المقالات الأخيرة

“لقاء مارس 02: تواشجات” دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

“لقاء مارس 02: تواشجات”

دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

فيما يشبه الالتزام الأخلاقي والجمالي، تبنى لقاء مارس السنوي، الذي تنظمه مؤسسة الشارقة للفنون، في دورته الجديدة التي انتهت أنشطتها قبل أيام، طيفًا واسعًا من القضايا والموضوعات والنقاشات وعروض الأداء، التي لئن اختلفت وتعددت وتنوعت، إلا أنها تذهب كلها إلى منطقة واحدة،...

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

بول شاوول… أنا أكتب الشعر إذًا أنا موجود

بواسطة | مارس 1, 2023 | بورتريه

لا بدّ للذين يواظبون على زيارة شارع الحمرا في بيروت، أن يحفظوا وجه الشاعر والناقد المسرحي اللبناني، بول شاوول وسيجاره التوسكاني وجريدته وملفه الشخصي الذي يتأبطه وهو يمشي أو يجلس في المقاهي سواء التي أقفلتْ، من «هورس شو» إلى «الإكسبرس» و«ويمبي» و«مودكا» و«سيتي كافيه» وكافيه دي باري، أو الجديدة «ليناس» و Godfather…

بول شاوول، أحد أبرز الوجوه الثقافية في لبنان، أتى في أواخر السبعينيات إلى منطقة رأس بيروت «منشقًّا» عن طائفته وعائلته، إذا جاز التعبير، وبقي فرديًّا وحرًّا وخارج الجماعات والأسراب، وحيويًّا في علاقته بشارع الحمرا، الذي يعدّه شرفته اليومية وملاذ عمله وحريته، لكن الشارع التعدّدي والكوزموبوليتي الذي كان يحوي معظم الصروح الثقافية والتعليمية والسينمائية والمدنية والطبية حتى السياسية، تغيّر في السنوات الأخيرة، وتحوّل سوقًا شعبيًّا، مثل مناطق أخرى كما يقول بول شاوول.

وصاحب «بوصلة الدم» الذي عمل في وقت سابق في صحف «السفير» و«النهار» ثمّ «المستقبل» (الصحيفة وقبلها المجلّة الباريسية) حتى إغلاقها في عام 2019م، وكان فيها مسؤولًا عن الصفحة الثقافية وناقدًا أدبيًّا ومترجمًا وكاتبًا سياسيًّا، خاض معارك مع سياسيين وفنانين ومثقفين من الجنرال ميشال عون إلى الفنان زياد الرحباني وما بينهما النائب جميل السيد. لكنه الآن، يعيش جانبًا من القلق والتوجّس والحيرة، وإن كان يرفض أن يضع نفسه في خانة «التشاؤم».

ولا يخفي بول شاوول في حديث لـ«الفيصل» أنه يقضي وقته من دون عمل منذ ثلاث سنوات، فالمنبر الذي كان يعمل فيه، انضم إلى قافلة المؤسسات الإعلامية اللبنانية المنهارة بفعل التحولات السياسية والاقتصادية حتى الإعلامية. وفوق ذلك، جاءت الأزمة النقدية والاقتصادية التي عصفت بالمصارف اللبنانية، وأطاحت بالقيمة الشرائية للعملة الوطنية، وجرى الاستيلاء على حسابات المودعين. يقول بول شاوول: إن ما جناه طوال خمسين عامًا، بات عالقًا في المصرف، وعليه أن ينتظر من شهر إلى شهر، ليُسمح له بسحب مبلغ زهيد يذهب نصفه إلى مولّد الاشتراك، في ظل انقطاع كهرباء الدولة… وكل هذه المسائل والقضايا لها تداعياتها على نمط حياة، كان يعيشه صاحب «كشهر طويل من العشق»، فهو الذي اعتاد أن يقرأ الكتب الفرنسية، خصوصًا الشعرية، بات عليه أن يفكّر ألف مرة قبل الدخول إلى المكتبة لمواكبة جديدها، على أن هذا الواقع المزري لم يمنعه من الاهتمام بالشعر وكتابته، بل إن القلق نفسه جعله يكتب، ويكتب، بعد مدة انقطاع…

