بين الرمضاء والنار… عمَّ يجب أن يكتبَ الكاتبُ، وكيف؟

بين الرمضاء والنار… عمَّ يجب أن يكتبَ الكاتبُ، وكيف؟

ترعرعْتُ في كولكاتا في سبعينيات القرن الماضي، في أسرة بنغالية تقليدية من الطبقة المتوسطة. لم أفكر قط في أنني سأصير يومًا كاتبة. كانت حياتي عادية جدًّا على حد علمي، تمامًا مثل حياة الآلاف من الفتيات البنغاليات الأخريات، وكان لها مسار حدَّدَتْهُ عائلتي من قبل، هو: الحصول على درجة البكالوريوس، ويُفضَّل أن يكون ذلك في مجال الآداب الذي يلائم إحساس الشابات، ثم الزواج (التقليدي المدبَّر بالطبع) وتكوين عائلة. قبلْتُ الأمرَ إلى حد ما. فلم أكن من النوع المتمرد. إضافة إلى أن كل من حولي من الصديقات وبنات العمومة فعلْنَ الشيء ذاته، وبَدَوْنَ سعيداتٍ بما فيه الكفاية.

بيد أن القدر قرَّر خلافَ ذلك. فقد تسبَّبَتْ مجموعةٌ من الأحداث غير المتوقعة في أن ينتهي بي المطافُ في الولايات المتحدة، حيث درسْتُ الأدب الإنجليزي أولًا في جامعة رايت ستيت في أوهايو، ثم في جامعة كاليفورنيا، بيركلي. كان الأمرُ مبهجًا ومرعبًا في آن واحد، ومختلفًا إلى حد كبير عن كل ما عرفْتُهُ حتى ذلك الحين. فعليَّ أن أعيد تعريفَ ما يعنيه أن أكون امرأة– امرأة صالحة، على وجه التحديد. وعليَّ أن أكتشفَ، وأتقبَّلَ، ما هو مسموح ومشجِّع في هذا العالَم، وما هو مستهجن. وما يُعَدُّ نجاحًا وإخفاقًا. وما يعنيه حقًّا أن أكون هندية.

عندما التقيْتُ زوجي (هو هندي أيضًا، لكنه ليس بنغاليًّا) وتزوجته وانتقلْتُ من أسلوب حياة الطالبة البوهيمية إلى أسلوب الحياة في الضواحي، صادقْتُ عددًا من النساء المهاجرات من جنوب آسيا، مثلي، كنَّ يحاولن اكتشافَ حيواتهن في أميركا. تزامن هذا أيضًا مع انخراطي الجدي في مجال العنف المنزلي، أولًا متطوعةً مع «شبكة دعم» «Support Network» في منطقة خليج سان فرانسيسكو، ثم واحدةً من مؤسسي منظمة مايتري (Maitri)؛ وهي منظمة تساعد نساء جنوب آسيا في حالات سوء المعاملة، وقد احتفلت بالذكرى الثلاثين لتأسيسها في فبراير من عام 2021م. تزامن هذا كذلك مع وفاة جدي في الهند. كان عزيزًا جدًّا عليَّ، فهو أول حكَّاء للقصص في حياتي، وخلق موته فراغًا كبيرًا في داخلي، وخوفًا من أن أفقد كل ما أحببت في الهند وعن الهند. إذ كنتُ أنساهم.

مزيج من كل هذه الأحداث هو ما جعلني كاتبة، وشاعرة في البدء. كنتُ أكتب لأفهم العالَم الذي وجدْتُ نفسي فيه، والعالَم الذي خلَّفْتُهُ ورائي، العالَم في الهند الذي شاهدته حديثًا بعدسة المسافة الواضحة ولكن المزعجة أحيانًا. كنتُ أكتب أيضًا للتعبير عن جوهر حياة النساء الأميركيات القادمات من جنوب آسيا، المهاجرات الجديدات مثلي، بأفضل وأصدق ما أستطيع، عبر إدراكي الذي أعترف أنه منقوص. كتبْتُ لنفسي في الغالب، غير واثقة من أن قصصي ستكون ذات مغزى لأي أحد؛ لذا فوجئْتُ عندما بدأت المجلات في نشرها، وعندما أعربت وكيلة أدبية معروفة عن رغبتها في تمثيلي، ووجدَتْ لي ناشرًا لمجموعتي القصصية الأولى، «زواج مدبَّر»،(١) التي فازت بعدها بجائزة الكتاب الأميركي.

عن جدوى الكتابة

كان أكثر ما أدهشني، عند صدور الكتاب، الاحتجاج الصاخب ضده في قطاعات كبيرة من الجالية الأميركية الجنوبية الآسيوية. اشتكى الناس من أنني أُصوِّرُ مجتمعنا– والممارسات التي يعتزُّ بها مجتمعنا، كالزواج المدبر– بصورة سلبية. اشتكوا من أنني كنتُ أُرضي رغبات البيض بتجسيدي الصور النمطية أو التحيزات التي يحملونها بخصوص هذه الممارسات. لقد شجبوا بصورة خاصة تصوير العنف المنزلي والاغتصاب الزوجي في عدد من قصصي. وغَضِبَ آخرون لأنني كنتُ أفشي أسرارًا ثقافية قد تؤثر في مكانتنا لكوننا «أقلية نموذجية» في الولايات المتحدة. لكنني بصراحة كنتُ فقط أقول الحقائق التي أعرفها، الحقائق التي لطمتني في قلبي وأجبرتني على البقاء مستيقظة حتى منتصف الليل -كنتُ أُدرِّسُ في أثناء النهار- أكتب وأشطب ما كتبْتُ وأعيد الكتابة.

ما جدوى الكتابة إن لم أكتب عن هذه الحقائق القاسية والواضحة جدًّا؟ إن لم ألفت انتباه الناس إليها؟ قال كافكا؛ أحد كتَّابي المفضلين: «على الكِتاب أن يكون الفأسَ للبحر المتجمد في داخلنا». كان هذا هو نوع الكتاب الذي كنتُ أطمح لكتابته. أدركْتُ، في الوقت نفسه، أن من يقرأ كتبي من فئة غير الهنود قد يحكم على كل الهنود بطرائق إشكالية بناءً على الشخصيات فيها. هل كنتُ حقًّا، بقولي الحقيقة، أُروِّج أيضًا، بطريقة تبدو عليها المفارقة، للتفكير النمطي عن الهنود؟ كانت تلك فكرة مقلقة. علقْتُ بين الرمضاء والنار: أن أكون صادقة ومركَّبة كفنانة، وأن أكون مخلصة لشعبي وأكافح التمييز العنصري والتحيز ضد الفئات المهددة بالخطر كالنساء الناجيات من سوء المعاملة. أجبْتُ عن هذه المعضلة بتذكير الجمهور في الفعاليات والقراءات بأن الثقافة الهندية معقدة دائمًا، وأن تصويري للأميركيين من أصول هندية ليس سوى جزء صغير من الموضوع. لم يكن هذا هو الحل المثالي؛ فكم عدد الأشخاص الذين سأصل إليهم بهذه الطريقة؟ لكنني كنت آمل أن يُحدث ذلك فرقًا. غير أن ذلك أغضبني لأن كتَّاب التيار السائد يمكنهم تصوير أي نوع من «الأبطال»، مهما كان سلبيًّا، دون القلق بشأن هذا النوع من رد الفعل الغاضب.

اشتكى بعضُ القرَّاء من أن قصصي قاتمة. فعندما يُثار هذا الأمرُ في فعاليات القراءة، أشير إلى أنه على الرغم من ابتعادي عمومًا من نهايات هوليوود/ بوليوود التقليدية، فإن العديد من كتبي تعرض علاقات إيجابية؛ وإن كانت معقدة، ونهايات تُصوِّر نموًّا محدَّدًا في الشخصية، ولا سيما من جهة البطلة؛ لأن النساء اللائي أكتب عنهن غالبًا ما يجدن أنفسهن في أرض غريبة، وهو الأمر الذي يدفعهن إلى أن يُعدن التفاوض على علاقاتهن، فهذا يُعَدُّ «إضاءة» أكثر واقعية من وجهة نظرهن.

لن أعتذر عن الحقائق القاسية التي أتطرق إليها، بما فيها صور العنصرية ضد شعبي في أميركا. أدرك أن هذا قد يقلل عدد قرَّائي، وبدوري تقبلْتُ الأمر. أعتقد أن الكاتبة تحتاج إلى الكتابة عمَّا يمنعها من النوم ليلًا؛ إذ كيف بمقدورها أن تكتب عن أي شيء آخر غير ما يُوقد حماستها؟ طالما أنها تعمل بجد لتجعل القصة دقيقة قدر الإمكان، وتصل إلى الموضوع راغبة في الاكتشاف، لا مدفوعة بأجندة جاهزة، فهذا كل ما يمكن أن يُطلَبَ منها. كنتُ أكتب، على مرِّ السنين، عن القضايا الاجتماعية، مرارًا وتكرارًا، في روايات مثل: «شقيقة قلبي»(٢)، حيث يصير إجهاض الأجنة واقعة كبرى، و«شيء واحد مذهل»(٣)، حيث تُظهر مقاطع منها ردود أفعال عنيفة ضد المسلمين من جنوب آسيا في أعقاب أحداث 11 سبتمبر، ومجموعات قصصية، مثل: «الأخطاء المجهولة في حياتنا»،(٤) حيث تصور القصص العائلات المفككة بسبب المواقف السياسية كالحركة الناكسالية(٥) في البنغال، ورواية على شكل قصص بعنوان: «قبل أن نزور الإلهة»(٦)، تتناول تداعيات العائلات المفككة، والإجهاض، وإدمان الكحول.

قبل روايتي الأولى

ثمة جانب مختلف من ثقافتي أَعدُّهُ مهمًّا وددْتُ إدراجه في كتبي. كنتُ محظوظةً لأن جدي كان قاصًّا رائعًا. وامتلأت ذكرياتُ طفولتي به فيما ينادينا بأبناء العمومة لنتجمع حوله في المساء. ثم يقص علينا حكايات رائعة من ملاحمنا وحكاياتنا الشعبية وقصصنا الخيالية في البنغال. جعلني استماعي لقصصه أُومِن أننا عشنا في عالَم سحري مليء بالقوى التي لم ندركها بالضرورة، غير أن بعض الأشخاص قد يكونون على اتصال بها إن أسعفهم الحظ. وبعد مرور أكثر من نصف قرن، ما زلت أُومِن بذلك.

لذا، حين استعددْتُ لكتابة روايتي الأولى، أردْتُ أن أنسج فيها الحب في طفولتي مع مخاوف الكبار. أردْتُ أن أجعلها في الحال رواية عن المهاجرين وتحدياتهم، وعن السحر أيضًا. أردْتُ أن أعتمد على حكاياتنا الشعبية القديمة، حيث تعطي طبيبات مسنات علاجات نادرة لمن يأتي إليهن من الناس سرًّا طلبًا للمساعدة– الآن فقط يحتاجون إلى المساعدة في حل مشكلات المهاجرين: الزيجات المختلطة الأعراق التي أدت إلى تفكك العائلات الهندية، وتَشكُّل عصابات المراهقين ردًّا على الاعتداءات العنصرية. وددْتُ أن أحيك مساحات سحرية في رمال مدن أميركا الداخلية– في متجر تأسس يومًا ما، غير أن الناس اعتقدوا أنه كان ماثلًا دائمًا فيما كانوا ينظرون إليه.


رغبْتُ في أن يمتلئ خليجُ سان فرانسيسكو بالثعابين الناطقة التي أعطت النصائح الحكيمة لبطلتي التي أغرتها ملذات هذه الأرض الجديدة فجعلتها تنكث العهود. أردْتُ جزيرةً –ربما ليست من هذا العالَم على الإطلاق– تسكنها النساء فقط، وفيها تتعلم الفتياتُ ليصرن معالجات ثم يُبعَثْنَ لممارسة مهاراتهن. أردْتُ الحصول على بقَّالة هندية تقع في أحد أحياء مدينة أوكلاند الداخلية، في كاليفورنيا، فيها حجرة سرية معبأة بالتوابل السحرية، وتشغلها امرأة يمكنها بالنظر إلى قلبك، إن دخلْتَ متجرها، أن تعرف أكثر ما ترغب في الحصول عليه. تعجبني مؤلفات إيزابل أللينْدي(٧)، وأعتقد أن كلارا دِل بايه(٨) من رواية «بيت الأرواح»(٩) همستْ في أذني فيما كنتُ أكتب. وكانت النتيجة رواية «عاشقة التوابل»(١٠). حازت الرواية على عدد من الجوائز وأُدرجت في عدد من لوائح الكتب الكبرى. ولكل ذلك كنتُ ممتنة ومندهشة.

أدهشني أيضًا نوع مختلف من الاحتجاج ضد هذه الرواية– وروايات ساحرة أخرى كتبْتُها لاحقًا، مثل: «ملكة الأحلام»(١١). انحصر الجدلُ؛ الذي أتى في أغلبه من أكاديميِّي ما بعد الاستعمار هذه المرة، في أنني كنتُ أفرِّغ ثقافتي من هويتها، وبذلك أسترضي الجمهور الغربي. (ومن عجيب المفارقات أن مفردة «عاشقة»، المترجمة إلى عدد من اللغات المختلفة، كانت الأنجح في دول، مثل: إندونيسيا، واليابان، وروسيا، أي في جميع الدول ذات التقاليد الشعبية القوية التي تتضمن السحر). بيد أن النقاد أساؤوا فهم مشروعي، الذي كان مزدوجًا. أردْتُ الاستمرارَ في الكتابة عن الأشياء التي تهمني بشدة، والمشكلات التي واجهتها في عملي التطوعي أو وظيفتي في التدريس، كقضايا الهجرة، والعنف المنزلي، والأدوار الجنسانية، وانهيار التواصل بين الأجيال، وعنف العصابات بين الأطفال في سن المدرسة، كما فعلْتُ في رواية «زواج مدبَّر». ولكن أيضًا، أردْتُ في الوقت نفسه أن أُضمِّنَ الأشياءَ اليومية الصغيرة والثمينة التي أحببتها في كتبي، مثل: كم كان رائعًا أن تكون قادرًا على الإمساك بالتوابل التي استخدمَتْها والدتُك وجدتك بيديك في النصف الآخر من العالَم، ومن هذه التوابل تصنع طبقًا انتقل إليك بالوراثة! أردْتُ أن ألقيَ ضوءًا مغايرًا على هذين الأمرين عبر تقديمهما بواسطة حكاية سحرية– إنه شيء أحببته وقدَّرته وشعرْتُ بأنه جزء مهم من ثقافتي وأدبها.

أليس هذا من صميم ما يجعل معظم الكتَّاب يختارون موضوعًا، أو قصة، أو نسقًا معينًا؟ إننا نكتب عمَّا نحب، أو ما نشعر بالقلق العميق حياله، وأحيانًا يكونان الشيء نفسه. نكتب عمَّا يخيفنا وما هو معرَّض للخطر. نكتب عمَّا يميزنا بعمق منذ نعومة أظفارنا ويشكِّل فهمنا للعالَم. نكتب عمَّا يُغضبنا وما نأمل في تغييره. نكتب عن الأشياء الصغيرة والمبهجة التي تضيء حياتنا، وإن كانت شائعة وعادية واستحوذت عليها الثقافات الأخرى. (الاستحواذ في حد ذاته مسألة معقدة. ألا نتبنى جميعًا باستمرار أشياء كثيرة من ثقافات متعددة ونعتمدها في حيواتنا من أجل المواءمة والإثراء معًا؟ أوليس هذا نوعًا من الاستحواذ، أيضًا؟) وإذا تحقق الاستحواذ على شيء ما حقًّا، فأنا أريد المزيد لأستخلص منه.

قُولِي: لا، عند الضرورة

في النهاية، استحوذت عليَّ أصواتُ النساء. وعلى مر القرون، روى الرجال لهن قصصهن. وجرى تصويرهن في هذه القصص على أنهن طيّعات، وكيِّسات بالتالي، أو عنيدات وسريعات الانفعال، ولذلك فإنهن سبب الكارثة. لكن ثمة طرائق أخرى لتأويل هذه القصص– وهذا مشروع كبير بالنسبة لي. لهذا السبب كتبْتُ «قصر الأوهام»(١٢)، وهي إعادة سرد لملحمة مهابهاراتا من وجهة نظر دروبادي(١٣). حاولْتُ في هذه الرواية أن أجعل من دروبادي (تسمي نفسها بانجالي(١٤)؛ لأنها ترفض أن تُعرَفَ فقط باسم «ابنة دروباد») شخصية مركبة وخالدة. حاولْتُ أن أُظْهرَ أنه يمكن لامرأة أن تكون قوية وعنيدة وجديرة بالإعجاب كلها في آنٍ معًا. لهذا كتبْتُ «قبل أن نزور الإلهة»؛ وهي حكاية ثلاثة أجيال لعائلة مهاجرة، وتقلبات الدهر، حيث تتساءل النساء مرارًا وتكرارًا –فيما واصلْتُ الكتابة– عن معنى أن تكون ناجحًا، والثمن الذي يتعين علينا دفعه مقابل ذلك. وكيف أنَّ عليكَ أن تُسقط الدور الذي تسلمته لتكون صادقًا مع نفسك أحيانًا. لهذا السبب، أعدْتُ سرد حكاية «سيتا»(١٥)؛ التي تمثل تحديًا أكبر من بانجالي، في رواية «غابة السِّحر»(١٦)، بعد أن أُلِّهَتْ لصبرها وطول احتمالها. لا تزال الأمهات يخبرن أجيالًا عريضة من الفتيات –وأنا منهن– بأن يقتدين بسيتا، ويغمضن جفونهن على القذى، ولا يسببن المشكلات. العجيب أن سيتا لم تفعل أيًّا من هذا على الإطلاق، كما كشف بحثي في العديد من نصوص ملحمة رامايانا الشعرية بما في ذلك «أَدْبُتْ رامايانا»(١٧)، و«كامبا رامايانا»(١٨)، و«كريتيباسي رامايانا»(١٩)، والنص الأصلي لمؤلفه الشاعر فالميكي. اعتمدْتُ على الحقائق التي تُقدِّمها هذه النصوص (وإن حصل ذلك بإيجاز)؛ لأوضِّح قوتها وعنادها في تصويري لها. آمل أنه ذات يوم عندما تطلب الأمهات من بناتهن أن يصبحن مثل سيتا، فإنهن سيضفن عبارات مثل: دافعي عن حقوقك، لا تستسلمي، قُولِي: لا، عند الضرورة لذلك. وعندما ترتكبين خطأً ما، تَذَكَّري أن تلك ليست نهاية العالَم. ارفعي رأسَكِ عاليًا، وواصلي طريقك.

الكُتَّاب الذين علَّموني

أعتقد أنه من المقبول كليًّا أن تقول لكاتب: «عليك أن تكتب هذا بصورة أفضل». فهذا يختلف عن قولك، بصرف النظر عن السبب: «لا يجدر بك أن تكتب عن هذا الأمر، أو أن تُقدِّمه على هذا النحو».

على مر السنين، وفي وقت الأزمات، وجدْتُ القوة والنصح والإرشاد في كلمات لانغستون هيوز(٢٠) في مقاله الشهير عام 1926م الموسوم بـ«الفنان الزنجي والجبل العنصري». على حد تعبير هيوز: «يكافح الفنان الزنجي تيارًا من النقد الحاد وسوء الفهم من جماعته والرشاوى غير المتعمدة من البيض»(٢١). يرفض الشاعرُ، في نهاية مقاله، مثل هذه الدعوات في تأكيد مدوٍّ على الاستقلال الفني: نعتزم، الآن، نحن الفنانين الزنوج الشباب المبدعين، التعبيرَ عن ذواتنا الفردية وبشرتنا الداكنة من دون وجل أو خجل… ندرك أننا جميلون، وقبيحون أيضًا… نُشيِّد معابدنا للغد؛ لتكون قوية بالقدر الذي نعرفه، ونقف على قمة الجبل، أحرارًا من الداخل(٢٢).

ما شقَّ على الكتَّاب الأميركيين من أصل إفريقي، مثل: هيوز وزورا نيل هيرستون(٢٣)، منذ ما يقرب من قرن من الزمان، لا يزال يمثل تحديًا للنساء والكتَّاب من الأقليات العرقية حتى يومنا هذا. يَلُوح الخوف والعار مرة تلو أخرى ربما لأن كثيرًا منا يتعلم باكرًا أن هذه المشاعر تتماشى مع أن يكون الواحد امرأة أو فردًا منتميًا إلى خلفية أقلية معينة. غير أني ليس بمقدوري أن أستخدم ذلك ذريعة؛ لأن كثيرًا من الكتَّاب الذين أُجِلُّهم علَّموني، في أثناء ذلك، أن الأمر ليس كذلك؛ لذا، فأنا أواصل العمل عليه، بأن أكتب ما يجب أن أكتبه وكيف. أعتقد أن هذا ما يحاول جميع الكتَّاب الجادين فعله في جوهر الأمر، على الرغم من اختلافنا المميز بعضنا مِن بعضٍ.

تمضي كتابتي على نحو أفضل عندما أنكفئ إلى الداخل وألج عالَم كتبي. يجب أن أستمع جيدًا إلى ما تقوله بطلاتي وأدوِّنه. عندما ينجح الأمر، أصبح مجرد ناسخة (ومحررة فيما بعد). إنه أروع شيء أعرفه.

تعلمْتُ، على مر السنين، أن ثمة حيلة للعيش بنجاح في ذلك الفضاء الخلاق. لنستعر عبارة ت. س. إليوت من قصيدته «أربعاء الرماد»(٢٤) حيث يقول: إنه من المهم «أن نهتمَّ وألَّا نهتمَّ». لا بد أن أهتمَّ بموضوعي وشخصياتي؛ لأنهم حينها يصبحون أحياء بالنسبة لي. لا بد ألَّا أهتمَّ بآراء النقاد –أو حتى قرائي– بما أكتب. عليَّ أن أهتمَّ بتقديم الحقيقة بأفضل ما أعرفه، بلغة واضحة وفطنة، من دون أن أُحوِّلَ وجهي عن الألم فيها. عليَّ ألَّا أهتمَّ إن كانت مستساغة، أو دارجة أدبيًّا، أو مؤثرةً فكريًّا، أو إن كانت ستجعلني أحوز الجوائز.

هذا إذًا مشروعي في الكتابة. أدرك أنني عملٌ قيد الإنجاز، كما أنني أقدِّرُ القرَّاء، والنقاد، والمعلمين الذين أشاروا إليَّ بتحسين أدائي في مواضع معينة؛ لأنني أريد حقًّا أن أؤدي عملي على نحو أفضل. أحد اقتباساتي المفضلة على الإطلاق لمايكل أنغلو هو: «ما زلت أتعلم»(٢٥). لقد خطَّه على حدود رسم ابتدعه وهو في السابعة والثمانين من عمره.

هكذا أريد أن أشعر حيال فني حتى اليوم الأخير: ما زلتُ أتعلم.


المراجع: Hughes, Langston. «The Negro Artist and the Racial Mountain». Nation, Volume 122 (June 1926). Reprinted in Voices from the Harlem Renaissance, ed. Nathan Huggins (New York: Oxford UP, 1976, 1995), 306–309.


هوامش:

(١) Arranged Marriage.

(٢) Sister of my Heart.

(٣) One Amazing Thing.

(٤) The Unknown Errors of Our Lives.

(٥) حركة تمرد شيوعية قادتها جماعات عسكرية متمردة وانفصالية، جعلت العيش غير آمن، وبخاصة للفتيات المراهقات. (المترجمة – بتصرف من تقرير حالة التطوع في العالم 2022م، بناء مجتمعات متساوية وشاملة، ص 116).

(٦) Before We Visit the Goddess.

(٧) Isabel Allende.

(٨) Clara del Valle.

(٩) The House of the Spirits.

(١٠) The Mistress of Spices.

(١١) Queen of Dreams.

(١٢) Palace of Illusions.

(١٣) اسم البطلة صاحبة القصة المأساوية في الملحمة الهندوسية «مهابهاراتا.» (المترجمة).

(١٤) Panchaali.

(١٥) إلهة هندوسية. (المترجمة).

(١٦) The Forest of Enchantments

(١٧) «Adbhut Ramayana»؛ الإصدار الأكثر شعبية في شمال الهند لقصة «رامايانا». (المترجمة).

(١٨) «Kamba Ramayana»؛ ملحمة التاميل التي ألفها الشاعر كامبار في القرن الثاني عشر. (المترجمة).

(١٩) «Krittibasi Ramayana»؛ ملحمة شعرية ألفها الشاعر البنغالي كريتيباس أوجها في القرن الخامس عشر. (المترجمة).

(٢٠) Langston Hughes.

(٢١) Hughes, Langston. «The Negro Artist and the Racial Mountain,» in Voices from the Harlem Renaissance, ed. Nathan Huggins (New York: Oxford UP, 1976, 1995), 307..

(٢٢) المرجع نفسه، ص 309.

(٢٣) Zora Neale Hurston.

(٢٤) Ash Wednesday.

(٢٥) «Ancora imparo».