف إلى الواقع المبحوث، وفهم تفاعلات بنياته وتحولاته المادية والرمزية المتعددة، في مختلف مكوناتها ومستوياتها وديناميتها
المسترسلة المجددة…

محذورات العمل الميداني

  يقول بعضٌ: إن السوسيولوجيا تبتدئ من الميدان وتنتهي عنده، فما رأيك في طبيعة وحدود علاقة السوسيولوجيا بالميدان عمومًا، وانطلاقًا أيضًا من جهودك وأعمالك الشخصية؟

  فيما يتعلق بتجربتي الشخصية في ميدان الممارسة السوسيولوجية، بحثًا وتدريسًا وتأطيرًا وإشرافًا أو مشاركة «خبرية» استشارية أو بحثية ما…، فإني قد بقيت، منذ المرحلة الطلابية وما تلاها، كثير الاهتمام بالعمل الميداني، مقدرًا لجهود فاعليه، مُثمِّنًا لمعطياته ومخرجات بحوثه المتعددة. ولكن ذلك ظل دائمًا في إطار التحصن بالاحترازات النظرية والمنهجية المسوقة فيما سلف، أي بذلك «الحذر المعرفي»، الذي يستلزم «خيالًا سوسيولوجيًّا نقديًّا»، كفيلًا، ضمن حدود ومواضعات معينة، بأن يجنب الباحث، ومعه أيضًا مُتلقي المعرفة الاجتماعية، من الوقوع في شرك تصورات وقناعات أو فهوم «دغمائية وثوقية» محدودة الأفق التساؤلي النقدي، وهو ما يؤدي بالمتعاملين مع «مخرجات العمل الميداني» كما لو كانت تتسم بصلاحية تامة مطلقة. وهو موقف «مثالي» اختزالي وتبسيطي يساهم؛ إما بقصد ووعي أو من دونهما، في تدعيم تلك «الاختبارية التجريدية» التي انتقدها (رايت ميلز) وغيره من رواد المدارس السوسيولوجية النقدية المعروفة، والتي يفضي تبنيها، توجّهًا وممارسةً، إلى «إسقاط» اعتباطي مجاني لبعض مقتضيات الميدان على جوانب من الواقع الاجتماعي؛ لتجبره على الامتثال لمعطيات قد لا تتوافق، بل قد تتناقض معه تمام التناقض. إنها وضعية تتنافى مع النظر الموضوعي إلى المعرفة العلمية في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية، بما هي معرفة «نسبية»، ومجرد محاولة للاقتراب من الواقع وفهم أبعاده ومكوناته، والتعامل معه وفق ما تستوجبه الشرطيات المعنية من مواقف وإجراءات وتدخلات مختلفة الأنماط والمستويات.

رايت ميلز

وارتباطًا بما ورد في سؤالك هذا، فإني أعتقد أن الناظر في أعمالي كلها، ميدانية كانت أو نظرية تحليلية، وكذلك في مضامين البحوث التي أشرفت عليها، وخصوصًا بـ«مركز التوجيه والتخطيط التربوي» بالرباط، التي كانت كلها «ميدانية تطبيقية»، سوف يلحظ تمسكي الشديد ببعض أهم المفاهيم والنماذج الإرشادية للتوجهات النقدية المنوه بها فيما سبق، ولا سيما أني لم أكن أنظر إلى مسؤولية الإشراف وتأطير البحوث كما لو كانت مجرد مواكبة تتبعية للبحث والباحث، وإنما كنت أحاول عيشها بما هي «معاناة فكرية وإنسانية» عميقة، أواكب فيها، على هذا المستوى المعرفي والوجداني، مجمل حالات البحث ومشكلاته وتعثراته وجوانبه الإيجابية، ومن لحظة التفكير فيه كموضوع للعمل إلى نهاياته المفترضة أو المنشودة. وهو ما شكل، بالنسبة لي، تجربة تربوية وبيداغوجية وعلمية وإنسانية فريدة؛ لذا، فهي تستحق، في تقديري، أن يفرد لها حوار موسع خاص، وذلك لمناقشة ظروفها وسياقاتها وأبعادها ودلالاتها وموجهاتها القيمية والتواصلية والتفاعلية والاجتماعية…، وبخاصة في ظل شروط الظرفية الراهنة، التي تعيشها مؤسساتنا التكوينية والأكاديمية والبحثية من شروط وأوضاع وقضايا على هذه المستويات الآنفة جميعها.

وهكذا، فإن أهم خلاصة يمكن استنتاجها من كل ما سبق هي أن سيرورة بناء المعرفة السوسيولوجية لا تبتدئ دائمًا من الميدان وتنتهي عنده، وإنما هي، في عمق مدلولها وطبيعتها «جدلية ديناميكية» متواترة بين الفكر والعمل، والعقل والتجربة والنظرية والممارسة. وذلك شرط أن ينظر إلى هذه الجدلية الحيوية المسترسلة اعتمادًا على «الحذر النظري والمنهجي» السالف الذكر، وعلى ذلك «الخيال السوسيولوجي» لـ(رايت ميلز)، الذي يمكنه -متى استُلهِمَ في إطار «حس نقدي معرفي مفتوح»- أن يجعل سيرورة بناء المعرفة العلمية الاجتماعية عملية إيجابية منتجة مبدعة، وواعية، في الآن ذاته، بحدودها النسبية، وبعوائقها الإبستمولوجية والسوسيولوجية، الذاتية والموضوعية المتعددة.

مسار نقدي متعدد الأبعاد

  نود مساءلتك عما تدعوه في إسهاماتك الفكرية بـ«النقد المتعدد الأبعاد». فهل هو رؤية أو منظور، أو نموذج إرشادي (براديغم)، أو مشروع فكري، أو غير ذلك؟ ثم لماذا وسمته بالذات بـ«التعددية»، وليس بأي خاصية أو توصيف آخر خلافًا لذلك؟

  سؤالك هذا مهم جدًّا في أي حديث عن الأسس المعرفية، النظرية والمنهجية، لـ«منجزي السوسيولوجي» المتواضع. غير أنه بما أني قد سبق أن أَفَضْتُ في عرض كثير من ملامح ومكونات توجهاتي النقدية المنفتحة «المتعددة الأبعاد»، وذلك في كثير من مؤلفاتي، كما في بعض حواراتي، ودراساتي ومداخلاتي المتنوعة الأهداف والمحتويات والسياقات، فإني أفضل الآن، إجابة عن سؤالك القيم، أن أركز على ما هو أهم دلالة وتعبيرًا في هذه الإجابة، وأجمل ذلك في الملحوظات الأساسية التالية:

إن مفهوم «النقد المتعدد الأبعاد»، هو عندي في مضمونه العام، يستدمج كل المفاهيم الواردة في السؤال. إنه رؤية ومنظور وبراديغم إرشادي ومشروع بحث ونظر فكري. مع الأخذ في الحُسبان ما بينها من فروقات أو تمايزات دلالية، يختلف حجمها وتأثيرها من نسق فكري إلى آخر. وإذا كانت عبارة «مشروع» هي الأكثر تداولًا في هذا المساق، فإن ما أود أن يُفْهَم منها، في جهودي النقدية خاصة، ليس ذلك «المنجز الفكري أو الثقافي أو التربوي» المكتمل التام، وإنما هو تلك السيرورة المتطورة المتجددة، المتفاعلة، في مرجعياتها وميكانيزمات اشتغالها، مع غيرها من نماذج العمل الفكرية والتطبيقية التي تتجادل وتتنامى وتتكامل باستمرار، وعلى هذه الصُّعُد والمستويات كلها.

إن هذا النقد المعني هنا هو، في تقديري ومقصديتي، نمط من التجاوز النظري والمنهجي لبعض ما أمسى يكتسح ساحتنا الفكرية العربية تحديدًا من توظيف أو اعتماد مجاني ساذج للعديد من أفكار وتوجهات ونَزَعات ونُزُوعات التقليد والاتباعية الدوغمائية أو الإسقاطية ذات الطابع الاختزالي الضيق الأفق والرؤية والوعي النقدي الحذِر؛ إذ أصبحنا أمام كثير من نماذج الاستجلاب أو «الاستيراد» لمفاهيم ونظريات وآليات تحليل وتطبيق غربية المنشأ. وذلك بغرض الاستئناس بها في تجديد وتطوير وإصلاح أوضاع ومكونات واقع مغاير سياقًا وثقافة وآليات هيكلة وتدبير وتنظيم واشتغال. ومن دون وعي نقدي عميق بالمقومات السوسيومعرفية والتاريخية التي أفرزتها، ولا بخصوصيات النظام الاجتماعي الذي نُقلت إليه بهدف المساهمة في تنميته وعقلنته وتحديثه وترشيد مسارات تحوله نحو الأفضل. ولنا في مآلات هذا «النقل التبعي» في مجتمعنا خاصةً، وفي عجزه عن تحقيق ما كان منشودًا منه من إصلاح أو تجديد ما يقوم دليلًا قويًّا على بؤسه وتهافته. ولنستحضر هنا طبيعة ما استجلبناه من «عُدَدٍ نظرية وعملية» غربية في ميدان التربية والتعليم والتكوين وبناء الإنسان، وفي حقل العمل السياسي، وفي مشروعات وبرامج وخطط التنمية والتحديث، وفي ميادين الإدارة والحكامة وتدبير المقاولات والشراكات… إلخ، لنقف على مردوديتها الضعيفة على مستوى تطبيقها في الواقع المعني في سياق بلداننا العربية والنامية؛ ذلك أن هذا التطبيق لهذه «العُدَد» لم يتم في إطار «وعي نقدي» سليم بمجمل أهدافها ومضامينها، سواء في السياق السوسيوتاريخي الذي أنتجها، أو في السياق الجديد المغاير الذي نُقِلت إليه، والذي «أُسْقِط» جلها عليه في ظل غياب أو هشاشة هذا الوعي النقدي المذكور.

أما لماذا وصَفتُ هذا النقد بكونه «متعدد الأبعاد» وليس «أحادي أو ثنائي أو مزدوج البعد…» أو غير ذلك؟ فإن الهدف الرؤيوي والمعني يتمثل في محاولة تخطي مزالق وعوائق ما أُشِيرَ إليه من «نزعات اختزالية تبسيطية» مفقرة للواقع، وكذلك لأي نقد يتجه إليه. ولذا كان مقترحنا أن ينصب هذا «النقد المتعدد» على ما يلي:

أولًا- من ناحية موضوع اشتغاله، يفترض أن يكون:

نقدًا للذات/ الأنا/ النحن، ماضيًا وحاضرًا وتوجهات نحو المستقبل، وكذلك تراثًا فكريًّا ومعرفيًّا وقيميًّا وحضاريًّا وتاريخيًّا متعدد الأنماط والأفعال والفاعلين ومستويات التعبير والتطور والتفاعل والفعل والاشتغال.

هربرت ماركيوز

نقدًا «محايثًا» لنقد الآخر/ الغرب/ المختلف الثقافي والحضاري، وفي كل المكونات والأبعاد الآنفة الذكر.

نقدًا للحظة الحضارية بما هي «بوتقة» تاريخية، «تكْثيفية» لعلاقة الذات بالآخر. وذلك ضمن جدلية دينامية من سيرورات تبادلية للفعل والانفعال والتفاعل المتباين الخلفيات والأهداف والآليات والسياقات.

ثانيًا- من ناحية جوانب وآليات اشتغاله، فيُفتَرض أن يكون:

نقدًا إبستمولوجيًّا، يَنْصَبُّ تحديدًا على التحليل النقدي لمجمل الشروط والميكانيزمات والمساقات المعرفية والتاريخية، التي يُنتَج في حضنها ويُعادُ إنتاج مختلف العلوم والمنظومات المعرفية في فضاء مجتمعي محدد في الزمان والمكان.

نقدًا سوسيولوجيًّا وحضاريًّا، يستهدف الكشف المُمَنْهَج عن أهم السيرورات والتفاعلات الاجتماعية، التي تتولد فيها ديناميكيات تبلور مفاهيم وآليات وأوضاع ومكونات السلطة والنفود والهيمنة والحكم والتحكم… في مجمل تراتباتها ومؤسساتها وممارساتها ومستوياتها… إلخ، أي «المجال السياسي» في مدلوله العام… كما يستهدف، في الآن ذاته، كيفيات تشكل البنيات والهياكل والفئات والشرائح أو الطبقات والتراتبات الاجتماعية المختلفة… إلخ، أي «المجال الاجتماعي» عامةً… وهو نقد يتجه أيضًا، على هذا الصعيد، إلى معرفة تبلور نمط أو أنماط إنتاج وتوزيع واستهلاك الخيرات المادية وأشكال ومراتب الاستفادة المادية… إلخ، أي «المجال الاقتصادي» بمكوناته المختلفة… وأخيرًا، هو كذلك نقد يسعى إلى معرفة عمليات ومؤسسات ومصادر إنتاج القيم والمعايير والرموز والعادات والأعراف والتقاليد والمعتقدات الاجتماعية، التي تشكل مضمون «الثقافة» بمدلولها «السوسيوأنثروبولوجي» الشامل. وكذلك الوقوف على أساليب تداولها ونشرها وتبنيها وترسيخها مؤسسيًّا واجتماعيًّا في كيان مجتمعي متعين في الزمان والفضاء. ويقصد بذلك جل مكونات «المجال الثقافي» بالمعنى الشامل الآنف.

نيكوس بولانتزاس

إلا أنه من المفيد أن ننوه، هنا، بملاحظة محورية مفادها أن المدلول الذي نفهم به «العمل النقدي» ضمن هذا التوظيف أو الاستئناس، هو مدلول مختلف كليًّا عن بعض المدلولات والفهوم التي تمنحُ النقدَ، في إطار منظورات أو رؤى «انتقاصية»، يُدرك عبرها كما لو كان عمليات هدم أو نقض أو دَحْض أو تخريب أو ذم وانتقاصٍ وتجريح أو مواقف إقصاء واستبعاد وإلغاء… ذلك أن «النقد» الذي نتبناه هنا، دلالة واستعمالًا، هو ذلك «النقد المنهجي» الذي يتغيا، بالأساس، تناول موضوعه الذي يشتغل عليه بما هو مطلوب أو ممكن ومتاح من آليات وجهود التحليل والتفكيك، حتى هدم المتداعي والمهترئ من جوانب الموضوع ذاك. إنه ذلك الفعل «الشبيه بالحفر الأركيولوجي». ولكن ليس فقط من أجل النبش والتعرية وكشف المستورات والعورات والعيوب… وإنما كي يتجه إلى تلك المظاهر أو الجوانب المُعْتِمة في مكونات «المتن المنتقد» فيقاوم عتمتها، ويعيد صياغة بنائها لِجَعْلها مُتّسِمَة بما يمكنها من أن تغدو إيجابية منتجة جلية الدلالة. إنه أيضًا ذلك النقد، الإيجابي دومًا، الذي يتناول تلك «العناصر المضيئة» في ذات المتن فيُنافح كي يُثريها لتمسي أفضل إشراقًا، مظاهر تشكل ودلالة مضمون… هكذا إذن، يمكن أن نتلمس، فيما سلف ذكره، بعض عناصر الإجابة عما ورد في هذا السؤال من حوار، من تساؤل، عن مبررات نعت ما أعتمده من منظور نقدي بكونه «نقدًا متعدد الأبعاد، تكامليًّا، حواريًّا، وتواصليًّا، دينامي الانفتاح» على مختلف تجارب وخبرات النقد، وعلى الرؤى والتصورات المتعددة للذات والآخر والعالم… كما أوردنا ذلك، بتركيز شديد، في أهم الحيثيات الإبستمولوجية والسوسيولوجية والفكرية المسُوقة فيما سبق.

أما فيما يتعلق بالمقصدية التي تشكل خلفية اهتمامنا بالانخراط في مواصلة هذا المسار النقدي، فإنها ترتبط، إضافة إلى ما سلف، بهدفين أساسيين مؤسِّسَيْن هما:

الأول– ضرورة الاستفادة من «منجزات» التراث الفكري الغربي الحديث والمعاصر معًا. وذلك في محاولة جادّة وحافزة للتعلم، قدر المستطاع، من التوجهات الفلسفية الإبستمولوجية والاجتماعية النقدية التي عبرت عنها جهود رواد وأعلام مؤسسين مؤثرين؛ من أمثال: سان سيمون، وأوغست كونت، وكارل ماركس، وماكس فيبر، وإيميل دوركايم، وألتوسير، وهربرت ماركيوز، وموريس غوديليي، ونيكوس بولانتزاس، وتالكوت بارسونز، وروبير ميرتون، وكلود ليفي ستراوس… وصولًا إلى ريمون أرون، وألان تورين، وبيير بورديو، وأنطوني جيدنز، وغيرهم كثير.

الثاني– الاستفادة المماثلة، من موقع وضعية التعلم السابقة، من أهم مبادرات ومشروعات وجهود النهضة والتحديث والتنوير في التاريخ الفكري العربي الحديث والمعاصر أيضًا، التي تمتد منذ جذورها الأولى إلى ما يناهز القرنين، والتي تطورت لتتبلور راهنًا في نماذج رائدة من «الأنساق والمشاريع الفكرية» التي تؤثث الفضاء الفكري العربي الآن. وبمجرد غاية التركيز ليس إلا، يبدو مفيدًا أن نذكر هنا بأهمها تكاملًا وتداولًا وحضورًا، ومنها، على سبيل المثال لا الحصر: «نقد العقل العربي» لمحمد عابد الجابري، و«النقد التاريخاني» لعبدالله العروي، و«النقد المزدوج» لعبدالكبير الخطيبي، والطروحات النقدية لمحمد جسوس، و«النقد الحضاري» لهشام شرابي، و«نقد الاستشراق» لإدوارد سعيد، و«نقد الفكر الديني» لمحمد أركون، و«نقد الاستعراب» لحسن حنفي، إضافة إلى المشروعات والمنظورات النقدية لمفكرين كبار من عيار طيب تيزيني، وحسين مروة، وأنور عبدالملك، وسمير أمين، وفهمي جدعان، وعلي الوردي، وصادق جلال العظم…، وغيرهم ممن أثرَوْا الفكر العربي المعاصر بكثير من عناصر الجِدّة والجودة والإبداع.

طيب تيزيني

واتكاء على هذه الاستفادة التعلُّمِيَّة من فكْرنا وفكْر الآخر في آنٍ، نحاول، في اجتهاداتنا السوسيولوجية والفكرية والتربوية، تشكيلها وتنظيمها وبوتقتها أو بالأحرى «نَسْقَنَتها» في إطار رؤية أو منظور أو براديغم أو مشروع «نقد متعدد الأبعاد»، كما قدمنا بعض ملامحه ومقوماته فيما سبق. غير أننا نؤكد من جديد أن فهمنا لكلمة «مشروع» يقوم على ضرورة النظر إلى أي مشروع، فكريًّا كان أو سياسيًّا أو اجتماعيًّا…، لا على أنه «عمل» مكتمل تمام الاكتمال، وإنما على أساس أنه «سيرورة جدلية ديناميكية من التطور والتنامي والتكامل والتفاعل المستديم». إنه، وكما يبدو من دلالة الكلمة نفسها، «نمط من الاستباق التوقعي، أو من الارتماء في أحضان الفعل المستقبلي». وهو الأمر الذي يبقيه مفتوحًا/ منفتحًا على آفاق/ احتمالات، ومصاير وإمكانات ومآلات مختلفة متعددة من مستويات الأداء والإنجاز.

غير أن الغاية الأساسية الكبرى الحافزة والمحركة لهموم واهتمامات وانشغالات جهودنا النقدية -وبعيدًا من أي تنطع أو ادعاء أي سبق أو تميز أو أي فرادة متخيَّلة، بل من موقع وأخلاقيات وقيم ومسلكيات المتعلِّم أو القارئ المجتهد، كما سبق الذكر- هي السعي المتواضع للبحث عن موطئ قدم ضمن ذلك «المنجز الفكري» المائز، مغربيًّا وعربيًّا، مما ننتظر منه أن يمنحنا التمكين المطلوب والفرص المواتية للمساهمة برْفدٍ فكري نوعي ذي قيمة جديدة مضافة لتلك المشاريع الفكرية والنقدية الرائدة المؤسسة المنوه آنفًا بأبرز أعلامها وعناوينها المشِعة، وطنيًّا وقوميًّا وعالميًّا، حتى لو كان ذلك ممهورًا –كما هو شأن أي معرفة في حقل العلوم الاجتماعية والإنسانية- بالعديد من الشروط والمواصفات والحدود والمحدوديات النسبية لهذه المساهمة الفكرية النقدية المنشودة.

إلا أن ما يؤسف له حقًّا، ويبعث على كثير من مشاعر التذمر والإحباط، ومن الاستفهام وعلامات الاستغراب… هو أن هذه المشروعات الفلسفية والسوسيولوجية والفكرية العربية الراهنة، في الوقت الذي أَضْحَتْ فيه موضع عناية واهتمام، بل حتى ميدان دراسات وبحوث من طرف مؤسسات أكاديمية وتكوينية، ومراكز بحوث وخبرة واستشارة، ذات مستوى ومكانة ومصداقية عالمية معتبرة، فإنها لا تزال تعاني –في السياق العربي الذي أُنتِجَتْ وبُلْوِرَتْ فيه، من أجل معرفته وفهم آليات اشتغاله، وترشيد جهود ومسارات تنميته وتحديثه ودمقرطته وتنظيم مختلف مكوناته البنيوية وديناميكيات تطوره وتغيره… من كثير من أوضاع الإهمال والتهميش والتجاهل والتناسي، لتظل مركونة في رفوف المكتبات، تنالها آثار ومحدَثات وتنكيل الزمان والمكان والإنسان.