القصيدة المتوحشة

الجلسة مع بول شاوول فيها كثير من التشعبات والمواقف والآراء حول السياسة والشعر والشعراء، والترجمة والحياة اليومية، والحرب والحب، والذاكرة والحداثة، وبيروت بعد انفجار مينائها وتحطمها وتصدّع دورها.. يقول بول شاوول: إنه كتب قصائد عديدة تتعلق براهن المدينة وانفجار المرفأ، أبقاها جانبًا، وقد يعيد قراءتها أو كتابتها في مرحلة لاحقة، في وقت هادئ، إما أن ينشرها أو يرميها. فالبعد من القصيدة يدفع الشاعر إلى قراءتها بعين نقدية خارج إطار العاطفة ولحظة الحدث والاندفاع؛ ذلك لأن الشعر لبول شاوول مرهون بما يحمل من جديد، ويشكّل نوعًا من اللعب على اللغة، والقصيدة منحوتة لا تحتمل الزوائد، عدا كتابة القصيدة خارج أوانها ونضجها هو أشبه بعملية اغتصاب. ويرفض بول شاوول أن يكتب القصيدة ويترك الرأي العام يقرر أهميتها؛ ذلك أن هناك قلّةً يقرؤون الشعر، وهو لا يكتب الشعر لإرضاء الصورة المسبقة لدى الناس أو الجمهور. ويرى أن عظمة الشعر في جديده، وكتابته لا يمكن أن تكون بالاستناد إلى قراءة الشعر وحده، فالشاعر عليه قراءة الروايات والفلسفة والتراث النثري والشعر والبلاغة ومتابعة الفن التشكيلي والفوتوغراف والسينما، فهذه الروافد الثقافية في اللاوعي كلها تصبّ في الكتابة الشعرية…

طوال مدة انقطاعه عن الكتابة، كان بول شاوول يقرأ ويترجم ويتابع وينتظر اللحظة التي تنضج وتجعله يكتب القصيدة وينشرها؛ ذلك أن كتابة الشعر في رأيه هي «فعل وجودي»: «أنا أكتب الشعر إذًا أنا موجود». والشعر أيضًا هو «النبل» و«ملح الثقافة»، و«فن الحذف»، في مكان آخر يقول: «كل تحديد للشعر باطل. وكل مدرسة شعرية ببيانات هي باطلة». ويرى أن هناك نوعين من الشعراء؛ منهم من يكتب القصيدة في الليل وتخرج دفعة واحدة وينشرها في الصباح في كتاب وهو ليس ضده، ومنهم من تكون القصيدة بالنسبة لهم مشروع».

في هذه المرحلة القلقة، سيصدر كتابان شعريان لبول شاوول: «ذلك الجسد»، و«القصيدة المتوحشة» (عن دار المتوسط في إيطاليا). الكتاب الأول ذاتي، كتبه الشاعر بعد إجرائه عملية قلب مفتوح قبل مدّة، ويتناول القلب وأعضاء الجسد بلغة نثرية، يومية، سهلة، ممتنعة، بطريقة تجريبية مختلفة عن تجاربه السابقة، وخارج الأسلوبية. أما «القصيدة المتوحشة» فهي في رأيه من أصعب المغامرات في حياته، في سياقها التجريبي اللغوي الاشتقاقي، فيها شيء من «جنون اللغة»، وصفها أحد الأصدقاء بقصيدة العصر. يقول بول شاوول: إنه انتقى فيها كلمات غير رائجة من التراث، وأعاد استخدامها في سياق جديد. وهو يرى أن الكلمات تموت أو تحيا على يد الشاعر سواء في الجاهلية أو الآن… يتفادى بول شوول أن يصف قصيدته قبل صدورها، لكن في الملمح العام يقول: إنها قصيدة عن انهيار العالم اليوم وتحولاته وتفككه، بكل خيوطه ورجوعه إلى الماضي وبلغة الماضي؛ إذ ثمّة من يريد عودة العثمانيين، وثمّة من يريد عودة القياصرة، وثمة من يريد عودة الفرس.

إعدام الكتب والقصائد

يرفض بول شاوول التكرار في الشعر، بمعنى إذا نجح ديوان لشاعر يقوم بكتابة ديوان شبيه به؛ لأن هذا يؤدي إلى «طريق مسدود»، ويجعل الشاعر صدى وببغاء نفسه. بول شاوول من المؤمنين بالتجريب الذي هو «الحرية المطلقة»، بينما التقليد هو «موت الشاعر»، ويفضِّل أن يقلِّد الآخرين على أن يقلّد نفسه، لهذا لم يتردّد في إعدام كتاب جاهز للنشر في لحظة من اللحظات. يعترف بأن الشاعر عبده وازن أنقذ له ديوانين… في المرة الأولى كتب ديوانه «أوراق الغائب» في أثناء وجوده في قبرص في بداية التسعينيات من القرن الماضي، وهو أخذ كثيرًا من الجهد وإعادة الكتابة والحذف، وبعد الانتهاء بدا حائرًا ماذا يفعل به، وكان على حافَة أن يعدمه. بعد الاتصال بالشاعر عبده وازن قال له: إن لديه هذا الكتاب ولا يعرف ماذا يفعل به، فكان أن بادر، وأخذ نسخة، وحصل أن نُشر عن دار الجديد. وقبل أكثر من عشر سنوات كتب بول شاوول ديوانين وأرسلهما لدار النهضة العربية في بيروت ولم يُنشرا في حينه لأسباب شخصية، ومنذ مدة علم الشاعر عبده وازن بهما، وبعد وقت قصير جاء له بالكتابين مطبوعين على ورق، بعد أن كانا على قرص مدمج، وهما «حديقة الأمس» الذي صدر قبل مدة و«حجرة مليئة بالصمت».

يقول بول شاوول: إنه عندما قرأ «حديقة الأمس» لم يعجبه لكن أبقاه جانبًا، عبده وازن قال له: «إن هذا الكتاب تحفة»، أما «حجرة مليئة بالصمت» فعندما قرأه رماه في سلة المهملات، قال هذا الكتاب أقلّد نفسي فيه، ولم يسمع كلام عبده وازن والروائية علوية صبح اللذين حاولا منعه من «إعدامه». «حديقة الأمس» كان عنوانه «حديقة المنفى العالي» لكنه غيّره عند نشره لأن الحديقة في البيت، وهي موضوع الكتاب، يبست، والديوان عبارة عن مجازات ومونولوغات يحكي مع الوردة والشجرة، في مزيج بين الميتافيزيقي والواقعي، بين المجازي والملموس، بين اليومي والملحمي.

يقرّ بول شاوول بحذف 80% من القصائد التي يكتبها، ويخاف إعادة قراءة دواوينه التي طبعها، حتى لا يضطر إلى إعادة النظر فيها ورميها، فلديه دائمًا نقد ذاتي وقسوة تجاه ما يكتبه، عدا ذلك أضاع مخطوطة مسرحية في متاهة مكتبته الكبيرة وبين أوراقه الكثيرة، وعندما كان يفتش ذات مرة وجد ديوانًا مكتوبًا إلى امرأة أحبّها في السبعينيات من القرن الماضي، ونشر منه بعض المقاطع في ملحق جريدة «النهار»، وهو لا يريد نشره الآن؛ لأنه شيء شخصي وتحوّل للذكرى، ومجرد تذكار، أما المرأة التي كتب عنها فقد أصبحت في العالم الآخر.

وغالبًا ما يرى بول شاوول الشعرَ فنًّا أقلّويًّا، أو جنسًا أدبيًّا يهتم به عدد محدود من الأشخاص. هناك استثناءات قليلة من الشعراء لديهم جمهور عريض، مثل: نزار قباني الذي تقلّص جمهوره بعد رحيله، وكذلك محمود درويش… وعدا ذلك أبرز الشعراء في العالم، يبيعون من الديوان نسخًا قليلة، سواء الشاعر الفرنسي آرثر رمبو، أو ملارميه… ويرفض بول شاوول رفضًا باتًّا حفلات التواقيع التي تعتمدها دور النشر؛ في رأيه هي تقوم على مصالح وعلاقات عامة يهدف منها الناشر إلى المزيد من المبيع لأناس يجاملون، هم من عائلات أو الموظفين أو الأصدقاء، ومعظمهم لا يقرؤون، وحين طُلب من بول شاوول توقيع كتاب رفض، واشترى نسخًا من كتابه وزعها على أناس هو يختارهم ويعرف أنهم من قراء الشعر، ولا يتطفلون عليه.

ترجمة الشعر الشبابي

يتحدث بول شاوول عن تجربته المهنية، فيقول: إنه تابع مئات المسرحيات في العالم العربي (لبنان، وتونس، وسوريا، ومصر، والأردن وغيرها)، وترجم آلاف القصائد من العالم، وهو صاحب مقولة «وراء كل شاعر عربي شاعر أجنبي». صدر له أخيرًا ثلاث ترجمات شعرية، «كتاب الشعر الفرنسي الحديث (1900- 1985م)». يقول في تقديم الكتاب: «لم أختر الشعراء الذين أحب أو أميل إليهم فحسب، كما أني لم آخذ منهم الرموز التي تجسّد التيارات والمدارس أو الاتجاهات فحسب، إنما إلى جانب ذلك حاولتُ أن أوفق بين الاختيار البانورامي والعلامات الأساسية في الشعر الفرنسي. ولهذا لم أجد بُدًّا من اختيار شعراء، يشكلون؛ إما استمرارًا ضمن توجهات شعرية عامة، أو امتدادًا منوعًا لشعراء أساسيين. ومن هاجس إبراز مجمل النشاطات الشعرية، المهمة منها والعابثة، الراسخة والعابرة، العميقة والطافية، وكي يكون القارئ العربي على اطلاع على مجمل هذه النشاطات، لم أهمل أية محاولة شعرية لامعة في هذا الإطار».

والجزء الثاني أصدره بعنوان: «ملحمة الشعر الفرنسي الجديد 1960- 2016م»، يقول في تقديمه: «طبيعة الشعر أن يكون جديدًا؛ يعني أن حركته في الوصول إلى سواه، أو أبعد منه، بطيئة. كل جديد بطيء الوصول، وكل جديد يتنكب المحمولات التاريخية، لكن بتحويلها هنا وتحطيمها، وتجاوزها، وهنا بالذات تكمن مشكلة الشعر، الذي يحمل هذه المواصفات، مع الآخر، أو مع الجمهور المستهلك السريع، أي المستهلك كل ما هو متجذر في عاداته وأنماطه، وأحاسيسه وأفكاره الجاهزة».

يقول بول شاوول لـ«الفيصل»: إن ثمة أسماء كبيرة في الشعر، تخطى ترجمتها سواء لويس أراغون أو بول إيلوار أو غيرهما، والآن يميل لترجمة الشعراء الشبان في العالم ليتعرّف إلى تجاربهم. وأصدر طبعة ثانية من كتاب «بابلو نيرودا/ مختارات شعرية من مجمل أعماله» (عن دار الجمل). يقول شاوول في المقدمة التي وضعها للكتاب: «ما زال شعر بابلو نيرودا يحتفظ بقوته ونضارته بعد زوال مختلف الظروف التي ساهمت في تغذيته وشحنه، فإنه يبدو الآن أكثر حضورًا مما كان في تلك المرحلة؛ ذلك أن الهالات السياسية التي كانت تغلف هذا الشعر وتحجب طاقاته الهائلة وتقننه وتوجهه توجهًا «أحاديًّا» أي توجهًا أيديولوجيًّا بالدرجة الأولى عبر الأحزاب والتنظيمات السياسية… قد تبددت لتترك الشعر وحيدًا بحياته الخاصة». ويضيف شاوول أنه خلال العمل على شعر نيرودا: «شعرت أولًا بأنني اكتشفت حجم نيرودا الشعري… ثانيًا شعرت بأن الأحزاب اليسارية العربية أساءت إلى هذا الرجل عندما قدمته في صورته الطاغية (كمناضل سياسي) وأغفلت ما تناءى من شعره عن سياساتها…».

حتى في علاقته بالشاعر محمود درويش، يميز شاوول بين نضالية الشاعر الفلسطيني التي لا يحبها، وذاتيتها التي جعلته يكتب قصيدة مختلفة. وذات مرة أجرت معه صحيفة إماراتية حديثًا، ووضعت عنوانًا: «بول شاوول.. الآن بدأ محمود درويش يكتب القصيدة»، يومها كان درويش أصدر ديوانه «سرير الغريبة»، ووصل كلام لدرويش يقول: إن بول شاوول يشتمه، وحين التقاه في إحدى المناسبات الثقافية في الأردن، جادله خلال جلسة، وقال له بما معناه: إن معظم الشعراء العرب يبدؤون بديوان جيد ثم يتراجعون، أنسي الحاج في «لن»، سعيد عقل في «قدموس»، أحمد عبدالمعطي حجازي في «مدينة بلا قلب»، الماغوط في «حزن في ضوء القمر»؛ أما محمود درويش فبدأ بقصائد تلبي ما يريده الجمهور، وفي أعماله الأخيرة عمل على تطوير نفسه والتجديد، وعاد إلى الشعر الذاتي على عكس معظم الشعراء العرب، ومنذ تلك الجلسة أصبحت علاقة بول شاوول بمحمود درويش على أحسن ما يرام… وفي المقابل بقيت متوترة مع الشاعر أدونيس منذ زمن.

صورة الشاعر وشعره

على عكس صورة بول شاوول الملازمة لشارع الحمرا ومقاهيه، فهو في الشعر يُكوّن تجارب متعدّدة، وكل قصيدة بالنسبة إليه تجربة جديدة. يميل إلى الاختبار والتجديد والاختلاف لا التكرار، والقراءات في شعره، تقول عن تعدّديته، ومصادر إلهامه، الفرنسية أو التراثية بشكل أقل. يقول الشاعر اللبناني أنطون أبو زيد في كتابه «مدخل إلى قراءة قصيدة النثر» (دار النهضة): «كان بول شاوول أحد شعراء السبعينيات الذين تنامت نبرتهم الشعرية وتعالتْ وسط الهامش الثقافي غير الرسمي، وعنيت به هامش الانفتاح والتحرّر الذي أتاحته بيروت، مثلما أتاحت للكثيرين من الشعراء اللبنانيين والعرب، المجايلين للشاعر». والحال أن بول شاوول جرّب أشكالًا كثيرة، والتجريب في رأيه حلّ محل النظرية و«المدرسة» والنمطية؛ لأن النظرية الجاهزة تضعف التجريب، وهذا هو السبب الكامن وراء انهيار المدارس الشعرية كالسوريالية والدادئية، التي أرادت قتل الأب فقتلتْ نفسها. فهي تضع قالبًا وتقول: اكتب. وبول شاوول يرفض قتل الأب ويرى أنه شعريًّا ولد من آباء كثر. ففي عام 1974م، عشية الحرب الأهلية أصدر مجموعته الأولى «أيها الطاعن في الموت»، كتب الشاعر والمسرحي الراحل عصام محفوظ في مقدمة الديوان: «إنه صوت جيل بأكمله»، ولد في تلك المرحلة الجيل الثاني من شعراء الحداثة، سركون بولص، أنور الغساني، عباس بيضون، وديع سعادة وغيرهم.

وفي عام 1977م أصدر مجموعته «بوصلة الدم» وهي قائمة على عبثية المعنى، وأقرب إلى قصيدة سياسية غير منبرية وغير خطابية، أتت مباشرة بعد موجات العنف في لبنان… وفي ديوانه «وجه يسقط ولا يصل» (1981م)، القائم على كثافة الصورة، كتب ما سُمِّي آنذاك «قصيدة البياض»، أي القصيدة المفتوحة المكثّفة المختزلة والمقطّرة التي تترك كثيرًا من الظلال فيما يسمّيه بول شاوول «المعنى الناقص» أو «الإيحاء الناقص»، و«ليس البياض زخرفًا ولكن باعتباره جزءًا مضمرًا من اللغة، نصف القصيدة كلام ونصفها الآخر صمت». يقول شاوول: والقصيدة «تتخذ من البياض حيزها السينوغرافي، تمامًا كما في المسرح، حيث يلعب الفضاء السينوغرافي دورًا مكملا للكلمة». تقول الكاتبة مليكة مبارك (مجلة نقد): و«الفراغ في كل مجموعاته يبدو ماثلًا، ناظمًا المدى النصي في كل قصيدة على النحو الذي ينسجم مع فلسفته الشعرية العدمية».

وفي ديوانه «الهواء الشاغر» (1985م) حاول بول شاوول «إيصال القصيدة إلى أقصاها، حيث إن الكلام التبس مع فراغ الصفحة، فصار كلٌّ منهما امتدادًا للآخر؛ أي أن البياض لم يكن تزيينيًّا ولا تجميليًّا، بل كان «جزءًا عضويًّا من بنية القصيدة»، هذه الصيغة الجديدة استدعت نوعًا من الالتباس مع كثير من الشعراء، ولا سيما شعراء الستينيات منهم. بعضهم قال: ماذا يكتب بول شاوول؟ أيجعل من كلمتين قصيدة؟ ولماذا هذا التدمير البنيوي لجسم القصيدة وتواصل عناصرها الظاهرية؟

بول شاوول النرسيسي كما يصفه بعضٌ، من المعنيين باكرًا بالحداثة الشعرية والنقدية، في اللغتين العربية والفرنسية معًا. من خلال نتاجه الشعري والنقدي وترجماته المعروفة أصدر في عام 1990م «موت نرسيس»، الذي يتضمن غنائية صاخبة متدفقة. وفي عام 1992م أصدر «أوراق الغائب»، وهو محطة بارزة في حياته، عاد للجمع بين مختلف الكتابات السابقة في قصيدة طويلة مبنية على المقاطع والتوازنات، لتتصل في جَوَّانِيّتها وتشكِّل المناخ العام… ويرى شاوول هذه القصيدة «تتويجًا غير مباشر لكل ما اشتغله»، «هي لحظة التقاء لمجمل إرثه الشعري» (يوسف بزي – مجلة الناقد)… إذ لعب «لعبة التدفق الملجوم، والغنائية المحجبة، ولعبة البياض الإيحائي، كأن هذه التجربة قد اختزلت ربع قرن من الشعر».

فكما لعب في «موت نرسيس» اللعبة المضادة لـ«الهواء الشاغر»، قال: عليه -ليتخلص من «أوراق الغائب»- أن يلعب اللعبة المضادة، أي محاولة كتابة نص ناثر ملموس، شهواني، مشهدي، تكون اللغة فيه آتية من مكان آخر. وتجلت التجربة في «كشهر طويل من العشق» (2001م)، الذي وصف بـ«الملحمة الشعرية العاطفية» كتب أول مقطع بعنوان «نساء» بـ«لغة ملموسة تستنفر التراث القديم من دون أن تقع في متحفيَّته». واتّهم بالعودة فيها إلى التراث وإن كان هذا ليست تهمة بالنسبة إليه؛ لأنه اشتغل تجريبيًّا على المادة القديمة، ووضع تراكيب قديمة في سياق جديد، لتفقد هذه التراكيب القديمة هويتها الأصلية، وفي الوقت نفسه، ثمة من الشعراء من عمل على محاكاة قصيدة «نساء» في الديوان. وهو في هذا الكتاب «شاعر معنى وشاعر لغة وشاعر اشتقاق لغوي»، وحاول «الكشف عن الذات الشعرية المتوحشة في أعماقه والذات الشبقية الأخرى، من خلال كتابته لنص مختلف، نص يأتي بكل حرياته وفوضاه، يفرض رؤى الشاعر البصرية على القارئ النموذجي المتفاعل» كما كتب
فاضل سلطاني.

وبالتزامن مع «كشهر طويل من العشق»، كتب بول شاوول «نفاد الأحوال» (2001م) بلغة شفوية ودرامية. يتوقف عند تفصيل عبثي يفتتح من خلاله مرثاته النثرية-الشعرية، فيتكلَّم على «شعرة تسقط أحيانًا من رأسك ويسقط معها من الأمور ما لم يُعَدّ وما لم تلحظه على مرِّ الوقت والأحداث بخفة الهواء، وبحدَّة ما في المآسي والذكرى»… وفي «بلا أثر يذكر»، قراءة لحالات الكائن الذي يراقب حياة تجري من حوله. يبدأ الكتاب بداية لافتة: «ينتظر، يوميًّا، ذلك الرجل الذي يجلس وحده في المقهى، إلى الطاولة نفسها، وفي الميعاد نفسه، وبالملابس نفسها، وبالسيجارة نفسها». وينتهي الكتاب بالقول: «لقطة بانورامية على متاعه الأخير: علبة سجائر، المنفضة. القلم الجريدة. النظارات، ثم أخيرًا أصابعه على الطاولة وحدها بلا مثيل ولا قرين. ولا شيء يذكر».

دفتر سيجارة

ولئن اشتهر بول شاوول بالسيجار التوسكاني، فهو في جلساته، لا بد من أن يتطرق إلى السيجارة ونجومها وطقوسها. يقول: هناك حضارة ما قبل السيجارة وحضارة ما بعدها، وهي لها وقع خاص، في الحياة اليومية، في المقهى وفي السينما ولدى العُمّال. ويصف شاوول كتابه «دفتر سيجارة» بأنه من أجمل كتبه؛ من أصعبها ومن أسهلها في الوقت نفسه. فالشفوية والهشاشة في الكتاب تشبهان الدخان المتصاعد من السيجارة وورقتها ورمادها. الكتاب عن علاقة الشاعر بالسيجارة التي لم تكن تفارق فمه، ويحاول تصوير حالاتها المختلفة. يتذكر المدينة ومقاهيها وناسها، الذين مضوا أو لنقل الذين اندثروا وذابوا مثلما تذوي السيجارة بعد الاشتعال. لاقى الديوان قبولًا خاصًّا من المدخنين. وانتشر بشكل جيد. يقول شاوول: «أسعدني أنه أثار الاهتمام. حتى في المقهى الذي أداوم على الحضور إليه، طلب بعض الرواد نسخة منه ليس بسبب الشعر، بل لأنهم مدخنون مزمنون»… وحاولت جماعة الإخوان في مصر مصادرته إبان حكم الرئيس محمد مرسي لأسباب واهية وساذجة.

ثمة كتب لبول شاوول هي مزيج من قصص قصيرة جدًّا ونصوص شعرية ونثرية من «ميتة تذكارية» إلى «منديل عطيل»، و«عندما كانت الأرض صلبة». وأعادت دار «راية» في حيفا إصدار قصيدته «هؤلاء الذين يموتون خلف أعمارهم»، يهديها الشاعر إلى أطفال غزة، وهو كان نشرها في جريدة «المستقبل»، وأصدرها في كراس صغير في بيروت، ووزعها على من يحب قراءة الشعر. والقصيدة خطها شاوول في ليلة 31 ديسمبر 2008م وفجر 2009م، أي في واحد من أول أيام الحرب على قطاع غزة، وتختزل العديد من الإشارات…

بول شاوول المسرحي له مؤلفات مسرحية عدّة؛ منها: «المتمرّدة»، و«الحلبة»، و«قناص يا قناص»، و«الزائر». وترجم صموئيل بيكيت وغيره، وكتب للسينما حوار فِلْم «بيروت يا بيروت» لمارون بغدادي، وسيناريو المسلسل التلفزيوني «الخيانة» (إخراج سمير نصري)، كما اقتبس للمسرح «مذكرات مجنون» لغوغول. لكن يبدو أن الشعر في حياته طغى على ما عداه.

ذاكرة

لا تنتهي الدردشة مع بول شاوول من دون التطرّق إلى شيء من الذاكرة؛ ذلك أن حياة صاحب «أوراق الغائب» في شارع الحمرا، لا ترتبط بمجرّد مكان للسكن، فهو اختاره لأنه المكان التعدّدي والمنفتح واللاطائفي، وهو يرفض العيش والسكن في الأماكن الطائفية والأحادية ذات اللون الواحد. ففي 1978م كان يسكن في منطقة شرق بيروت، ذات الأغلبية المسيحية، هدَّدَته الميليشيات اليمينية بحرق بيته إذا لم يغادر؛ ذلك لأنه كتب ضد الميليشيات وما فعلته في مخيم تل الزعتر خلال الحرب، وتعرض للخيانة والوشاية من أقرب المقرّبين إليه، هاجمه حزب الكتائب بتهمة أنه شيوعي، غادر المكان ولم يكن حينها يملك سوى خمسين ليرة لبنانية، وكان بلا عمل، سكن في شقة مفروشة في شارع الحمرا، وهي من الشقق التي لم تكن صالحة للسكن، ثم انتقل إلى الشقة التي ما زال يسكن فيها منذ عام 1979م… في بيروت لاقى احتضانًا من القوى اليسارية والوطنية، وكان لديه أصدقاء من معظم القوى… وخلال الحرب حُرِمَ رؤيةَ أهلِه مدةَ 12 عامًا.

لم يكن بول شاوول شيوعيًّا، بل كان ناشطًا وقياديًّا في حركة «الوعي» التي يصفها بأنها استمدت أفكارها واتجاهاتها من طبيعة التناقضات اللبنانية والعربية، وكانت تضم الروائي والشاعر أنطوان الدويهي والشاعر عقل العويط والمؤرخ عصام خليفة وغيرهم. ونجحت هذه الحركة في استقطاب العديد من طلاب الجامعات وبعض الثانويات حتى صارت واحدة من أهم القوى في الجامعة اللبنانية. وقد انتهت وتفرق شملها عندما بدأت الحرب وصارت القوى السياسية تطلق النار على بعضها. وعلى الرغم من الأحداث الأليمة التي عصفت بالعاصمة اللبنانية، فقد بقي بول شاوول، المولود في بلد سن الفيل، صامدًا في منطقة رأس بيروت، فخلال الحرب بين ميشال عون والجيش السوري في لبنان أواخر الثمانينيات، سقطت قذيفة على منزله أتلفت 500 كتاب من مكتبته، وتهجّر مدة إلى قبرص، وعمل في وكالة الصحافة الفرنسية. وإبان غزوة حزب الله لبيروت في 7 مايو/ أيار 2008م تهجّر لنحو ثلاثة أشهر من الشارع الذي أحبّه، والذي احتلته الميليشيا.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *