آيريس مردوخ: الكتاب البارع يحمل في طياته اضطرام لا وعي المؤلف

آيريس مردوخ: الكتاب البارع يحمل في طياته اضطرام لا وعي المؤلف

آيريس مردوخ (1919- 1999م) أديبة وفيلسوفة إنجليزية من أصول أيرلندية. تتمحور أعمالها حول موضوعات الخير والشر، ونظم الأخلاق، وقوة اللاوعي. ومن بين أبرز مؤلفاتها «البحر، البحر»، التي فازت بجائزة البوكر في عام 1987م، و«الأمير الأسود»، و«الكتاب والأخوية»، و«الفارس الأخضر»، و«رأس مقطوع»، و«الفتاة الإيطالية»، و«سطوة الخير». في هذا الحوار، المنشور في مجلة (Literary Review) عدد إبريل عام 1983م، وأجراه جون هافندن، أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة شيفيلد بإنجلترا، تطرقت آيريس إلى روايتها «تلميذ الفيلسوف» المنشورة وقتذاك، والعلاقة بين الأدب والفلسفة، وإستراتيجيات عملية الكتابة.

  «تلميذ الفيلسوف» رواية قوية عن عاطفة وهوس مبهمين. وتعد أول رواية تسلطين فيها الضوء على الفيلسوف، كأنك تتحدين وصف النقاد لكِ بالروائية الفيلسوفة.

  تركز الرواية على العلاقة بين التلميذ والأستاذ، التي انخرطت فيها طيلة حياتي في كلا الدورين. إنها علاقة مهمة ومؤثرة. على الرغم من أنني أكتب عن الفلسفة الآن، فإن الشخصية في «تلميذ الفيلسوف» تتحدث عن الفلسفة عرضًا وليست باعتبارها جزءًا من القصة.

  لم يكن هدفك أن تكون الرواية عن فيلسوف بعينه؟

  كلا، لكني أعتقد أن الفلسفة موضوع يدفع بعض الناس إلى القنوط. إنها في غاية الصعوبة للعقل البشري. لو كنتَ مؤرخًا للتاريخ القديم أو عالم لغات ستمارسُ دائمًا شيئًا هو جزء من وظيفتك. غير أنك لو لم تمارس الفلسفة بصورة سليمة فإنك لا تمارسها البتة.

  هل تقصدين أن الفلسفة تتطلب ذهنًا منظمًا وصارمًا، أو عقلًا بمقدوره التعايش مع حقيقة أن المسعى النهائي للفلسفة الأخلاقية لن يكتمل أبدًا؟

  من المستحيل ممارسة الفلسفة الأخلاقية من دون إبراز القيم الذاتية، ومثلما ذكرت أن الفضيلة بعيدة المنال. إنه موضوع بعيد الغور، لا يسعه أن يكون موضوعًا ميتافيزيقيًّا، وهذا ما يزيد من اهتمامي به.

  ثمة فقرة في الرواية قد تكون صعبة على القارئ الذي لم يطالع أعمالك الأولى، عندما دارت محادثة طويلة ومهمة بين الفيلسوف وبين الأب برنارد، الذي تنتابه شكوك موجعة.

  أجل، أظن أنه حوار مهم، يطرح مسائل واقعية، لكنه -بلا ريب- غير حاسم. إنه ضروري للشخصيات، وإلا ما كنت أدرجته في القصة.

  ثمة تماثل بين جون روبرت وشخصية بروسبيرو، في هيمنته على الشخصيات الأخرى وتقرير مصيرها، ولا سيما هاتي وتوم، الشخصيتين المترعتين بالأمل والبراءة. بينما يلعب جورج، تلميذه السابق صاحب المزاج الغاضب والمتخبط، دور كاليبان. إلى أي مدى تستخدمين مسرحية «العاصفة» أساسًا أسطوريًّا للرواية؟

  لطالما كانت «العاصفة» في ذهني، مثلما كانت معي في «البحر، البحر»؛ فكرة التخلي عن السحر، والعلاقة بين الدين والسلطة، إلخ. إن جون روبرت يتمتع بشخصية قوية، ولا يسعه إلا أن يمارس السلطة. لا تركز الرواية على طبيعة الفلسفة، بل على طبيعة السلطة في العلاقات البشرية. يتصف جون بشخصية نافذة وربما مدمرة. وبالطبع يخطئ في حق جورج، فكان ينبغي له أن يدعه، ويتصرف بلطف معه، ويكون أقل قهرًا. لكنّ هناك نوعًا من العقل الفلسفي يكون مطلقًا جدًّا فيما يتعلق بالفلسفة، ويطغى هذا على الحياة الواقعية متمثلًا في شعور أنه لا بد من أن يمتلك الحقيقة المثالية ولا يراوغ الأمور. يكره جون روبرت المواقف الفوضوية والعاطفية. بينما يتصرف جورج بالطريقة ذاتها لإثارة غضبه، وهو ما ينشده بصورة جزئية، إنه يريد دراما الانفعالات التي ستربط بينهما.

  تكتبين مسودتين -على الأقل- لكل رواية. اشرحي لنا كيف شرعتِ في كتابة هذه الرواية.

  أكتب المسودات بعدما أنهي الرواية. إن الابتكار هو الأمر الأشق، وكل شيء ينتهي حالما أفرغ من الابتكار؛ لأنه يقتضي تفصيلًا دقيقًا. لذا أكتب المسودات بعد مرحلة متأخرة نسبيًّا من العمل في الرواية.

  أعلم أنكِ شعرت بالصراع بين تحديد شكل الرواية والسماح للشخصيات بالحصول على حياة ممكنة وغير مقيدة.

  لا أخشى أن يطغى عليّ أسلوب كاتب آخر؛ فالأمر لا يتعلق بأن يهيمن عليّ شكسبير أو غيره. بل متعلق بالخوف من أن تستحوذ عليّ ذاتي وأساطيري القوية. ومن المستحسن أن هذه الرواية تتسم بالتشعب وتعدد الشخوص. كما أظن أنها تطرح موضوعات عدة، جادة ومهمة. وأتمنى أن توجد الشخصيات بالطريقة التي تحلو لها.

  يتصل ذلك بمسألة التعبير عن الذات؛ بمعنى أن الكاتب قد يولي الآخرين اهتمامًا مفرطًا أو يستخدم الرواية منبرًا لمخاوفه وهواجسه الشخصية.

  إن الأمر ينبع من الاهتمام بالآخرين. لكن الكاتب سيستعين حتمًا بمخاوفه ورغباته. إن الكتاب البارع لا بد من أن يحمل في طياته اضطرام لا وعي المؤلف.

  عطفًا على إجابتك، ما المخاوف والرغبات التي تحملها هذه الرواية؟ وهل لها علاقة بالصراع بين الفلسفة والفن؟

  كلا، لا أشعر بوجود هذا الصراع، عدا أن كلا المسعيين يستغرقان الوقت. إن هذه الرواية تنصب أكثر على السلطة، والعزلة المترتبة عليها، وإساءة استخدام جون روبرت لنفوذه، بالإضافة إلى قنوطه الفلسفي. إن آلامه تنبع من شعوره بأن الفلسفة تلامس المستحيل. ويتراءى لي أنه إحساس يستشعره جميع الفلاسفة. وأنا على ثقة من أن أفلاطون وكانط قد شعرا به. يستحيل على العقل البشري التغلب على الأشياء التي تقضُّ مضجعه. إنه الشعور باستحالة أن تكون إنسانًا صالحًا، فالبشر محكوم عليهم بأن يكونوا طالحين، بل حتى أشرارًا، وكذلك استحالة التعبير عن أسس الأمور.

متعة الخلق الروائي

  هل ينشد الفيلسوف السلطة؟

  نعم. يريد أن يكون إلهًا، ويود أن يرى كل شيء.

  هل تعد كتابة الروايات وقت راحة لكِ؟

  كلا، كتابة الروايات هي شغلي الشاغل، وأراها مهمة جادة. لطالما أردت أن أكون روائية، لكني تمنيت أيضًا أن أغدو عالمة آثار ومؤرخة فنية، حينما كنت في أُكسفورد. ولم أستطع استكمال مساري في تاريخ الفن لأنني عملت في وزارة المالية بعدما أنهيت الجامعة. وأخذني الدرب بعيدًا من العالم الأكاديمي. لكن مع نهاية الحرب تملكتني رغبة قوية في أن أكون فيلسوفة. وددت أن أصير مؤرخة فنية لعصر النهضة، وفي وقت آخر أردت أن أكون رسامة. كنت أرسم أحيانًا لكن لم أتلقَّ تدريبًا؛ لذلك كان مجرد حلم يقظة. إنني أحسد الرسامين، وأعتقد أنهم سعداء. إن الرسامين ينغمسون في مهنتهم طيلة الوقت؛ فالعالم المرئي الذي أعشقه، ماثل دومًا أمامهم، وبوسعهم التفكير في عمل يستلهمونه من الضوء، إلخ. إنهم يقضون وقتًا لطيفًا مع أعمالهم.

  هل تقضين وقتًا لطيفًا في كتابة الروايات؟

  نعم، إنني أستمتع كثيرًا بكتابة الروايات. بيد أن بداية الرواية يكون وقت تعذيب رهيب؛ لأنك تتعامل مع قطع عديدة ميتة، ويتحتم عليك الانتظار طويلًا لأي حركة.

  تتم عملية الكتابة أيضًا في عزلة وانزواء، وتمنعك من ملاحظة الآخرين ومرافقتهم.

  يدفعني هذا أحيانًا إلى كتابة المسرحيات، فمعها أجد الصحبة! إنني أستمتع بمهنة التدريس في الجامعة. لكني لا أتعاون مع أي شخص في كتابة الروايات.

  تقصدين أنكِ لا تناقشين أعمالك في أثناء كتابتها مع أي شخص، حتى مع زوجك؟

  نعم، إنه يقرأ الروايات حينما أفرغ من كتابتها تمامًا.

  هل تظنين أنكِ تأثرت بعمله ناقدًا؟

  لا أظن أنني تأثرت به في عملي روائية. لكن حينما تقضي سنوات طوالًا مع شخص، سيرتبط ذهناكما ارتباطًا وثيقًا. غير أنه لا يقوم بأي عمل نقدي في رواياتي.

  لا بد أن عملك في إدارة الأمم المتحدة للإغاثة والتأهيل في نهاية الحرب كان عذابًا.

  أجل. كان عملًا غير عادي. كان يتعلق بالنازحين اليوغسلافيين والبولنديين. وكنا نقضي معظم الوقت في توفير الطعام للناس.

  ما الانطباعات التي تركتها فيكِ هذه التجربة؟ هل يغلب عليها شعور العناء والقلق؟

  نعم، الفوضى وحزن العجائز. لقد ساعدت كثيرًا من الشباب على المجيء إلى إنجلترا. لكن المشكلة كانت ضخمة حتى إن المرء لم يستطع تقديم الكثير، عدا الطعام وحسن المعاملة. كان هناك انهيار تام للمجتمع.

  تتسم رواياتك بتصوير الشخصيات المكبوتة أو المثبتة بسبب حيواتها السابقة، أو أحداث معينة، أو مواقف يصعب الهروب منها، مثل هيلاري بورد في «طفل الكلمة»، وتشارلز أروبي في «البحر، البحر».

  من السمات الجلية في البشر أن يتملكهم الندم أو تسيطر عليهم خطة لتسيير حياتهم، وربما تبوء بالفشل. وأظن أن ذلك من بين الأشياء التي تحول بينهم وبين أن يكونوا أخيارًا. لماذا لا يكون الناس أخيارًا؟ ولماذا يقترفون أفعالًا ذميمة، وهم ليسوا بأشرار ولا يضمرون نوايا خبيثة؟ إن شوبنهاور، الذي أقدره كثيرًا، بارع في هذا الموضوع التراجيدي. يعجز بعض البشر ممن ليسوا سيئين عن منع ذواتهم من ارتكاب أكبر أذى في حق الآخرين. إن امتلاك حيوات خيالية وسرية خصيصة مميزة للنفس البشرية. والسرية عند البشر أمر جدير بالاهتمام، والروائي يغالب هذه السرية محاولًا الفهم. يخبرنني القراء أحيانًا أنني أصور شخصيات غريبة. والحقيقة أن الأفكار السرية للآخرين وهواجسهم وخيالاتهم هي التي تثير الدهشة، لكن الناس لا يبوحون بها. وربما يُعزى هذا لشعورهم بالخجل والعار، أو لكون السرية حالة طبيعية ومناسبة.

الروائي وشخصياته

  ذكرت في موضع آخر قصور التحليل النفسي؟

  أجل، لكن ليس بصورة نظرية. لا أقصد أنني درست أعمال فرويد ووجدتها دون المستوى المطلوب، على الرغم من أنني طالعت كثيرًا منها. استمتاعي بقراءة فرويد مردُّه حصولي على أفكار شتى منه. فضلًا عن أنه مفكر عظيم وجدير بالاهتمام. ولكن إحدى تبعات التحليل النفسي هي تركيزه بصورة أكبر على النفس، والتفكير مليًّا فيها. بينما أفضل علاج للبؤس هو مساعدة الآخرين. وفي ظني أن التحليل النفسي يمكن أن يساعد الآخرين بوصفه نوعًا من الإسعاف الأولي. إن المحلل السيكولوجي يعد أداة خامًا إلى حد ما، وبوسعه أن يكون شخصًا يهتم بالأفراد. وأرى أن أفضل المحللين هم من يستحثون في مرضاهم الشعور بالقيمة والأهمية؛ إذ يسهل على الناس الشعور بضياع أو تشوه قيمتهم. وقد يقوم المحلل بدور كبير في استنهاض الأمل بداخلهم. إن الأمور النظرية لا توضح ما يفعله المحلل السيكولوجي. لكن المحلل البارع يدرك أن النظرية تلهمه وربما تفيده. وواقع الأمر أن العلاقة بين المحلل ومريضه هي علاقة خاصة وحساسة ولها طابع سري.

  هل تظنين أنكِ تكشفين اهتماماتك النظرية وليست الشخصية؟

  اهتماماتي النظرية لا تندس كثيرًا في رواياتي. بل تتكشف عبر الشخصيات، التي قد تناقش بعض المسائل بصورة نظرية. إن إقحام الكثير من التنظير أمر محفوف بالمخاطر وقد يعرقل سير الرواية، لكنه لا يستهويني. غير أن المعرفة والبراعة والفهم أمور في غاية الأهمية بالنسبة للروائي وتعود عليه بنفع عظيم.

  ذكرتِ أن الشخصيات الشريرة تحظى بجاذبية غير شرعية؟

  هذا صحيح وفي الواقع أيضًا. إن تحويل حياة المرء إلى دراما والشعور بأن لديه قدرًا هو إغراء بشري معروف. إنه عنصر جذاب في الحياة، وهو عنصر خطير جدًّا؛ لأنه عدو للدين ولمفهوم الخير. وأظن أن المرء يتوحد مع الشخصيات الشريرة في الكتب؛ فالشعور بأن الشيطان يغريه ويعطيه قوة مقابل تخليه عن الخير، الممل غالبًا، يعد فكرة متأصلة في النفس البشرية.

  يتراءى لي أنكِ تشعرين بالارتياب بشأن فرض شكل على الرواية لأسباب فنية وأخلاقية، ولأن الشكل قد يصير طعنًا في الواقع؟

  إن الشكل القوي يميل إلى تقييد الشخصيات. وقد راودني هذا الشعور في رواية «رأس مقطوع»؛ لأن الميثولوجيا القوية بوسعها أن تتدفق في شكل من الكتابة التلقائية وغير المفاجئة. إن الكتابة البارعة مترعة بالدهشة والابتكار، وتتحرك في اتجاه لا يمكن توقعه. ولا بد من أن تكون الأسطورة حاضرة والشكل ماثلًا. لكن ينبغي للكاتب أن يردع الشكل عن تحديد المشاعر المسيطرة على الكتاب بالعمل في اتجاه مقابل؛ بالقيام بشيء لا ينتمي إلى عالم السحر.

  لكن حينما تخططين للشخصيات والحبكة أولًا فإنكِ بذلك تفرغينها من تحررها المحتمل.

  لا، لأن هذا ينبغي أن يحدث بصورة مبتكرة أيضًا، أي الكيفية التي بواسطتها يدمر الكاتب الأسطورة أو يحجبها. إنني أكون واعية بهذا الصراع في البداية وأستفيد منه مرارًا.

غاية الفن

  كتبتِ أن الفن هو «مفتاح عظيم للأخلاق». أعتقد أنكِ تقصدين أنه يجب وجود بعض الإقحام التعليمي أو الإرشادي في الرواية. في حين يرى بعض المنظرين أن الرواية ليست إلا لعبة تخمين.

  أجل، هناك لمسة تعليمية في رواياتي. أظن أن الروائي يجب أن يكون صادقًا. إن الروايات الرديئة تنبئ بالعديد من أحلام اليقظة؛ كحلم السلطة، إلخ، وقد يكون هذا مقيتًا. لكن الطبيعة العارضة للحياة، إضافة إلى عيوب البشر، ورغبة المرء في أن يكون صالحًا، كل هذا صعب جدًّا. ومن هنا يأتي الصدق؛ أن تتوقف عن قول أشياء كاذبة.

  ومع ذلك قد يكون التطلع إلى قول الصدق أمرًا سخيفًا للروائي، نظرًا لوجود العديد من المكونات والمتغيرات في الرواية، بما فيها التشخيص، ونمط الأحداث، والأسطورة، والأخلاق.

  كل هذه الأمور مجتمعة. إن الرسام السيئ يكذب لأنه لم ينظر بشكل حقيقي، كما نظر رامبرانت. وتقوم الحقيقة والعدالة بدور في هذا الشأن؛ لأنه ينبغي للفنان التمتع بحكم عادل ونزيه. وأظن أنه ليس أمرًا سخيفًا، بل مهمة متواضعة لو اتبعها بشكل سليم. لكن المرء تسيطر عليه أيضًا رغباته ونوازعه. ويمتزج الصدق والسعادة معًا بشكل مثالي، ومن ثم تكون السعادة مضاعفة حينما تسير الأمور بصورة جيدة. إن الأعمال الفنية تبث في النفس السعادة والفرح. حتى مسرحية «الملك لير» تثير الجَذَلَ في النفس، ولذلك فهي تقترب من حافَة المستحيل؛ لأنك تفرح بعمل فني على الرغم من أنه يدور حول موضوع رهيب.

  شخصياتك الصالحة أو الطيبة، مثل تاليس في «هزيمة مشرفة»، أو الشخصيات الطامحة إلى السلوك القويم مثل الكونت وان في «راهبات وجنود»، قد تتحول إلى شخصيات غير مؤثرة؛ أشبه بمعايير أخلاقية تقترب من الرمزية. الشخصية الفاضلة تتصرف بطريقة محايدة ومن ثم قد تصير مملة ومضجرة، مثلما أشرتِ سابقًا.

  أجل، هنا تكمن المفارقة. لكن تاليس شخصية مجازية يمثل المسيح، وعدوه اللدود يوليوس يراه كذلك. إن تاليس شخصية رمزية، ووظيفته أن يكون صالحًا. والمرء يميل إلى التفكير في أن الشخصية الصالحة ليست قوية. لكن تاليس قوي. أما الكونت فشخصية بريئة ونبيلة، وليس طيبًا بالمعنى الحرفي؛ فالشخصيات الطيبة المحضة لا نقابلها في الحياة العادية.

  يظن بعض النقاد أن رؤيتك بشأن عجز البشر عن التحسن هي رؤية قاصرة.

  أعتقد أن من يتأمل الأحوال المحيطة سيوافقني الرأي. قد يتحسن المرء قليلًا، لكن الغرور قوي وطبيعي بصورة مرعبة. حينما يفكر المرء في بلوغ الصلاح، أو حتى تحسين نفسه بشكل ملحوظ، إنما يفكر في شيء يتعارض مع الطبيعة.

  ما المهمة الحقيقية للفن في رأيك؟ أهي المواساة، أم التعليم، أم المتعة الخالصة؟

  يتراءى لي أن المتعة الخالصة هي الإجابة المناسبة. ينبغي للمرء العيش مع الفن الجيد، وليس إدمان الفن الرديء، الذي يكون محبطًا ومخيبًا للآمال. إن الفن الجيد هو متعة مجردة وغبطة. كما يتعلم الإنسان كثيرًا من الفن؛ وكيفية النظر إلى العالم وفهمه. إنه أسلوب تفكير، ولهذا السبب يعد تدخل الدول الشمولية في عمل الفنانين جريمة بشعة. يجب أن يُترك الفنانون وشأنهم، وينبغي للنقاد أن يتركوهم وشأنهم أيضًا. إن الفنانين -في الأساس- أرواح حرة. والفن ميدان شاسع للتفكير. ولهذا السبب من المهم وجود فن حر من المنظور السياسي؛ لأن الفن ساحة مستمرة للتفكير الحر. إنه نمط للتأمل والمعرفة. والفن الجيد قد يعلمك بعض الأمور، لكنه لا ينبغي أن يهدف إلى التعليم. إن مهمة الفنان تكمن في ابتكار أعمال فنية بارعة. والرواية هي نمط إيضاحي وتفسيري، فلا يسعك إلا أن تشرح الشخصيات وتتأمل دوافعها. والروائي هو القاضي بين هذه الشخصيات. ومن الصعب عليه أن يكون قاضيًا عادلًا. إنه يميط اللثام عن أخلاقه ومبادئه -بطبيعة الحال- في الرواية التقليدية، ويجدر به فعل ذلك.

ناتالي دياز: أميركا ليست إلا أسطورة

ناتالي دياز: أميركا ليست إلا أسطورة

«أتوسل إليكم، دعوني أكون وحيدة ولكن مرئية»، هكذا تكتب الشاعرة الأميركية ناتالي دياز في قصيدة «الحساب الأميركي»، التي صارت، شأنها شأن كثير من قصائد دياز المدهشة، فعلًا ثوريًّا لحق الإنسان في أن يكون مرئيًّا عبر الشعر. ولا يقتصر ذلك على الشاعرة فحسب، بل على جميع من حاولت أميركا محوَهم من صفحات التاريخ.

بدءًا من مجموعتها الشعرية الأولى «حينما كان أخي أزتيكيًّا»، حتى كتابها الأخير «قصيدة حب ما بعد الاستعمار»، تطرقت قصائد دياز، عبر سلسلة زاخرة بالأشكال الشعرية، إلى فيض من الأسئلة، من قبيل: ماذا يعني أن تكون موهافيًّا ومكسيكيًّا في أميركا العصر الحديث؟ ماذا يعني أن تكون شقيقة، وحبيبة، وصديقة، وشاعرة؟ وهويات متعددة أخرى تتعايش في أعماقها، على غرار كثير منا. في الوقت نفسه تحثّ القراء على سبر واستنطاق الأساطير التي شب عليها الشعب الأميركي، ولا سيما أن كثيرًا من الأسئلة المتعلقة بالعِرق والاضطهاد المتفشيين في ماضي أميركا وحاضرها صار يشكل محورًا رئيسًا في حوارات اليوم الدائرة حول المستقبل.

ناتالي دياز شاعرة أميركية من أصل موهافي، وأستاذ الكتابة الإبداعية في جامعة ولاية أريزونا. حصلت على العديد من منح الزمالة، مثل: زمالتي مؤسسة ماك آرثر، ولانان الأدبية. كما نالت العديد من الجوائز من بينها بابلو نيرودا للشعر، وتوبياس وولف للقصة. فازت مجموعتها الشعرية «قصة حب ما بعد الاستعمار» بجائزة بوليتزر للشعر لعام 2021م، كما وصلت في عام 2020م إلى القائمة القصيرة لجائزتي فوروارد لأفضل مجموعة شعرية، و ت. س. إليوت، وكذلك القائمة الطويلة لجائزة الكتاب الوطني.

الحوار التالي أجرته نتاشا حكيمي مع الشاعرة حول بداية رحلتها مع الشعر، وعلاقتها بلعبة كرة السلة، وجهدها الدؤوب نحو استعادة اللغة الموهافية وإحيائها، وتأثير ذلك في كتابتها. وكذلك ارتباطها بالماء وقصور اللغة الإنجليزية في احتواء الحميمية والهشاشة المتعلقين بهذا الارتباط.

من كرة السلة إلى الشعر

  في حوار مع (الغارديان) ذكرتِ أن «الشعر كان أرضًا لم أتوقع أن أطأها… أعني، من يقول: سأغدو شاعرًا في المستقبل؟» كيف بدأت رحلتك مع الشعر؟

  بدأت رحلتي مع الشعر بطرائق عدة وفي أوقات مختلفة، لكني لم أدرك حينها ذلك. لقد ترعرعت بين الرواة والقصاصين. واعتادت أمي أن تحكي لنا القصص، وتقرأها بصوتٍ عالٍ. لقد نشأت في عائلة كبيرة، ولم يكن في جَعْبتنا أشياء مادية كثيرة، بل أقل مما لدى معظم الناس؛ لذا كانت الحكايات أو القراءة من إحدى الطرائق التي تفاعلنا بها. وأظن أن ذلك كان أول عهدي بالشعر؛ فلم يكن بالضرورة قراءة القصائد، بل نما في أعماقي حب حسية اللغة وقراءتها بصوتٍ عالٍ. استقر في داخلي حب المطالعة منذ نعومة أظفاري. أعتقد أن حب اللغة وحسيتها تلاقى مع الطاقة التي وجدتها في لعبة كرة السلة. من الغريب أن أغدو شاعرة في نهاية المطاف، وهذا لا يرجع فحسب إلى أن الشعر ضرب من الرفاهية في الولايات المتحدة، بل كذلك لأن رحلتي مع الشعر بدأت من أشياء لا تمتُّ له بِصِلة.

  من المثير للاهتمام أن أتيتِ على ذكر لعبة كرة السلة وكيف صارت مصدرًا ملهمًا للشعر في حياتك. فهي ثيمة متكررة في قصائدك، وأعلم أنكِ لاعبة محترفة. صِفِي لنا بشيء من التفصيل التشابهات أو الروابط بين هذه اللعبة وكتابة الشعر؟

  أعتقد أن أوجه التشابه بين هذه اللعبة والشعر هي إدراك المرء لجسده، وحدود ذلك الجسد، وتعلمه أن الجسد والعقل ليسا منفصلين. إنني أرى اللغة أمرًا حسيًّا ماديًّا، لها طاقة ملموسة تملأ جسدي، وأشعر بها حتى حينما تغادر هذا الجسد. نحن قبائل الموهافي نتكلم بأيدينا، وأنا ما زلت لاعبة رياضية وأتحرك كثيرًا حينما أتكلم. أرى أن الشعر ليس ما ندونه على الصفحات، بل يدور دائمًا حول زخم الحركة، شيء في غير حينه أو وقته. ولعبة كرة السلة تعمل بالطريقة ذاتها. الأمر يتعلق بالجسد والمساحة. فالجسد يدفع الأجساد المادية الأخرى من الطاقة أو الصوت. لقد سبق أن ذكرت ذلك. لكن كرة السلة لعبة مستقبلية لأن اللاعب يتخيل دومًا ما سيحدث في اللحظة التالية، ومن ثم يسبق ذاته الفعلية عدة خطوات. وتلك هي الطريقة التي أكتب بها الشعر أيضًا؛ أجهل ما سيكون السطر التالي، وأنا متهيئة لذلك وعلى أهبة الاستعداد. ربما كان أهم شيء حيال كرة السلة والشعر في حياتي أن المرء بحاجة إلى مستوى معين من الممارسة والتفاني يجب أن يخضع له أو يغمر ذاته فيه.

  في أحدث دواوينك الصادرة «قصيدة حب ما بعد الاستعمار» في قصيدة بعنوان: «الأسباب العشرة لبراعة سكان أميركا الأصليين في كرة السلة» كتبتِ «خيرنا الخالق» بين «أن نكون كإله هندي» أو بين «تسديدة قوية». هذه القصائد توحي بتشابك بين اللعبة والكتابة لا يمكنكِ الفكاك منه.

  أعتقد أن ذلك لا بد أنه يحدث مع معظم الناس. كل إنسان يمتلك مفردات وألفاظًا منتقاة من حياته. في جَعْبتي مفردات للصحراء، وهذا يجعلني أكتب عنها بطريقة معينة. ولدي كذلك مفردات تخص نشأتي في عائلة كبيرة. لقد كبرت أيضًا في محمية طبيعية، وهي تمدني بمفردات أخرى. لم أعامل عائلتي فحسب بشكل مقرب حميمي بل كذلك كل جيراني، وهذا ينطبق أيضًا على قومي جميعًا، حتى إن كانوا غرباء، سواء كنت أعرفهم أم لا.

وهذا يشبه على نحو قريب مفردات كرة السلة في كون المرء يرتبط فجأة بشكل حميمي بكل شخص في الملعب، بل ببعض الأشياء الخاصة كالعرق أو الغضب أو الهزيمة. أرى أنه من السهل الإبقاء على كرة السلة والشعر جنبًا إلى جنب، وأعتقد أن الآخرين يفعلون ذلك. على سبيل المثال، فادي جودة لديه مفردات تخص الطب والشفاء والعلم يطعّم بها قصائده. وهكذا تتلاشى المسافة بين الشعر وعمله طبيبًا. من الطبيعي أن تزخر قصائدي بمفردات لعبة كرة السلة؛ لأني أراها علاقة حميمية بالجسد وهشاشة المرء فيها. يعلموننا أن لأجسادنا قيودًا وحدودًا معينة، وهذا يفصل العقول عن الأجساد، لكن حينما تتحكم في الجسد والعقل معًا، تختفي تلك الحدود. وهكذا أرى الشعر، فهو بالنسبة إليّ يتجاوز النطاق والحد.

  ذكرني حديثك عن الزخم والإيقاع بطريقة استخدامك للشكل في قصائدك. من بين الأشكال الشعرية التي قمتِ بتوظيفها في كتابيك الكوبليت، والترسيتس، وقصيدة النثر. وفقًا لأي أساس تختارين شكلًا شعريًّا معينًا للقصيدة؟

  أختارها أحيانًا حسب المساحة، لكن دائمًا تكون بحسب اللغة التي أوظفها وكيف أستشعرها في جسدي، ومدى حسيتها. يميل الشعراء إلى أن يتركوا الصفحة تهيمن على ما يحدث. أرى الأمر مزيجًا مما يحدث بشكل مرئي في السطر الشعري. ولا أقصد بالضرورة من اليسار إلى اليمين. بل اعتدت أن أرى الأشياء في الهامش وأشعر بها. وربما يرجع ذلك إلى ممارستي لكرة السلة في سن صغيرة، فتعلمت ألا أعتمد على عيني فحسب. ويرجع كذلك إلى نشأتي في الصحراء وما يولده من إحساس بالتقلقل وعدم الاستقرار. أحيانًا تكون الأشياء المحيطة بالمرء أهم من تلك التي تقبع أمام ناظريه؛ لذا أرى أن الشكل يحدث بطريقة غير خطية. حينما أقرأ صفحة الشعر أو النثر، لا أقرأ فحسب البيت الذي تحط عليه عيناي، بل أيضًا كل الكلمات الأخرى في الصفحة. أعتقد أن أهمية الشكل تكمن في إمكانيته بسماح حدوث التعددية. كما أني أوليت اهتمامًا كبيرًا بالتكرار وأوظفه كثيرًا؛ لذا أعدُّ كل هذه الأشكال الشعرية ضربًا من الزخم، حتى إن انطوت على صور مختلفة أو جديدة، أرى أنها جميعًا متصلة بشكل اشتقاقي.

الأسطورة والحقيقة والمعرفة

  لاحظت امتداد موتيفة الأسطورة من كتابك الأول إلى كتابك الثاني؛ الإشارات اليونانية والتوراتية، والموهافية والأزتيكية. تطرق الكتابان كذلك إلى فكرة الميثولوجيا الأميركية الغارقة في هيمنة الجنس الأبيض، التي تعزز من هوية البلاد. كيف ترين الأسطورة كأسلوب أدبي؟

  الأسطورة ما هي إلا طريقة أخرى لسرد القصص. كما أن الأسطورة ترتبط بحدود المعرفة وأهمية الخيال، الذي هو نوع من المعرفة. أحيانًا علينا الاختيار بين الحقيقة أو الأسطورة. لكني لا أرى الأمر كذلك. لا أعرف ماهية الحقيقة ولا كيف توجد، بل أرى أن أهميتها مرتبطة بالقانون، الذي يشوبه العوار. وما يثير دهشتي أن الأسطورة تبين على نحو واضح حدود المعرفة وقيودها، وكأننا اصطدمنا بحدود المعرفة أو الحقيقة، ثم أطلقنا عنان مخيلتنا للتغلب على هذا العجز المعرفي. أعتقد أن المعرفة والحقيقة والأسطورة جميعها متماثلة. المخيلة في تصوري هي معرفة شديدة الأهمية؛ فعندها تتلاقى ذكرياتنا أو تتقارب، سواء مررنا بها أو ورثناها. كما تضم كل ألسنة البشر ولغاتهم. والأسطورة تستحيل قصة مروية بطريقة متعذرة على الأشكال الأدبية الأخرى. وأكثر ما يعجبني في كون الأسطورة موجودة في أساليب تفكيرنا الحالية المحدودة هو أننا نتركها تفعل ما تشاء، كأننا لا نرجو منها حقيقة أو يقينًا، ثم تصير حقيقة أو أقرب. أرى أيضًا أن الأسطورة هي طريقة لتفكيك أفكار الطبيعة الأميركية. إنها تبيح لنا الاعتراف بأن أميركا ليست إلا أسطورة.

الحب في اللغة الموهافية

  في النصف الآخر من المقتبس السابق من (الغارديان) قلتِ: «ترعرعت في محمية طبيعية، وحظينا بمدرسة داخلية تعلمنا فيها اللغة الموهافية». أسهمتِ بنشاط في حماية المحمية والحفاظ عليها، وكذلك المساعدة في استرداد اللغة الموهافية بدرجة ما؛ كيف أثر هذا المشروع في شعرك؟

  حينما كنت أتعلم اللغة الموهافية، انخرطت أيضًا في مشروع بحثي أرشيفي يسعى إلى استعادة ملفات صوتية، وأسطوانات فونوغرافية، وتعليقات علماء الأجناس البشرية والأعراق واللغة وملحوظاتهم حول لغتنا في منتصف القرن التاسع عشر. كانت تقع في يدي وثائق تذكر أن اللغة الموهافية لا تضم بين مفرداتها كلمة «أحبك»، وأننا لا نعبر عن تلك العواطف. والواقع أن اللغة الموهافية تخلو من عبارة «أنا أحبك»، لأننا لا نعبر عن الحب بتلك الطريقة، بل لدينا تعبيرات حميمية تدل على الحنان والاهتمام مثل «أنت عيني»، و«أموت من أجلك». إن قلت باللغة الإنجليزية: «سأموت من أجلك» ستعتبر هذه قفزة عملاقة من الهشاشة والعاطفة الجياشة. قلما تحمل الإنجليزية هذه المفردات؛ إذ تنطوي على نوع آخر من الخطورة. لقد شاهدنا مؤخرًا من يقولون: «سأموت من أجل الحرية»، لكن حينما تنطق بذلك لشخص فإنك لا تعبر عن مبالغة، بل وشيجة من المحبة والحنو والعطف تسمو على النفعية. في اعتقادي أحد أهم الأشياء التي تضفي على الشعر ماهيته هو الاهتمام الشديد الذي نوليه للغة والمعنى. حتى حينما نكتب شيئًا مؤلمًا أو قصائد مقاومة أو حب، نمنح كل قصيدة الاهتمام والعواطف ذاتها.

وقد تعلمت اللغة من الكبار بهذه الطريقة. اللغة رقيقة حتى حينما تكون غاضبة بسبب هذا الاهتمام وهذه العواطف. حتى إذا كانت اللغة نفعية، بمقدورها استيعاب كل الاحتمالات وجميع المشاعر التي نتبادلها. نحن نفصل بين الفن والنفعية طوال الوقت، وهذا هو سبب نفور كثير من الناس من الشعر وابتعادهم منه. أحيانًا نضع الفن في إطار قريحة يتعذر على شخص امتلاكها، أو أنه يتطلب أصلًا بعينه أو سمة الصدق أو الكمال. لكني أرى الفن ضرورة لا غنى عنها في حياتنا اليومية، إنه تشتت الزمن وما نوليه من انتباه لأجسادنا والأجساد من حولنا.