ناصيف نصار: عصرنا المضطرب يحرر الحرية من الالتزام الأخلاقي والنزعة «الفردانية المتطرفة» تهدد كرامة الجسد

ناصيف نصار: عصرنا المضطرب يحرر الحرية من الالتزام الأخلاقي

والنزعة «الفردانية المتطرفة» تهدد كرامة الجسد

قلما نجد في الفلسفة العربية المعاصرة، فيلسوفًا مشغولًا في «اجتماعيات الجسد» وأسسها الفلسفية، قادرًا على «إبداع المفاهيم» فيها، ومبتكرًا لتنظيرات في «الذات المتجسدة» وحضورها في العالم، وناقدًا «للنزعة الفردانية المتطرفة» في تأويل خصوصية الجسد.
يقدم الفيلسوف اللبناني ناصيف نصار مطارحات فلسفية جديدة حول اللباس والجسد، تختلف عن المسارات التي طبعت مؤلفاته السابقة، بدءًا من أطروحاته عن ابن خلدون وفلسفة الأمر والحرية ومفهوم الأمة، مرورًا بتأسيس الاستقلال الفلسفي في الفكر العربي المعاصر، وقوله في النهضة العربية الثانية، والعلمانية بوصفها تطورًا تاريخيًّا بالنسبة إلى الدين، وصولًا إلى «فلسفة الوجود» و«المعيّة»، ومعنى العيش مع الآخر في المجتمع الديمقراطي المفتوح.
يحيلنا نصار في «كتاب عشتار في اللباس والجسد» (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 2022م)؛ إلى مطارحة فلسفية جديدة، استُنهِضت بعد نشر مؤلفه «النور والمعنى تأملات على ضفاف الأمل» (2019م)، فرأى أن الوقت قد حان «ولو بصورة مرحلية»، للنزول بالسؤال الفلسفي من الميتافيزيقيا، إلى قضايا الحياة اليومية عبر «تحديد موقع الجسد في الكيان الإنساني» والتاريخ والمجتمع والعائلة، محذرًا من أخطار تسليعه بما يهدد كرامته و«كرامة العقل» البشري.
في حوارنا مع ناصيف نصار، نبني على كتابه هذا، إشكاليات جديدة، تدور حول «فلسفة الجسد» في الفضاء الثقافي العربي، والأخطار الناجمة عن التأويلات المتطرفة للهويات الجندرية، والفوران في «الأخلاقيات الجديدة»، و«ثقافة الرغبة» والحضارة الرقمية وسياسات الإنجاب في المجتمعات الأوربية.
وإذ يعدنا نصار بمتابعة مشروعه بين عشتار والحكيم في كتاب آخر ننتظره، يُجيبنا في الحوار الذي أجريناه معه عن هذه الإشكاليات وغيرها.

القول الفلسفي في الجسد: من الكمون إلى الظهور

  شكل مؤلفك «كتاب عشتار في اللباس والجسد» تفكيرًا جديدًا في مسار اشتغالك الفلسفي؛ فكتبت عن الجسد والعري واللباس في المجالين الخاص والعام من منظار فلسفي؛ سؤالي هنا من شقين: ما الذي دفعك للكتابة في موضوع الجسد وحضوره في العالم؟ وهل يمكن القول: إنك أسست لـ«فلسفة الجسد» في الفضاء الثقافي العربي؟
  لا مبالغة في القول: إن الإنجاز المتحقق في «كتاب عشتار»، يشكل تفكيرًا جديدًا في مساري الفلسفي. ولكن بأي معنى من معاني الجديد؟ الجواب موجود في السبب الذي دفعني إلى تأليف الكتاب، وتاليًا، في موضوعه والطريقة التي اعتدتها في تأليفه. أما السبب فهو أني شعرت بعد الفراغ من تأليف كتاب «النور والمعنى» في عام 2017م، أن الوقت مناسب لكي أنزل بالسؤال الفلسفي، ولو بصورة مرحلية، من أعالي القضايا الميتافيزيقية إلى مجاري القضايا الحياتية اليومية. وذلك من أجل هدفين: الأول، تَبَيُّن كيف أن الفلسفة ضرورية ومفيدة في تناول قضايا الحياة اليومية، وتأييد التيار الذي يقول بذلك، من موقع استقلالي منفتح ومتفاعل معه وضده؛ والثاني: إعطاء «فلسفة الحضور» التي طرحتها في كتاب «الذات والحضور» بأسلوب شديد التجريد، ترجمة قريبة من مدارك الجمهور الواسع من القراء، الجمهور الذي لم يتحصل على تنشئة فلسفية عالية. وهكذا وقع اختياري على قضية اللباس؛ فانكببت على التفكير فيها، على كثرة الذين يتناولونها، سعيًا إلى كلام جديد فيها من وجهة فلسفية، على صعوبة ذلك في المجال التداولي العربي. وكانت النتيجة كما ينبغي أن تكون، أعني نظرية عامة حول اللباس كظاهرة كونية في تاريخ البشر منذ أقدم الأزمنة حتى أيامنا؛ مع تركيز خاص على الوظائف؛ لأن معظم النقاش الجاري حاليًّا في العالم كله حول الملابس يدور عليها، بصورة صريحة أو بصورة ضمنية.
ولكن لما كان اللباس بالتعريف يُحيل على الجسم الذي يغطيه، وكان جسم الإنسان يتميز عن جملة الأجسام الحيّة، بحيث إنه يستحق أن يُسمَّى جسدًا؛ فقد بات من المنطقي أن تشتمل، أي نظرية عامة حول اللباس، على قولٍ في الجسد. وهذا ما فعلته، وحرصت على إعلام القارئ به قبل أن يفتح الكتاب، عبر الإعلان أن «كتاب عشتار» هو كتاب «في اللباس والجسد»، وليس كتابًا في اللباس فقط، ولا كتابًا «في اللباس وما وراءه»، كما خطر لي في وقتٍ من الأوقات. هل يعني ذلك أني وضعت نظرية عامة في الجسد، كما وضعت نظرية عامة في اللباس؟ السؤال مشروع، ولا بد لي في هذه المناسبة من تحديد الجواب عنه، منعًا لسوء الفهم والتأويل. فما هو جليٌّ في الكتاب هو أني حاولت أن أجعل من ظاهرة اللباس موضوعًا فلسفيًّا، وحاولت تاليًا أن أضع نظرية عامة حول هذه الظاهرة تحت عناوين محددة، من دون ادعاء بأن هذه النظرية مكتملة في جميع جوانبها. وتطرقت بحسب ما تقتضيه طبيعة الموضوع إلى مسألة الجسد، فلم يكن مقصدي، في المنطلق أن أتخذ من الجسد موضوعًا لنظرية عامة قائمة بنفسها. وإنما تدرجت الأسئلة والأجوبة حتى بدا الأمر وكأن نظرية في الجسد تخرج شيئًا فشيئًا من الكمون إلى الظهور، ومن الخلف إلى الأمام، وينشأ جراء ذلك إمكان التباس حول طبيعة العلاقة بين نظرية اللباس ونظرية الجسد في الكتاب.
وفي الواقع، لا يمكنني إنكار وجود تداخل وتشابك بين النظريتين في الكتاب، ويعود للقارئ حقه في تفسير التداخل والتشابك بين النظريتين، ولكن من دون مبالغة في استتباع الواحدة للأخرى. علمًا بأن نظرية عامة حول الجسد بالمعنى الوجودي الكامل، أوسع بكثير مما ينطوي عليه الكتاب في شأنها.
هذا ما أجده ضروريًّا في الإجابة عن الشق الأول من السؤال، وهو يتعلق بما دفعني إلى الكتابة في موضوع الجسد وحضوره في العالم. أما الشق الثاني، وهو يتعلق بإمكان القول: إني أسست لـ«فلسفة الجسد» في الفضاء الثقافي العربي، فإني أرى أنه من الأفضل توجيهه إلى الباحثين الدارسين للفكر الفلسفي العربي المعاصر. على أن ما يعنيني منه في هذه المناسبة، قد يساعد القول فيه على جعل الفضاء الثقافي العربي، أكثر انفتاحًا على المسؤولية الفكرية الأصيلة الواجبة عليه، في معرض التصدي لقضايا الوجود الكبرى المتحركة في ظواهر الحياة اليومية ومشكلاتها.
التأسيس لفلسفة الجسد كما لكل فلسفة تدور حول موضوع محدد، لا يقتضي تكوين فكرة عامة عن الجسد، وإنما وضع الأسس لبناء نظري متناسق الأجزاء حول ظاهرة الجسد. هذا هو المعنى الصحيح والقوي للتأسيس في البحث الفلسفي حول ظواهر الوجود والمعرفة والعمل، ومن بينها ظاهرة الجسد. وبهذا المعنى، يمكنني القول: إن عملي يقع في إطار التأسيس لفلسفة الجسد، ولكنه لا يبلغ مستوى الإنجاز التام لمشروع تأسيس البناء النظري المتناسق الأجزاء حول ظاهرة الجسد.
طرحت في الكتاب مجموعة من المفاهيم والأفكار، تقوم بدور المبادئ في النظر العقلي إلى الجسد، كالتمييز بين الجسم والجسد، وتحديد موقع الجسد في الكيان الإنساني، بين الجسمية والذاتية، والتركيز على مفهوم الجسد بوصفه «أنا متجسدة» أو «ذاتًا متجسدة»، والتمييز بين الملكية والاستخدام في علاقة الفرد البشري بجسده، ونقد «النزعة الفردانية المتطرفة» في تأويل خصوصية الجسد، ونقد النظام الرأسمالي بوصفه نظامًا يدفع دفعًا إلى تسليع الجسد، وضرورة الارتقاء بتجربة العري من الجسد العاري إلى الذات العارية، وسوى ذلك من الأفكار التي اقتضاها الموضوع أو السياق.
ولا ريب أن أفكارًا كهذه إذا فُصِلَت عن نظرية اللباس، وجرى توظيفها واستكمالها في دراسة ظواهر أخرى، يتجلى الجسد بقوة في بنيتها وممارستها، فإنها ستكشف بوضوح أكبر عن قيمتها بوصفها عناصر مؤسسة لفلسفة الجسد في الفضاء الثقافي العربي. وفي هذا الاتجاه لا يمكنني إلا العمل على مقاومة التشاؤم، وحث الجيل الطالع من المشتغلين بالفلسفة في أقطار العالم العربي على الاستعداد للقيام بدوره في هذا المجال.

عشتار والحكيم… التفكير بصوتين

  منهجيًّا، اعتمدت في الكتاب على التقليد الأفلاطوني في القرن الرابع قبل الميلاد، من الجدل السقراطي القائم على الحوار والسؤال والجواب، فعشتار في الكتاب «آخر متخيل». لماذا اخترت هذا التقليد الفلسفي؟ ومَنْ عشتارُ المتخيلة بالنسبة لك، هل هي عقل المرأة أم عقلك الموازي؟
  في حقيقة الأمر، لا أشعر بأي غضاضة إذا وجد القارئ أو الناقد، كما تفعلين، أني اعتمدت في الكتاب على التقليد الأفلاطوني من الجدل السقراطي القائم على الحوار. إن فضل أفلاطون في الدفاع عن الفلسفة، وفي كيفية ممارستها بأسلوب الحوار، لا يضاهيه أي فضل آخر في تاريخ الفلسفة، حتى لو كانت ممارستها نقضًا لمذهبه وتجاوزًا له. وفي حقيقة الأمر أيضًا، إن الجدل السقراطي القائم على الحوار لا يشتغل في الكتاب تمامًا كاشتغاله عند أفلاطون، وبخاصة على طريقة توليد الحقيقة، فالمسألة تحتاج إلى بحث وتدقيق. ولكن دعيني أشرح وجهة نظري في الموضوع تسهيلًا للتفاهم حول هذا الجانب من الكتاب، بوصفه جانبًا جديدًا بالفعل من كتاباتي الفلسفية، ولم يسبق أن تطرقت إليه بصورة مباشرة وكافية.
نحن نتحدث عن الحوار، تارةً بمعنى الفعل، وتارةً أخرى بمعنى النتيجة. في الحالة الأولى، الحوار، كما يجري على ألسنة الجمهور بلا ضبط ولا تدقيق، هو ما يقوم به شخصان أو أكثر من تبادل الحديث حول أي موضوع يرغبان في التحدث عنه، واسمه الصحيح في لغتنا العربية هو «المحاورة». وفي الحالة الثانية، يعني الحوار نصًّا ناتجًا من فعل تبادل الحديث بين المتحاورين ومستقلًّا عنه بوصفه حدثًا ناجزًا في الواقع الموضوعي المحسوس. فمن المهم جدًّا أن نفهم ما نعني به بالمحاورة، بين أنواع تبادل الحديث بين الناس، وكيف حاولتُ تطبيقها في الكتاب بين عشتار والحكيم. ولنقل في البداية: إن كل حوار محادثة، ولكن ليست كل محادثة حوارًا. لماذا؟ لأن المحادثة اسم عام يطلق على جميع أنواع تبادل الحديث بين الناس، مع شروط لإجرائها أو من دون شروط موضوعة لها.
أهداف المحادثات بين الناس مفتوحة على شتى الأوضاع والأحوال والنشاطات، التي يجد الناس فيها سببًا لتبادل المعلومات والآراء والمواقف. ومن هنا أهمية الحديث بالمعنى الحصري، من كل طرف مشارك في المحادثة، في إطار حريته التامة في تحديد شكله ومضمونه. وإذا كان الأمر على هذا النحو، فمتى تتحول المحادثة إلى محاورة؟ تتحول المحادثة إلى محاورة، بحسب نظرتي إلى تداول الحديث بين الناس، عندما يتحول الموضوع إلى مسألة أو مشكلة مشتركة وبحث مشترك، بطريقة معينة بين المعنيين بها من أجل التوصل إلى حل مناسب لها، لأهميتها وتأثيرها.
أقول هذا وأنا أعلم كما تعلمين، أن هناك تعريفات أخرى للحوار لا تذهب إلى ما أذهب إليه في تعريفه. وهي منتشرة على نطاق واسع في عالم الإعلام وعالم السياسة؛ كأن يتولى صحافي مرموق توجيه مجموعة من الأسئلة، يتفنن في تحديدها وتركيبها وترتيبها وصوغها، إلى شخصية سياسية أو ثقافية للكشف عن جانب من أعمالها أو تاريخها أو مشاريعها، ويُقال: إنه أجرى حوارًا مع تلك الشخصية، ولا بأس في ذلك؛ إلا أنني أرى أن هذا الشكل من الحوار شكل ضعيف، وما أعدُّه حوارًا بالمعنى القوي، أو بالمعنى الأنموذجي أشد تركيبًا وتطلبًا. وأول شروطه أن يكون موضوعه مسألة أو مشكلة مشتركة، تحتاج إلى تفكير ومعالجة، لا عند واحد من طرفي الحوار، بل عندهما كليهما، ولو بتفاوت في الدرجة والاهتمام.
إذا كان زيد مكاوي يعتقد صادقًا أن الدخول في الحداثة الثقافية مشكلة حيوية يجب معالجتها، فإن حظوظه في حلها، أو في التقدم نحو حلها، ستكون أوفر وأفضل إذا وجد أن زيدون الأصفهاني يشاركه الرأي ويقبل أن يضم صوته، أعني خبرته وثقافته ومقترحاته إلى مسعاه؛ وذلك لأن ما ينتجه الحوار ليس نصيحة ولا استشارة، بل نظرة تأليفية أدى إليها تبادل الحجج بين المتحاوريْنِ، باحترام كامل بينهما.
الحوار الحقيقي بحث مشترك بين طرفين أو أكثر، حول سؤال محدد يتبناه كل طرف من جانبه ويحاول الإجابة عنه، مع الطرف الآخر بالانفتاح والتفاهم والدراسة لكل دليل مفيد في شأنه. وليس من المستبعد كليًّا أن يكون لدى الواحد أو الآخر جواب ما عن السؤال المطروح للبحث عند الشروع في الحوار. ولكن الدخول في الحوار يشترط تعليق هذا الجواب أو طرحه بصورة صريحة، تحت الفحص في مجرى الحوار.
لا يترك الحوار الحقيقي المشارك فيه بلا تغير في قناعته أو في نوعية علاقته بقناعته. ومن هذه الجهة، يختلف الحوار اختلافًا جذريًّا عن جميع أشكال المجادلة والمناظرة التي تحبها الجماهير، ويرفع المناقشة إلى أعلى مستويات الانضباط والإنتاجية.
أعتقد أن هذا الشرح كافٍ لكي يفهم القارئ كيفية تعاملي في الكتاب مع الحوار الذي جرى في اللقاءات بين عشتار والحكيم. في البداية، تأتي عشتار إلى الحكيم وتقترح أن تخوض تجربة حوارية معه حول قضية من قضايا الحياة اليومية التي يدور حولها نقاش ملتهب. فيقتنع الحكيم بعد تردد، ويشرع في تحديد موضوع الحوار بدقة حتى لا يذهب الحديث إلى استطرادات أو إلى مسائل لا صلة لها به. وهذا يعني أننا، منذ اللحظة التي وافق الحكيم فيها على إجراء الحوار مع عشتار، أصبحنا أمام طرفين متشاركين في بحث قضية اللباس، التي اتفقا على إجراء الحوار حولها، كلٌّ من زاويته الخاصة، ولكن باستعداد كامل لدى كل طرف للتفكير في رأي الآخر وتحديد موقف منه، قبولًا أو تحفظًا أو سوى ذلك.
يقول الحكيم لعشتار، بعد تحديد الموضوع وأسباب طرحه «سنحاول أن نفكر معًا»، ما يعني أن الحوار سيكون «تفكيرًا بصوتين»، يغتني الواحد منهما بالآخر ويفرح به حتى لحظة الامتلاء والسكون. وقد يرى القارئ في كلام الحكيم أسلوبًا مهذبًا لتشجيع عشتار وإخفاء تفوقه الفكري الذي جذب عشتار وهز مشاعرها؛ إلا أن ذلك، إذا كان صحيحًا إلى حد ما، فإنه لا يعني أن موقف الحكيم، يأتي من باب المجاملة والغش الناعم. الحكيم صادق في موقفه، على امتداد الحوار، ويصغي ويؤيد ويتحفظ ويعطي الدليل تلو الدليل، ويتوقف ويتراجع وينعطف، وينتظر من عشتار أن تفعل الشيء نفسه. وفي نهاية الحوار يؤكد الحكيم «الكتاب كتابك، يا عشتار، لولاك لما كان منه حرفٌ». وترد عشتار، معترفةً بفضله ودوره الريادي فيه، فتقول: «ولكنك أنت صاحب الرأي فيه».
وهكذا أردت أن يكون الحوار بين عشتار والحكيم تفكيرًا مشتركًا بصوتين يعبران عن شخصيتين مختلفتين، لا عن شخصية واحدة تحتل موقع المركز وأخرى تدور حولها وتعكس إشعاعها. وقد تطلب ذلك مني أن أعمل بكثير من العناية والدقة، على بناء هاتين الشخصيتين بطريقة تجعل الحوار بينهما ممتعًا ومثمرًا ومفضيًا إلى آفاق جديدة من البحث والاستكشاف.
عشتار شخصية فنية، والحكيم شخصية فلسفية، ولكل واحدة منهما هويتها وتاريخها ورمزيتها وانتماؤها والتزامها وإبداعها؛ والحوار بينهما حوار عصري، ينتظم في إطار نظريتي اللباس والجسد، ولكنه يمتد إلى ما هو أبعد وأشمل. هل يصح في ضوء هذا كله استرجاع صورة سقراط، وصورة هذا الشخص أو ذاك من الذين تحاور معهم في أعمال أفلاطون، لكي نفهم أسلوب الحوار الذي جرى بين عشتار والحكيم؟ إذا كان القارئ من أتباع نظرية موت المؤلف، فإنه يستطيع أن يتجاهل كل ما قلته عن كيفية استخدامي لأسلوب الحوار من أجل تبيين دور الفلسفة، في حالة محددة، في النظر إلى الحياة اليومية ومشكلاتها. وإلا، فإنه لن يخسر شيئًا إذا اجتهد تفسيرًا للحوار المكتوب والموجود بين يديه، وأخذ في الحسبان، ضمن اجتهاده، ما اعتقدته جوهريًّا في مفهوم الحوار وبذلت جهدي للتقيد به في كتابة النص الذي بين يديه.

الجسد «أنا متجسدة»

  طرحت في مؤلفك إشكاليات عدة جرى الإجابة عنها في ثلاثة أقسام رئيسة: أولًا: مفهوم اللباس ووظائفه، ثانيًا: سياسة اللباس والمؤثرات فيها؛ ثالثًا: مفهوم العري ودلالته في الوجود الإنساني. وعلى الرغم من تعدد المحاور يبدو أن الخيط الناظم لها هو «المطارحات الفلسفية حول العري»، حيث تنتقل في تنظيراتك من ولادة الإنسان عاريًا إلى موقفك الواضح من «ثورة الجسد العاري» عبر دفاعك بشدة عن «كرامة الجسد» أي كرامة الأنا والإنسان. برأيكم ما الذي أدى إلى تثوير الجسد في التاريخ المعاصر، سواء في المجال العام أو العالم الافتراضي، هل هو التحرر من الأخلاقيات أم ثقافة الرغبة والاستهلاك؟
  لا يستهويني في الوقت الحاضر الدخول في نقاش حول المحور المركزي بين المحاور المتعددة المتشابكة في الكتاب؛ لأن الحوار بين عشتار والحكيم مشروع مستمر ويتهيأ للانتقال إلى إشكاليات جديدة. ولكنني في المقابل أودّ التعليق على ما تسمينه «ثورة الجسد»، وعلى شيوع هذه العبارة في عالمنا اليوم، بصورة مذهلة ومقلقة. وأبدأ بالتساؤل حول ما إذا كانت هذه العبارة مصطلحًا علميًّا، يحمل دلالة دقيقة وثابتة في واقع الحال. إذا كانت الثورة فعلًا إراديًّا، عنيفًا عمومًا، يقوم به الإنسان (فردًا أو/و جماعة) ضد إنسان آخر، أو ضد وضع يريد تدميره والتخلص منه؛ فكيف يمكن إضافة الثورة إلى الجسد؟ وما العدو المراد التغلب عليه أو القضاء عليه؟
من الواضح، أن الجسد في حد ذاته ليس فاعلًا، أو بالأحرى ليس هو الفاعل الحقيقي، إلا إذا جعلنا الإرادة، ومعها الفكر والحرية، ظاهرة جسدية بحتة. ولا أظن أن جميع الذين يؤيدون القول بثورة الجسد في هذا العصر، يذهبون إلى نفي ما تنطوي عليه هذه الثورة من أصول في نفوسهم؛ فماذا يفعلون بالضبط من وراء تصرفهم على هذا النحو؟ إنهم يلعبون لعبة الإخفاء والاختصار، لأسباب يمكن تحديدها؛ فالمعنى المفهوم ضمنيًّا عندهم من عبارة «ثورة الجسد» هو أنها «ثورة باسم الجسد» أو «ثورة من أجل الجسد»؛ وأين ساحة هذه الثورة؟ المعنى المقصود ضمنيًّا هو ساحة الأوضاع والتقاليد والعلاقات التي يكون فيها للجسد -وبخاصة الرغبات الجسدية- دور حاسم لا يمكن تهميشه، كما في ثورة الفقراء والجياع، وثورة العبيد، أو ثورة الفلاحين. ولكن، لمّا كانت كل ثورة حقيقية تقتضي نظرية ثورية حتى لا تكون مجرد انتفاضة، على ما قال أحد كبار الثوار في القرن الماضي، فإن الغائب أو المغيّب في «ثورة الجسد»، هو الوسيط الذي يلعب دور الجسر بين الإرادة والفعل، وما هو سوى «فلسفة الجسد» أو بعبارة أدق «النظرة إلى الجسد». فالثورة التي تتحدد بأنها ثورة الجسد هي في الحقيقة ثورة في فلسفة الجسد وتاليًا في «سياسة الجسد»، قبل أن تنتقل إلى الإجراءات العملية الممكنة بحسب الظروف. وعندما يغيب هذا الوسيط، يجد الداعون إلى ثورة الجسد أنفسهم متحررين نسبيًّا من مشقات الخوض في التسويغ النظري لدعوتهم، وينصرفون بسهولة إلى توجيه الشعار نحو أغراضهم المخفية عن الجمهور.
لا تقبل عشتار أن نتعامل مع الشعار، على قوته وجاذبيته، بوصفه حقيقة مؤكدة، إنها تريد إخضاعه للنقد العقلاني حتى يتبين لها ما يخفيه وما يسعى إليه من دون غشاوة أو غش. فيرحب الحكيم بموقفها، ويشد النقاش نحو الأسس الفلسفية التي يقوم عليها الشعار، ويحدد بهذه الطريقة ما يقبله وما لا يقبله من القول بثورة الجسد.
في الواقع، إذا عرفنا بفضل النقد الفلسفي الصريح، أن الجسد ليس حقيقة تامة في ذاتها، منغلقة على ذاتها، وإنما هو «أنا متجسدة»، وأن كل «أنا تحيا» حياتها الخاصة «وجودًا بالمعية»، فإن المشهد الذي يحيط بثورة الجسد يختلف عندئذٍ اختلافًا جذريًّا عما يروج له، على العموم، الدعاة الإعلاميون لثورة الجسد. ويتضح كيف أن الدفاع عن ثورة الجسد، يستمد شرعيته من الدفاع عن كرامة الجسد، وكيف أن كرامة الجسد جزء لا يتجزأ من كرامة الشخص البشري، وكيف أن كرامة الشخص البشري غير قابلة للاختزال في أحد أجزائها.
في هذا الإطار، يسهل تفهم الأسباب التي أدت إلى «تثوير الجسد في التاريخ المعاصر» على حد تعبيرك. فالثورة على هذا الصعيد، كانت بالفعل تثويرًا على مراحل. إنها ترجع إلى ثلاث مراحل تمركزت في الغرب وامتدت منه إلى مختلف مناطق العالم؛ المرحلة الأولى هي مرحلة الثورة البُرْجوازية التي أنتجت شعارات الثورة الفرنسية وفي مقدمتها الحرية الفردية، والمرحلة الثانية هي الثورة النسائية، تحت شعارات الحركة النسوية، وفي مقدمتها المساواة بين الجنسين، والثالثة هي مرحلة الثورة الجندرية الجارية تحت خليط من الشعارات، يبرز من بينها شعار فضفاض ميّال إلى اللانظامية وينبغي أن يسمى بالفلتان الجنسي.
وقد تعاقبت هذه المراحل وتراكمت مفاعيلها بدفع متواصل ومتزايد من الرأسمالية، ودعم من العلوم والتكنولوجيا وإشراف وتوجيه من بعض المذاهب الأيديولوجية. ولعل أحدًا من الباحثين الناشئين أو المتمرسين يأخذ على عاتقه دراسة هذه المراحل بالتفصيل. ففي الدراسة التاريخية الدقيقة تتوافر معلومات ثمينة ينبغي توظيفها من أجل تكوين تصور صحيح شامل عن تاريخ الجسد في العصور الحديثة من وجهة أنثروبولوجية، وصولًا إلى التاريخ الراهن الذي تقتضي مشاركتنا فيه، إعادة بناء «فلسفة الجسد» وإعادة كتابتها على صفحة تحمل توقيعنا.

الحجاب والنقاش الأيديولوجي السياسي

  تطرقت في الكتاب إلى الحجاب وأشرت إليه في مواقع كثيرة في أدب فلسفي عالٍ بـ«أخلاقية الستار»، وقد رفضت تغطية الوجه لأنه يشكل كرامة الإنسان وهويته، لكن في المقابل لم يتضح لي موقفك من «الحجاب التقليدي» الإسلامي، والمقصود به تغطية الرأس، فهل ثمة تردد عندك من طرح ذلك في مجتمعات عربية يغلب عليها تضخم التدين والتقوى الشعبوية، ويشكل جسد المرأة فيها أكبر فضاء لرمزية الجماعة والسلطة الدينية والسياسية؟
  أجل تطرقت إلى الحجاب وأشرت إليه في مواضع عدة من الكتاب، وذلك بالقدر الذي يتطلبه سياق النقاش بين عشتار والحكيم، مع علمي أن كثيرًا من القراء يتوقعون، أو ينتظرون أكثر من تلك الإشارات. والسبب لما فعلته ذو طابع إستراتيجي مهم للتأليف، حيث إن مسألة الحجاب هي مسألة زي من الأزياء، يدور حوله نقاش أيديولوجي سياسي، في حين أن موضوع الكتاب، نظرية عامة حول ظاهرة اللباس وظواهر أخرى متصلة بها، ومستوى الحوار الفلسفي، إنساني وكوني، وليس أيديولوجيًّا وسياسيًّا بالمعنى العيني للسياسة وجانبها الأيديولوجي، فلا داعي للخلط بين المستويين. بكلام آخر ليست مشكلة عشتار، مشكلة الفوارق بين الأزياء والمفاضلة بينها، بل مشكلة اللباس برمته وعلاقاته بالجسد والعري، والأنظمة التي تتحكم في إنتاجه واستهلاكه، وتاليًا هي مشكلة المبادئ العامة التكوينية والمعيارية، التي يراها العقل ضرورية ليحل تلك المشكلة، حلًّا مناسبًا لطبيعتها وخصائصها
أما مشكلة الأزياء، فهي مشكلة جزئية، فرعية، تطبيقية، نسبية، تجد حلها مع احترام المبادئ العامة في المكان الذي تنشأ فيه كمشكلة، أي في عالم السياسة، وعالم الأيديولوجية وعالم الأذواق الجمالية. وفي يقيني أن عشتار لم تخرج من الحوار بينها وبين الحكيم، من دون قناعة راسخة وموقف واضح من الحجاب، ومن غيره من الأزياء التي يتفنن الإعلام بتغذية المجادلات والمعارك حولها.

«جسدي يخصني» و«اجتماعيات الجسد»

  أريد التوقف عند طرحك الفلسفي «جسدي يخصني؛ ولكنه لا يخصني وحدي بصورة مطلقة» هل يعني ذلك أن الجسد ملكية للجماعة والدولة والدين والقانون وأن الحق الفردي به مشروط بشروطها؟
  عندما يأتي الاستدراك بعد إثبات، فإنه لا يأتي للنفي والإطاحة، بل للتوضيح أو للتدقيق أو الإكمال للتصحيح أو للتحفظ وما شابه. وعليه لا يجوز الذهاب من تحفظي ولو كان شديدًا، على الشعار القائل بأن «جسدي يخصني» إلى الاعتقاد بأن الجسد ملكية الجماعة والدولة والدين والقانون. عشتار تريد أن تعرف مدى صحة هذا الشعار، الذي ترفعه الحركة النسوية ومؤيدوها، وهو تطبيق من تطبيقات مبدأ سيادة الفرد على نفسه سيادة تامة في جميع شؤونه الخاصة، فقبِل الحكيم أن يبحث الموضوع معها ولا يعترض على صحة الشعار في المبدأ، توافقًا مع موقفه المدافع بقوة عن كرامة الشخص البشري بكل مقوماته، مع رفضه القاطع لمنطق القبيلة واستمراره في المجتمع الحديث المطبوع بالليبرالية، وإنما يعترض على تفسير هذه الصحة بلغة فردانية متطرفة، مجافية للعدل والحقيقة.
ومن أجل تثبيت اعتراضه، يسلط أنوار التحليل الفلسفي على مفهوم خصوصية الجسد، مميزًا بين ملكيته واستخدامه، وكاشفًا أن الخصوصية الجسدية، تخضع في الحالتين لشروط اجتماعية لا يسع الفرد التخلص منها، إلا في حالات محددة يكون فيها بالفعل بينه وبين نفسه، بلا تأثير للآخرين في دوام ملكيته لجسده ولا تأثير لتصرفه بجسده في أحوالهم. لنعتبر الصحة مثلًا، أليست الصحة حقًّا من أخص الحقوق التي يمتلكها الفرد ويتمتع بها من دون خضوع لأي سلطة في المجتمع؟ ولكن هل هذا الحق حق مطلق في جميع الأحوال والظروف؟ كيف يتأمّن هذا الحق على مستوى المأكل والمشرب والملبس والمسكن؟ وما العواقب المترتبة على ممارسته بالنسبة للفرد والآخرين بصورة مباشرة أو غير مباشرة؟ وفي حال المرض، كيف يتصرف الواحد منا؟ وفي حال انتشار وباء، هل تكتفي السلطات العامة بالتفرج وإعلان عدد الضحايا؟ هل يمكن القول: إن مصطلح الصحة العامة مصطلح فارغ؟ عمومًا، هل يصح التعامل مع الحدود التي تصطدم بها خصوصية الجسد، ويظهر معها مجال لتدخل سلطات محددة إلى جانب «سلطة الأنا على نفسها» بصورة انتقائية تحكمها الأهواء ويشرعنها التعسف؟
المسألة شديدة الدقة والتعقيد. وأفضل مقاربة لها تمر عبر ما أسميته «اجتماعيات الجسد» وتنتهي عند القانون الأخلاقي. هذا هو جوهر ما أراد الحكيم طرحه من خلال قوله: «جسدي يخصني، ولكنه لا يخصني وحدي بصورة مطلقة». وهذا هو ما فهمته عشتار بقولها، بلغتها الخاصة: «إني سيدة نفسي في تصرفي بجسدي، ولكن تصرفي هذا لا يستقيم باعتبار نفسي فقط، بل باعتبار نفسي واعتبار الآخرين أيضًا». والآخرون لا يخلو أمرهم من أن يكونوا أفرادًا أو جماعة أو دولة وقانونًا.

تحرير الحرية من المسؤولية والالتزام

  تحدثت في الكتاب عن «التشاركية الوالدية» وأشرت إلى أن الانقلاب على المجتمع البطريركي القائم منذ آلاف السنين وتغليب دور الأم على دور الأب في مشروع الوالدية، وصولًا إلى الاعتماد على أب مستور الهوية، بطرق ووسائل اصطناعية؛ سوف يؤدي إلى تهديد هذه التشاركية، وتاليًا سوف يهدد بنية العائلة. ما المعيار الأخلاقي الذي يحكم شروط الوالدية التشاركية من وجهة نظرك ولا سيما في المجتمعات الأوربية التي تشهد قفزات طبية هائلة في سياسات الإنجاب والخصوبة؟
  بعد التفكير النقدي في خصوصية الجسد وإظهار مواطن الضعف والخطأ في التصور الفرداني الأناني لهذه الخصوصية، وفي سياق الحوار الصريح حول المساواة بين الرجال والنساء، ينطرح بشدة السؤال عن مدى تأثير الفارق الجنسي في تحقق تلك المساواة.
يرى الحكيم أن الفارق الجنسي لا يلغي المساواة الجوهرية بين الرجال والنساء، أي المساواة في الكرامة والحقوق المعززة لها، ولا يخلق بالضرورة تفاوتًا في المرتبة الاجتماعية. إلا أنه يؤثر تأثيرًا عميقًا في اشتغال تلك المساواة، ضمن منظومة العلاقات بين الجنسين، بدءًا بالعلاقة الجنسية. فالتحليل الدقيق لهذه العلاقة يظهر بأن المساواة الفعلية بين الرجل والمرأة هي في الواقع الوجودي، مساواة في احتياج الواحد للآخر، أي أنها بالفعل مساواة تشاركية. وهذا يعني أن التشارك يحكم منظومة العلاقات بين الجنسين مع المساواة الجوهرية بينهما. ومع دخول مفهوم التشارك على هذا النحو بين الرجال والنساء، ينفتح الباب لاستعادة مفهوم التكامل الذي سعى التصور الفرداني للجسد إلى إهماله ونسيانه.
يبذل الحكيم مجهودًا لافتًا للدفاع عن التكامل بين الرجل والمرأة، مع تمسكه الشديد بمبدأ المساواة الجوهرية بينهما. وما مفهوم التشاركية الوالدية سوى نتيجة منطقية لهذا المجهود الشجاع. التذكير بهذه الخلفية ضروري لتحديد السند الأخلاقي لفكرة التشاركية الوالدية التي اتبعها الحوار بين عشتار والحكيم. فالوالدية في هذا الحوار عبارة عن مشروع مشترك للإنجاب وتأمين استمرار النوع البشري، يقوم به رجل وامرأة وفقًا لقانون الطبيعة وعناية الإنسان. وبما أنه مشروع مشترك، فإنه يستلزم التفكير الرصين والتفاهم والحرية. وبما أنه يستلزم الحرية، فإنه يتطلب الالتزام المتبادل، وبما أنه كذلك، فإنه لا يتم من دون مسؤولية. ومن يريد أن يؤسسه على الواجب فليفعل، فهذا يأتلف تمامًا مع فلسفة الحق ويقوى بشرط الحرية؛ لأن الواجب يستلزم هو أيضًا الحرية.
هذا هو في اختصار شديد السند الأخلاقي لما أسميه التشاركية الوالدية، غير أن عصرنا المضطرب يدفع النقاش في هذا المجال بعيدًا من مسألة الواجب، نحو التشكيك في الالتزام، وفي المسؤولية، من أجل تحرير الحرية من المسؤولية والالتزام، أو أقله من أجل تقليص دورها إلى الحد الأدنى.
وفي الحقيقة، ينبغي أن يتم الربط في الدفاع عن التشاركية الوالدية، بصورة عقلانية صلبة بين مضامين الفكرة و«سندها الأخلاقي»؛ لأن هذا الربط من شأنه أن يجعلنا ندرك بصورة أفضل التحولات والمخاطر التي تهدد ظاهرة الوالدية في الاجتماع البشري، بالتصدع والانحلال، وتؤدي في نهاية المطاف إلى تدمير العائلة، بعد تفكيك روابطها بصورة تدريجية، تفضي إلى نشر الفوضى والجنون في عالم يفقد الحرية تحت شعار تحريرها من الالتزام والمسؤولية.

فلسفة الإنسان العاري

  في اللقاء التاسع والأخير من الكتاب حول «الإنسان العاري» طرحت قراءة فلسفية للذات المتجسدة وفضاءاتها ومعاناتها وأحوالها وتاريخها الكفاحي، حيث يبدو اللقاء كما لو أنه حركة عبور تاريخي من الجسد العاري إلى «الذات المفكرة» والمتحققة بجسدها في العالم. انطلاقًا من حديثك عن «كرامة الجسد» هل ثمة خوف عندك على «كرامة العقل» من الإكراهات الخارجية والتطورات الهائلة في «الحضارة الرقمية» والطبية والذكاء الاصطناعي؟
  لا تصل عشتار إلى غايتها الأخيرة من فلسفة الإنسان العاري، ولكنها لم تفشل في التقدم نحوها. فقد أمسكت بالطريق إليها، ومشت مع الحكيم، وأخذت تشعر بنشوة اليقين جراء شروحاته حول دلالات العري والتعري في الوجود الإنساني. وينتهي الحوار معلقًا على سؤال مركزي يتناول التنازع في قلب الذاتية الجوانية بين إرادة الحقيقة وإرادة السيطرة، ويدفع فلسفة الإنسان العاري إلى البحث في كيفية العمل للسيادة على إرادة السيطرة من أجل تعريتها وشفائها من المطامع والاستكبار والأوهام.
ومن المؤكد، أن هذا التحول في خطة الحوار، يُعبِّر عن خوف عميق على كرامة العقل؛ في موازاة الخوف على كرامة الجسد. لماذا؟ لأن ما يهدد كرامة الجسد بأبشع المصائب، هو تسليعه على الرغم من علو مرتبته بين الأجسام الحية، هو نفسه ما يهدد كرامة العقل بأبشع الإذلالات، أي تسليعه على الرغم من علو مرتبته بين قوى الإدراك والمعرفة في الذات الإنسانية. والمشرف العام على عملية التسليع ليس سوى الرأسمالية التي لا تخفي مشروعها للاستغلال والسيطرة على الناس والطبيعة، وهي تمسح كل مقاومة في طريقها إلى غايتها القصوى.
في هذا السياق ماذا يعني تسليع العقل؟ إنه يعني بكل بساطة، إرجاع العقل إلى مجرد وسيلة تسخره في خدمة غايات الرأسمالية ومصالحها وذلك عبر خطوتين: الأولى منهما، هي الإفادة القصوى من الأدوات التي ينتجها العقل العلمي والتقني والإداري؛ والخطوة الثانية هي إلجام العقل عن وظيفته المعيارية المتعلقة بالقيم والعدل، ومن ثم السعادة والغايات العليا للنوع الإنساني. ولا شك، أن عشتار تشعر بحدسها المرهف، بأهمية هذا كله لفلسفة الإنسان العاري، وترضى على حسرة في قلبها بتعليق حوارها مع الحكيم بسبب سفره المفاجئ، مع وعد باستئنافه بعد عودته. وما زال الوعد قائمًا وعشتار متحرقة إلى الإبحار من جديد على سفينة الحكمة في عوالم الإنسان العاري.

جورج صليبا: علم الفلك العربي نقد بَطْلُمْيوس وبنى نظرياته على التجربة ودور «بيت الحكمة» الثقافي لا تؤكده المصادر

جورج صليبا: علم الفلك العربي نقد بَطْلُمْيوس وبنى نظرياته على التجربة

ودور «بيت الحكمة» الثقافي لا تؤكده المصادر

يُعد الأكاديمي اللبناني ومؤرخ العلوم جورج صليبا من أكثر المؤرخين اهتمامًا بتاريخ وتطور العلوم الإسلامية، خصوصًا علم الفلك، فنشر أكثر من ثلاثة عشر كتابًا باللغة الإنجليزية، ونحو 200 مقال في المجلات الأكاديمية الدولية في مجال تخصصه. من بين كتبه: «العلوم الإسلامية وقيام النهضة الأوربية»، «الفكر العلمي العربي، نشأته وتطوره»، «تاريخ علم الفلك العربي، مؤيد الدين العرضي (المتوفى سنة 664هـ/ 1266م): كتاب الهيئة» (تحقيق وتقديم). هو أيضًا المدير المؤسس لمركز فاروق جبر للعلوم والفلسفة العربية الإسلامية بالجامعة الأميركية في بيروت، وأستاذ فخري للغة العربية والعلوم الإسلامية بجامعة كولومبيا في نيويورك. شغل، من بين مناصب أخرى، منصب باحث أول متميز في «مركز جون كلوج» (John Kluge Center) بمكتبة الكونغرس (2005-2006م) وباحث في مركز كارنيغي (2009-2010م). حصل صليبا على العديد من الجوائز، من بينها: جائزة تاريخ العلوم من «أكاديمية العالم الثالث للعلوم» (Third World Academy of Science) عام 1993م، و«جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي» عام 1996م.

يخصّ صليبا مجلة «الفيصل» بحوار مفصل يدور حول محاور عدة: بدايات علم الفلك العربي والتصويبات على علم الفلك اليوناني وتأثيره في أوربا، العلاقة بين انطلاق حركة الترجمة زمن الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان وتأسيس الدولة، الأثر الفارسي في حركة الإنتاج في العلوم الإسلامية ولا سيما الفلسفة، اللغة السريانية وتفاعلها مع البيئة الحضارية والثقافية والنصية للإسلام، وأخيرًا، وليس آخرًا، اللغة العربية وجدلية الإبداع والتقدم.

وفيما يأتي تفاصيل الحوار:

«المجسطي».. التصويبات وبناء علم الفلك العربي

  شكل كتابك «العلوم الإسلامية وقيام النهضة الأوربية» محطة مهمة في مسيرتك التأليفية والعلمية، ويمكن النظر إليه بوصفه استعادة لموقع العلوم الإسلامية في علم الفلك والرياضيات، وقد كشفتَ فيه كيف أن علماء العرب كانوا بناة علوم وفككوا خلاصات الرياضي وعالم الفلك اليوناني بَطْلُمْيوس ونقدوها، فلم يكتفوا بما قدمته المصادر اليونانية في هذا المجال، بل طوّروها، ووضعوا نظريات فلكية خاصة بهم. هل يمكن أن تشرح لنا الدور الذي اضطلع به العلماء العرب المبدعون؟

  عندما تعرف العلماء العرب على علم الفلك اليوناني، أهم كتاب كُتب في تلك المدة، هو كتاب «المجسطي» لبَطْلُمْيوس وهذا الكتاب صدر نحو سنة 150 ميلادية وتُرجم للعربية لأول مرة في القرن التاسع الميلادي في بغداد بعد مرور 700 سنة تقريبًا. إن أي ظاهرة علمية مهما كانت دقيقة في تسجيل نتائجها خصوصًا الظواهر مثل حركات الكواكب تخضع لمتغيرات الزمن. السؤال: كيف اهتدى العرب إلى المصادر اليونانية عن علم الفلك؟ الترجمات الأولى التي أتت من اليونانية إلى العربية، خصوصًا الكتب المعقدة التي هي كتب تقنية مثل كتاب المجسطي، الذي تُرجم ترجمات مختلفة لم تعد موجودة، ولكن الترجمة التي نعرفها ولدينا نسخة من مخطوطتها هي ترجمها الحجاج بن مطر التي أنجزها نحو829م أواخر حقبة الخليفة المأمون، والمخطوطة الآن موجودة في جامعة لايدن. نلحظ أن الحجاج عندما كان يقرأ النص اليوناني الذي ترجمه وجد أخطاء بالنص الأصلي، فصحّح الأرقامَ في النسخة المترجمة، وهذا يعني أن النص العربي المترجم أدق من اليوناني. فالحجاج مثلًا عندما نظر في كتاب المجسطي وجد أن مقياس دورة الشهر القمري 29 يومًا و31 على ستين من اليوم، ولكن الحجاج كرر الحساب فوجد أن ثمة أخطاء فصححها.

تعرَّف الكندي (ت: 873م) على هذه الترجمة فكان كلما قرأ في كتاب بَطْلُمْيوس يعود لنص الحجاج المترجم. لم تكن هذه النسخة الوحيدة فكتاب «الفهرست» لابن النديم يشير إلى وجود أربع ترجمات إلى خمس ترجمات، هناك ترجمات قديمة عفا عليها الزمن. لا نعرف عن الحجاج أي شيء إطلاقًا: أين تعلم؟ وماذا قرأ؟ لا نعرف حتى مكتبته. ولكن عندما نقرأ النص المترجم فهو مكتوب بلغة عربية سليمة وبألفاظ تقنية كاملة؛ وهنا نتساءل من أين أتى بهذه الألفاظ الدقيقة في صوغ نص جديد؟

قام بنو موسى وهم: محمد وأحمد والحسن بن محمد بن موسى بن شاكر، وهم رياضيون وفلكيون نحو سنة 835م، بالتعليق وتصويب ما جاء في كتاب المجسطي. وقبل استكمال هذه الفكرة أشير إلى أن موسى بن شاكر والدهم كان من قُطّاع الطرق، والمأمون حين أتى من خراسان لكي ينزع أخاه عن الحكم ويتولى السلطة جلبه معه، وأبناؤه هؤلاء كانوا في منتهى الذكاء، وقبل وفاة والدهم طلب من المأمون الاهتمام بهم، فوضع لهم معلمين، فتعلموا الرياضيات والعلوم ودرسوا على أبي معشر البلخي وغيره.

عندما بدأ بنو موسى قراءة المجسطي وجدوا أخطاء أيضًا في النص اليوناني وتُوبِعَ العمل بعد حقبة المأمون؛ الذي انشغل في تثبيت سلطته، والشائع أنه كان يحمل الحضارة الإسلامية على عاتقه، لكن الوقائع التاريخية تفيدنا بأن معظم الإنتاج العلمي لم يكن في مدة حكمه. حتى بيت الحكمة والأسطورة التي أحيطت به، والكتب التي وجدت فيه ودوره الثقافي، يطرح تساؤلات كثيرة، هناك كلام في المصادر عنه، ولكن لم نصل إلى أي مصدر أو كتاب كُتب عليه، أن هذا الكتاب كُتب في بيت الحكمة. نعرف أن فلانًا يُروَى أنه كان له علاقة بصاحب بيت الحكمة. وصديقي ديمتري غوتاس (Dimitri Gutas) في كتابه (Greek Thought, Arabic Culture) «الفكر اليوناني، الثقافة العربية»، يؤكد أنه لم يكن هناك بيت الحكمة بالمعنى الثقافي المتداول والشائع، وإنما كان هناك خزائن يضعون فيها دواوين الدولة، وهي لا تحتوي على ترجمات أو أناس يعلمون في الترجمة وأناس علماء.

أهم المترجمين عن اليونانية

وبالعودة إلى بني موسى فهولاء الإخوة تعرفوا إلى حُنَين بن إسحاق (ت: 873م) أهم المترجمين عن اليونانية، وحين تُوفي المأمون كان عمره أقل من خمس سنوات، أي نشأ في زمن المتوكل، حيث يقول لنا المؤرخون: إن في مدة حكمه عرفت «عودة أهل السنة» بعد أن أفرج عن ابن حنبل الذي سجنه المأمون، وطلب توقيف النقاش في القضايا العقدية؛ لأنها تُشتّت المؤمن، لماذا أذكر هذا؟ لأننا نجد أن غالبية الترجمات من اليونانية، التي قام بها المترجمون مثل: حُنَيْن بن إسحاق وقسطا بن لوقا، كانت في زمن المتوكل.

أسس بنو موسى على تصحيح الحجاج واكتشفوا أن هناك أخطاء في كوزمولوجية مهمة، يقولون مثلًا: نحن نقرأ في كتاب بَطْلُمْيوس أن عدد الأفلاك حولنا يصل إلى الفلك الثامن الذي فيه النجوم الثابتة، هذه الكواكب الثابتة لها الحركة نفسها، وهنا يدخل المنطق اليوناني الذي يقول: إن كل جزء يتحرك يجب أن يكون له محرك.

يقول بنو موسى: إذا كان الفلك الثامن هو المسؤول عن حركة النجوم الثابتة التي تنتقل درجة كل مئة سنة، كما قال بَطْلُمْيوس، ونقل عنه أحمد بن كثير الفرغاني، فهناك حركة ثانية مسؤولة عنها هي الحركة اليومية، وهي تشمل كل الأفلاك، مما يعني أن هناك فلكين: فلك الحركة اليومية، والثاني يحرك الكواكب بحركة النجوم الثابتة. واستنتج محمد بن موسى أن بَطْلُمْيوس يقول لنا: إن لدينا فلكين، فلكًا للكواكب الثابتة، وفلكًا للحركة اليومية، ويتقاسمان المركز نفسه، وهذا مستحيل من الناحية الفيزيقية؛ أي من الناحية الكوزمولوجية؛ لأن أرسطو يقول: إن المادة التي تتكون منها الأفلاك هي مادة الأثير، والأثير بسيط مثل المادة المجردة التي يتكون منها العالم وهي: الماء والهواء والنار والتراب.

حاول محمد بن موسى أن يفسّر حركة الكواكب البطيئة والحركة اليومية، فرأى أن الكواكب إذا شاركت في المركز يعني أن هناك حركة تجرّ الأخرى، وهذا لا يجوز لأن هذه العناصر ليس فيها ثقل أو خفة، فيقول محمد: من الناحية الفيزيقية لا يجوز أن يكون هناك فلك تاسع بعد الفلك الثامن الذي هو للأفلاك الثابتة.

كل هذا كان في بداية الترجمات العربية. هذا التعرض للفكر اليوناني لم يأتِ بسهولة، وإنما عبر النقاش، ومن حسن حظنا أن لدينا المخطوطات التي تضمنت النقاشات، ومعظمها أصبح منشورًا ما عدا كتاب الحجاج؛ لأن نشره صعب وتحقيقه كذلك بسبب تعدد الترجمات، فلدينا ترجمة لإسحاق بن حُنين، وترجمة لثابت بن قرة، ولذلك من الصعب تحقيقه، وسبق أن كتبت عن هذا الموضوع، وطرحت فكرة: لماذا لا يكون عندنا «المجسطي العربي» الذي شارك في قراءة وترجمة ونقد كتاب المجسطي، لكي نتعرف إلى الترجمات وحركة النقد والنقاشات والتعقيبات والنظريات الجديدة.

لقد بنى علم الفلك العربي نظرياته في حقبة ما بين المأمون والمتوكل، ونقد أفكار بَطْلُمْيوس التي من بينها على سبيل المثال، أن نجم قلب الأسد يُفترض أن يكون قد تحرك منذ أيام بَطْلُمْيوس نحو 7 درجات، ووجد الفلكيون العرب أنه تحرك نحو 13 درجة. إذن كل الأرصاد التي أخذناها من اليونانية فيها مشكلات يجب أن نرصدها من جديد فذهبوا إلى المصادر الأصيلة التي بُني عليها علم الفلك اليوناني وأعادوا بناءها على نتائج أرصادهم. رأى الفلكيون العرب أن بَطْلُمْيوس لم يخطئ فحسب، بل أعطانا أرقامًا أو تقديرات غير صحيحة، ولا سيما في حسابه حول المنقلب الصيفي والشتوي.

تحديد الأخطاء وبديلها

باختصار، أهم ما فعله علم الفلك العربي زمن المأمون والمتوكل أن علماء الفلك حددوا الأخطاء وبديلها. الفكرة المحورية التي ابتدعها العلماء العرب هي فكرة ضرورة التوافق بين القوانين والتصورات الرياضية التي تستخدم لتفسير الظواهر الطبيعية مثل حركات الكواكب وغيرها، وتطابق هذه القوانين والتصورات على الظواهر المشاهدة فعلًا في الظواهر الطبيعية. أي لا يجوز أن نتصور، على سبيل المثال، حركات تحدثها حركات كرات فلكية حيث لا يوجد مثل هذه الكرات بالفعل. للتمثيل على ذلك لا يمكن أن يسمح العالم بوجود كرات تدور بحركات دورية منتظمة حول محاور لا تمر بمراكز هذه الكرات كما تصور الفلك اليوناني خطأ.

يجب أن يُبنى العلم على التجربة والملاحظة فأبو حامد الغزالي عندما كتب كتابين: الأول «مقاصد الفلاسفة» شرح فيه بكل وضوح وإخلاص ماذا كانت تقوله الفلسفة اليونانية، وعاد في الكتاب الثاني «تهافت الفلاسفة» فردّ على أخطاء الفلاسفة في فهم مغزى الفلسفة، ورأى أنه كان عليهم الالتزام بالمنطق الفلسفي الذي تعلموه من اليونان، ويُطَبَّق، ولا يقصد الفلسفة عامة، وإنما ابن سينا والفارابي والفلاسفة العرب الذين ادعوا أنهم ينقلون عن الفلسفة اليونانية.

الغزالي وابن تيمية.. قراءة عكس التيار

  تحدثتم عن الغزالي وكتابيه «مقاصد الفلاسفة» و«تهافت الفلاسفة»؛ لماذا صوره بعضٌ بأنه معادٍ للفلسفة؟

  كان الغزالي (ت: 1111م) من أفضل الفلاسفة المسلمين؛ لأنه قرأ ما كتبه ابن سينا والفارابي والكندي الذين فسروا الفلسفة اليونانية وكيفية تطبيقها في مجال التراث العربي. وجد أنهم يتبعون الفلسفة اليونانية بشكل أعمى بأخطائها، مثلًا: عندما يقول الغزالي إذا أردتم أن تضعوا النتائج العلمية بناءً على الاختبار، تقولون إذا قربنا قطنة من النار تحترق؛ ونقول عندها: إن النار تحرق القطنة وتكررون ذلك، فتصلون إلى نتيجة بأن النار بطبيعتها تحرق القطنة؛ لماذا لا تتساءلون بأننا لا يمكننا امتحان كل الحالات، ففي جوهر العلم لا يمكن أن نصل إلى حقائق مطلقة، وهذا ما قاله لاحقًا ابن تيمية (1328م) الذي قرأ الغزالي بشكل وثيق، وابن تيمية متهم بأنه حنبلي وأنه ارتد إلى الدين أكثر من الغزالي.

ناقش ابن تيمية الغزالي في كتابه مقاصد الفلاسفة، وجرى هذا النقاش بين فقهاء وفلاسفة ما بين القرنين الحادي عشر والثاني عشر في قلب الحضارة الإسلامية. في رأيي ما قام به الغزالي وابن تيمية، المصنفان بأنهما من حماة الدين والإسلام، يؤسس لــ«فلسفة العلم»؛ لذا فاتهام الغزالي بأن كتابه «إحياء علوم الدين» هو حركة ارتداد إلى الوراء وأنه أوقف حركة المعتزلة وتأثير الفكر اليوناني، يحتاج إلى مزيد من الدقة. كانت غاية الغزالي القول: إن الفكر الفلسفي لا يمكن الاستغناء عنه وهدفه تصويب الفلسفة؛ لأن تحكيم العقل جزء من الإيمان بالشريعة، وهذا ما قاله ابن تيمية الذي كتب كتابًا شهيرًا هو «درء تعارض العقل والنقل».

  أرجعت بداية حركة النقل أو الترجمة إلى عهد الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان، اعتمادًا على كتاب «الفهرست» لابن النديم محمد بن إسحاق الذي أعاد ظهور العلوم عند العرب، إلى الاحتياجات الإدارية في الدولة في عهد عبدالملك؛ أي أن العوامل الاقتصادية والاجتماعية هي التي قادت حركة الترجمة. هل يمكن أن توسع لنا هذا الطرح عبر تحديد العلاقة بين تطور مؤسسات الدولة والعلوم في الحضارة الإسلامية؟

  ابن النديم من أفضل المؤرخين للعلوم في التاريخ الإنساني. يقول لنا: إنه حينما بدأت الترجمة بدأت في حركة الديوان لأن الإدارة الإسلامية التي استلمت أنظمة الإمبراطوريات القديمة مثل الإمبراطورية الساسانية والبيزنطية، استلمت أيضًا المنظومة الاقتصادية كما هي، فالذين عملوا في الديوان، لم يتغيروا، وهذا من خصائص الفتوحات الإسلامية الأولى التي تركت الحياة العادية كما هي، وأجرت إصلاحات، على جباية الضرائب وتحويلها من الإمبراطوريات السابقة إلى الدولة العربية.

آنذاك وجد عبدالملك بن مروان (ت: 705م) أن التقارير عن الضرائب والغلال وبيت المال التي تأتيه من الشرق مكتوبة بالفارسية، ومن الغرب باليونانية عبر سرجون بن منصور، فبرزت الحاجة إلى تعريب الدواوين. هنا ظهرت بوادر الفكرة عند الحجاج بن يوسف الثقفي (ت: 714م)، بعدما طلب منه عبدالملك ضبط اضطرابات في العراق، وبعد أن تولى الحكم في واسط، وكُلِّف في إدارة شؤون الدولة، اكتشف أن ثمة موظفين يقدمون تقارير بالفارسية لم يفهمها فطلب منهم ترجمتها. وهكذا عبر ترجمة الدواوين أو تعريبها جرى تثبيت أركان الدولة وسلطتها، وترجم الديوان من الفارسية إلى العربية، وهو ما يؤشر إلى أن الحركة الاقتصادية أدت إلى إطلاق حركة الترجمة، أي أن الترجمات بدأت بالأمور الديوانية مثل: المساحة والحسابات وانتقلت إلى الترجمات الأخرى.

جدير بالذكر أنه في أوائل الدولة العباسية، زمن المنصور، كان هناك عائلة بختيشوع، التي تعني بخت يشوع، أي الحظ الذي يأتي من المسيح. هذه العائلة المسيحية الفارسية، عملت في الديوان العباسي وجاء منها عدد من الأطباء وبقيت مدة مئة عام تقريبًا؛ فمنذ أيام المنصور حتى المتوكل كان طبيب الخليفة من عائلة بختيشوع، وهذا يعني أن الفرس انتقلوا في الدولة العربية من الدواوين إلى مرتبة أعلى، فأصبحوا أطباء وندماء للخليفة.

باختصار، كان ابن النديم مؤرخًا للعلوم من الطراز الأول؛ إذ إنه بحث عن الدوافع المؤدية إلى حركة الترجمة، ولم يكن يتصور ترجمة تحدث بفعل التواصل بين الحضارات أو الاحتكاك الثقافي، كما كان يتصور المؤرخون الباقون. حاول ابن النديم ربط هذه الحركة بمتطلبات قيام الدولة الحديثة وقتها. ومن هذا المنظار أظن أن ابن النديم حاول تفسير نشأة العلوم بالمتطلبات السياسية والاقتصادية، وفسر حركة الترجمة بكونها حاجة اجتماعية واقتصادية أكثر من كونها رغبة خليفة أو وزير، يتمنى حدوث مثل تلك الترجمات؛ لذلك يقول في غضون سرد آرائه حول ترجمة الديوان: «وهذا كان أول نقل من لغة إلى أخرى».

  أشرت في كتابك «العلوم الإسلامية وقيام النهضة الأوربية» إلى أن موسى بن ميمون (ميمونيدس) كتب أعماله الفلسفية والطبية بالعربية، بينما احتفظ بالعبرية للإنتاج الديني والقانوني. هل يمكن أن تُفسّر لنا السبب؟

  لم يكن ابن ميمون الوحيد الذي كتب بالعربية كتبًا فلسفية وعلمية، بل كان مثل كثيرين من العلماء والفلاسفة اليهود الذين كانت ثقافتهم العلمية والفلسفية، تستخدم العربية؛ لأنها في زمنهم كانت لغة الفلسفة والعلوم من دون منازع، وكانت هي اللغة العلمية والفلسفية السائدة في جميع البقاع التي دانت بنمط الحياة الإسلامية التي تبنّت نحت المفاهيم العلمية والفلسفية، بلغة يفهمها المتخصصون وليست اللغة التي كانوا يتكلمون بها بالضرورة في حياتهم العادية أو مع عائلاتهم داخل منازلهم.

كان للجالية اليهودية دور علمي في الحضارة الإسلامية، ولم يضطهد اليهود بل على العكس عملوا في الديوان أو أطباء. في المدة التي نشأ فيها ابن ميمون بين القرن العاشر والحادي عشر الميلادييْنِ كانت الثقافة اليهودية، هي الثقافة العربية، وكانت كل العلوم تُكتب في العربية، كان هناك تفاسير للقرآن بالعربية، لكن العلوم الدينية مجال، والعلوم النقلية مجال آخر؛ لذا كتب ابن ميمون العلوم العقلية بالعربية وباقي الكتب الدينية والفقهية بالعبرية سوى كتابه «دلالة الحائرين».

عندما كان ابن ميمون يكتب العلوم العقلية كان يكتبها بالعربية؛ لأن الذين يريدون أن يناقشوه يتحدثون العربية ولا سيما أنه منذ تعريب الدواوين أيام عبدالملك بن مروان أصبحت اللغة العربية هي اللغة السائدة، وكما يقول ابن خلدون: لغة الدولة هي الشائعة.

العلوم الإسلامية في فضائها الحضاري

  ما أهم الإنجازات التي قدمها علم الفلك العربي في الحضارة الإسلامية؟ وما تأثيره في علم الفلك في أوربا؟

  أهم ما قدمه علم الفلك الإسلامي/ العربي هو المنهجية العلمية التي اعتمدت التوافق بين العلوم النظرية والمشاهدة بالعين. هذا المنحى أطلق عليه العلماء تعبير الاعتبار، ويمكن الإشارة إليه اليوم بالمنحى التجريبي للعلوم، وليس منحى التصور والتخيل وافتراض ما يجب أن يكون عوضًا عمّا هو كائن حقًّا.

نعطي مثالًا تطبيقيًّا على ذلك: شخص مثل الفلكي ابن الشاطر المتوفى سنة 1375م كان مُوَقِّتًا في الجامع الأموي في دمشق، شكّك في نظرية بَطْلُمْيوس اليوناني حول أن القمر حين يكون عمره أسبوعًا يكون حجمه مضاعفًا عندما يكون بدر، وقد أكد ابن الشاطر أنه لم ير شيئًا مماثلًا بالمشاهدة، وهو ما يعني أن علم الفلك اليوناني لم يُخضع نظرياته للعِيَان.

  كيف يمكن تعريف «العلوم الإسلامية» في السياق الكلاسيكي وفي إطار عملكم عليها؟ وهل تسمية «الإسلامية» التي اكتسبتها هذه العلوم أتت بالمعنى الحضاري أو الديني؟

  التعبير «إسلامية» كما أستخدمه في كتاباتي هو تعبير حضاري محض، وأستعيض عنه أحيانًا بتعبير «العلوم العربية» وفي كلتا الحالتين أحاول تجريد هذه التعابير من محتواها العرقي والديني، وأشدد على أن كثيرين ممن أنتجوا علومًا وفلسفة في الحضارة الإسلامية، لم يكونوا عربًا ولا مسلمين. وابن ميمون لم يكن سوى واحد منهم.

  انشغلت في مسيرتك التأليفية في التأريخ للعلوم الإسلامية، ما الذي دفعك باتجاه هذا الحقل؟ وما المنهج الذي اعتمدته؟ وما أبرز الصعوبات التي واجهتك؟

  عندما تخرجت من الجامعة الأميركية في بيروت في شهادة الرياضيات في الستينيات من القرن المنصرم، كانت الجامعة في طور التأسيس لكرسي الدراسات الإسلامية ودعت آنذاك سيد حسين نصر لإلقاء محاضرة حول علاقة الحضارة الإسلامية بالعلوم، وقد استمعت إليها، بحضور المؤرخ نقولا زيادة (ت: 2006م) فقال لي: أنت تعرف الرياضيات وتعرف العربية، ألا ترى هذا الحضور الكبير الذي يستمع إلى سيد حسين نصر، لماذا لا تهتم بالعلوم الإسلامية، وبهذا فقد زرع هذه البذرة داخلي، وأنا كان لدي ميل علمي للتعرف إلى حركة العلوم وإنتاجها. أما منهجي بعبارة مقتضبة هو الرجوع إلى المصادر الأولية لهذه الحضارة، ولا أولي اهتمامًا كبيرًا للذين يكتبون ويناقشون معالم هذه الحضارة بالرجوع إلى ما قيل عنها وليس ما قالته عن نفسها. أما الصعوبات تكاد لا تحصى، أهمها الوصول إلى هذه المصادر الأولية، التي ما زالت قابعة في مكتبات العالم في صورة مخطوطات لم تُدرس أو تُحَقَّق بعد، وتاليًا الوصول إلى هذه المصادر باهظ الثمن يتطلب وفرة من الإمكانات المادية التي لا تتوافر لي دائمًا.

  كيف أثرت الحضارات غير العربية ولا سيما الفارسية والتركية في حركة الإنتاج في العلوم الإسلامية وبخاصة علم الفلك والفلسفة؟

  إن طبيعة الإسلام منفتحة على الأعراق والأديان، وقبول الآخر ظاهرة أصيلة فيه. ولما كانت اللغة العربية لغة العلم، فقد أثرت في كل الشعوب التي امتزجت في الحضارة الإسلامية. في هذا المجال يفيدنا تعبير العلوم الإسلامية بالمعنى الحضاري؛ إذ جميع هذه الأقوام التي تذكرينها، كانت تعيش في رحاب حضارة تسربلت بسربال الإسلام، وطغى عليها هذا السربال عوضًا عن انتماءاتها العرقية والجنسية الأخرى.

الفلسفة واللغة العربية وحركة الإبداع

  ما رأيكم في مقولة: إن أهم ما أُنتج في سياق الفلسفة الإسلامية قدمه فلاسفة من أصول غير عربية؟

  كان للنظرة الاستعمارية دور في مثل هذه الافتراضات التي سماها إدوارد سعيد «الاستشراق»، حتى الرؤية الاستعمارية الفرنسية لم تقل بأنها أتت لاحتلال الشعوب بل من أجل «مهمة مُمدِّنة/ مُحضِّرة». إن القول: إن أهم ما كُتب في الفلسفة جاء من أصول فارسية، وليس عند العرب إلا الكندي؛ قولٌ عنصري ورثناه منذ القرن التاسع عشر من الفكر الغربي، الذي بدأ مع منظرين وفلاسفة مثل هيغل القائل: إن قمة الفكر الفلسفي هي يونانية ونحن ورثناه والبقية لا قيمة له. وبما أن الحضارة الإسلامية، انفتحت على الأعراق الأخرى، قالوا: إن الإنتاج الفلسفي أتى من بلاد الفرس. هذا التحليل العنصري تبناه المستشرقون وقد استمر حتى المستشرق الأميركي برنارد لويس.

  كانت اللغة العربية، اللغة العلمية في الحضارة الإسلامية لقرون طويلة؛ ما السبب الأهم في نكستها في التاريخ المعاصر بوصفها لغة بين اللغات العلمية؟

  اللغة شأنها شأن جميع المرافق الحضارية، تنتعش وتزدهر إذا انتعشت الحضارة ذاتها وازدهرت، وتنحسر إذا انحسرت. يكمن الجواب في كون هذه الحضارة، انتقلت بفعل التسلط الاستعماري واستيلاء الآخرين عليها من حضارة تبدع وتنتج -وتستخدم لغتها في هذا الإبداع والإنتاج- إلى حضارة تستهلك ما ينتجه الآخرون بلغتهم فتقتفي الحضارة المستهلكةُ أثرَ الحضارة المبدعة الخلّاقة.

ليست المشكلة في اللغة بل في الفكر الذي يقود اللغة. حين أراد الحجاج بن مطر الترجمة من اليونانية وليس عنده مفردات مقابلة، خلق مفردات عربية تُعبّر عن المصطلح اليوناني مثل ترجمة كلمة (Horizon) إلى «أفق».

عندما يكون هناك فكر خلّاق؛ يمكن خلق المفردات الجديدة. عندما تصبح الحضارة منتجة علميًّا لا يكون هناك مشكلة في إنتاج المفردات، وإنما اليوم الحضارة العربية هي حضارة مستهلكة للحضارات الأخرى، وشيء غريب أن جامعة الدول العربية أسست مكتب تنسيق التعريب في الرباط، وهذا في رأيي مؤشر مقلق عن تراجع الحضارة العربية.

  إلى أي حد تتفق مع الرأي القائل: إن اللغة العربية غير قادرة على مواكبة حركة الإبداع والابتكار في العلوم الحديثة، بدءًا من العلوم المحضة وصولًا إلى العلوم الإنسانية؟

  في هكذا مقولة افتراء عظيم على جوهر اللغة العربية، التي لم تتردد على طوال امتدادها التاريخي في استنباط المفاهيم والتعابير الملائمة، لما كان يطرأ عليها من أفكار جديدة. ولكن الحضارة المقهورة المغلوبة على أمرها التي توقفت عن الإبداع والإنتاج، وانتقلت إلى حضارة مستهلكة، تحت وطأة الاستعمار الخارجي، فلا تستطيع مواكبة التطور الحادث. إن اللغة التي واجهت اللغة الفلسفية والعلمية اليونانية، عندما كانت في أوج نشاطها، لم تبخل على العالم بالتعابير والمفردات التقنية. ليست المشكلة في اللغة نفسها، وإنما في العقل الذي يستخدمها، ويفكر فيها ويظنها عاجزة ومتخلفة.

  أود التوقف معكم عند قضية أثارت وتثير سجالات قوية وأحيانًا عنيفة حول أثر اللغة السريانية في اللغة العربية والقرآن. كيف يبرز هذا التأثير في مستوى اللغة العربية؟ وهل وصل إلى النص القرآني؟ وإذا وجدنا هذا الأثر فعلًا، لماذا تثور حوله هذه التوترات طالما أن القرآن انعكاس لمحيطه الحضاري واللغوي؟

  هذا سؤال مهم جدًّا. السريانية، مثلها مثل العبرية والعربية والآرامية لغة سامية مؤاخية للغات السامية الأخرى، فلا يُستبعد أن تتنقل الظواهر اللغوية بين الأخوات وتأخذ الواحدة ما يناسبها من الأخرى. فورود تعابير مثل تعبير ملكوت في النص القرآني هو أقرب إلى صيغة المصدرية المجردة، لا يكثر استخدامها في اللغة العربية، كما نعرفها اليوم، ولكن من الذي يستطيع أن يحدد في أثناء تطور اللغات، الذي يحدث باستمرار، في أي وقت استقلت السريانية عن أختها العربية بصيغة المصدرية المجردة هذه، وكيف نعرف أن الأخت العربية، لم تكن تعرفها في طور من أطوارها، كما تسرب إليها في برهة من تاريخها لفظ ستراتا (Strata) اللاتيني وأصبح صراطًا في العربية اللغة المضيفة، لتعرف بدورها بلفظ الصراط العربي وتتميز عن ستراتا اللاتينية.

إن التشابه بين اللغات أمر طبيعي؛ وكثيرًا ما يحدث من دون أن يكون هناك أسبقية للغة على أخرى. اللغات يأخذ بعضها من بعض، كما هي الحال في اللغات الأوربية، ولهذا عادةً لا أستغرب طرح أسئلة حول أثر السريانية في اللغة العربية، ولا سيما أنني درست السريانية لسبع سنوات، ولكن سبب التوتر الذي قد يثيره وجود ألفاظ سريانية في القرآن الكريم هو الآية (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا). وأنا متأكد أن الرسول كان يعرف أن ألفاظًا مثل لفظة «ستراتا» اللاتينية ليس لها مقابل بالعربية، فالمنطقة التي نشأ فيها القرآن كانت في الأصل ملاصقة للإمبراطورية الرومانية التي كانت تتحدث اللغة اللاتينية التي أثرت بعض ألفاظها في اللغة العربية التي هضمتها واستخدمتها، وهذا ما ينطبق على اللغة السريانية، التي هي لغة طقسية؛ لأن العرب تعرفوا إلى السريانية عبر حُنَين بن إسحاق ويحيى بن عدي (ت: 974م) وآخرين من الذين عرفوا السريانية لأسباب دينية.

حول المنهج والإيمان

  أمضيت مدة طويلة في الولايات المتحدة الأميركية تعرفت فيها إلى علومها وجامعاتها ومناهجها وأعلامها. كيف تنظرون ولو بإيجاز إلى الاكتشافات الكبيرة والنظريات في مجال علم الكون (Cosmology) في المجال الأميركي؟

  عندما تُمَوَّل مشروعات علمية جديدة يمكن إنتاج علم جديد. عبدالملك بن مروان عندما مَوَّل صكّ الدينار العربي، كان في ضائقة مالية، وكان البيزنطيون يحاربونه بالذهب الذي يصك فيه الدينار البيزنطي الذي كان العملة المتداولة في المناطق التي كانت تحت السيطرة البيزنطية، فاستشار ابن عمه خالد بن يزيد المشهور في التراث العربي أنه أول من اهتم من العرب بعلم الكيمياء، فقال له: نحن نصك الدينار العربي.

ما أريد الاشارة إليه عبر هذا المثال أن حركة العلم ترتبط بدوافع عدة؛ منها الدافع المرتبط بالتحدي السياسي والاقتصادي، فالولايات المتحدة تفاجأت سنة 1957م بأن الاتحاد السوفييتي أطلق صاروخ سبوتنك (1) الذي دار حول الأرض. لذلك ماذا فعلوا؟ فورًا صرفوا أموالًا طائلة على الجامعات حتى تدرس العلوم كافة من ضمنها مجال علم الكون، وهذا يعني أن الدولة عن قصد سعت إلى أن تنشط العلوم بتحويل نوعية التفكير فيها وأن العامل التنافسي له دور في حركة العلم.

  يلازم السؤال عن وجود الله الوعي البشري، ويشكل حجر الرحى في مسألة النزاع بين الإيمان والإلحاد. سؤالي هنا من شقين: أين أنت من الرهان العقلي على وجود الله كما فعل باسكال؟ وهل في رأيك يتحدى التطور التقني والرقمي والذكاء الاصطناعي العقل الديني التوحيدي ويهدد أركانه الإيمانية؟

  هنا أعتذر عن الاسترسال في هذا النمط من التفكير؛ إذ لا أظنه يثمر الكثير. وفي رأيي المتواضع قضية الإيمان قضية وجودية شخصية والإيمان الذي يورث برد اليقين، على حد تعبير الإمام الغزالي، يرقد في جبلة الإنسان. ولا أظن أن أحدًا يستطيع الغوص في أعماق أعماق النفس البشرية، الذي قد يكون في نهاية المطاف نفحة من نفحات الله التي ندعي دائمًا أن نعرض لها وليس عنها. وكلي ثقة أن الإيمان نفسه ليس سوى ذلك النور الذي يقذفه الله في القلب بحسب عبارة الحديث الشريف.

أما الذكاء الاصطناعي فهو ليس أكثر بكثير من الحاسوب الذي ترجم عبارة «من خيار قومه» بعبارة (from the cucumber of his people). ومهما تقدمت التقنية الاصطناعية يبقى اصطناعيًّا ما لم يدخله التبحّر الإنساني الذي يكتسبه من قوة التمييز الخاصة به، وهذه القوة التمييزية من الناحية النظرية تختلف من شخص لآخر، ولا أظنه يمكن مكننتها بأية آلة اصطناعية أو غير اصطناعية..