المقالات الأخيرة

“لقاء مارس 02: تواشجات” دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

“لقاء مارس 02: تواشجات”

دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

فيما يشبه الالتزام الأخلاقي والجمالي، تبنى لقاء مارس السنوي، الذي تنظمه مؤسسة الشارقة للفنون، في دورته الجديدة التي انتهت أنشطتها قبل أيام، طيفًا واسعًا من القضايا والموضوعات والنقاشات وعروض الأداء، التي لئن اختلفت وتعددت وتنوعت، إلا أنها تذهب كلها إلى منطقة واحدة،...

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

الرحلات القهريّة للجسد الأنثوي في السيرة الذاتية لبنت الشاطئ

بواسطة | مارس 1, 2021 | مقالات

امتلكت «بنت الشاطئ» جسدَها= حيّزَها المكانيَّ الأولَ امتلاكًا متسقًا مع النظام الأبويّ الذكوريّ المؤسَّس على ركائز دينيّة ذات نزعة صوفيّة صاغت أناها وفق مقولاتها في طفولتها وصباها(١)، وكان ذاك الامتلاكُ عبر مؤسسة الزواج ذات المقام الدينيّ المبجّل، ولكنْ ضمن رؤية إصلاحيّة تمثّلت في فكرِ زوجها رجل العلم والدين «أمين الخولي» الذي كان لها هاديًا ومثالًا، وأسهم في ارتدادها إلى المنظومة الدينيّة بعد تمرّدها العارض عليها.

وتسعى تلك الرؤيةُ إلى تحرير المرأة من خلال صيانة الجسد بالركون إلى مؤسسة الزواج وامتلاك المرأة حقّي العلم والعمل، وتسعى أيضًا إلى تبرئة المستند الديني من التمثيلات التأويليّة الفقهيّة القائمة على شروح وتفسيرات شوّهت النص المقدّس، ورسخّت الاستلاب الذكوريّ الذي يَئدُ المرأةَ ويقرّ العلاقة الزوجيّة معها على مبدأ الاستعمال الجسديّ المُسوَّر باللعنات الإلهيّة في حالي التمرّد والمخالفة(٢).

ووفقًا لهذه الرؤية كان من الطبيعي أن تضرب «بنت الشاطئ» خُمُرَ التجهيل السرديّ على جسدها وتنفيه خارج سيرتها الذاتيّة بوصفه حصنَ الذات الذي ينبغي أن يُحجَب؛ ولا سيما أنّ سرد الذات في السيرة الذاتيّة يحوّلها بفعل البوح من أنا فرديّة إلى أنا اجتماعيّة تفتح نوافذ الحكي للقارئ ليتلصّص على خفايا أسرارها الحميمة.

وبناءً على ما سبق كانت علاقتُها بالمكان بوصفه فضاءً ثقافيًّا، وعبورُها لأحيازه متوافقيْنِ توافقًا تامًّا مع تلك الرؤية الدينيّة الإصلاحيّة التي حقّقت لها علاقةً سياديّةً مع المكان لتَواؤُمِها مع منظومته الدينيّة بوصفها رائدةً نسويّة إصلاحيّةً لا متمردة، وأمّنت لها عبورًا مبجَّلًا مكرَّمًا لأحيازه، ومن هنا كان عبورها لتلك الأحياز لا لغاية الترفيه والكشف والسياحة، وإنما لغايتين متسقتين مع نهجها، وهما: العلم والدين؛ فارتحلت إلى المغرب لتدريس العلوم القرآنيّة في جامعة القرويين، وإلى الجزيرة العربية في رحلتين فصل بينهما عشرون عامًا، كانت أُولَاهما عام 1951م لأداء العمرة، وثانيتهما عام 1972م لأداء فريضة الحج، وفيهما كانت محلّ تكريم وتعظيم؛ إذ تمت الأولى على نفقة الأمير فيصل، وفيها حلّت ضيفة عليه وعلى الأمير عبدالله الفيصل، والتقت العاهل السعودي الملك عبدالعزيز، وحلّت في الرحلة الثانية في ضيافة الأمير عبدالله الفيصل والملك فيصل(٣). وهذا التبجيل مكّنها من امتلاك وسائل رحليّة اختزلت المسافات، وهو ما أدى إلى تغييب معظم ملامح المكان وحلول التاريخ والإنسان والثقافة محلّها.

قامت «بنت الشاطئ» بتقييد تجربتيها الرحليّتين المتشابهتين إلى الجزيرة العربية في كتاب واحد أعادت نشره عام 1972م، وعنونته بـ«أرض المعجزات ولقاء مع التاريخ»، ليكثّف جزؤه الأول رحلتها الأولى، وجزؤه الثاني رحلتها الثانية. ومن خلال كتابها هذا أعادت إحياء الرحلات الحجازيّة بصبغة أنثويّة حديثة يتجلّى اختلافها في أمرين؛ أوّلهما: انصرافها إلى التأريخ للجزيرة العربيّة ومحاولة تكثيف تحوّلاتها التاريخيّة الجذريّة واستخلاص عِبَرها العميقة المائزة المتمثّلة في ثلاثة تحوّلات أظهرت ثلاثَ آيات؛ أولاها آية البيان المتجلّية في تبلوُر اللغة العربية في مرحلة ما قبل الإسلام واكتمالها لتكون مستعدة لاحتضان القرآن الكريم المرتبط بالتحوّل الثاني الذي بزغ فيه نور الإسلام كاشفًا آيةَ الفجر الصادق(٤). وثالثتها آيةُ العلم التي قهرت عناد الصحراء، وفجّرت كنوزها المخبوءة خلف كثبان صحرائها العنود، لتنتقل الجزيرة في النصف الثاني من القرن العشرين من حال البداوة إلى حال التحضّر، ولتشهد ثورة حوّلت فيها وجه الحياة القاحلة إلى وجه عامر بالغنى والخير مع تفجّر ثروة النفط وما رافقها من قفزات اقتصادية واجتماعيّة(٥).

ومن خلال هذا الجانب قدمت «بنت الشاطئ» نصًّا رحليًّا مختلفًا طغى فيه السرد على الوصف، وتحوّل المكان المقدّس إلى بؤر استدعائيّة استحضرت من خلالها ثقافتها الجمّة الدينيّة والأدبيّة، وتحوّل المكان الحديث كالظهران والخُبَر والبحرين إلى مرتكز رئيس لتقديم تثبيتات تأريخيّة ترصد صورة المكان في العصر الحديث(٦).

أما الأمر الثاني الذي ماز نص «بنت الشاطئ» الرحليّ فهو انشغالُها اللافت بالأنثى المرئيّة التي كانت تتحرّى حضورَها أنَّى حَلَّتْ، وتناولتها لا بوصفها موضوعًا غرائبيًّا مثيرًا للدهشة أو الاشمئزاز أو الإثارة، وإنّما بعدِّها ذاتًا إنسانيّةً منفعلة أو فاعلة في محيطها المكاني الثقافي الذي وصفته «بنت الشاطئ» بـ«الحريم»، وقد خصّت الأنثى بفصل من القسم الأول من كتابها، تضمّن أربع صور حملت عنواناتٍ أنثويّة، هي: (المغتربات- جارة النبيّ- هاجر- آمنة)، ثم خصّتها في الجزء الثاني من كتابها بوقفة رصدت فيها تغيّر حالها في الجزيرة العربيّة بعد مُضِيّ عشرين عامًا على ثورة التحضّر.

لينكشف من خلال هذه الرؤى نهج «بنت الشاطئ» ورؤيتها الإصلاحيّة الخَجْلَى الطافية على سطح أزمات المرأة دون امتلاك الجرأة على تعرية أسباب استلاباتها وانهزاماتها الجسديّة والنفسيّة؛ لأن تلك الأسباب التي تجنّبتها تجلو فجوةً في نهجها الإصلاحيّ التوافقيّ، وتكشف تناقضًا لافتًا فيه يظهر في إقرار المرتكز الدينيّ لنهجها لمبدأَيِ الرقّ وما مَلَكَتِ اليمينُ، وفي عجزها عن هدمهما فكريًّا على الرغم من موقفها الانفعالي الرافض لهما.

الجسد الأنثويّ المُغَرَّب
بين الدين والتاريخ وأنساق الثقافة

في نصوصها الثلاثة المعنونة بـ(هاجر- جارة النبيّ- آمنة) وصفت «بنت الشاطئ» ثلاث رحلات قهريّة كان ضحيتها الجسد الأنثويّ، ومن خلالها عرّت علاقة هذا الجسد الإشكاليّة مع المكان ومع الآخر ضمن النظام الذكوريّ العبوديّ؛ ففي أثناء قيامها بالسعي بين الصفا والمروة تحرّرت من سطوة التاريخ الإسلامي، وهيمنت عليها صورةُ الأَمَة «هاجر» وهي تسعى لاهثةً بين الصفا والمروة تتحرّى قطرة ماء تروي بها ظمأ وليدها المحتضر(٧)، فجسدُ الأَمَة «هاجر» المستعبدُ المملوكُ خضع ضمن النظام العبوديّ لحكم سادته من الذكور والإناث، وقدّمته «سارة»=الأنوثةُ المُستبدَّة بالذكورةِ قربانًا أخرس ضعيفًا لا يملك حق الرفض لينفي عنها صفة العقم، ولكنّ حملَ «هاجر» الذي هدّد السيّدة بارتقاء الأَمَة إلى مرتبة تدانيها كان سببًا في نفي الجسد الأنثويّ وتغريبه قسرًا، وقد رضخت «هاجر» لأمر الرحيل الذي أيقنت بقدسيته حين سألت سيدها «إبراهيم»: «آلله أمرك بهذا؟»، قال: نعم.

ومن خلال استحضار هذه الرحلة القهريّة حاولت «بنت الشاطئ» هدم العبوديّة عامةً، وعبوديّة الجسد الأنثويّ خاصة؛ فثمارُه المؤذنةُ بتحوّله من جسد مستملَك للإمتاع إلى جسد أمّ هو سبيل خلاصه الوحيد(٨)، وفي هذا إعلاء لمبدأ الأمومة المنفيّة مع وليدها بعيدًا من الأب، وقد انتهت رحلة «هاجر» التي تمّت بأمر قدسيّ خلاصيّ بامتيازٍ أنثويّ استردّ بعض مجد الإلهة الأم القديمة؛ إذ تحوّل سعي «هاجر» الأمّ إلى طقس عَقَديّ وشعيرة دينيّة ذات تاريخ راسخٍ مديد، وقد رفعتها أمومتها إلى منزلة علويّة لا جسديّة حازت من خلالها مرتبة القداسة التي فاقت مرتبة سيّدتها؛ لتتقاسم الأمَةُ والسيدة أمومةَ أنبياء لدينين متصارعين عبر التاريخ.

وفي نصها المعنون بـ«جارة النبيّ»(٩) وصفت «بنت الشاطئ» الرحلة القهريّة الثانية التي كان ضحيَّتَها جسدٌ أنثويّ، هو جسد المرأة النائحة التي التقتها ذات فجر قرب قبر النبيّ، وقصّت عليها حكايتها حين كانت صبيّةً ذات شباب ملتهب، بزغت بوارق فتنته، وقد فقدت أبويها ووقعت أسيرة رقابة أقاربها، وحارت في أمرها، وعيونُهم ترصد جسَدها الريّان وتحوّلات شموسه الشارقة، كيف تصنع لتنجو من مراقبتهم واتهامهم لها إذا ابتسمت، وإذا ضحكت، وإذا تجهّمت، وإذا نامت وإذا أرقت. وكان أنْ زوّجوها وقد توهّموا وتوهّمت أنّ في زواجها من شيخ عشيرة مسنّ خلاصها، ولكنها بعد أن وضعت وليدها ومات زوجها طردتها عشيرته طمعًا في إرثه وسلبتها صغيرها، وردّتها حسيرة القلب هضيمة الروح والجسد إلى عشيرتها، ليزيّن لها عابرُ سبيل أن خلاصها كامن في رحيلها لزيارة قبر النبيّ، وكي تقدر على الارتحال تزوّجها لتجد نفسها منفيّةً في أقصى بقاع الأرض، مُعنَّفَةً من رجل غريب لا يربطها به إلا الجسد، محرومة من فلذة كبدها.

جهّلت «بنت الشاطئ» بطلة قصّتها الأنثى الجميلة، ربما لتحرير مأساتها من فرديّتها ورفعها إلى درجة المثال لشريحة واسعة من النساء المقهورات اللواتي حُشرت أجسادهنّ ضمن الثقافة الذكوريّة في موضع يعمّق أَدَويَّتَهنّ؛ فهنّ متاعُ رحلةٍ وأداةُ متعة. ومن خلال وصفها لمأساة النائحة وقفت مطوّلًا على الجسد الأنثويّ، ورصدت تغيّراته الصاخبة البريئة المُغَالبة لإرادته، لينكشف انهمامُها به وتقديرُها العالي لرغائبه المتّقدة، وسخطها على النظام الذكوريّ القبليّ الذي يمتلك الجسد الأنثويّ ويستعبده، ويَئِدُ طاقتَه الخالقة الحرّة من الخطيئة المفترضة خلف أسوار الرقابة الحرملكيّة والحيازة الذكوريّة. وقد عرّت من خلال وصفها لارتحال الصبيّة وهَنَ الجسد الأنثويّ المملوك -وإن كان حرًّا- للآخر الذكر الذي يسجنه، ويغرّبه، ويملّكه لرجل عجوز، ويسلبه وليده، ويطرده، ويخدعه، ويرحل به كجزء من متاعه، ليصيرَ مجردًا من حقوقه كلها؛ حقِّ امتلاك طفله الذي هو قطعة منه، وحقِّ عبور المكان وَحْدَه، وإن كان رحيله لغاية التعبّد بدعوى الخوف عليه، ليقعَ مجددًا فريسة الذكورة المالكة المخاتلة تحت ذريعة الخلاص، وليدخلَ في دائرة علاقته الوظائفيّة بالآخر، ويصيرَ جسدًا رقيقًا مهمّته إيناسُ الذكورة وإمتاعها في رحلتها عبر أصقاع المكان، لا أكثر.

إذن؛ فالجسد الذي غيّبته «بنت الشاطئ» وأقصَتْهُ خارج سيرتها الذاتية المعنونة بـ«على الجسر» إقصاءً تامًّا، وأسدَلَتْ عليه حجبَ الإسرار والتكتم حين كانت تسرد تحوّلاتها التمرّدية على النظام الأبويّ المتكئ على بنية دينيّة قدسيّة حاولت سلبَها حقَّها في العلم واختراق أحياز المكان، عادت لتحتفيَ به ولتتوحّد معه من خلال بطلات نصوصها مستبطنةً ما خفي من مشاعره وهواجسه القارعة وخفايا سراديبه المعتمة ورغائبه الخرساء، صابّةً جامَ غضبِها على النظام البدويّ القمعيّ العنيف دون أن تجرؤ على تلمّس تعالقاتِه العميقة الراسخة مع التمثيلات التأويليّة الفقهيّة التي عمّقت الهيمنة الذكوريّة على الجسد الأنثوي، وشرّعت تملّكه واستلابه اعتمادًا على أسانيد دينيّة قطعيّة لا تقبل النقد والتفنيد والمخالفة؛ فما فعله أهل الصبيّة وعشيرةُ زوجها المسنّ يتوافق تمامًا مع تلك التمثيلات التي تحدّد حركة المرأة في المكان بزعم الخوف عليها من خطر الفحولة المترصّدة لها في الفضاءات الذكوريّة، وتجعلُ الرجل حارسًا لعفّتها، مالكًا لتحوّلات جسدها الخطّاءة المُريبة، وتذمّ زينتها، وتضعها في موضع شبهةٍ في كلّ حال(١٠).

وفي النصّ الأنثويّ الثالث الذي حمل عنوان «آمنة»(١١) قدّمت «بنت الشاطئ» مثالًا صادمًا لنظام الرّق الذي استعبد الرجل والمرأة في الجزيرة العربيّة في منتصف القرن الماضي، وجعل الجسد الأنثويّ جسدًا مملوكًا يُباع ويُشترى، ولا يملك من أمره شيئًا، ويُقتَلَعُ من أماكنه التي أَلِفَها استكانةً ليُحمَلَ إلى أماكن أخرى غريبة؛ فالجسد العبد لا مكان له، وارتحاله قسريٌّ قهريٌّ محكوم بإرادة المالك الذكَر وأهوائه ورغائبه.

يحضر الجسد الأنثويّ المقموع الأخرس حضورًا باذخًا في قصة «آمنة» ليكشف علاقتها المأزومة مع الآخر المالك، ومع المكان الذي هو ليس لها؛ فـ«آمنة» هي الطفلة التي ضيّعت وجهَ أمّها في سوق أو احتفال، وحملها غريبٌ بلا ملامح في سفينة كبيرة، وألقاها في دار قصيّة صارت فيها رفيقةً لأطفال كان عليها الاهتمام بهم، ثم اقتُلِعَت من بينهم ولقِّنَتْ أوّل دروس العبوديّة، ووُشِمَ جسدُها الطفلُ بصفة الأَمَة، وأدركت وهي ذاهلةُ العقلِ غضّةُ الروحِ الفرقَ بينَ السيّد والعبد حين بكت وهَمَّ أحدُ الصبية السادةِ الصغار بمرافقتها، فقهقهت خالته ونهته لأن «آمنة» مجرد جارية وعليها الرحيل حين تنقضي مهمتها.

ساق الغريب جسد «آمنة» في رحلة قهريّة ثانية في صحراء بكْماء، وباعها لمسنّ تحرّى تفاصيل جسدها بعينه الخبيرة، وضمّها إلى نسائه؛ جواريهِ وأراضيهِ الجرداء القاحلة التي ما فتئ يسقيها فتضنّ بثمرها، واختصّ «آمنة» بالرتبة العليا بينهن وبالغرفة الأثيرة التي فقدتها بعد ست سنوات، وأقصِيَت منها لتحلّ محلّها جاريةٌ جديدة اشتراها المسنّ بعد رحلته إلى الشام لتكون أرضَه الجديدة التي تختبر فيها الذكورةُ الموقنة بفحولتها قدرتَها على الإخصاب، فالخراب كلّ الخراب، والفساد كلُّ الفساد في الأراضي الأنثويّة البور، والخير كلّه في الذكورة المالكة القادرة على تبديل أراضيها واستقدامها من البقاع القصيّة. لكنّ «آمنة» التي أخفقت كلُّ محاولات الجارية الكبرى العجوز في وأد روحها ودفعها للاستكانة لواقعها الجديد طلبت من سيّدها أن يبيعها فباعها لشاب اتخذها زوجةً وجاريةً وحبيبةً، وكانت له أرضَه البورَ كسابق عهدها لتُقْصَى ثالثةً، وتُجتَثَّ من مكانِها الحميمِ؛ قلبِ سيّدِها وبيته بعد استقدامه عروسَه من المدينة، وقد وهبَ «آمنة» إلى آخر غريبٍ أجير لتكون له زوجةً رفضتْ أن تكونَها، وارتدّتْ جاريةً مملوكةً إلى دار سيّدها الذي تَعَشَّقَهُ قَلْبُها لكنّ جسدها خذلها وضنَّ بالوليد المُحَرِّرِ لها، وارتضت أن تحيا بقربه غريبةً تَرْقُبُ تقلُّبَ قلبه المالك القصيّ وجدرانَه الباردة التي ليست لها، وعروسَه المُثْقَلَة بحَمْلِها.

تحولات العلاقة بالجسد

رصدت «بنت الشاطئ» في نص «آمنة» ثورتها وتمرّدها على الأوامر البشريّة التي كانت تقتلعها من الأمكنة والقلوب، ووقفت على تحوّلات علاقتها بجسدها الذي تعاقب عليه المُلّاك وشوّهوه بوشوم العبوديّة التي عجزت عن قهر روحه وإرادته وإيمانه بحقّه في التمرّد واختيار سادَتِهِ وأقداره أيضًا، وإن كان قدرُه تغريبًا جديدًا لجسد لم يعد ينتمي إليها انتماءً حقيقيًّا، لكنّ عشقها لِمَنْ حَسِبَتْه رَجُلَها رَدَّها بعد رحلاتها القهريّة المتتالية أمَةً موءودةَ القلب منسحقةَ الجسد، تقنصُ روحُها الحانقةُ لحظةً عابرة متفلّتة من رقابة سادتِها لتعبّر عن ذاتها الوثّابة، وقد أطلقت صرختها العبوديّة الأخيرة في وجه «بنت الشاطئ» حين حدّثتها عن الحريّة، فردّت «آمنة»: «وماذا أفعل بهذه الحريّة؟ أيُّ مكان لي على هذه الأرض إذا لفظتني الدار التي كانت لي يومًا جنّة الحب؟ ما انتفاعي بحياتي كلّها وقلبي مُصَفَّد بأغلال رقّه وهواه؟».

نطقت «آمنة» في نصّها الخاص بلسان «بنت الشاطئ» محرّرة جنسانيّتها الأنثويّة الثائرة على الوأد والإخراس والاستلاب، وقد وهبتها «بنت الشاطئ» لسانَها الحرّ محاوِلةً استبطان ذاتها كما فعلت مع «هاجر» و«جارة النبيّ»، وذلك من خلال امتلاكها للصوتين الأنثويين الثائرين؛ صوتِ «آمنة» التي ثارت من أجل جسدها وقلبها مع ركونها مرات عدّة لحكم السادة، وصوتِ «بنت الشاطئ» الثائرة ضد نظام الرقّ منذ عَهِدَتْه في بيت جدها الشيخ «الدمهوجي»(١٢)، والرافضة لاستعباد المرأة من خلال تعبيرات مباشرة دعمت فيها حق «آمنة» في أن تشعر وتحب وتختار، دون أن تجرؤ مرة أخرى على تجاوز سطوح التجربة الفرديّة الفيّاضة بالانفعال إلى تعرية مسؤولية الخطاب الفقهي الذي يُقِرّ الرقّ واستعباد الجسد الأنثويّ، سواء أكان لجارية أم لزوجة مملوكة. ومرة ثالثة تحضر الأمومة بوصفها قيمةً عليا ورافعةً اجتماعيّة ترتقي بالجسد من دائرة الاستعمال الذي يَبْلَى أَلْقُهُ مع العادة والزمن، إلى دائرة السِّيَادة؛ فلو أن «آمنة» ملكَتْها لَتَحرَّرَتْ من أَسْر الرقّ الاجتماعيّ والنفسيّ، ولَمَلَكَتْ سيّدَها وجسدها ومكانها.

من خلال الرحلات القهريّة الثلاث للجسد الأنثويّ قدّمت «بنت الشاطئ» خطابًا نسويًّا خجولًا يركن ركونًا شبه تام لمنظومته الدينيّة الذكوريّة، المؤسَّسة على المحظورات والمحرَّمات التي تُكبِّل الجسد الأنثويّ وتجعله حَبِيسَ أسوار السِّيَادة والمكان الذكوريّيْنِ، لتقتصر ثورة خطابها على انفعالات تعاطفيّة مشحونة بقدر كبير من القهر والألم والعجز، وعلى تسريد التجارب الأنثويّة، وقد وَهَبَتْها لسانًا ناطقًا وقلمًا أنثويّين يحوّلان صراخها إلى كلمات، وينقلان مأساتها من بوح تذروه ريح الصحراء إلى مُدَوَّنة لها قوّة التأريخ.

موقع الجسد الأنثوي

وفي النّص الأنثويّ الرابع المعنون بـ«المغتربات»(١٣) تحدثت «بنت الشاطئ» عن النساء اللواتي تركن ديارهنّ ومجتمعاتهنّ المريحة ليكنّ ربيعًا لأزواجهنّ وسط لهيب الصحراء، ومنهن من نشأت في فرنسا أو أميركا وغيرهما، وانتصرت للنموذج الأنثويّ الغربيّ الحرّ، دون أن تتلمّس اختلاف الأنظمة الثقافيّة وموقعَ الجسد الأنثويّ المختلف فيها، فما عناها من صورتهنّ التصاقُهنّ بأزواجهنّ، وهو ما يتوافق مع نهجها الإصلاحي المبجِّل لمؤسسة الزواج التي ينبغي أن تُمَنهِجَ حركةَ الجسد الأنثويّ على إيقاعها، وهو ما التزمته في تجربتها الحياتيّة الذاتيّة، ولم يشغلها أن تجلو ما حازته المرأة الغربيّة من حق امتلاك الجسد وحرية القرار والحركة بعد ثورات مديدة شهدها الغرب، وذلك ضمن مرحلة تاريخيّة كانت المرأة العربيّة فيها مكبَّلة بأغلال النظام الأبويّ وأنساقه التي لم تفلت منها إلا القليلات الثائرات.

وفي القسم الثاني من كتابها وعنوانه «لقاء مع التاريخ» عادت لترصد تغيّر حال المرأة في الجزيرة العربيّة بعد عشرين عامًا على رحلتها الأولى إليها، وقد أبهجها أنها خرجت من وراء السدود الصماء التي رأتها مضروبة على «حريم الجزيرة»(١٤)، وارتادت المدارس والجامعات لتؤكد «بنت الشاطئ» للمرة الأخيرة أن ثورتها النسويّة الناعمة تقتصر على تعليم المرأة وعملها داخل المنظومة الأبويّة، وليتوارى الجسد الأنثويّ مجددًا خلف أستار التحريم الثقيلة، ويتحوّل إلى مملوك متعلّم لا يملك أحيازَه المكانيّة، وأوّلها الجسد، إلا بما يتوافق مع المنظومة الدينيّة الذكوريّة ومؤسستها التاريخيّة الراسخة=الزواج، التي تقرّر حركتَه ومساراتها، وتحدّد صلاحَه وفساده حسب درجة التزامه حدودَها الشرعيّةَ القارّة، أو تمرّده عليها.


المصادر والمراجع:

– الإمام الغزالي: إحياء علوم الدين، تح: بدوي طبانة، د. ط، د. ت، مطبعة كرياطه فوترا، سماراغ، إندونيسيا.

– الجاحظ: رسائل الجاحظ، تح: عبدالسلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، مصر.

– سرحان، هيثم: خطاب الجنس «مقاربات في الأدب العربي القديم»، ط1، 2010، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، بيروت، لبنان.

– عبدالرحمن، عائشة «بنت الشاطئ»: أرض المعجزات «رحلة في جزيرة العرب» ولقاء مع التاريخ، ط3، د.ت، دار المعارف، القاهرة، مصر.

– عبدالرحمن، عائشة «بنت الشاطئ»: على الجسر بين الحياة والموت «سيرة ذاتية»، 1986م، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، مصر.

– الغذامي، عبدالله: ثقافة الوهم «مقاربات حول المرأة والجسد واللغة»، ط1، 1998م، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، بيروت، لبنان.

– الغذامي: عبدالله: المرأة واللغة، ، ط3، 2006م، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، بيروت، لبنان.

– المرنيسي، فاطمة: ما وراء الحجاب «الجنس كهندسة اجتماعية»، تر: فاطمة الزهراء أزرويل، ط4، 2005م، المركز الثقافي العربي، الفنك، الدار البيضاء، المملكة المغربية.


الهوامش:

(١) ينظر: «بنت الشاطئ» عائشة عبدالرحمن، على الجسر بين الحياة والموت، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، مصر. ضمن هذا الكتاب عرضت «بنت الشاطئ» سيرتها الذاتية ونشأتها الدينية في بيت جدها وعلى يدي والدها الشيخ المتصوف، ورصدت سلسلة تمرداتها على المكان وأنساقه الثقافية للدراسة خارج قريتها وللحصول على شهادة جامعيّة مخالفةً إرادة أبيها، ومدعومة بتشجيع أمها.

(٢) ينظر: فاطمة المرنيسي، ما وراء الحجاب «الجنس كهندسة اجتماعية»، تر: فاطمة الزهراء أزرويل، ط4، 2005م، المركز الثقافي العربي، الفنك، الدار البيضاء، المملكة المغربية. ص15-16-17-19-20-28-31-34-39-40-49-74. حديث المرنيسي حول النظريتين اللتين صِيغتا في الثقافة الإسلامية حول حياة المرأة الجنسية، واختزال المرأة في الفتنة والكيد والقوة الجنسية القاهرة، وضبطها من خلال مؤسسات الزواج والطلاق والتعدّد.

وينظر أيضًا: هيثم سرحان، خطاب الجنس «مقاربات في الأدب العربي القديم»، ط1، 2010م، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، بيروت، لبنان. ص128-129-130-131-132-137-138-139. تحدث د. سرحان عن مؤسسة الزواج ذات المرتكز الفقهي الذي دمج الإيروسي بالمقدس، وفصّل القول في خطاب الجنس ذي المرجعيّة الفقهيّة الذي أنتج جملة من التمثيلات التأويليّة المطلقة التي لا تقبل النقض لتمتعها بالقداسة، وقد رسخت تلك التمثيلات سلطة الذكر، ومنحته حق الوصاية على المرأة، فحجبها وأقصاها، وعدّ ذاك الخطابُ المرأةَ سببًا للخطيئة تمهيدًا لاستعمالها أداة للمتعة، وعظّم تبعية المرأة للرجل من خلال مفهوم «حسن التبعّل»، وحدّ من حركتها في الفضاءات المكانية التي تعد ذكوريّةً ومجالًا لاستعراض الفحولة.

ينظر: الإمام الغزالي، إحياء علوم الدين، تح: بدوي طبانة، د. ط، د. ت، مطبعة كرياطه فوترا، سماراغ، إندونيسيا. 2/ ص25-26- 29-30-31-32-36-39-43-46-47-60-61. كتاب النكاح وفيه تحدث عن فوائده ودور المرأة فيه وواجباتها وزينتها وضوابط حركتها.

ينظر: الجاحظ: رسائل الجاحظ، تح: عبدالسلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، مصر. رسالة القيان، ص146-147. ذكر أن المرأة مكوّن من مكونات الأرض سُخّر لإمتاع الذكر، وتحدّث عن طبيعة العشق المركبّ لدى العرب، وعلّل التعدد واقتناء الجواري بميل النفس إلى التجديد كيلا يقتلها الملل.

(٣) ينظر: «بنت الشاطئ» عائشة عبدالرحمن، أرض المعجزات «رحلة في جزيرة العرب» ولقاء مع التاريخ، ط3، د.ت، دار المعارف، القاهرة، مصر. ص7-13-15-99-100.

(٤) ينظر: المصدر نفسه، ص17 حتى 26 ليل الجزيرة وآية البيان، ص27 حتى 35 الفجر الصادق.

(٥) ينظر: المصدر نفسه، ص37 وراء الأسوار، ص45 المعركة الكبرى، ص51 وجهًا لوجه في قلب الصحراء.

(٦) ينظر: المصدر نفسه، ص57-58-59 ثورة في الصحراء.

(٧) ينظر: المصدر نفسه، ص73-74-75-76-77 هاجر.

(٨) في كتابه «ثقافة الوهم» تحدث «عبدالله الغذامي» عن التمثيل الثقافي للجسد الأنثوي؛ فهو مادة خلقت من أجل الآخر وصفحة بيضاء عنوانها الفتنة تخط عليها الذكورة ما تشاء، وعلى ذاك الجسد التحلّي بصفات الجمال الصناعية التي صاغتها الثقافة، ولا يكتمل تمثيل هذا الجسد ثقافيًّا إلا بإضافته إلى الذكورة؛ فهي ابنة فلان وزوج فلان وأم فلان. ينظر: ثقافة الوهم، ط1، 1998م، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، بيروت، لبنان. ص72-73-74-75. وفي كتابه «المرأة واللغة» رصد «الغذامي» تحوّلات الجسد الأنثوي من خلال حديثه عن تحول شهرزاد من سيدة إلى جارية وجسد للمتعة مهدد بالموت، ولكن نجاة ذاك الجسد ومعه جنس النساء لم تتحقق بما قدمته شهرزاد من متعة جسدية لشهريار، وإنما من خلال اللغة وتحولها خلال روايتها للحكايات إلى أم للذكور، فتغيرت وظيفتها من مجرد زوجة وجسد إمتاعي إلى أم. ينظر: المرأة واللغة، ، ط3، 2006م، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، بيروت، لبنان. ص74-75.

(٩) ينظر: أرض المعجزات، ص67 حتى 72 جارة النبيّ.

(١٠) ينظر: إحياء علوم الدين، 2/ ص60-61.

(١١) المصدر نفسه، ص79 حتى 87 آمنة.

(١٢) على الجسر بين الحياة والموت، ص17.

(١٣) أرض المعجزات، ص63-64-65 المغتربات.

(١٤) المصدر نفسه، ص122-123.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *