المقالات الأخيرة

“لقاء مارس 02: تواشجات” دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

“لقاء مارس 02: تواشجات”

دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

فيما يشبه الالتزام الأخلاقي والجمالي، تبنى لقاء مارس السنوي، الذي تنظمه مؤسسة الشارقة للفنون، في دورته الجديدة التي انتهت أنشطتها قبل أيام، طيفًا واسعًا من القضايا والموضوعات والنقاشات وعروض الأداء، التي لئن اختلفت وتعددت وتنوعت، إلا أنها تذهب كلها إلى منطقة واحدة،...

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

الشاعر والمترجم الأميركي غاي بِينيت:

أُومِنُ بأهمية الحوار مع العالم العربي، ثقافيًّا كان أو غيره

بواسطة | يناير 1, 2022 | ثقافات

غاي بِينيت أحد أهم الأصوات الشعرية التي تطبع المشهد الشعري الأميركي المتسم بتعدديته المذهلة. وهي تعددية تعكسها تجربةُ بِينيت نفسها، حيث يبدو الشاعر منشغلًا بأكثر من جبهة إبداعية وفنية. فإضافة إلى ممارسته الشعرية، يدير غاي بِينيت مؤسسة لترويج الكتاب عن طريق الإنترنت، ويمارس الترجمة والتصميم الطباعي والموسيقا، كما يشرف على عدد كبير من المشروعات الأدبية والفنية. نشر غاي بِينيت، المولود سنة 1960م والحاصل على الدكتوراه في الأدب الفرنسي، مجموعة من الأعمال، من بينها مجاميعه الشعرية «هذا الكتاب»، و«الكلمات الأخيرة»، و«نظرات مشهورة»، و«100 نظرة شهيرة»، ودراسته «قصيدة العالمَين: الحوار الفرنسي الأميركي من خلال المجلات: 1985-2004» (2004) التي أنجزها باشتراك مع الباحثة الفرنسية بياتريس موسلي.

تميزت تجربة غاي بِينيت بالرغبة العميقة في الإنصات للآخر، وبالجرأة أيضًا في فهم علامات وجوده كشاعر أميركي، سواء المضيئة منها أو المعتمة؛ لذلك لا يتردد في الحديث عن الالتباسات التي تحيط بتاريخنا الإنساني المشترك، وفي التحذير من خطر تمثله على مقاس دولة واحدة.

هنا حوار معه:

  بدأتَ الكتابة في الخامسة عشرة من عمرك. بماذا احتفظتَ خلال هذا المشوار؟

  احتفظتُ بشكل خاص بالخصال التي أحِبها لدى الناس والتي أتجرأ على الاعتقاد بأنني أتصف بها بدوري: الفضول الذي يشدني لكل ما هو غريب ومختلف، والتفتح والرغبة في التعلم، والحب الذي يربطني بالإبداع، سواء تعلق الأمر بالأدب أو الفنون التشكيلية أو الموسيقا.

  قضيتَ أكثر من عشرين سنة موسيقيًّا. هل تجد هذا الطريق الأفضل للوصول للكتابة؟

  لم أقرر قطّ أن أصير كاتبًا ولم أكن أفكر في الأمر. لكنني بدأتُ، لسبب ما، الكتابة في سن الخامسة عشرة من عمري، وذلك في الوقت الذي كنتُ أدرس فيه الفن بالمدرسة. وبعد سنتين من ذلك، شرعتُ في دراسة الموسيقا. وكانت الكتابة، حينها لي، طريقةً للتعبير عن نفسي وللإبداع، تمامًا كما هو الأمر في الرسم والموسيقا. بل إنني كنتُ منشغلًا خلال وقت طويل بالموسيقا نفسِها، وانتهيتُ بالاشتغال موسيقيًّا طيلة عشرين سنة، كما أشرتَ. وخلال هذه المدة، استطعتُ أن أكتب نصوصًا، من دون أن أتخلّى عن نشاطي الفني الأول. وكان عليَّ أن أنتظر الثلاثينيات من عمري لكي أمارس الكتابة بشكل جدي؛ حيث إنها تشكل الآن جزءًا حقيقيًّا من حياتي اليومية. وأحيانًا أقول لنفسي: «عجبًا، لقد صرتَ كاتبًا!».

  أنت شاعر ومترجم ومصور وناشر؛ كيف تستطيع تدبير كل هذه الانشغالات؟

  الأمر سهل للغاية. والسر أنني أشتغلُ باستمرار ومن دون توقف. ويحدث أن أكون في خضم إنجاز مشروعات عدة في الوقت نفسه. فأنا الآن، على سبيل المثال، مقبل على إصدار كتيب جديد ضمن سلسلة المنشورات التي أديرها (Seeing Eye Books)، وأعدّ ملفًّا عن الشعر الأميركي خاصًّا بمجلة تصدر في كيبيك في كندا، كما أعد ملفًّا عن الشعر المغربي خاصًّا بمجلة أميركية أخرى، وأجمع نصوصًا لمجلة أتولى مسؤولية تحريرها، وأترجم أنطولوجيا للشعر الفرنسي، وأصحح مسودات ترجمة أخرى ستنشر قريبًا، وأكتب نصوصًا شعرية لمجلة مكسيكية أتعاون معها، وذلك إضافة، بالطبع، إلى عملي الذي أعيش منه، حيث أدرِّس بمدرسة للفنون.

  تكتب باللغتين الإنجليزية والفرنسية. كما أنك تترجم انطلاقًا من الفرنسية والروسية والإيطالية؛ ما الذي يمنحك إياه هذا السِّفْرُ اللغويّ؟

  لقد منحني هذا السِّفْرُ، بالتأكيد، آفاقًا جديدة في الأدب، ولكن أيضًا في الحياة. وهذا هو الأهم لي. لقد تمكنتُ، بفضل هذا السِّفْرِ، من لقاء أشخاص من بلدان أخرى ومن التعرف إلى ثقافاتهم والإنصات لتجاربهم في الحياة، والتعرف أكثر إلى ذاتي وفهم دلالة وجودي داخل هذا العالم. وأعتقد أن معرفتي بلغات أخرى شكلت عنصرًا أساسًا في مسار تكويني، وفي نسج ملامح شخصيتي الراهنة.

القصيدة الصوتية

  تبدو منشغلًا بالتصميم، وفن الطباعة، والتجارب الصوتية؛ هل يشكل ذلك امتدادًا لتجربتك على مستوى الكتابة الشعرية والترجمة؟ ثم كيف تستطيع تدبير التوافق بين المكونين البصري والصوتي داخل تجربتك الشعرية؟

  لا أعتقد أن انشدادي لفن الطباعة أو التجارب الصوتية يرتبط بعملي على مستوى الترجمة أو الكتابة الشعرية، بل أعدّهما مجالي اهتمام موازيين. والحقيقة أنني معجب كثيرًا بالقصيدة الصوتية، وقد ترجمتُ أعمال شعراء يشتغلون في هذا السياق. ومن بينهم خصوصًا غيوفان ساندري، وأرنست جاندلي، وبعض الشعراء المستقبليين الإيطاليين والروس كمارنيتي وإيليا زدانافيتش وغيرهما. وعلى الرغم من إعجابي بهذا النوع الشعري التجريبي فإنني مشدود، في إطار عملي الشعري، إلى البيت الشعري والقصيدة الغنائية القصيرة، والتركيبات الدلالية والنحوية الخاصة باللغة الإنجليزية، مع أنني أحاول دائمًا العمل على تعديلها.

  كنتَ قد أطلقتَ مشروع سلسلة قصائد جِناسية، خصوصًا من خلال عملك الشعري «إسقاطات ذاتية»؛ هل يتعلق الأمر بطريقتك في ممارسة اختلافك الشعري؟ ثم هل تؤمن بفاعلية «اللعب» الشعري؟

  أود أن أؤكد أن ما يهمني هو القصيدة وليس الطريقة التي تُكتب بها. فقصيدة سيئة، حتى إن كتبتْ بالاعتماد على طريقة جيدة، تبقى بالتأكيد قصيدةً سيئة. وإذا كنتُ أعترفُ أنني تأثرتُ، مدة طويلة، بالفن الذي يحقق إبداعيتَه من خلال اشتغاله الداخلي، فإن توظيف «اللعب» الأدبي في إطار نص ما لا ينفي، بالضرورة، جودتَه. وهو الأمر الذي يعكسه، على سبيل المثال، اعتمادُ النَّظم الشعري الغربي التقليدي على أساليب «اللعب» الأدبي المتجلي، خصوصًا في الوزن والتوزيع اللفظي والقافية وغيرها من الأشكال الثابتة التي لم تشكل قطّ حائلًا دون كتابة نصوص شعرية جيدة (أو سيئة أيضًا).

وفيما يخص طريقتي في تمثل القصيدة وكتابتها، فأنا أنطلق، في أغلب الأحيان، من فكرة شكلية ما، أو من إكراه معين له علاقة معينة بالموضوع الذي أريد تناوله، مُرتَئِيًا أنه من الممكن أن يتحقق اللقاء بين شكل القصيدة ومضمونها، بل أنْ يصير الأول موضوعًا للثاني، وهو الأمر الذي يَضمن قوةَ النص وتناسقه. وتمنحُ مجموعتي «إسقاطات ذاتية»، التي أشرتَ إليها سابقًا، إضافة إلى أغلبية أعمالي الشعرية، صورة حقيقية عن ذلك. ومن ثَمّ، لا تمثل هذه الوسائل لي عناصرَ مهمة فقط، ولكن عناصر ضرورية بشكل حاسم ونهائي. ولا يتعلق الأمر باختيار وضع معاكس للتيار، حيث إن اللعب الشكلي، كما قلتُ سابقًا، يشكل جزءًا من القصيدة الغربية التقليدية نفسها. وبناءً على ذلك، لا أنطلق أبدًا من أي موضوع قبلي، ولا من أية رسالة يُفترض توجيههُا إلى قارئ مفترض، وإنما أنتهي إلى بلورة الموضوع أو الرسالة؛ ذلك لأن القصيدة لي، هي مساحة شاسعة للاستكشاف، أما المُحَددات والأشكال التي تشكل أساسَ كتابتي فهي دليلي في رحلة الاستكشاف تلك. وما أجدهُ دائمًا في هذه الرحلة هو القصيدة نفسها.

  أنت أحد شعراء الجيل الجديد في الولايات المتحدة الأميركية؛ كيف تتمثل أهم علامات جيلك؟

  الحقيقة أنه يصعب الحديث عن الأجيال الشعرية في الولايات المتحدة الأميركية أو تحديدها، وذلك بحكم الاختلاف والتنوع الكبيرين اللذين يطبعان الكتابة الشعرية هناك، بشكل يجعل من العسير تقويمها والتمييز بين مكوناتها.

  لنغيّر السؤال: ما العلامات المضيئة والمظلمة لوجودك كشاعر أميركي؟

  إذا كنتَ تقصد مميزات وسلبيات هذا الوجود، فلا وجود للأولى. فصفة الشاعر لا تمنح، عندنا، أي وضع اعتباري يمكن أن يُقِرَّه من هم خارج العالم الضيق جدًّا للمجال الشعري، الذي لا يسكنه إلا الشعراءُ أنفسهم وقراؤهم وناشروهم المعدودون. كما لا أرى أي جانب سلبي في الوجود كشاعر في الولايات المتحدة الأميركية، باستثناء ممارسته لعمل لا دلالة له لدى 99% من مواطنيه.

الترجمة فعل إضاءة

  كنتَ تؤمن دائمًا بأن الترجمة «فعل إضاءة»؛ ما الذي تضيئه بالفعل؟

  تحيل في سؤالك على ما صرحتُ به لمجلة «Double Change». ويعني ذلك أن عمليةَ الترجمة تفترضُ من صاحبها الاختيارَ بين بدائل معينة: الاكتفاء بالجانب الدلالي فقط، أو العمل على إعادة إنتاج سمات أخرى ترتبط بأسلوب النص وجانبه اللساني والمعجمي. وفي حالة القصيدة، يبدو الأمر أكثر تعقيدًا، حيث تتشعب الاختيارات: هل يجب الحفاظ على حضور الموسيقا في النص أو على غيابها؟ ما الذي يجبُ أن يفعله المترجم بالوزن أو القافية أو بالشكل الثابت في حال اعتماد النص على هذه المكونات؟ هل يجب على المترجم أن يستحضرَ الجانبَ البصريّ للنص وتوزيعَه الخَطّيّ وطولَ «الأبيات» ومستوى ارتباط معنى القافية في البيت بمعنى البيت الذي يليه؟ ثم هل على المترجم أن يستعمل بعض المحددات التي استعملَها الشاعر، حتى إذا كان ذلك يمكن أن يُبعِد الترجمة من المعنى الأصلي للقصيدة؟ ويؤدي تمثلُ واستحضارُ هذه التساؤلات إلى اهتمام المترجم بجوانب معينة داخل النص على حساب أخرى، بشكل تصيرُ معه الأولى أكثر وضوحًا وحضورًا داخل النص المترجَم. وبهذا المعنى، تتحدد الجوانب التي «تضيئها» الترجمة في تلك التي اختار المترجِم إعادة إنتاجها، عادًّا إيّاها الجوانبَ الأهم، بينما تصير بقيةُ جوانب النص الأصلي أقلّ حضورًا ووضوحًا، بل قد تغيب في النص المترجَم.

  تعيش داخل فضاء ثقافي وسوسيو-اجتماعي يتجه باستمرار، نحو مَأْسَسة شاملة؛ هل تستطيع أن تحافظَ، في ظل ذلك، على شِحْنة العزلة والفوضى والجنون التي تقتضيها العملية الإبداعية والشعرية منها خصوصًا؟

  حينما نستحضرُ مكانةَ الشعر داخل المجتمعات الحالية، وبخاصة المجتمع الأميركي، حيث يبدو وضعُ القصيدة خافتًا، يتبددُ خوفنا على عزلة القصيدة أو الشاعر. هناك شعراء يشعرون بالإحباط؛ لأنهم يتمنون أن يحظوا باهتمام العالم، وأن يعلم القراء بوجودهم، وأن يكون هناك اعتراف بالقيمة السوسيوثقافية لعملهم الإبداعي، وأن يكون هذا الاعتراف مرافقًا بدعم رسمي أو غيره يساعدهم على الحياة والكتابة والنشر. وفي مقابل هؤلاء، هناك شعراء آخرون يستمدّون إحساسَهم بالحرية من كون العالم يبدو غيرَ مكترث بوجودهم، ومن غياب مؤسسات تهتمّ بأعمالهم، ومن غياب أي دعم مادي أو غيره. ومن ثَمّ، يمارس هؤلاء عملهم الإبداعي بالطريقة التي تروقهم، وبإمكانياتهم الذاتية. أما أنا فلا أفكرُ كثيرًا في الأمر. أفعل ما أشاء، سواء تَعَلّقَ الأمر بالكتابة أو الترجمة أو النشر، لأنني أحب أن أقوم بذلك، ولا أنتظر أي شيء من أي أحد؛ ذلك لأنني أستمد قوتي من اهتمامي العميق بالإبداع الأدبي. وهي قوة لن تَمَسَّها بالتأكيد التحولات الاجتماعية التي أشرتَ إليها.

  تتقنُ اللغة الفرنسية وتكتب بها أحيانًا. وخلافًا لمنطق الجغرافيا، تبدو أقرب، ثقافيًّا واجتماعيًّا أيضًا، إلى المشهد الأدبي الباريسي أكثر منه إلى المشهد الإبداعي الفرانكفوني في الكيبيك القريب، جغرافيًّا، من الولايات المتحدة الأميركية؛ ألا تجد الأمر مفارقًا؟

  بالتأكيد. الحياة تحفل أحيانًا بمفارقاتها الخاصة. أمّا هذه الحالة، فلا تبدو المفارقة عسيرة على التفسير؛ إذ تسهلُ إضاءة طبيعة علاقتي بفرنسا. فأنا، أولًا، أعددتُ دكتوراه في الأدب الفرنسي، وهو ما يعني أنني قضيتُ سنوات في دراسة فرنسا وثقافتها وتاريخها ومجتمعها. كما أنني درَّستُ اللغةَ والأدبَ الفرنسييْنِ في الجامعة عشرين سنة، وهي مدة طويلة بالتأكيد. وضمَّت الترجماتُ الأولى التي قمتُ بها النصوصَ الشعرية التي درَستها أو كنتُ أدرِّسها لطلبتي والتي كانت معبرًا لي للتعرف إلى عدد من الشعراء الفرنسيين. وأخيرًا، ونتيجة كل ذلك، انتهيتُ إلى الزواج بفرنسية؛ حيث نقضي، كل سنة، شهورًا في فرنسا، وهو الأمر الذي ساعدني على نسج علاقات وصداقات مع عدد من الشعراء الفرنسيين، وعلى إنجاز عدد من المشروعات الإبداعية بالاشتراك معهم. وللإشارة، كنت قد أنجزتُ مع زوجتي بياتريس موسلي كتابًا حول علاقات التبادل بين التجربتين الشعريتين الفرنسية والأميركية (قصيدة العالمين: الحوار الفرنسي الأميركي من خلال المجلات، 1850-2004).

أما ما يخص علاقتي بالتجربة الشعرية في الكيبيك، فقد انبثقتْ منذ مدة قصيرة فقط. ويرتبطُ ذلك، ربما، بوضع أعم، حيث إن الشعر الكيبيكيّ يظل غير معروف بشكل كبير في الولايات المتحدة الأميركية، أو على الأقل في الوسط الشعري الذي عشت فيه، على الرغم من ترجمة عدد من شعراء هذه التجربة. وتشكلُ الشاعرة الكيبيكية نيكول بروسا الاستثناء؛ إذ تحظى باهتمام كبير لدينا منذ سنوات. وقد كنتُ سعيدًا بالتعرف إليها، قبل ثلاث سنوات بمعرض الشعر في باريس. واقترحتُ عليها نشرَ نصّ ما لها ضمن السلسلة التي أديرها. وبالفعل، كتبتْ نيكول بروسا نصًّا خاصًّا بهذا المشروع تحت عنوان «Shadow-Soft et Soif»، عملتُ شخصيًّا على ترجمته. وهو ما شكل أحد الأعمال النادرة التي لم تُنشر قطّ بلغتها الأصلية التي كُتبتْ بها (باستثناء بعض مختارات النص التي نُشرت بالفرنسية في الكيبيك). ثم جمعتنا، في السنة التالية، قراءةٌ شعرية في باريس. وكان اللقاء مناسبة للتفكير في مشروع للتبادل الشعري بين الكيبيك والولايات المتحدة الأميركية. ويتعلق الأمر بإعداد ملف للشعر الأميركي سينشر بمجلة كيبيكية وآخر للشعر الأميركي بهدف نشره بمجلة أميركية، على أساس أن تُنَظَّمَ قراءاتٌ شعرية مشتركة بمناسبة إطلاق العمليْنِ. وعلى العموم، يشكل هذا المشروع وغيره مناسبة لي للتعرف إلى تجارب شعرية مجاورة لبلدي.

قريبًا من العالم العربي

  لديك صداقاتٌ مع مجموعة من الشعراء والكتاب العرب. كما أنك ترجمتَ عملين شعريين بالفرنسية للشاعرين المغربيين مصطفى النيسابوري (الاقتراب من الخلاء)، ومحمد خير الدين، وآخر للروائي الجزائري محمد ديب؛ هل تؤمن بإمكانية حوار شعري وثقافي مع العالم العربي في ظل شروط السياق الراهن؟

محمد ديب

  الحقيقة أن معرفتي بالثقافة العربية تبقى، للأسف، محدودة جدًّا. ومعلوماتي حولها حصلتُ عليها، بالضبط، مُصادَفةً في خِضَمّ اكتشافاتي. وكالعادة، كان يقودني في ذلك فضولي الخاص. وأفترض أن لقائي الأول بالعالم العربي تم من خلال أغاني أم كلثوم التي استمعتُ إليها قبل أكثر من عشرين سنة. وإذا كان إحساسي بالموسيقا مرهفًا جدًّا، فإنني أجد الغناء العربي أحد أجمل أنواع الغناء في العالم. لقد أذهلني، بشكل كبير وعميق جدًّا، صوت أم كلثوم. ولم أكن قد استمعتُ، من قبلُ، إلى صوت آخر يوازيه. وكانت هذه الصدمة بالضبط وراء رغبتي في التعرف بشكل أكبر إلى هذه الموسيقا. ومنذ ذلك الحين، استطعتُ أن أطور معلوماتي حول هذه الموسيقا. وبالمناسبة، يروقني كثيرًا كل من محمد عبدالوهاب وأسمهان وفيروز ووردة، وأيضًا، الشاب خالد والمغنية الجزائرية الرميتي، ونجوى كرم كأصوات شابة أو ذات مزاج شاب كما هو الأمر للمغنية الرميتي. وأحتفظُ بالحب نفسه، سواء إلى الموسيقا العربية «العالمة» أو الكلاسيكية، كما يمثلها، على سبيل المثال، الراحل منير بشير، أو إلى الموسيقا الصوفية في امتداداتها العربية والإسلامية، خصوصًا من خلال تجربة التركي قدسي إرغونر.

محمد خير الدين

أمّا ما يخص علاقتي بالشعر والأدب العربييْنِ، فقد تكونتْ ملامحُها الأولى فيما بعد. وحيث إنني أجهل اللغة العربية، فقد قرأتُ على سبيل المثال، وبشكل يبقى محدودًا، أعمالًا مترجمة للشاعر المغربي مصطفى النيسابوري، وللكاتب الجزائري محمد ديب، وللكاتب التونسي عبدالوهاب المؤدب. وعلى العموم، أُومِنُ بشكل كبير، بأهمية الحوار وجَدْواه مع العالم العربي؛ ثقافيًّا كان أو غيره، خصوصًا معنا نحن الأميركان الذين نحتاجُ لتَذَكُّر حقيقة كون العالم لا ينتهي عند حدودنا، وكوننا نتقاسم الكوكب مع مليارات الأفراد الذين يختلفون عنا من حيث اللغة والثقافة والمعتقدات، ولكنهم يملكون الاحتياجات والرغبات نفسها وبخاصة الحقوق الأساسية نفسها؛ ذلك لأنهم ببساطة، كائنات بشرية مثلنا. ويبدو محزنًا أن يصير من الواجب التذكير بذلك.

كما يبدو مهمًّا أن نعيدَ تأمل، من قرب، علاقاتنا بالعالم العربي التي لم تبدأ، بالتأكيد، مع تحطيم البرجين، وأن نحاول فهم انعكاسات سياستنا الخارجية تجاه الشعوب العربية. كما يتوجب علينا، أيضًا، أن نعمل على تمثُّل، بشكل إيجابي وبعيد من النفاق، سياستنا في الشرق الأوسط، خصوصًا ما يهمّ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. لقد دأب الأميركيون، في المدة الأخيرة، على طرح سؤال أساسي: «لماذا يكرهنا الآخرون؟» وهو ما يبدو أمرًا مهمًّا. غير أن الإشكال يكمن في كونهم لم يكلفوا أنفسهم بالبحث عميقًا عن الجواب، وأحجموا عن الإنصات لمن يمكن أن يدُلّهم عليه.

  الإنصات لمن؟ للشعراء مثلًا؟ ما الذي يستطيع أن يفعله هؤلاء، بالمناسبة، لتصويب مسار تاريخ حافل بأحداثه المرعبة؛ أحداث 11 سبتمبر مثلًا؟

  لا أعرف. وربما لا شيء. على الأقل، على مستوى ما يمكن أن يغير شيئًا ما داخل عالم السياسة والإستراتيجيات، حيث تبدو القصيدة عاجزة عن فعل شيء ذي أهمية. لكن، ربما، على مستوى أكثر تواضعًا وأكثر حميمية، قد تستطيعُ القصيدة، ومعها سفراؤها من الشعراء، نسج علاقات بين مواطني كل البلدان الذين يمتلكون رغبة الإنصات لجيرانهم والذين ينظرون بطريقة مغايرة للعالم وللحظة الراهنة التي نعيشها جميعًا بشكل يمكن أن يغني نظرتَنا، نحن، للأشياء. وأن تقررَ أنتَ، الشاعر المغربي، محاورةَ شاعرٍ أميركيّ لَخيرُ دليلٍ على قدرة ما أسميتَه أنتَ، في حديث سابقٍ بيننا، بالصداقة السرية للقصيدة، على التقريب بين الناس. ولو قُدر لذلك أن يتجاوز عالم الشعراء الضيق ليشمل عالم القراء الأقل ضيقًا، ولو قُدر لهؤلاء القراء أن يتقاسموا هذه الأفكار مع أقاربهم، ولو قُدر أيضًا لأقاربهم أن يتحدثوا عن هذه الأفكار مع أصدقائهم، فقد يكون من الممكن خلق جمهور يملك وعيًا أكبر بما يجري حوله، واقتناعًا أعمق بكوننا جميعًا سواسية. وهو ما يشكل، بالطبع، أمرًا أساسًا وحاسمًا.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *