ممدوح عدوان حاضر في الحرب ويعيش في يوميات الناس

ممدوح عدوان حاضر في الحرب ويعيش في يوميات الناس

تنطلق وجاهة الكتابة عن ممدوح عدوان (1941- 2004م) من قدرة كتاباته على الديمومة. فقد أعيد إحياء كثير منها في سنوات الحرب السورية التي بدأت عام 2011م، لما أثبتته من قدرة على محاكاة يوميات الناس على الرغم من رحيل كاتبها وافتراض تبدل الأحوال الزمانية للحظة الكتابات تلك إلا أنه ثبت قدرتها على العيش طويلًا.

من بين تلك الكلمات التي حفظتها أجيال متتابعة، ما قاله في حديث موثق بالفيديو في اجتماع القيادة القطرية أوائل ثمانينيات القرن المنصرم. والقيادة القطرية، التي صار اسمها لاحقًا القيادة المركزية، هي التشكيل الذي يقود حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم لسوريا منذ نصف قرن ويزيد. قال حينها: «بعد الشارع السياسي السوري عن السلطات السورية المتتالية سببه تاريخ من وقوع هذا الشعب ضحية لكذب الأنظمة، لذا لا يصدقها… الإعلام كمعبر عن السلطة يكذب أيضًا، أنا أشتغل في إعلام أخجل منه لأنه يكذب بهذا المقدار…».

أثارت تلك الكلمة في حينه زوبعةً كبيرةً كادت تكون كفيلة بزجّ صاحبها في السجن سنوات طويلة، ولكن لسبب غير معلوم لم تقده إلى ذلك المصير، على الرغم من أنه تناول فيها جدليات لا يجوز تناولها في السياق السوري، ومن بينها تناوله ما كان يعرف بـ «سرايا الصراع» وهي القوات العسكرية التي كان يقودها رفعت الأسد، شقيق الرئيس الراحل حافظ الأسد التي جرى حلّها لاحقًا.

وكذا، ظلّ عدوان المولود في قرية قيرون التابعة لناحية مصياف وسط سوريا ثائرًا على المفاهيم والخطوط الحمراء، مقدمًا في سلسلة من الأعمال الأدبية والشعرية آراءه التي يقول مثقفون سوريون: إنها أزعجت السلطات كثيرًا، وفي غير مرة، ولكن حاضنته الشعبية تمكنت من حمايته على الدوام.

حيونة الإنسان

رحل صاحب «الدماء تدق النوافذ» تاركًا خلفه إرثًا مكونًا من نحو 90 كتابًا بين الأدب والفن والثقافة والمسرح والشعر والترجمة. لعل من أهم ما تركه عدوان في الأدب هو كتابه «حيونة الإنسان» المقسم إلى عشرين فصلًا، و284 صفحة، والصادر عن دار قدمس للنشر عام 2003م. يشرح الكتاب مليًّا علاقة الضحية بجلادها، وسرّ سطوة الجلاد وتوحشه وانعدام إنسانيته، رابطًا ذلك بتموضع السلطة نفسها وحيثياتها وقدرتها على تطويع الآخرين لتنفيذ سياساتها مهما بلغت من شدة ولا إنسانية.

يقول في مقدمة الكتاب: «المسألة هي أنني أرى أن عالم القمع، المنظَّم منه والعشوائي، الذي يعيشه إنسان هذا العصر، هو عالم لا يصلح للإنسان، ولا لنمو إنسانيته. بل هو عالم يعمل على حيونة الإنسان». وفي خاتمة الكتاب يخلص عدوان إلى القول: إنه كم فقدنا من كرامتنا وتضامننا الإنساني وإحساسنا بإنسانيتنا، حتى صرنا نتعود الإذلال المحيط بنا، لنا ولغيرنا؟ وينعكس تعودنا على هذا الإذلال في أننا صرنا نعد تعذيب السجين أمرًا مفروغًا منه، لم نعد نتساءل عن أثر ذلك التعذيب في السجين الضحية، حتى بعد خروجه من السجن.

يقدم عدوان كتابه ذلك على شكل أقسام متصلة- منفصلة، تجمعها وحدة الموضوع العام، وتفصلها حيثياته الدقيقة، لتكون النتيجة العامة هي التي جاءت في موضوع البحث الذي أراد منه أن يشرح للقارئ كيف يتحول السجان في لحظة القوة إلى «سفاح وطاغية»، وكيف يتحول الضحية إلى «مستسلم وراضٍ».

ولعل أهم فصول الكتاب كان فصله الثالث «ورطة الإنسان الأعزل». في هذا الفصل يشرح مطولًا كيف يتحول الإنسان إلى جلاد يوقع الأذى بأخيه في الإنسانية، بمعزل عن تهمته، إن وجدت أساسًا. ويؤكد عدوان هنا أن الجلاد ينفذ أوامر السلطة، وهذا الاعتقاد هو الذي يجعله مرتاح الضمير.

الأثر النفسي للذات البشرية

الكتاب الذي وضعه عدوان عام 2003م، وعلى الرغم من أنه جاء منبثقًا من رحم اليوميات السورية، فإن أحدًا ما كان ليتوقع أن يجيء يوم يصير فيه إسقاط الكتاب على الحال السوري مطابقًا تمامًا لما جاء فيه، بعد أن اندلعت الحرب السورية، وأحالت معها البلاد إلى كتل من دمار ورماد، وبينهما كثير من الدماء التي سفكت بدواعٍ أيديولوجية مرات، ودواعٍ تتعلق بإشباع القاتل لقوته في مرات أخرى، حتى صار المجتمع السوري يرزح تحت وطأة الخوف من القتل المهيمن كجسدٍ ثقيل الظل فوق البلاد والعباد.

الخطف هو الموضوع الأبرز الذي يمكن الاستدلال به على ذلك. الخطف الذي بدأ بعد أول رصاصة أطلقت في البلاد وما زال مستمرًّا حتى اليوم. الخطف الذي يمارس فيه الخاطفون أقسى وأشنع أنواع التعنيف بحق مخطوفيهم. ذاك النوع من التعذيب الذي يشي بوجود ثأر غير معلوم بين الطرفين، إلا أنه ثأر وهمي، في ظل انتفاء معرفة مسبقة. ثأر يمارس فيه السجان سطوته وقوة نفوذه وعنجهيته ومكابدته النفسية على جسد ضحيته، فلا يرتاح إلا والكدمات تملأ الجسد المعذب، والدم يسيل من كل مكان، وسيكون الحظ في جانب المخطوف لو نجا بطريقة ما، وعاد ليعيش حياته، لكنه سيعود حاملًا على كتفيه عبء آلام نفسية لن تبارحه.

هذا بالضبط ما قصده عدوان يوم لم يكن في سوريا أي شيء يشي بما هو قادم، في سنة وضعه للكتاب ذاك. ولكن بُعْدَ نظره جعله يبحث عن الأثر النفسي للذوات البشرية، الذي يمكن أن يتجاوز عباءة الحاضر ليصبح صالحًا للإسقاط على أي زمان ومكان، خصوصًا في هذا الشرق المفعم بأنين ضحاياه.

الحوار الأخير

الثائر لأجل كرامة الإنسان رحل حزينًا على الرغم من الابتسامة التي زينت محياه في آخر إطلالاته التلفزيونية مع الكاتبة والصحفية السورية القديرة ديانا جبور في برنامجها «طيب الكلام» الذي قدمته بين عامي 2002-2005م. عرّفت جبور ضيفها قائلةً: إن يومه سبعون ساعة لكثافة ما أنجزه. عدوان في تلك الحلقة ظهر فاقدًا لشعر رأسه؛ بسبب تداعيات المرض الذي ألم به وأدى لوفاته.

بهدوء الواثق بما يفعل طالعته جبور بسؤال افتتاحي عن مرضه العضال. أجاب بأنه يشعر بأن الموت ليس له، وبأنه لا يخاف إلا أن يعطل الموت مشاريع في ذهنه لم تكتمل بعد. تابعت جبور الحوار مع عدوان بثبات انفعالي تتخلله ابتسامات الطرفين التي طغت على السؤال الأليم الأول. تحدث عدوان عن الحب والعلاقات الاجتماعية والوطن والمفاهيم، في حوار بدا كلا طرفيه يمتلكان من الثقافة ما يجعله لائقًا بحوار أخير لشخص بحجم عدوان.

لو كان حيًّا

«نحن لا نتعود يا أبي إلا إذا مات شيء فينا، وتصور حجم ما مات فينا حتى تعودنا على كل ما حولنا!». لعل هذه الجملة التي قالها عدوان يومًا، هي أكثر ما يُتداوَل على حسابات السوريين في مواقع التواصل الاجتماعي في سنوات الحرب.

من السهل انتشار هذه الجملة على الألسنة أيضًا، وكتابة بعضٍ لمقالات مفتاحية تنطلق منها، وتستند إليها، وترتكز عليها، في فهم مضامين ما آلت إليه أمور الصراع في سوريا، فليس من المعقد تفسيرها، ولا إسقاطها على الحال السوري. فالسوري الذي يعيش الابتلاء اليوم بدءًا من أبسط متطلبات معيشته البديهية، وصولًا إلى أعقدها، كل ذلك يحيله إلى معاني الجملة إياها. تراه ماذا كان سيكتب لو كان حيًّا؟ هذه فرضية صعوبتها في سهولتها. كان سيكتب عن الوجع، عن السلطة، عن التغول والتوحش والدونية والعدمية والطبقية والأحقاد والتفاوت الذي قهر الناس. ذلك استنتاج يسهل تبيانه لأي شخص قرأ لعدوان الكثير أو القليل، قرأ له وعرف روح الرفض التي كانت بداخله لكل ما فيه قهر لأي إنسان في كل مكان.

في حياة العامة

يفخر عموم السوريين بسيرة الكاتب الراحل، ولكن على وجه الخصوص يفخر أهالي منطقته مصياف به، واصفين إياه بأعظم من أنجبت بيئتهم من أدباء، قائلين: إنه رفع رأسهم بين الناس. وفي هذا الإطار استطلعت «الفيصل» آراء أشخاص من أهالي تلك المنطقة. المهندس علي حمادة ارتسمت على محياه الابتسامة حين سؤاله عن عدوان، قائلًا: «تربطني قرابة به، أنا أقول له خالي، ونعم الخال هو، ليس ثمة أعظم منه مفكرًا وأديبًا ومسرحيًّا، لم يكن شخصًا عاديًّا، كان مفكرًا ذا بعد نظرٍ وكأن كل ما كتبه وقاله لنا يومًا سيصير حقيقةً لاحقًا، وهذا ما لمسناه خلال سنوات الحرب».

أما الأكاديمية في اللغة الإنجليزية ميساء بربر، فقالت: «علّه بيننا اليوم ليرى حجم ما مات فينا، عدوان تنبأ لنا بمستقبلنا، ومن كان يدري أن هذا المستقبل سيكون قاتمًا لهذه الدرجة». في حين أوضح المدرس عاطف سليمان أنه كان على السوريين أن يقرؤوا أكثر لعدوان والماغوط وبركات وغيرهم؛ ليعرفوا تركيبة البلد التي يقوم عليها، وكان ذلك من شأنه لو تم أن يخفف من وطأة ما وصلت إليه بلاده، «لو نقرأ عدوان اليوم وأمس وغدًا سنجد أنه كتب عن حاضرنا، رحمه الله». كثيرةٌ هي الآراء التي يمكن رصدها حول عدوان، انطلاقًا من بلدته، وبلاده خاصةً، والعالم العربي عامةً، وقد يكون من الصعب إيرادها، ولكن من الأكيد أن الناس تعلم جيدًا قيمة الخسارة التي خلفها رحيله. رحيل كاتب دوّن الوجع الذي صار لاحقًا عنوانًا ليوميات السوريين.

دار عدوان

افتتحت «دار ممدوح عدوان للنشر» أبوابها في دمشق عام 2006م تكريمًا لذكرى الأديب الراحل، وتكريسًا لحلمه بتأسيس دار نشر تشكل منبرًا للكتاب الجدد. إذ اتخذت زوجته إلهام عبداللطيف ذلك القرار، ويدير الدار اليوم ابنه مروان عدوان. وبحسب مروان فإن افتتاح الدار جاء مشروعًا عائليًّا معنيًّا حينها بتخليد ذكرى الراحل، ثم تطورت باتجاه اكتشاف مؤلفين وكتاب ومترجمين جدد.

عائلة عدوان أجبرت بحكم الظروف على إيقاف الدار مؤقتًا عام 2011م حين بدأت الحرب السورية، قبل أن تغادر العائلة البلاد حينها، واستمر إيقاف الدار حتى مطلع عام 2015م. تتالي سنوات الحرب أفضى لعصف ذهني في عائلة عدوان دفعهم لإعادة افتتاح الدار من جديد، محمولين على الحرب نفسها، بمراقبة النتاجات العربية والدولية التي تعاطت مع أزمات وحروب مشابهة. لا ينفي ولده تقصيرهم في متابعة نتاج والدهم، حيث طبعوا له عند افتتاح الدار نحو عشرين كتابًا فقط، مبينًا أن الأولوية كانت دائمًا لكتابه الأهم «حيونة الإنسان»، ولا سيما أن الواقع العربي مغرق في السواد. وفي انطلاقة الدار الجديدة كذلك لم يُتدارَك كل نتاج عدوان، بغية إعطاء الكتّاب الشباب فرصتهم. ولكن عائلة عدوان تؤكد أنهم سيعودون من جديد لاستكمال طباعة بقية نتاج الكاتب.

اليوم تعمل الدار على ثلاثة مشروعات منفصلة: نتاجات عدوان كاملة، صدى الحرب السورية والحروب الأخرى حول العالم وتعاطي الشعوب معها، والاستمرار في دعم الشباب. وحول الجانب الربحي، يقول ابنه مروان: «الثقافة دائمًا مشروع خاسر، وبالمقابل لن ننشر عملًا رديئًا حتى بمقابل مادي».