المقالات الأخيرة

“لقاء مارس 02: تواشجات” دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

“لقاء مارس 02: تواشجات”

دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

فيما يشبه الالتزام الأخلاقي والجمالي، تبنى لقاء مارس السنوي، الذي تنظمه مؤسسة الشارقة للفنون، في دورته الجديدة التي انتهت أنشطتها قبل أيام، طيفًا واسعًا من القضايا والموضوعات والنقاشات وعروض الأداء، التي لئن اختلفت وتعددت وتنوعت، إلا أنها تذهب كلها إلى منطقة واحدة،...

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

المرأة بين الأمومة والأنوثة ومتغيرات العصر

بواسطة | يوليو 1, 2022 | الملف

منذ منتصف القرن الماضي عرفت صورة المرأة كثيرًا من التحولات على المستوى الذاتي والمجتمعي، وذلك لاقتحامها الفضاء العام وانخراطها في سوق الشغل إلى جانب الرجل، كما ساهمت الحركات النسوية التحررية في إعادة الاعتبار للمرأة وللأدوار المجتمعية التي تقوم بها، واستعادتها لحقها في امتلاك ذاتها، وسعيها إلى تحقيق كل مطامحها وعلى رأسها المساواة بينها وبين الرجل، وهو ما أعاد طرح أسئلة المرأة والأسرة والمجتمع، واستدعى إعادة النظر في طبيعة الأدوار الأسرية بين الرجل والمرأة، وعلى رأسها دور الأمومة، الذي ظل لسنين طويلة حبيس إرث تقليدي يرهن وظيفة المرأة ويحصرها في مجرد رحم للولادة فحسب.

وبفضل تواتر العديد من الدراسات ونظريات التحليل النفسي، والاكتشافات العلمية الحديثة في طبيعة الإنسان، أُعِيدَ النظر في مفاهيم الأمومة والأنوثة والمؤسسة الأسرية نفسها، وتحديدًا منذ العبارة الشهيرة للفيلسوفة النسوية الوجودية الفرنسية سيمون دوبوفوار: «لا يولد المرء امرأة، وإنما يصبح كذلك»، التي خطتها في كتابها «الجنس الآخر» أو «الجنس الثاني»، الذي ما زال يعد إلى اليوم مرجعًا مهمًّا يُعتمَد عليه للرد على الآراء الدينية والشعبية التي تمجد الأمومة وتجعلها قدرًا حتميًّا للمرأة، والذي نجد صداه في الكتابات التي تواترت فيما بعد لكل من الباحثات الأجنبيات والعربيات.

فبقدر ما ساهمت هذه الدراسات الحديثة في تسليط الضوء على كثير من المتغيرات، وعلى إعادة النظر في كثير من القضايا الحساسة المتعلقة بالنساء، وخلخلت العديد من المفاهيم والتصورات المغلوطة حول الأمومة والأدوار التاريخية التقليدية التي فرضها منطق الذكورة، والتي بدأت تتهاوى مع خروج المرأة إلى سوق الشغل واكتسابها لنوع من الاستقلالية، بقدر ما قلبت كل المواضعات رأسًا على عقب، ودفعت برافضي هذا التغيير والمتشبثين بالقيم الأسرية وبالأدوار الطبيعية لكل من الرجل والمرأة، وبالقيم الدينية الأصيلة، إلى عدّ كل هذه المطالب تصفية للمؤسسة الأسرية وتجريدًا للمرأة من الأدوار التي خلقها الله من أجلها، ومجدها في كتابه الحكيم، وأعطى فيها الأم المكانة الفضلى وجعل برها من أصول الفضائل والإيمان. إضافة إلى أن هذا السعي المحموم لتحقيق تلك المساواة يرى فيه بعضٌ تراجعًا للمرأة عن أنوثتها وتحولها إلى «ذكر مشوه».

الأمومة ومتغيرات العصر

من هنا فإن كثيرًا من المختصين يركزون على مفهوم «الأمومة»، ويرون فيه أحد العوامل الأساسية المساعدة على نهضة الأمم وتماسك مكوناتها المجتمعية، وذلك لما للأمومة «الحقيقية» أو «المثالية» من دور حيوي في التربية الصحيحة والمتوازنة، وإعطاء أجيال ناجحة قادرة على خدمة المجتمع والإنسانية جمعاء، لا أجيال مشوهة فاقدة للبوصلة حتى بالنسبة إلى الهوية الجنسية، بسبب الشذوذ الجنسي أو تغيير الجنس وما شابه ذلك من نزوعات، وهو ما يضيع على المجتمعات فرص التطور والارتقاء وتحلي أبنائها وبناتها بالقيم والأخلاق الحميدة، وما يفقد العائلات الاستقرار النفسي والعاطفي، ويخل بالتوازن الأسري المتعارف عليه.

غير أن حجم هذه المسؤولية والانتظارات الملقاة على عاتق الأمومة، جعل مجموعة من الباحثين والمحللين النفسانيين حتى النساء أنفسهن، يضجرن ويعانين ثِقلَ هذه المهمة الإنسانية، التي يصعب الموازنة بينها وبين أعباء العمل في العصر الحالي، وبخاصة أن نسبة كبيرة من النساء، وتحديدًا الأمهات، هن المعيل الرئيس للأسر، إما بسبب وفاة الزوج أو الطلاق وتخليه عن تحمل مسؤولياته، بما فيها عدم الاعتراف بالابن خارج إطار الزواج، وهو ما جعل عددًا من النساء العازبات يتحملن مسؤولياتهن ومسؤوليات أبنائهن. فكل هذه العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والتحولات المجتمعية الكبيرة وانخراط المرأة في سوق الشغل، خلخلت النموذج المثالي للأمومة وللأسرة، ودفعت بالمرأة إلى الانتقال طوعًا أو كرهًا من ربة للبيت ومدبرة لشؤونه إلى معيلة له وللأسرة كلها، كما استطاعت الأم، سواء كانت زوجة أو مطلقة أو أرملة، أن تحقق كثيرًا من النجاحات على المستوى الشخصي، حيث تمكنت من تحقيق ذاتها وتأمين نفسها من الاحتياج إلى الآخر، وعلى المستوى العام من خلال دورها في العمل ونجاحها في تقلد العديد من المناصب والقيام بكثير من المهام، ومن بينها المشاركة في العمل السياسي، والحضور الوازن في البرلمانات عبر العالم في العقدين الأخيرين، حيث وصلت مشاركة النساء في المجالس التشريعية بأنحاء العالم، كما أعلن عن ذلك الاتحاد البرلماني الدولي، إلى نسبة غير مسبوقة تبلغ 25.5%، أي ربع البرلمانيين في العالم، وبزيادة تقدر نسبتها بـ 0.6 % في عام 2020م، مع الإشارة إلى أن هناك ثلاث دول حققت التكافؤ بين الجنسين في التمثيل البرلماني وهي: رواندا، وكوبا، ودولة الإمارات العربية المتحدة.

الأمومة والإنجاب

على الرغم من المكانة التقديسية التي حظيت بها الأمومة في جميع الديانات، والتي رفعت الأم إلى المراتب العليا، وبخاصة في الدين الإسلامي الذي منحها مكانة رفيعة، لما لها من دور وأثر كبير في بناء وسلامة الفرد من الناحية البدنية والعقلية والنفسية والاجتماعية، وبالتالي بناء المجتمع والحفاظ على النوع الإنساني من الانقراض والهلاك، فإن مجموعة من الدراسات الحديثة الغربية والعربية، قد رأت في المفهوم الذي يربط الأمومة بإنجاب الأطفال مفهومًا خاطئًا.

ومع تصاعد مد الحركات النسوية، وانخراط النساء في المطالبة بحقوقهن، المتمثلة أساسًا في المساواة مع الرجل، وانتزاع كثير من الحقوق التي تضمن للمرأة إنسانيتها وكرامتها في المجتمع مثلها مثل الرجل، انكبت العديد من الدراسات في علم النفس والتربية وعلم الاجتماع على الغوص في هذه التحولات التي تعيشها المرأة والتطورات والاكتشافات العلمية والنجاحات التي باتت تحققها، التي تفوق نظيرها الرجل في بعض الأحيان، على الرغم من الحيف الذي يطالها في الوصول إلى مناصب القرار في كثير من الدول، فمنها من ينظر إلى هذه التحولات والمتغيرات بعين الرضى، ويعدّها تطورًا منطقيًّا وتأكيدًا على أن المرأة أصبحت تحقق ذاتها وتكتسب صفات قوية وتتخلى عن دور المرأة الخانعة الراضية بنصيبها، والمضحية من أجل أبنائها وأسرتها فحسب، ويرى أن المرأة تصل للأمومة والأنوثة من دون تعقيد، لكن الحياة المفروضة على الأنثى قد تجعلها في أوقات كثيرة تهرب من أنوثتها أو تسعى لإخفائها لتشعر بنوع من الندية مع الرجل، الذي طالما احتقرت بسببه، وأحست بالدونية بسبب المخلفات الثقافية والدينية والتربوية والاجتماعية.

ومن تلك الدراسات من ينظر إلى هذه الندية أو الطموح اللامتناهي للمرأة في الوصول إلى مرتبة الرجل نفسها، على نحو سلبي، ويرى فيها سببًا لإفراغ المرأة من أنوثتها، مؤكدين أن «التمييز الذي تعانيه المرأة قد دفع بها إلى السعي نحو تحقيق المساواة ووضعها أمام تحدي تحولها إلى ذكر مشوه»، داعين النساء والرجال إلى أن تُستبدَل بعلاقات التسلط علاقات التكامل من أجل تحقيق الأمن الأسري والعيش بسلام، وتربية أجيال متوازنة بإمكانها خدمة المجتمع بعيدًا من هذه الندية.

إن موضوع الأمومة والأنوثة موضوع شائك، لا يمكن تناوله من دون استحضار كل الإكراهات والتحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسة والثقافية والدينية، بل حتى القيمية، ولهذا ارتأت مجلة «االفيصل» تسليط الضوء على هذا الموضوع ومقاربته من زوايا مختلفة.


الجانب الخفي من الحبل السُّري!

إكرام‭ ‬البدوي – ‬باحثة‭ ‬مصرية

الحبل السُّري هو ذلك الوسيط الخفي الذي يربط بين حياة الأم وحياة إنسان يخرج للعالم بواسطة رحم لا ينضب، ولن يكف عن الإتيان بفرص جديدة للحياة. بدّت الأمومة في معظم الخطابات كإطار مقدس يصعب اختراقه أو التحدث عنه بشكل موضوعي، حيث أجرت الثقافة السائدة تنميطًا شبه ثابت لصور الأنثى وأدوارها الاجتماعية، وعلى صعيد آخر، تبنت بعض الحركات النسوية الراديكالية رفض الأمومة وكأنها العبودية ذاتها.

وهذا ما ينقلنا إلى الوجه الآخر، أن النساء أنفسهن أحيانًا يشعرن بالعار إذا ما طالبن بحقوقٍ منفردة عن أمومتهن، نتيجة للمسؤولية شبه الكاملة التي تقع عليهن، فالأمومة هي تلك المهمة الشاهقة العظيمة في بناء الإنسان، وبناء إنسان يعني بناء أمة بأكملها. وأحيانًا ننتقي شعار الأمومة للتحدث عن بعض جوانب الخطابات المسكوت عنها، فمثلًا، من أين جاءت فكرة أن الأم هي المسؤولة الوحيدة عن الطفل بينما نجد أن النصوص الدينية لم تضع العبء على عاتقها كليًّا؟!

سوزان مولر أوكين

طرحت «بيتي رولن» تساؤلًا صادمًا في سياق جدل الفكر النسوي الواسع قائلة: الأمومة.. ومن الذي يحتاج إليها؟ «فالبديهية التي ترى أن الأمومة غريزة، إنما هي أسطورة شائعة غير قابلة للاختيار؛ لأن الأمومة فكرة مؤسسة على الحاجة والأوهام النفعية، وهي فعالة من وجهة نظر المجتمع الذي سعى إلى تقويتها في نفس المرأة، فلا خيار لهن إلا تكييف أنفسهن مع الحاجة الجماعية التي حددت وظيفة نمطية للمرأة».

بينما ربطت المؤرخة الفرنسية «إيفون كنيبييلير» بين الهُوية الأنثوية والأمومة، فنقدت الفكرة الشائعة حول التعارض بينهما، فالأمومة ركن جوهري من أركان الهُويّة الأنثويّة، فهي حقيقة اجتماعية تنفرد بها المرأة، وإغفالها أو تجاهلها يؤدي إلى إغفال نصف وقائع الأمومة. ربما يكمن لب قضية الأنوثة في أن مشكلات المرأة وما جبلت عليه من أعراف مجتمعية جعلتها تنكر طبيعتها الأنثوية خلطًا منها بين طابعها الأنثوي ونظرة المجتمع إليها، فطالما كانت الثقافة هي التي تضفي المعاني على الأشياء رموزيًّا.

الأمومة والهوية الأنثوية

اقترحت (جوليا كريستيفا) ما يسمى بـ(الوله الأمومي) Maternal Passion وهو ذو دينامية داخلية، فالمرحلة الأولى من تشكّل هذا الوله تبدأ في مرحلة الحمل والمرحلة الأولى بعد الولادة، حين تكون العلاقة أم– طفل علاقة انصهارية لا يميّز فيها الطفل بين جسده وجسد الأم، ربما يكون وله الأم هو التولّع الوحيد الملموس، الذي يمكن اعتباره حقيقيًّا وغير خاضع للتلاعب والتشويه، وبذلك يشكل النموذج الأوليّ لعلاقة الحب. حيث تتألف هذه المرحلة من التوتّر القائم بين مشاعر تماهي بين الأم وطفلها من جهة، وضرورة فصل الطفل عن ذات الأم من جهة أخرى. فالأم هي حائط الدفاع الأول، حيث يكون لها التأثير الأكبر في تطوّر الطفل وحبّه لنفسه وقدرته على التفكير، والانخراط في النظام الاجتماعي الذي ينتمي إليه. وبناء عليه، فإن حب الأم هو مهد جميع العلاقات التي يمر بها الإنسان فيما بعد من حيث طبيعتها وماهيتها وعمقها، فغالبًا ما يحدث تقليد لا واعٍ أو إسقاط لوتيرة الحب ذاتها.

وحين تبدأ المرحلة التالية، من الرابطة الأمومية التي تتميّز بعملية فصل الطفل من ذات الأم، إذ لا بدّ أن ينفصل الطفل عن ذات الأم ليصبح ذاتًا مستقلة، حسب التحليل النفسي اللاكاني، فدخول الأب برمزيّته في مرحلة معيّنة من تطوّر العلاقة بين الأم وطفلها عامل مهم من العوامل التي تؤدّي لانفصال الطفل عن الأم وهو في علاقته الانصهارية معها. ومن هنا تظهر معقولية الزواج والهدف الأسمى منه، فهو ليس مجرد نزوات هوجاء تعبر برباط زواج موثق لتُضفي عليها القداسة، بل هو تعانق روحين وتماهي جسدين واتحاد قلبين، ومن ثمّ امرأة تخوض غمار الحياة بكل تعقيداتها مع شريك حقيقي، إذًا الشيء الوحيد الذي علينا أن نسعى لتغيره هو الوعي.

وفي هذا الصدد، طرح نيتشه أسئلة عدة لا بد أن يطرحها المرء على نفسه قبل أن يقرر الزواج حيث يقول: «أنت شاب وترغب لنفسك في زواج وبنين، لكني أسألك: هل أنت بالإنسان الذي يحق له أن يرغب لنفسه في ولد؟ هل أنت المنتصر على نفسك، المتملك بحواسك وسيد فضائلك؟ أم ترى الحيوان هو الذي يتكلم من خلال رغباتك؟ أم هي الوحدة؟ أم عدم رضى عن نفسك؟ أريد أن تكون حريتك هي التي تتوق إلى توليد معالم حيّة ينبغي أن تشيّد لانتصارك ولتحررك». يُقرّ الزواج بإقامة شراكة فعالة، ولذلك حين تقرر المرأة وشريكها خوض تجربة الأمومة لا بد أن تكون نابعة حقًّا من إرادة خالصة وحرية مسؤولة في الوقت ذاته. نظير ذلك، نوه (جون رولز) «على أهمية المؤسسات الأسرية واعتبارها منظومات تشريعية حيث أكد على أن العائلة جزء من بنية المجتمع، فهي إذًا، إحدى تلك المؤسسات التي من شأن مبادئ العدالة أن تنطبق عليها».

اللاتكافؤ بين المرأة والرجل

بيد أن الدور الأمومي لم يكن الدور الوحيد الذي يجب أن تقدمه المرأة للحياة بوصفها إنسانًا، فليس هناك إلا طريق واحد أمامها لتتمتع بالاستقلال الاقتصادي ألا وهو الانخراط في المجتمع والمشاركة في صنع القرار، ولكي تقوم بالدَّوْر الرِّيَادِي في تأهيل الأطفال تربويًّا من جهة، وتكون مبدعة في العالم الخارجي، من جهة أخرى، ظهرت ثمة فرضية تسعى لإعادة النظر في إعادة صياغة العالم الخاص (المنزل) بحيث «يتضمن تقاسم مسؤولية رعاية الأطفال والواجبات المنزلية، وفي هذا السياق سيكون الرجال والنساء، قادرين على دخول المجال العام دون خوف من أن تأتي فرص نجاحهم بالضرر على الأطفال». وهو ما سيتيح للمرأة الدخول الحر في المجال العام ومن ثم الاستقلال الاقتصادي. وعلى الرغم من تطور المفاهيم المجتمعية بدرجة كبيرة، فإن مبدأ اللاتكافؤ بين الرجل والمرأة داخل الأسرة ما زال متأصلًا في الوعي الجمعي لمجتمعاتنا.

وأخيرًا، فإن قطبي الصراع بين الراديكالية النسوية والثقافة الذكورية غالبًا ما يلاحقهن في معظم سلوكيات المجتمع بمفاهيمه غير الشمولية، فيصبحن هن الضحية. وفي أغلب الأحوال يتعامل العقل الجمعي مع أجسادهن وذواتهن بما يناهض فرادتهن وتجاربهن الإبداعية، وعلى رغم ما قاسته المرأة في رحلتها ما زالت تكتب قصة الحياة، وهذا ما تؤكده بعض الأخيولات الذكورية حول العودة إلى رحم الأم والانصهار معها من جديد كملاذ آمن من معاناة الحياة، وهو الأمر الذي يجعلنا نوقن بنهاية الجنس البشري إذا ما توقفت المرأة عن إنجاب الحب بل لظمأت القلوب، ولذلك قُدّر عليها الحب لتبقى الحياة.


قيمة‭ ‬الأمومة في‭ ‬المنظور‭ ‬القرآني‭ ‬والنبوي

التجاني‭ ‬بولعوالي – باحث مغربي

قبل المضي إلى الحديث عن قيمة الأمومة في المنظور القرآني والنبوي، لا مناص من تسليط الضوء في هذا التمهيد الموجز على طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة في الإسلام، ولا سيما أن مسألة «المساواة بين الرجل والمرأة» عادة ما توظف من جانب مختلف الدوائر الفكرية والسياسية الغربية، مثل: التيارات الشعبوية وأحزاب اليمين المتطرف ووسائل الإعلام المؤدلجة؛ للتشكيك في حقيقة الإسلام وشرعيته، ثم الإساءة إلى المسلمين. ولعل مردّ ذلك إلى التعاطي الأيديولوجي مع الإسلام بعيدًا من الاستيعاب الموضوعي خصوصًا للقضايا التي تبدو غريبة وإشكالية في الرؤية العلمانية والحداثية الغربية، مثل: الحجاب وتعدد الزوجات وإرث المرأة وغيرها. ثم لا ينبغي تجاهل وضعية المرأة السلبية في بعض المجتمعات المسلمة، الذي ترسخه سواء بعض الجماعات الدينية المتشددة أو التأثيرات الثقافية المنغلقة في فهم النص الديني الإسلامي (القرآن والحديث).

إن ما يلحق بالمرأة في بعض البلدان العربية والإسلامية من ظلم وتهميش واضطهاد لا يمكن تعليقه على مشجب الإسلام، بقدر ما يُفسّر من جهة بطبيعة الثقافة المحافظة والمنغلقة التي لا تزال تهيمن في بعض المجتمعات، حيث يُنظر إلى المرأة على أنها مجرد آلة لتفريخ الأطفال وتربيتهم من دون أن يكون لها أي رأي أو تأثير في أسرتها الخاصة أو في الحياة العامة، وهو ما أدى إلى ظهور آفات شاذة لا علاقة لها بالإسلام، مثل: حبس المرأة في المنزل، وختان البنات، وحرمان الإناث من حقهن في الإرث، وغيرها. ومن جهة أخرى يرى «بعض المتشددين» في المرأة مجرد أداة للمتعة، حيث تختزل المرأة في جسدها وجمالها دون الاهتمام برأيها ودورها الفعال في المجتمع. فإذا كانت الحالة الأولى ذات طبيعة ثقافية تتعلق بسياقات عربية وإسلامية معينة، فإن الحالة الثانية تنشأ نتيجة التأويل المسفّ لموقف الإسلام من المرأة عبر ليّ أعناق النصوص الدينية في انفصال عن معناها الأصلي ومقاصدها الحقيقية، ويبدو أن كلتا الحالتين لا تمُتّان بِصِلة إلى رؤية القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة إلى المرأة عامة والأم خاصة.

تمييز وظيفي لا تفاضلي

إن الخطاب القرآني واضح في العلاقة بين الرجل والمرأة، حيث إنهما متساويان في الحقوق والواجبات، فطبيعة العمل الذي يقدمه كل واحد منهما هو المعيار؛ ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾، (النساء 124)، ﴿وَلَهُنَّ مِثلُ الَّذِي عَلَيهِنَّ بِالمَعرُوفِ﴾، (البقرة 228). وأكثر من ذلك، فالرجل والمرأة متساويان في الكرامة؛ ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾، (الإسراء 70)، ولفظة بني آدم تشمل الرجل والمرأة على حد سواء.

والفرق الوحيد بين الرجل والمرأة في المنظور الإسلامي يتعلق بالوظائف الفطرية والجسدية والبيولوجية لكل واحد منهما، وما يتبع ذلك من وظائف اجتماعية وتربوية، وهو في الحقيقة ليس تمييزًا تفاضليًّا كما نلمس في بعض الأدبيات التقليدية، بل تمييز وظيفي بالدرجة الأولى لولاه لما تحقق التوازن في المجتمع الإنساني، حيث المرأة تفرّدت بوظيفة الأمومة التي لا تضاهيها وظيفة أخرى في الوجود، وقد جاء في الحكمة أنه «في اللحظة التي يولد فيها الطفل، تولد فيها الأم أيضًا. فهي لم تكن موجودة من قبل. كانت المرأة موجودة، لكن الأم، لا. إنها شيء جديد تمامًا».

الأم لغةً واصطلاحًا وفقهًا

في الحقيقة، ليس هناك أعظم من هذا التكريم للمرأة بوظيفة الأمومة، التي تبوئها لأن تكون نبعًا للحياة الأسرية والاجتماعية، بل حتى دلالة لفظة «أم» في اللغة العربية تعني أصل كل شيء وعماده، و«كل شيء انضمت إليه أشياء، فهو أم لها»، كما ورد في لسان العرب. لذلك تطلق أم البشر على حواء، وأم الكتاب على سورة الفاتحة، وأم القرى على مكة المكرمة، وأم النجوم على المجرة، وتتطابق هذه الدلالة ولا سيما مع معنى الأم/ moeder في اللغة الهولندية التي تعني الوالدة والأصل.

وقد عرّف المعجم الوسيط مصطلح الأمومة بأنه «نظام تعلو فيه مكانة الأم على مكانة الأب في الحكم، ويرجع فيه إلى الأم في النسب والوراثة». وهذا يدل على مدى أفضلية الأم على الأب من حيث وظيفة الأمومة التي تتجاوز ما هو فطري وغريزي إلى ما هو قانوني وتشريعي، حيث لا يمكن ضبط النسب وثبت الوراثة إلا بالرجوع إلى الأم، وهذا دور عظيم في تحقيق العدالة والتوافق بين الناس، وخلق التوازن الضروري في المجتمع.

ويُميز الفقهاء بين ثلاثة أنماط من الأمهات؛ أولها الامّ النسبيّة أو البيولوجية التي تكون بينها وبين ولدها صلة الولادة والرضاعة والأمومة. ثم الأمّ الرضاعيّة التي ترضع طفلًا من حليبها، فيصير ابنًا لها بالرضاعة. وفي الأخير الأمّ بالتبجيل والتعظيم، مثل زوجات النبي اللواتي هن أمهات المؤمنين، كما ينص على ذلك القرآن الكريم في سورة الأحزاب، الآية 6: ﴿وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾.

الأم أعظم منزلة من الأب!

ذُكرت الأم 28 مرة في القرآن الكريم بمختلف الصيغ المفردة والجمعية، وفي شتى المقامات الدلالية والتاريخية، ومنها مقام الأمومة الذي أكّد عظمته وسموه الخالق سبحانه وتعالى، فقَرَنَ بر الوالدين؛ أمًّا وأبًا بعبادته وعدم الشرك به، غير أنه خصّ الأم أو الأمومة بما لم يخصّ به الأب أو الأبوة، كما هو جلي في الآيتين الكريمتين الآتيتين:

﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾، (لقمان 14).

﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾، (الأحقاف 15).

انطلاقًا من هاتين الآيتين، وفي ضوء ما ورد بخصوصهما في كتب التفسير المتنوعة، يمكن أن نستجلي ثلاثة معانٍ. أولها ذو طابع معياري وأخلاقي يحيل على ترسيخ قيمة الوالدين عامة والأم خاصة في المنظور الإسلامي، حيث الإحسان إليهما ورعايتهما والعناية بهما أمر واجب وإلزامي بالنص القرآني والحديثي أيضًا. وثانيهما ذو ملمح وظيفي حيث ينتقل الخطاب في الآيتين من العام المتعلق بالوالدين إلى الخاص المرتبط بالأم التي أنيطت بوظائف الحمل والوضع والرضاعة التي لا تضارعها وظائف أخرى في الحياة من حيث صعوبتها وتعسرها ومشقتها. وثالثها ذو طابع مقاصدي عام يكشف عن التكريم العظيم الذي تحظى به المرأة عامة في القرآن الكريم، ويقطع مع الوضعية المتردية التي كانت عليها المرأة سواء في جاهلية العرب أو لدى الأمم الأخرى المجاورة مثل: الفرس والروم والمصريين واليونان، كما يخلخل الدعاوى الشعبوية والعلمانية المعاصرة التي تحاول الإساءة إلى الإسلام والمسلمين عبر موضوع المرأة.

وقد جاءت السنة النبوية لتؤكد هذه النظرة القرآنية الإيجابية إلى الأم في مختلف الأحاديث، ونقتبس هنا حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي قال فيه: جاء رجلٌ إلى رسول الله ﷺ فقال: مَن أَحَقُّ الناسِ بحُسنِ صحابتي؟ قال «أمُّك» قال: ثم من؟ قال «ثم أمُّكَ» قال: ثم من؟ قال «ثم أمُّكَ» قال: ثم من؟ قال «ثم أبوك». وهذا يعني أن الأمومة أسمى مرتبة من الأبوة، وإذا قمنا بتفسيرها رياضيًّا وحسابيًّا نجد أن للأم الحق في 75% من الصحبة الحسنة، بينما لا يحظى الأب إلا بـ 25%! وهذا ما يؤكده أيضًا حديث آخر ورد فيه أن رجلًا جاء يستشير الرسول ﷺ للمشاركة في غزوة، فقال له: هل لك من أمٍّ، قال الرجل: نعم، قال الرسول ﷺ: فالزَمْها فإنَّ الجنَّةَ عند رِجلِها. ونستنبط من هذا الحديث أنه كما أن ثواب الجهاد في سبيل الله هو الجنة، فإن ثواب رعاية الوالدين عامة والأم خاصة هو الجنة أيضًا.

نخلص مما سبق إلى أن الإسلام قرآنًا وسنةً كرّم المرأة عامة والأم خاصة أيما تكريم، وهذا ما تؤكده عشرات الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وهو ما شكّل قطيعة مع الوضعية المزرية القديمة التي كانت عليها، سواء المرأة العربية في الجاهلية أو قريناتها في المجتمعات المحاذية لشبه الجزيرة العربية. بل إن هذا التعاطي الإسلامي الإيجابي المبكر مع مسألة المرأة يتعارض مع ما هي عليه المرأة اليوم بعض المجتمعات المسلمة، حيث تهضم حقوقها، إما جراء التأثيرات الثقافية والإثنية السلبية أو نتيجة التأويلات المسفّة للنصوص الدينية الإسلامية. ثم إنه من شأن هذه الرؤية الإسلامية بخصوص المرأة، التي كانت «تقدمية» وما زالت، أن تُفحم التيارات الشعبوية والأيديولوجية التي تتخذ موضوع المرأة مطية للضرب في الإسلام والإساءة إلى المسلمين.


الأمومة‭ ‬والبحث عن‭ ‬هوية‭ ‬للآباء

بثينة‭ ‬محمد – ‬كاتبة‭ ‬سعودية

منذ أشهر، رُزِق زميل لي في العشرين من عمره بمولودتين توأمين. ومنذ ذلك الحين وهو لا يغمض له جفن، فبين التناوب على الاهتمام بالطفلتين، والمساعدة في أعمال المنزل، والعمل في وظيفة، لا يستطيع الإنسان -أي إنسان- إلا التضحية بالنوم. ألاحظ في الحقيقة أنّ الحصول على قسط كافٍ من النوم ليس ميزة يحظى بها الآباء مهما شاع عنهم خلاف ذلك. فمنذ أن يعرف الأب بحمل زوجته ينخرط في الحسابات، ويغير طريقة الإنفاق التي اعتاد عليها قبل هذه اللحظة الفارقة، ويبدأ في مراقبة الأطفال مع أهاليهم في الأماكن العامة، ويتساءل ما إذا كان سيصبح أبًا صالحًا أم لا. سيبدأ، ربما، في محاسبة الآباء الآخرين الذين ينهرون أطفالهم، وينتقد من يتضجر منهم. بعضهم قد يقع في براثن الخوف من الفشل ويتصرف بتوتر طوال اليوم وكل يوم.

قد يبدأ في قراءة كتب التربية، ويفكر في الانتقال إلى سكن أوسع. سيبدأ في التخطيط لتأثيث غرفة الطفل، وستلفت انتباهه ملابس الأطفال في واجهة المحلات. سيتوقف مليًّا أمام الأحذية والجوارب الصغيرة ويشعر بالتأثر والرغبة في البكاء. وربما سيشعر بالرغبة في تناول المزيد من الطعام، وسيشتهي أنواعًا معينة ويكره أخرى. سيلحظ زيادة في الوزن لا يعرف سببها، وسيشعر بالخمول المفاجئ، وبعصبية غير مبررة. سيتعلم إعداد زجاجات الحليب، وأسرع طريقة لتهدئة الطفل لينام، وأفضل نوع حفاضات لبشرة الأطفال. وقبل أن يدرك ما الذي حدث، سيشعر أنّه فقد جزءًا مهمًّا من هويته الفردية كرجل ويقع في صراع الاختيار والموازنة بين ما يعرفه عن نفسه سابقًا كرجل وما هو بحاجة إليه الآن للتصرف كأب.

هل يستشعر القارئ مبالغة في الوصف أو يؤكد صحتَه كجزء من رحلة التحول من رجل إلى أب؟

التحول الأكثر وضوحًا

هذا التحول لا يمسّ المرأة وحدها، بل يبدو ظاهرًا أكثر عليها بسبب تجربة الحمل والولادة. وهذا قد يتسبب في إهمال التحول الذي يطرأ على الرجل خلال الحمل والولادة وخلال نمو الأطفال، أو يختار بعضٌ تهميشه مقارنة بالآلام والمشاق الخاصة بالمرأة. لكن هذا لا يعني أن التحول ليس مهمًّا للطرفين، بل يعني أنّ الضوء مسلط على تحول هوية المرأة إلى أم لأنه التحول الأكثر وضوحًا.

وربما أسهم في تهميش الرحلة النفسية للتحول إلى أب ما فرضته الحياة الاجتماعية فيما مضى بخلفيتها الاقتصادية على الزوجين في كيفية عيش الحياة. فلما كان الاقتصاد قائمًا على عمل الرجل، كان أمرًا بديهيًّا أن يتولى مهام الكسب في مجملها وبالتالي يحظى بالمكانة الاجتماعية، ويتحمل توقعات غير واقعية لسلوكه المحاط بهالة من التعظيم مقابل خسارة التعاطف مع إمكانياته وسيكولوجيته كإنسان. فالرجل في الموروث الاجتماعي أقرب إلى القداسة لكونه العائل ماديًّا والمسؤول عن الحماية لتولي المرأة مسؤولية التربية والانشغال بالإدارة داخل المنزل. وإن كان للمرأة في الماضي دور لا غنى عنه في إعالة العائلة فهو دور مسكوت عنه؛ لأنه الأقل وضوحًا في الصورة العامة للحياة الاجتماعية.

وبما أنّ أي تغيير في الإطار الاجتماعي للعلاقات الإنسانية يرتبط بشكل وثيق بالبنية الاقتصادية للمجتمع، فالمشاهدات الملاحظة الآن من إشراك الرجل بنسبة أكبر في عملية التربية أو تدبير شؤون المنزل لهي دلالة لإشراك المرأة بنسبة أكبر في التنمية الاقتصادية. وهذا في حد ذاته تطور استلزم ردحًا من الزمن والمفاوضات على مستوى العالم لتحظى المرأة بحق الاختيار للوسائل والسبل التي تعينها على العيش، سواء بالاستمرار في الشكل التقليدي السائد بتولي دور التربية وحدها والاعتماد المادي على الرجل، أو بمشاركة الواجبات بينها وبين الرجل في التربية والكسب على حد سواء.

تأسيس العائلة

قد يشعر الرجل أن المجتمع المعاصر يتوقع منه التنازل عن نسبة من رجولته ليتكيف مع الشكل الجديد للمجتمع، ويغيب عن ذهنه أن ما تغير هو الميكانيكية الاقتصادية للمجتمع وليست الهوية الجندرية للرجل والمرأة. فرحلة التحول في الهوية الملازمة للإنجاب ما زالت تحدث للطرفين إلا أن أبعادها صارت أكثر تعقيدًا. فهو الآن يحظى بأهمية كبرى في تأسيس العائلة داخل المنزل، كما تحظى المرأة بأهمية كبرى في تأسيس المجتمع. وهذا الاتجاه لموازنة المسؤوليات وثقلها بين الطرفين كنتيجة لمنح المرأة حقوقًا اجتماعية وواجبات اقتصادية مساوية للرجل، تدعو في حقيقتها لإعادة النظر إلى الرجل كإنسان يشعر ويتعب ويمرض ويبدي ردود أفعال تجاه تحولات الحياة، بعد أن كان تمثالًا مهيبًا يكدّ ويشقى لتوفير الحياة الكريمة، وتهتز أركان المنزل إذا لم يستطع لسبب أو لآخر الوفاء ببعض واجباته.

وقد يكون ما يحتاجه الرجل الآن هو الاستفادة من هذه الفرصة ليتحرر من ثقل القداسة، ويبدأ في تأسيس قيمة حقيقية لنفسه تحظى بما يستحق من تعاطف، وتلازمها توقعات واقعية أكثر تساعده على خوض التجارب الإنسانية بوعي أكثر عمقًا وتصالح أكثر مع شريكته في الحياة.


الأمومة: حق‭ ‬واختيار مقاربة‭ ‬سيكواجتماعية

خلود‭ ‬السباعي – ‬باحثة‭ ‬مغربية

عرفت أوضاع النساء في السنوات الأخيرة تحولات مهمة غيرت من ظروف عيشهن كما غيرت من علاقتهن بذواتهن، وأساليب تحقيقهن لوجودهن وتعيينهن لهويتهن، ومن بين أبرز المؤشرات الدالة على ذلك، علاقتهن بالأمومة. فبعد أن كانت الأمومة محددًا أساسيًّا لهوية النساء، ومرادفًا أساسيًّا للأنوثة وصورة الجسد، أصبحت اليوم بفعل التحولات الاجتماعية وتطور تقنيات الإنجاب، موضع اختيار وقرارًا شخصيًّا بالنسبة إلى عدد مهم منهن. إلا أن السؤال الذي يطرح هو، ما أبعاد ودلالات هذه التحولات؟ هل يتعلق الأمر باختيار حر أم باستلاب وعنف ضد الحق في الأمومة؟

للإجابة، ننطلق من الطرح الكلاسيكي للأمومة كخاصية مرادفة للأنوثة، وذلك بوصفه تصورًا متجاوزًا يختزل هوية المرأة ووجودها في تأديتها لدور الأم وما يقتضيه من وظائف ومهام، وهو ما ساهم في تعميم بعض الخاصيات السيكولوجية على سائر النساء، بوصفها محددات غريزية للأنوثة، ومن ثمة، صفات فطرية طبيعة مهيكلة لـ«طبع» النساء سواء على المستوى المعرفي، أو العاطفي أو السلوكي.

صحيح أن للأمومة بعدًا كونيًّا كما أشار داروين، «فهي خاصية نجدها عند سائر الحيوانات والثديية منها على وجه الخصوص، بما فيها الإنسان»، وهو ما قد يفسر سبب ربطها بما هو غريزي، بيولوجي، وطبيعي، إلا أن للأمومة عند الإنسان طابعًا مختلفًا، يجعل منها إنشاءً ثقافيًّا وتعبيرًا اجتماعيًّا، لا يمكن فصله عن التاريخ والظروف السيكواجتماعية والسياقية للمرأة الأم.

وتتصدر التيارات النسوية الأولية، قائمة الدراسات التي اهتمت بالأمومة في علاقتها بالهوية الأنثوية، مؤكدة ضرورة الفصل بين الأمومة والإنجاب، من حيث إن الإنجاب هو معطى بيولوجي هدفه الحفاظ على النوع البشري، بينما الأمومة هي وظيفة ودور اجتماعي ثقافي، يشمل مجمل أشكال العناية التي تقوم بها النساء، استنادًا إلى مجموعة من الوصفات والسلوكيات المحددة اجتماعيًّا. وبالنظر إلى ما تشمله العملية الإنجابية من سيرورات بيولوجية ترتبط بالجسد الأنثوي، من وحم، وحمل، وولادة، رضاعة، وعناية بالجنين، حصل نوع من الربط للمرأة بالأمومة بالإنجاب، وهو ما أسس لمجموعة من التمثلات الثقافية التي جعلت من الأمومة الوضع الطبيعي للنساء، وما دون ذلك انحرافًا أو شذوذًا أو عجزًا، يقابله المجتمع بالتهميش والرفض والعقاب. ولا أدل على ذلك من أشكال الرفض التي تعانيها بعض النماذج من النساء، من قبيل: المرأة العقيم، التي تباح معها كل أشكال العنف من هجر، وطلاق، وتعدد. المرأة عند بلوغها مرحلة انقطاع الطمث. فحينما «تعقم الرحم تسقط صفة التأنيث لأن هذا الجسد لم يعد جسدًا وَلُودًا». المرأة الراغبة في الإجهاض أو الساعية إلى إجهاض نفسها. هذا فضلًا عن كثير من أساليب التحفظ والتردد المتعلقة باستعمال وسائل منع الحمل، أو غيرها من العمليات الجراحية التي تؤدي إلى العقم… إلخ.

الأمومة والإنجاب

على أساس هذا الربط للأمومة بالإنجاب، عُيِّنَتْ مجموعة من الصفات السيكولوجية لـ«الأم»، كما عُيِّنَتْ الحالات العاطفية والمعرفية التي ينبغي أن تمتثل لها النساء عند قيامهن بدور الأمهات. ولم يتمكن الحقل السيكولوجي من تجاوز أغلب هذه التمثلات السائدة عن سيكولوجية المرأة، إلا بعد سبعينيات القرن الماضي وبروز التيارات النسوية التي ناضلت من أجل التمييز ما بين الخصائص البيولوجية والرموز الاجتماعية الثقافية، داعية إلى ضرورة إعادة النظر في مقاربة ما هو أنثوي عامة، ومفهوم الأمومة خاصة. وهو ما ساهم في بروز المقاربة الجندرية لسيكولوجية النساء، التي ترفض كل ربط للهوية الأنثوية بالأمومة، ورغبة النساء بشكل غريزي في تحقيق الذات من خلال الخصوبة والإنجاب، مؤكدةً البعدَ التاريخي والثقافي للأمومة. مشيرة أيضًا إلى أن الأصل في التكوين الجنسي للمرأة هو الأنثى، أما الأمومة فهي حدث عارض قد يحضر أو يغيب، وقد لا تمثل ضمن سيرورة حياة النساء سوى مراحل معينة، وليس من الضروري أن تلازمهن طيلة الحياة؛ فالمرأة هي أولًا وقبل كل شيء أنثى، يجب أن تحظى إلى جانب الذكر بصفة المواطنة الكاملة، التي تضمن لها حقوقها بصرف النظر عن كونها أمًّا أم لا.

نورما فولر

إن للأمومة، كما هو معلوم، بُعدًا بيولوجيًّا لا يمكن تجاوزه، إلا أن الملحوظات العينية والواقع اليومي يشهدان أن الأطفال لا يموتون في غياب رعاية الأم البيولوجية، كما أننا لا نجد الأم البيولوجية تصاب بخلل أو تفقد حياتها إذا لم تعتنِ بالطفل الذي أنجبته. هذا فضلًا عن كون الأمومة «كمعيش سيكواجتماعي» يختلف كثيرًا بين النساء، باختلاف أوضاعهن وظروفهن وانتماءاتهن سواء على المستوى النفسي أو الاجتماعي؛ فهناك من الأمهات من يشعرن بغاية السعادة في ممارستهن لدور الأمهات، وهناك العكس. كما أن الأمومة لدى الأمهات العازبات قد تختلف عن الأمومة لدى المتزوجات… إلخ. وهذا يدفعنا إلى التساؤل: هل تعيش كل النساء أمومتهن اختيارًا؟ وهل رغبت عينات واسعة من النساء في الأمومة أم كن مجبرات على ذلك؟ ولما نتحدث عن الجبر والإكراه، يحق لعلم النفس أن يطرح السؤال عن إمكانية ربط الأمومة بالحب والحنان والرغبة في التضحية والعطاء.

فلما تطوق المرأة بسياج من الفقر والأمية والتهميش والقهر والعنف، فإنها قد لا تملك لنفسها مخرجًا آخر غير الإنجاب على المستوى البيولوجي، والاحتماء بالأمومة على المستوى السيكولوجي. وتلك معطيات تفيد، بأن تمجيد الأمومة في مثل هذه الظروف المجحفة وغير العادلة في حق النساء، ليست سوى ميكانيزم اجتماعي، يهدف إلى الحفاظ على استقرار المجتمع واستمرار بنياته وهياكله التي يظن أنها بذلك تخدم مصلحة الرجال.

الأمومة ومتغيرات العصر

في ظل هذه المعطيات، تُعَرَّف الأمومة بوصفها دورًا اجتماعيًّا محاطًا بالثقافة، ومحملًا بدلالات رمزية وطقوس اجتماعية قيمية تهيكل كلًّا من سلوكيات الحنان، والحب، والعطف، والغيرية أو غيرها من الاستعدادات السيكولوجية الفطرية الغريزية التي نجدها لدى كل من النساء والرجال على حد سواء. وليس التشابه الحاصل بين الثقافات على هذا المستوى، سوى نتاج تمثلات المجتمع الذكوري لطبيعة الأدوار الذكورية والأنثوية، التي يعاد إنتاجها عن طريق التنشئة الاجتماعية، فتتغلغل في كل من اللاوعي الفردي والجماعي لكل من الذكور والإناث.

وبناء على ما سبق، فلعل أهم ما ينبغي التساؤل بخصوصه اليوم، هو العراقيل التي تواجهها النساء الأمهات في ظل ما تعرفه المجتمعات المعاصرة من تحولات متسارعة غيرت من حياة النساء، ومن واقعهن، ومن أسلوب عيشهن وطموحاتهن بخصوص الأمومة. فلقد أصبحت الأمومة لدى نسبة غير هينة من النساء بمنزلة عرقلة أمام تحقيق الذات، وعنوان للعنف واللامساواة الجندرية. وذلك بغرض التنبيه إلى ما أصبح يهدد هذا الدور الحيوي للأمهات، بسبب ما تعانيه النساء من إكراهات قد تكون لها انعكاسات خطيرة على رغبتهن في الأمومة والإنجاب من جهة. وأيضًا بغرض تأكيد مدى أهمية وحيوية الأمومة بالنسبة إلى النساء، سواء على المستوى النفسي أو الاجتماعي، بصفتها أصل الحقوق الجندرية التي يبقى من الصعب بلوغها من دون احترام هويات الأفراد في بُعدها البيولوجي، ذكورًا وإناثًا.

تعود مشروعية هذه التساؤلات إلى استمرارية واقع كانت قد أشارت إليه بادينتير Badinter، والمتعلق بما عرفه دور الأمومة على مر التاريخ من تهليل وتمجيد، الذي لا نجد له صدى واقعيًّا في حياة الأمهات. إذ لا نكاد نلمس اعترافًا اجتماعيًّا أو قانونيًّا حقيقيًّا يرفع من قيمة هذا الدور. فلقد مثلت خدمات العناية والرعاية المرتبطة بالأمومة ولا تزال في كثير من مناطق العالم، عملًا طبيعيًّا مرتبطًا بغريزة الأمومة، ومن ثمة عملًا غير مرئي.

ولعل أبرز ما يلاحظ اليوم هو أن كثيرًا من النساء يضحين بالزواج والأمومة لأجل استكمال الدراسة والتكوين للحصول على العمل، وكثيرًا من النساء يضحين بالولادة لأجل الحفاظ على العمل وضمان الترقية، وكثيرًا من النساء يضحين بالوظيفة من أجل الإنجاب، وكثيرًا من النساء يتنازلن عن بعض المناصب، ويتراجعن عن المنافسة في العمل، بسبب المسؤوليات الأسرية عامة والأمومة خاصة، وكثيرًا من النساء «يقنعن» ببعض الوظائف البسيطة على الرغم من كفاءاتهن العالية، بسبب عدم تناسب ترقياتهن مع مسؤولياتهن الأسرية عامة والأمومة خاصة، وكثيرًا من النساء يطردن ويفقدن عملهن، بسبب الأمومة، وكثيرًا من النساء يُرفَض تشغيلهن بسبب الحمل أو الولادة؛ وهو ما يجعل من الأمومة أحد المعطيات الأكثر تعبيرًا عن اللاتكافؤ والميز الجندري في ظل النظام الاقتصادي الحالي، ويدفع إلى مساءلته: فكيف يعقل أن نحرم النساء من الحق في الأمومة؟ هل يعقل أن تشكل الأمومة عبئًا على النساء، وأن يمثل التنكر للهوية الفردية ثمنًا للاندماج الاجتماعي؟ هل يمكن للمرأة أن تبلور تمثلات إيجابية عن «صورة الجسد»، وتنعم بالاستقرار والتوافق النفسي «برفضها الإجباري» للأمومة والإنجاب؟

ثم إذا كنا نلحظ وجود أمهات يبذلن مجهودات جبارة ويضحين من أجل التوفيق بين المجالين الخارجي والأسري، فعلينا أن نتساءل إلى متى سوف تستمر هذه التضحيات؟ ويستمر صبر وكفاح هذا النوع من الأمهات؟ وفوق كل هذا وذاك، علينا أن نتساءل أيضًا بخصوص مدى إمكانية بناء مجتمع ديمقراطي في ظل بنيات اجتماعية واقتصادية وسياسية، تفرض على النساء الأمهات بذل مجهودات جبارة لتحقيق الأمومة؛ لأن الأمومة هي حق واختيار.


النظرية‭ ‬النسوية بين‭ ‬نقد‭ ‬الأمومة‭ ‬وإعادة‭ ‬تأسيسها

محـمد‭ ‬بكاي – ‬باحث‭ ‬جزائري

في فلك الكتابة عن الفلسفة النسوية وسياساتها النقدية، يظلّ الوضوح وإمكانية الوصول إلى إجابات حاسمة وصارمة بشأن الوضع الأنثوي صعب المنال، محيّرًا وملتبسًا؛ لارتباطه بالرهان الاجتماعي والسياسي والمطالب القانونية والإملاءات الثقافية والشرائع الدينية. وقد طوّرت الحركة النسوية الـمعاصرة بؤر اهتمامها عبر نقد بعض أطروحات سابقاتها، مثل: الـحرية المفرطة للمرأة ونبذها لفكرة الارتباط الزوجي، مبرزة نقاط ضعفها وبخاصة تلك المتصلة بالأمومة وعاطفتها، حيث جُمِع بين تحرير المرأة ومصادرة الأمومة والحطّ من قيمتها وإخراجها من دوائر هُموم النظرية النسوية. تقول جوليا كريستيفا، إحدى أبرز المنظرات النسويات المعاصرات المدافعات عن حقوق الأمومة في الخطاب الفلسفي الغربي:

«هذه الأمومة هي هوام أو فنتازم يغذّيه الراشد، رجلًا كان أو امرأة، من قارّة مفقودة: بمعنى أن الأمر يتعلّق، علاوة على ذلك، بأمّ بدائية رُفعت إلى مرتبة الـمثالية أقل مما يتعلّق بتصوّر مثالي للعلاقة التي تربطنا بها، تصوّر لا نجد له حيّزًا ويخصّ النرجسية البدئية… فإن النسوية تتفادى التجربة الفعلية التي يحجبها هذا الفنتازم. والنتيجة؟ إما إنكارٌ أو استبعادٌ للأمومة من قبل القطاعات الطلائعية في الحركة النسوية، وإما قبول -واعٍ أو غير واعٍ- بتمثلاتها التقليدية من قبل «جماهير عريضة» من النساء والرجال».

فالأمومة مثّلت في نظر بعض النسويات عقبة في سبيل تحقيق الذات التي تصبو إلى المساواة الاجتماعية. لكن علينا أن ننبّه بحذر إلى هذه الحلقة الشاغرة من حلقات البحث عن الذات النسوية وإشكالاتها، والإشادة بدور الأمومة الذي لا يعزل المرأة عن جزء من طبيعتها وحساسيتها وهشاشتها؛ أي أننا نعترض على ما تسمه بعض المقاربات النسوية بـ«القطيعة» مع مفهوم الأمومة، وهو الموضوع الذي يجب إعادة الحياة له، بشحنه بالحبّ والإثارة النفسية واللّمسة الأخلاقية، وصياغته في قوالب مخيالية تعيد الدماء إلى العلاقة الغيرية الـمتميزة للاختلاف الحميمي بين الطفل والأم. أي إعادة التفكير في تلك «التجربة الحميمية والحسّاسة» لإبراز قيم أخرى للمرأة في حضن الأمومة وكشفًا عن جملة من أسرارها وعبقريتها وطاقاتها الأهوائية الهائلة، وبهذا نرفض رفضًا قاطعًا وصم «الأمومة» بالاستغلال المهين للنساء الذي روّجت له بعض النظريات النسوية.

الأمومة والتطلعات النسوية

يطرح موضوع الأموميّ من جديد الصلة والرابط الأنطولوجي القوي بين كيان الطفل وكيان الأم؛ لأن التحليل النفسي جعل من الطفل أو الطفولة بؤرةً لاهتماماته وتحليلاته مهمّشًا الأنوثة ومستبعدًا الوجدان الأمومي والرعاية التي تبذلها والعلاقة القوية التي تصل الطفل بأمه. علينا رتق الصدع أو ترميم العلاقة المـتأزمة داخل جدران النقد النسوي، فبين تحليلات تجعل من الذات النسوية (الأم) مجرد ذات خادمة لاحتياجات الطفل، هناك تحليلات أخرى تطرح مسألة الشكوك التي تظن أن أمر الأمومة فيه شيء من اللبس والتواطؤ الأبوي الذي يعرقل التطلعات النسوية. بإزاحة هذا الحجر الذي تتعثّر فيه محاولات النقد النسوي، مركزين على موضوع الأمومة كظاهرة بيولوجية وثقافية واجتماعية غير مرئية واستثنائية، مفقودة فلسفيًّا ومغيّبة حضاريًّا، من شأنه أن يعيد توليف هذا المفهوم في ضوء التخصّصات الثلاثة: التحليل النفسي والنسوية والفلسفة. أي إعادة ترتيب وتنظيم وتأديب للأمومة، وخلق إتيقا (Ethique) خاصة بها، تراعي تقسيم الواجبات الاجتماعية والعاطفية بين الأبوة والأمومة معًا، وإعادة صياغة لتصوّر جديد للذاتية عند الأمهات، وذلك لا يخلو من دراما وصعوبات تواجه تلك التجربة الاستثنائية.

إن مناقشة حيثيات الأمومة عند الغرب والعرب معًا، بتفكيك مايكرو-بنياتها الاجتماعية والثقافية والإحاطة بالمطالبات السياسية والسجالات الثقافية، والدفع بمعضلات العناية بهذه القضية الحساسة والـمهمة، التي تتصل بجانب آخر لا يقل أهمية هو الالتفات إلى صناعة «تربية الطفل» وتلبية احتياجاته المادية والنفسية والإبداعية وكل ما يتصل بخلفياته التعبيرية. وجدير بالذكر أن «أزمة الأمومة» التي تعيشها الحضارة الغربية تكشف عن افتقاد القوة الحميمية لعملَيِ: الأمومة والأبوة وشحن العلاقة بالطفل بـموارد نفسية وروحية ومادية وفيرة.

هنا يتفجّر مأزق الاعتراف الذاتي لدى المرأة والرجل في ضوء رهانات ثقيلة الظل تلقي بـمضاعفاتها على هيكلة الذات «النسوية» خاصة، هذه الأخيرة يتأزم وضعها أكثر عندما تمتنع المرأة عن أية محاولة لإنجاب الأطفال أو التفكير في الموضوع أصلًا، وهو ما يجعل العلاقات البينية (مع الطرف الآخر الـمختلف) أكثر هشاشة والجانب الأهوائي للأمومة والأبوة معرّضًا للفشل أكثر. وبالتالي تتضاعف احتمالات الـخسارة؛ خسارة في التعبير عن الحاجة الباطنية والفقر العاطفي عند الزوجين (الأم والأب) وهُوَ ما سيؤدي إلى أمراضٍ روحية جديدة تعرفها الحضارة الغربية وهي أزمة اعتراف ذاتي، في التعرف إلى الذات وفهم كنهها ومواجهة تحدياتها.

إن حالة من الانفصال أو الفِطام بين الذات والموضوع (الطفل/ الأم)، هي نوع من العنف الشهواني لدى الأم، عبارة عن تعويض للهوة الأخرى التي تشكل الجسد الآخر عبر عملية الزرع، من خلال تقويض الريبة المطلقة للرمزي (Symbolique) الذي سيوسع من فجوة الحميمية بين الجسد الأمومي والآخر الطفولي، لعل اللغة تنقسم بانقسام الجسد ذاته منذ بدايات التكوين الجسدي والروحي؛ فأي انفصال أو انقسام بين الطفل/ وأمه رمزيًّا أو خياليًّا سيخلق نوعًا من الانفصال بين الأفراد (تفكّك الذات والـموضوع معًا) وتشتدّ النزعة الفردانية لدى الأشخاص بدءًا بمرحلتي الرضاعة والحضانة مرورًا بالـمراهقة والكهولة؛ لذلك ننتقد أن تظل الـمرأة (الأم) مجرد وعاء نرجسي لأداء متطلبات بيولوجية، أي محاربة هذا الـمعنى الوهمي الذي يضاعف من كآبة الأفراد عامة والنساء خاصة؛ لأن السكينة الأمومية تستجيب لتدفق مرهف ومنساب للهوية وهي تتصل بغيرية بدئية لا محيد عنها.

النقد النسوي والتحليل النفسي

هنا يحق لنا التساؤل بجدية وعمق: لـماذا كل هذا الاهتمام بالاتصال العاطفي واللساني والرمزي بين الأم والطفل؟ والطموحُ الأخّاذ بالحفر في جينيالوجيا الـمرأة- الأم؟ كدارسين ومتخصصين علينا التخلص من العقدة التقليدية للثقافة الأبوية التي يرزح تحتها التحليل النفسي منذ سيغموند فرويد، الذي ركّز على الطفل وتجاهَل الأم كذات فاعلة ومهمة، كبديل له علينا إعادة طرح إستراتيجية التنقيب عميقًا في أرشيفات الطفلة التي ستصبح أمًّا، ومحاولة فهمٍ رمزي للصدمة الجنسانية بعد الانفصال الجسدي عن الأم، التي تختلف كثيرًا عن صدمة الطفل الذكر، إلى جانب الرعاية الأمومية التي تتوزّع بين إيقاعات منتظمة ذهابًا وإيابًا من الرضاعة والفطام، إلى التغذية وإعانة الطفل في قضاء حاجاته. ما أدعو إليه هو التركيز على التأملات النفسية والتحليلية للعبقرية الأنثوية، ببعث نَفَسٍ جديدٍ للفِكر النسوي والنفسي معًا، وابتكار طرائق جديدة نعالج بها روابط الصلة بين التحليل النفسي والسياسة والنساء. سيؤدي هذا الإلحاح الفكري للعديد من المعارك والتأملات والندوات والحلقات الدراسية، وإسالة كثير من الحبر لفحص هذا القلق الحضاري، لتصبح كتابة نسوية متطلّعة على الـمستقبل بتفجير ثقوبٍ فوق جداريات التحليل النفسي، جاعلة منه ملاذًا لوصف تجارب الذات الإنسانية الحميمية بامتياز. امتزاج النقد النسوي بالتحليل النفسي هو سياسة لا تتوقّف عن الإنصات بطريقة فريدة ورائعة إلى ثورة كوبرنيكية قادرة على خلق قيم ومعايير إتيقية تتماشى مع إمكانيات جديدة أو ممكنات للعيش مع الآخر «الغريب والدخيل»، هي نوع من سياسة التعايش والاتصال مع «الآخرين» وفق منافذ واسعة وآفاق شاسعة.


المعاهدات‭ ‬الدولية‭ ‬وخلط‭ ‬الأدوار تحت‭ ‬مسمى‭ ‬المساواة

ناهد‭ ‬باشطح ‬كاتبة‭ ‬سعودية

تعمل المعاهدات الدولية المعنية بحقوق الإنسان على سن العديد من التشريعات التي تحفظ حقوق الإنسان وتكفل له الحياة الكريمة. لكن بعض هذه المعاهدات ما زالت تتعامل مع حقوق المرأة بمعزل عن سيكولوجية المرأة وأدوارها المجتمعية التقليدية القابلة للتغيير وفق آلية العصر الحديث. على سبيل المثال، أغفلت اتفاقية القضاء على التمييز ضد المرأة، التي اعتمدت عام 1979م، الحقوق الإنجابية والجنسية للمرأة، وتجاهلت أن تورد القوانين التي تكفل للمرأة حياة كريمة تمارس فيها أدوارها البيولوجية في أمان. ولذلك جاءت بعض الدراسات والأبحاث مؤكدة الاهتمام بدراسة الآليات الدولية والشرعية الخاصة بحمایة حقوق المرأة.

في دراسة للباحثة ناریمان فضیل النّمَّري، حول الآليات الدولية والشرعية الخاصة بحماية حقوق في ظل العولمة، أوصت الباحثة بضرورة إقامة جهاز دولي، تكون حقوق الإنسان والمرأة مضمونة فيه، ويقوم هذا الجهاز على جهود مختصين في الشريعة الإسلامية والقوانين الدولية معًا، وتستند قوانين هذا الجهاز على إطار قانوني شامل وملائم ومتكامل لحقوق الإنسان والمرأة. كما أوصت الدراسة بالحاجة إلى معايير حديثة وثابتة بالنسبة لحقوق الإنسان أو حقوق المرأة، بحيث يكون الإطار القانوني هو المعيار، وأيضًا يحكم الآليات المقامة وتنفيذها إن وجدت، والعمل الجاد على إنشائها إن لم تكن موجودة.

هاتان التوصيتان ربما هما المدخل لحديثنا عن شعارات تطلقها بعض المعاهدات الدولية لنزع حق الأمومة من المرأة وإعطائه للرجل مدعية بذلك رفعها شعار المساواة بين الجنسين، في حين يجب ألّا يكون دور المرأة في الإنجاب أساسًا في التمييز ضدها. إضافة إلى إسهام بعض وسائل الإعلام في تعزيز نمطية دور الأمومة من خلال رسم الأدوار الجاهزة للمرأة وللرجل في سلم التراتب الاجتماعية.

الأمومة والأنوثة

وهنا يمكننا طرح سؤال مهم حول مفهوم الأمومة وهل بالفعل تحرم الأمومة المرأة من أنوثتها؛ إذ لا تتحقق لها كينونتها إلا من خلال دورها كأم؟ بمعنى أنك لن تكوني أنثى إلا من خلال ممارستك للأمومة، بينما هناك فرق بين الأمومة كوظيفة والأنوثة ككينونة. إن الوعي الخاطئ بمفهوم الأمومة، الذي كرسته الثقافة السائدة، خلق شخصيات معقدة؛ لأنها لم تنجب، إذ حصر المجتمع كينونتها في قدرة جسدها الإنجابية، بينما الأمومة، وأيضًا الأبوة، لا ترتبط بالجانب البيولوجي فقط، بل هي سلسلة من الأدوار الاجتماعية التي هيأ الله كلًّا من الرجل والمرأة لأدائها لصالح الطبيعة البشرية.

في مقال مترجم للمحللة الفرنسية «جوليا كريستيفا»، نشر في كتاب «أحلام النساء»، 2005م، تحلل فيه الكاتبة الأمومة تحليلًا نفسيًّا وتربطه بالعوامل الاقتصادية والسياسية. وترى الكاتبة أن قضية الإنجاب متعلقة بالدعم المالي المتاح وبالظروف المحيطة بالمرأة كالعمل واستقرار مؤسسة الزواج؛ لذلك فالأمومة ليست هي الأنوثة بل هي اكتساب تختاره المرأة. من هنا أستطيع القول: إن الدعوة، عبر بعض المواثيق الدولية، لحرمان المرأة من الأمومة يجب ألا تأخذنا باتجاه النمطية للدور الأنثوي في الحياة، في حين تتجلى طاقة الأنوثة وقدسية الرحم في عملية الخلق والإبداع النسوي بعيدًا من عملية الإنجاب. إن الأمومة وظيفة اختصت بها المرأة وهيأ لها الله من الخصائص البيولوجية والنفسية ما يمكنها من أداء هذا الدور المقدس؛ لذلك لا يمكن أن تكون دعوة بعض المعاهدات الدولية لإعطاء دور الأمومة للرجل إلا إمعانًا في حرمان المرأة من دور مهم مرتبط بدورها الرئيس في الأسرة، كما أن تنازل المرأة عن أمومتها للرجل أو دعوتها للقيام بدور الرجل وواجباته هو مخالف للطبيعة التي خلقها الله لبناء الأرض. لا يمكن لتنازل المرأة عن أمومتها أن يكون لأجل المساواة مع الرجل في الحقوق بل هو اعتداء على أنوثتها. وهناك من يدعو المرأة للتنازل عن العمل بدعوى واجبات الأمومة، كما حصل عام 2012م حين تبنت مجلة الإيكونوميست البريطانية حملة لتشويه صورة المرأة العاملة حين نشرت استقالة لامرأتين من مناصب عليا تشغلانها، هما: السيدة آن سلاوتر، مدير تخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأميركية، والسيدة لويزا منش، عضو البرلمان البريطاني. وقد بُرِّرت الاستقالة بعدم مقدرتهما على التوفيق بين العمل وواجبات الأمومة. وقد أثارت استقالتهما جدلًا واسعًا حينها بشأن تحقير وظيفة الأمومة بدعوى المساواة بين الرجل والمرأة.

وسيبقى الجدل مستمرًّا ما دامت حقوق المرأة في العمل ليست مناسبة لوظيفتها كأم، وهو ما يمكن أن يلقي بظلاله على بناء الأسرة في المجتمعات الإنسانية؛ لذلك على المعاهدات الدولية أن تتوقف عن خلط الأدوار بين الجنسين تحت مسمى المساواة.


المرأة‭ ‬العربية‭ ‬بين‭ ‬التحديات والرهانات‭ ‬المعاصرة

نايلة‭ ‬أبي‭ ‬نادر – ‬باحثة‭ ‬لبنانية

تعصف في الأونة الأخيرة بالإنسان المعاصر رياح عاتية تهدّد وجوده الآمن، وعيشَه الكريم، وهو الأمر الذي يجعله يستنفر كل طاقاته من أجل الدفاع عن حقّه في الحياة الكريمة. فالرجل تأثر كما المرأة، والمراهقون والشباب كما الأطفال، بتبدّل الأوضاع نحو الأسوأ. إن هذا الواقع المتدهور في أكثر من بلد، انعكس بشكل مباشر على المرأة عامة، وعلى الأمهات خاصة؛ لكونهن يحملن مسؤولية مضاعفة في مجتمعات لا تعمل كما يجب على توفير مقوّمات العيش الرئيسة في الأزمات. إن مخلّفات الجائحة التي ضربت معظم الدول، لم تُتجاوَز بعد، وهو الأمر الذي انعكس سلبًا على الأوضاع النفسية، والصحية، والاقتصادية للنساء اللواتي يعملن خارج المنزل وداخله.

أن تكوني امرأة في القرن الحادي والعشرين، فهذا يعني أن عليكِ اجتياز اختباراتٍ عدّة بنجاح، وإلا فالمعاناة سوف تكون كبيرة. أن تولدي امرأة في بلدان العالم الثالث، حيث حقوق الإنسان تخضع للتعطيل، والحرية يهدّدها الجهل والخوف من الآخر، والأمن الاجتماعي يرزح تحت نير الطبقية والتمييز الجندري، وحيث تكافؤ الفرص حلمٌ ينتظره من لم يفقد الأملَ بعدُ في التغيير، كل هذا يبيّن لكِ كم أن المخاض عسير، وولادة ما ترغبين فيه وتخطّطين له ستكون فعلًا مرفوعًا إلى مقام المعجزة. أن تختاري التميّز والاستقلالية والاشتغال على تطوير مهاراتك الذاتية والعيش مع شريكك في المواطنة هموم الشأن العام المتنامية، فهذا أيضًا سوف يضخّم حجم التحدّيات، ويضعكِ أمام خياراتٍ صعبة، قد يكون أحلاها مرًّا. أن ترغبي في النجاح داخل الأسرة وخارجها، وتبني لكِ شبكة علاقات اجتماعية على أسس أخلاقية صلبة، فهذا أيضًا سوف يضعك في موداجهة شبه دائمة مع الأقربين والأبعدين، تزداد حدّتها مع دخول روح المنافسة الشرسة والغيرة العمياء على الخط.

إن التوقف عند التحديات التي تحيط بالمرأة المعاصرة، وبخاصة في المجتمعات العربية، لا يهدف إلى زيادة الإحباط، ولا إلى كسر المعنويات، بقدر ما يرمي إلى تسليط الضوء على ما تواجهه هذه المرأة في يومياتها؛ إذ نجدها تتمكّن، بشكل أو بآخر من متابعة حياتها، وتخطّي ما يعترضها من عقبات. إن الأمر يستحق فعلًا وقفة تأمل في هذه القدرة الكامنة في أعماق المرأة، التي تدفعها إلى المزيد من المغامرة في متابعة تحدي الواقع المأزوم على أكثر من صعيد. من هنا نسأل: كيف لنا أن نقبل بنعتها بالكائن الضعيف؟ ما الذي يبرّر بعد التعاطي معها كقاصر لا يُحسن إدارة شؤونه؟ هل ما تختبره المرأة في حياتها اليومية بإمكانه أن يرتقي بها، ولو متأخرًا، إلى مستوى ثقة المجتمع بقدرتها على النجاح في تحمل مسؤوليات تخص الشأن العام أكثر فأكثر؟

في تحديات المرأة اليومية

دقّت فجأة مع نهاية عام 2019م، في لبنان، كما في معظم الدول العربية والعالم، ساعة الخطر معلنة ضرورة الاستنفار والجهوزية لمواجهة هموم طارئة على العائلة، وهو الأمر الذي دفع كثيرات إلى تغييرٍ سريعٍ في نمط العيش اليومي. دخلت العائلة في أجواء حولت المنزل إلى مدرسة، ومقرٍّ للعمل الوظيفي، وإلى مستوصف، ومكان للتسلية والراحة. فانحصرت بذلك حياة الإنسان داخل الجدران الأربعة، وهو ما أنتج حالًا جديدة تضع العلاقات الأسرية على المحك، وتبرز مدى صلابة الأسس التي بُنيت عليها. إذا حاولنا أن نراجع أبرز التحديات التي واجهت المرأة- الأم على وجه الخصوص، خلال هذه المرحلة الصعبة، يمكن أن نلخصها في النقاط الآتية:

– تدريس الأولاد من بعد، وتكريس وقت لمرافقتهم، ومساعدتهم على متابعة ما يُرسَل، مع كل ما يعترض ذلك من مشكلات في الإنترنت، والتيار الكهربائي، والقدرة على التركيز ومواكبة ما يُبَثّ.

– القيام بالواجبات المنزلية اليومية.

– تأمين ما يلزم من وقت لإنجاز متطلبات الوظيفة، في حال وُجدت.

– بعد التدهور الاقتصادي اضطرت شركات عدة إلى الاستغناء عن قسم من موظفيها، وهو ما أفقد كثيرات عملهن، وأصبحن من دون مدخول، أو أصبح الزوج من دون مدخول، وهو الأمر الذي زاد الوضع تعقيدًا، وبخاصة بعد أن فرضت الجائحة وجوب حظر التجوّل، والبقاء في المنزل أسابيع بطولها.

– العناية بمن أصابه الفيروس والاهتمام به نفسيًّا وجسديًّا.

– تأمين السيولة من المصارف التي حجزت أموال المودعين، وهو ما يزيد من التوتر بسبب الإجراءات التعسفية التي لحقت بهم، ويرتّب عليهم الانتظار طويلًا قبل إنجاز معاملاتهم.

– الانتظار لساعات أمام محطّات الوقود للحصول على قدر محدّد منها.

– بسبب توقف معامل إنتاج الطاقة الكهربائية، كان على المرأة التأقلم مع مواعيد جديدة لتوفّر التيار الكهربائي، وتنظيم العمل المنزلي وفقًا لدوام التقنين المستجد.

– مغادرة عدد كبير من المساعدات المنزليات لبنان بعد أن ضربت الأزمة الاقتصادية معظم اللبنانيين.

– اضطرار بعض الأمهات إلى العمل من المنزل عبر الإنترنت، وهو ما يستوجب استخدامهن لأكثر من جهاز حاسب آلي في المنزل؛ وذلك لأن الزوج بحاجة إليه، كما الأولاد في التعليم من بعد. هذا الوضع، حتّم على كثيرين اقتناء حاسبات إضافية، وإلا كانت المعاناة داخل المنزل للتمكن من تنظيم المداورة.

الرهان على المرأة والرجل معًا

إن هذه الهموم الطارئة على الأم العاملة في لبنان وضعتها في حال مواجهةٍ يوميةٍ لتحديات كبيرة تتطلّب قدرة عالية على الصعيدين النفسي والجسدي. تجدر الإشارة هنا إلى أمرٍ لافتٍ حقًّا؛ إذ كنا نلحظ من حولنا، أن الأمهات المُحاطات بأزواج على مستوى عالٍ من المسؤولية، أو بأهلٍ مدُّوا يدَ المساعدة لهن، تمكنّ من اجتياز الأزمة، بأقل ضرر ممكن. أما للأسف، اللواتي حاربن منفردات وواجهن المستجدّات وحيدات، فقد دفعن الثمن غاليًا، وهو ما انعكس سلبًا على جو العائلة كله. إن المسؤولية الملقاة على عاتق الأم في الأوضاع العادية تُعَدّ صعبة وتتطلّب جهدًا كبيرًا، فكيف الحال في أيام الأزمات؟ يحضرنا هنا قول منديس فرانس حول دور الأم: «ما من أم عاطلة عن العمل. الأمومة، في ذاتها، أشرف الأعمال»، وهو يشير في ذلك إلى ارتقاء دور الأم في العائلة، واعتباره عملًا شريفًا يتطلّب الجهد الكبير الذي لا يعرف ساعات دوامٍ محدّد، كما في الوظائف والأعمال الأخرى. كما يُنقل عن نابليون قوله: «يكون لفرنسا أمهات طيبات، فيكون لها أبناءٌ بررة»، في إشارة إلى ارتباط مستقبل الأمة بالأمهات اللواتي يسهرن على إنجاز مهمّة تربية الأبناء كما يجب، وهي مهمّة تستوجب إضافة إلى الكفاءة، الجهد المتواصل، ومتابعة أدق التفاصيل اليومية.

الإنسان المعاصر، بغض النظر إن كان رجلًا أم امرأة، يجد نفسه اليوم وسط دوّامة مقلقة، تتنازعه تيارات جارفة، مقاومتها تتطلّب التسلّح بقدرٍ كبير من الصحة العقلية والنفسية والعاطفية والروحية والعلائقية. فتح جبهات للمواجهة والتحدّي بينهما سوف تكون نتائجه مرهقة إلى حدّ الأذية المعطّلة لقدراتهما، سواء في ذلك المرأة أو الرجل، الشاب أو الصبية. ما هو مطلوبٌ اليوم، المزيد والمزيد من التحصين، والاشتغال على الذات، والتشبيك الاجتماعي، من أجل تقليص حجم الخسائر على الإنسان العربي المعاصر خاصة. إن الرهان الأبرز يكمن في كيفية استغلال الطاقات الدفينة، لدى المرأة والرجل، من دون ان تفقد الأولى أنوثتها، ولا الثاني رجولته. فالوضع القائم يفرض علينا النظر إلى الآخر كسند، كرفيق درب وسط عاصفة هوجاء. الكيان القلق لا يتوقّف على الجندرية، والأزمة الخانقة لا تميّز بين رجل وامرأة، كما أن المخاطر المحدقة بنا اليوم لا تأخذ في الحسبان عاداتنا المجتمعية وتوزيع الأدوار التقليدية فيها.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *