المقالات الأخيرة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

يصف موريس بلانشو الأدب كمنفى في الصحراء، حيث يصبح الكاتب ضعيفًا تسكنه المخاوف مثل تلك المخاوف التي سكنت بني إسرائيل عندما قادهم النبي موسى، امتثالًا لطلب «يهوه»، في رحلتهم عبر صحراء سيناء إلى أرض كنعان؛ فالصحراء فضاء هندسي مناسب لاحتواء مفاهيم من قبيل العزلة...

الانتعاش الاقتصادي عامل تحرر وانفتاح على التعايش مع الآخر

بواسطة | يناير 1, 2024 | الملف

خلدون النبوانيكاتب سوري

في مؤلفه الأشهر «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية» (1905م)، يفترض عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر أنه في مقابل الكاثوليكية المحافظة، فإن الإصلاح البروتستانتي التجديدي وما تضمنه من منظومة أخلاقية جديدة في المسيحية هو ما دفع بتطور الرأسمالية قدُمًا إلى الأمام. بمقاربة لا تخلو من ذاتية وشيء من التحيز، رأى فيبر أن البروتستانتيين يعملون أكثر من نظرائهم الكاثوليكيين وهم يربحون بالتالي أكثر منهم، وأن ما تميزوا به من السعي وراء الربح «دائم القدرة على التجدد» و«البحث عن المردودية» والقدرة على مراكمة رأس المال هو ما صاغ روح الرأسمالية الغربية الحديثة.

ماكس فيبر

على خلاف ماركس الذي منح الأولوية للبنية التحتية (الاقتصاد خاصة) في تغيير البنية الفوقية (بما فيها الدِّين)، يجعل فيبر من الدِّين محركًا للاقتصاد. هكذا يُجري فيبر مفاضلتين مزدوجتين في آنٍ؛ فهو يعطي أولًا الأسبقية للديني على الاقتصادي، ويمنح ثانيًا الأولوية للبروتستانتية على الكاثوليكية؛ مذهبَي الديانة المسيحية البارزين. لكن إذ تنحصر نظرية فيبر التفاضلية تلك في إطار المسيحية الغربية، فإن أحد ناقديه البارزين وهو فيرنر سومبارت سيوسع من دائرة المقارنة، ويمنح الفضل في تطور الرأسمالية الحديثة لليهود بدلًا من البروتستانت.

بين أولوية الدين على الاقتصاد (فيبر) أو أولوية الاقتصاد على الدين (ماركس) ينقسم علماء الاجتماع والفلسفة في مقاربة تلك العلاقة المعقدة بين الدين والاقتصاد. على الرغم من عيوب التحيز الواضح فيها، فإن نظرية فيبر-التي تمنح القيمَ الدينية أثرًا جوهريًّا على العملية الاقتصادية المزامنة لها سلبًا أو إيجابًا وذلك وفقًا لدرجة حداثتها وعقلانيتها وواقعيتها، أو تخلفها وجمودها- تظل مقاربة مهمة تحولت إلى مرجعية كلاسيكية في تناول إشكالية التأثير المتبادل بين الديني والاقتصادي. وعلى الرغم من اعترافنا بهذه الأهمية، فإن هذه الورقة ستبتعد من رؤية فيبر هذه في نقطتين اثنتين: الأولى هي أننا سنكتفي بالبحث هنا في أثر الاقتصاد في تحرير القيم الدينية لا العكس. والثانية هو أننا لن نقع في خطأ فيبر في المفاضلة المذهبية كما فعل هو بين مسيحية بروتستانتية وأخرى كاثوليكية، فمثل هذه المقاربة تظل خطيرة من حيث الدلالات الاجتماعية والسياسية ويمكن جرها إلى ميدان الحرب الزائفة المؤسفة بين المذاهب. وإننا إذ نحاول تجنب المنزلق الذي وقع فيه فيبر فإننا سنتجنب كذلك تلك الاقتصادوية الماركسية التي طغت على تناول علاقة الاقتصاد بالدين بعد ماركس وبخاصة على يد إنجلس والماركسية اللينينية وما بعدها التي تعيد كل ما يحدث في العالم إلى الاقتصاد والصراع على الربح ومراكمة رأس المال.

تقوم أطروحتي هنا على فكرة أن الدولة الوطنية الحديثة الحريصة على تنمية اقتصادها وتطويره وازدهاره تحتاج، من أجل هذا الهدف، إلى سن وتشريع أنظمة وقوانين سلِسة، مرنة، حديثة تضمن حركة رؤوس الأموال واستقطاب الاستثمارات وحركة البضاعة وحرية التجارة وعمل البنوك ونظام الاقتراض المصرفي والتمويل وسهولة وسرعة الحوالات المالية ونظم الأتمتة المصرفية والرهانات والبورصة والبيروقراطية (بمعناها الإيجابي: أي المأسسة الإدارية الاختصاصية)،… إلخ. لا شك أن وجود مثل هذه الترسانة القانونية التشريعية ووضعها موضع تطبيق أمر حاسم وجوهري لا غنى عنه لحياة وتطور أي اقتصاد.

لكن وجود قوانين تسهل حركة رؤوس الأموال والاستثمارات لا تكفي وحدها لازدهار الاقتصاد الوطني لأي بلد مهما كانت ثرواته الطبيعية أو البشرية أو موقعه الجغرافي أو الإستراتيجي إذا كانت تسوده اضطرابات أمنية داخلية أو صراعات دينية مذهبية أو طائفية أو عرقية أو تهيمن عليه منظومات قيم محافظة دينية ذات توجه زهدي عازف عن الدنيا، بل مستنكر لكل أشكال الحياة بما فيها الاقتصاد.

الحداثة والتحديث

وإذ تتحمل الدولة بشكلٍ أساسي مسؤولية توفير الأمن والسلم الداخليين ويتوجب عليها (إذا كانت ذات إرادة وطنية) خلق الأجواء المناسبة للتحديث الفكري والإصلاح الديني والانفتاح الاجتماعي فإن أكثر ما يمكن أن يساهم بمثل هذه المهمة الأخيرة هو النهوض الاقتصادي. وبمعنى أوضح -وهذه فكرتي الأساسية- ليس الإصلاح الديني شرطًا سابقًا على نمو الاقتصاد بالضرورة (كما رأى فيبر)، وإنما هو في الأغلب أحد النتائج المباشرة لنهوضه؛ فهو يقطره خلفه إذا ما توافرت الشروط الضرورية لنهوض الاقتصاد في ظل دولة قوية مستنيرة قادرة على ضمان الأمن ومحاربة قوى التخلف لفتح البلد والمجتمع على التحديث والحداثة.

لكن دعوني أميِّز هنا بيت التحديث والحداثة. فلا يكفي التحديث الذي قد يقتصر على إيجاد البنى التحتية والترسانات القانونية والمؤسسات الحديثة لولادة الحداثة التي تظل أكثر من التحديث المادي، وإنما هي روح هذا التحديث (لو استعرنا مصطلح فيبر) وجانبه الفكري/ الفلسفي القائم على خلق تصورات جديدة لعلاقة الإنسان بالآخرين وبالدولة، وبالوجود ككل. في العديد من البلدان الغنية قد نجد تحديثًا من دون حداثة، فنشهد فيها تطورًا في العمران والأبنية والجسور والقصور والمطارات والمؤسسات، لكن يظل البلد محكومًا بعقلية محافظة ما قبل حداثية. مثل هذا التحديث لا يتجاوز مستوى الشكل والمظهر، ينطبق عليه قول الشاعر السوري نزار قباني: «لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية». التحديث الحقيقي هو من يستطيع أن يغير في الذهنيات والعلاقات الاجتماعية ويفتح الأبواب أمام الوعي المحلي لتجاوز عوائقه بنفسه وتقديم قراءات جديدة للواقع وللنصوص الدينية ويضطلع بفهم جديد للدين بحيث يقطع مع القراءات الرجعية التي جمدت الشرع وعوَّقت سيرورة الحداثة والتحديث معًا.

قد تنجح دولة ما إذن في عمليات التحديث إذا توافرت لديها الموارد والثروات والإرادة الوطنية لقادتها، لكن الحداثة تحتاج إلى تضافر عوامل أخرى مثل حضور المفكرين والفلاسفة والمصلحين الدينيين. يتيح الاقتصاد الناهض والإدارة السياسية الوطنية المستنيرة إمكانية مستقبلية لسيرورة الحداثة إضافة إلى التحديث فمن مصلحة الاقتصاد والساسة (إذا تمتعوا ببعد نظر) فتح المجتمع وتحرير الدين من تصورات سابقة حجبت وجهه الحضاري الحقيقي.

أثر الاقتصاد في الدين

لا شك عندي أن الاقتصاد المنهار يشكل بيئة اجتماعية راكدة فقيرة تنتعش فيها قراءات متشددة تقيِّد الاقتصاد، أو في أقل الأحوال سوءًا، قراءات زهدية معرضة عن الحياة وفعالياتها. وقد بينت العديد من الدراسات والأبحاث أن الفقر والبطالة والتخلف في أوساط الشباب المُهملين التي انسدت أمامهم الآفاق هي من أبرز العوامل لتسليمهم دون مقاومة لقوى التطرف والتعبئة الأصولية؛ إذ تستغل هذه القوى الظلامية حاجتهم المادية وفقرهم بتجنيدهم في صفوف الإسلام السياسي برواتب ومغريات مادية، أو تعوض فراغهم وعطالتهم وخواء حياتهم بأن تمنح لوجودهم هدفًا ومعنى كأصحاب عقيدة ومجاهدين في سبيل تحرير السماء من انحرافات الأرض.

هكذا يتكرس الجمود العقائدي في زمن الركود الاقتصادي الطويل والمزمن الذي تنتعش فيه القراءات الظلامية بما تحمله من ثقافة الموت التي تصور الحياة بوصفها امتحانًا يوميًّا مرعبًا أو نفقًا مخيفًا تكفي زلة قدم واحدة فيه حتى يسقط المؤمن في قعر جهنم وتصور النشاط الاقتصادي وكأنه تناقض أنطولوجي أزلي مع الدين فتحث على الإعراض عن الدنيا الفانية الزائفة وتكريس حياة المؤمن للتنسك والعبادة انتظارًا ليوم الدينونة الأبدي والحياة الأخرى فيما وراء هذا العالم الزائف. هكذا تولد الظلاميات من رحم الفقر والبطالة والإهمال الاجتماعي وغياب المرجعيات التنويرية، ويصبح الدين عسرًا لا يُسرًا، وعقيدة موت لا عقيدة حياة. لا شك أن مثل هذه القراءات والتعاليم لا تضر فقط بالاقتصاد وإنما بحياة الفرد والمجتمع والدولة. لا شك إذن في أن هيمنة مثل تلك المرجعيات الدينية الرجعية المتخلفة تخلق في الدولة والمجتمع كثيرًا من الأمراض الاجتماعية التي لا تخنق أي اقتصاد وطني وتشلّ حركته فحسب وإنما تسيء إلى الدين والدنيا معًا.

في مقابل عقائد الموت تلك، يفتحُ الاقتصاد القوي الناهض الباب على مصراعيه أمام قراءات مستنيرة وإصلاح ديني وتحرر فكري وانفتاح اجتماعي تنمو فيه قيم التسامح والتعايش ليس فقط بين الناس في المجتمع وإنما أيضًا في العلاقة بين الدين والاقتصاد والقوانين التشريعية، حيث يقلُّ التعصب وتتفتح القيم الحديثة، ويعيش المؤمن بطمأنينة رُوحية واكتفاء مادي في عصره وفي دنياه بدل الإعراض عنها فيحيا فيها دون قلق وتوتر وخوف عصابي من الحياة والآخرة، ومن الدنيا والدين معًا. في مثل هذه الظروف الناهضة والحضارية نكتشف إذن الكامن الديني الإيجابي بوصفه دينَ يسرٍ لا عسرٍ، دينَ عملٍ وفاعلية لا دين تواكل وإعراض عن الحياة، ويتكشف الدين عن قدرته الكبيرة في التأقلم مع الاقتصاد، بل دفعه قدمًا إلى الأمام لا الاكتفاء بالسير خلفه كظله، وذلك بالحض على العمل والإنتاج والحياة.

هكذا يساهم الانتعاش الاقتصادي الوطني السليم والمعافى في محاربة الفكر الأصولي والرجعية الدينية، ويوصد الباب أمام الإرهاب فهو يُمهّد الطريق للإصلاح الديني والحداثة الفكرية والنهوض الاجتماعي ويبث قيم التسامح والتعايش وقبول الاختلاف. هكذا وفي أثناء حفره مساره العريض الحر ينقي نهر الاقتصاد قوي التدفق المجتمعَ من الشوائب الحضارية التي علقت فيه. تُذكّرني حاجة الاقتصاد إلى تذليل القوانين والعقبات الاجتماعية وبنى المعتقدات التي تعوق حريته بما عُرف في الاقتصاد السياسي ﺑ«مبدأ عدم التدخل» الذي ساد النظريات الاقتصادية الفرنسية في القرن الثامن عشر والذي كان شعاره «دعه يعمل، دعه يمر»؛ إذ كان يدعو الدولة إلى عدم التدخل في الأمور الاقتصادية.

لكن حين يواجه الاقتصاد واقعًا دينيًّا محافظًا رجعيًّا متخلفًا نكون عندها أمام إمكانيتين اثنتين: فإما أن تنتصر قوى المحافظة الدينية على حركة التطور والتحرر التي يحبل بها الاقتصاد فتعوق حركته وتعطل تطور المجتمع، وإما أن تنجح رافعة الاقتصاد في حمل التحديث للقراءات الدينية فتغير بالتالي من نظرة الناس والمجتمع وتصوراتهم عن العالم والحياة. في الحالة الثانية لا يتراجع الدين أو ينحرف أتباعه، كما ينعق أصحاب المرجعيات الظلامية، وإنما يشهد حياة جديدة ويعطي أفضل ما فيه كاشفًا عن قدراته الحقيقية في الانفتاح على الآخر وثقافته واختلافه وتقبلًا لممارساته وطقوسه وتسامحًا معه والتعايش معه بما يضمن سلامة الاقتصاد وازدهاره. في «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية» يذكر فيبر ملاحظة مهمة جدًّا في هذا السياق تؤكد أن العديد من العائلات والمدن والمناطق التي كانت غنية أصلًا قبل مجيء الإصلاح البروتستانتي راحت تتوجه بعد الإصلاح إلى الكنيسة الجديدة. بمعنى أن الثراء هنا لم يشكل مانعًا أمام ممارسة الدين والمحافظة على الجانب الرُّوحي أو العَقَديّ فيه، لكن الثراء ساعد تلك العائلات الثرية على اتباع طريق الإصلاح الديني الذي حررها من قيود الكاثوليكية التي تحجرت مع الزمن وصارت بحاجة إلى إصلاح.

ولعل معظم دول الخليج العربي الحديثة خير مثال على فكرتي عن مساهمة الاقتصاد الوطني الناهض في تقديم وجه حديث للإسلام كدين تسامح وتعايش ودين دنيا وإقبال على الحياة وتوازن نفسي وطمأنينة روحية. فنهوض الاقتصاد الوطني وما نتج عنه من رخاء اقتصادي للمواطن الخليجي الذي توافرت له ضمانات العيش المادي الكريم ووسائل الراحة وإمكانيات الاستثمار والعمل الذي تجيزه قوانين سلسلة تسهل من حركة المال والأعمال والتجارة والقوانين التشريعية التي تتجاوز العقبات الشرعية التي يمكن أن تعرقل خطوات الاقتصاد السريعة (مثل إيجاد البنوك الإسلامية لتجاوز مشكلات الفائدة التي تتعامل بها البنوك والمصارف الحديثة والتي قد تفهم إسلاميًّا بوصفها ربًا)، كل ذلك جعل من الدين الممارس هناك، دين يسر لا عسر، دين طمأنينة روحية لا دين قلق وخوف وتوجس وإحساس بالرقابة والتوتر.

سمح الاقتصاد إذن للمؤمن الخليجي بالاستمتاع بالدنيا والعيش فيها دون ذلك الشعور بالتناقض الأنطولوجي بين الدنيا والدين. وقد كان لتحرر الاقتصاد الخليجي أن رطّب من الجفاف الصحراوي وجعله أكثر تحررًا وخلصه من وهم الهوية القبلية للدين فانفتح المسلم أكثر على الآخر (الذي جاء الخليج مستثمرًا أو تاجرًا أو ناقلًا أو عاملًا إلخ). وقد ساهمت هذه الظروف الحضارية الإيجابية المحمولة على جناح الاقتصاد في الكشف مجددًا عن وجه التسامح والتعايش المشترك وقبول الاختلاف في الإسلام، وهو وجه حجبته طويلًا القراءات المتشددة المغلقة الرافضة للآخر، وهي -مرة أخرى- قراءات تولد في ظروف الفقر والقهر والانعزال الحضاري.

ولعل المملكة العربية السعودية، التي راحت تأخذ مسارًا منفتحًا، هي المثال الأبرز حاليًّا على معقولية هذا الطرح. بإرادة سياسية وطنية شابة وطموحة راغبة في التغيير وبوعيها بضرورة فك اعتماد اقتصاد ذلك البلد النفطي على البترول الذي لن يدوم إلى الأبد، وجدت السعودية ضرورة تحديث قوانين البلد لتسمح للاستثمارات الأجنبية بإمكانية الاستثمار وتوطين شركاتها في بلد كانت قوانينه الدينية تنفِّر رؤوس الأموال الخارجية. هكذا راح الإسلام في المملكة العربية السعودية بدوره يتحرر من القراءات المتشددة، بل يصفي حساباته معها لفتح الأبواب أكثر على الإصلاح الديني والفكر النقدي، والفلسفة والفنون أيضًا. فعندما تبدأ البلد في عملية البناء والنهوض تنهض معها أو خلفها، بقوة التغيير، روح الشعب وطرق التفكير والذهنيات وتتكسر قشور التشدد الصلبة ويتكشف الدين عن يسر حقيقي ويتحول إلى ممارسة حقيقية تعطي الدين أفقًا حضاريًّا جديدًا وعمرًا جديدًا يخرجه من مأزقه الحضاري المزمن الطويل.

أظن أن مفتاح التحرر الإسلامي كذلك في بلدان إسلامية غير عربية مثل إندونيسيا وماليزيا كان الاقتصاد أيضًا. فالطموحات الاقتصادية لبلد مثل ماليزيا أراد التشبه باقتصاد نمور آسيا الأربعة في العقد الأخير من القرن الماضي قد دفعته نحو تحرير الإسلام الشعبي البسيط من عقد الخوف من الحرية ورهاب الآخر.

هكذا يسهم الاقتصاد في مساعدة الدين على التجدد والانفتاح والتأقلم مع روح العصر، بل وصياغتها ضامنًا بذلك للإنسان حريته وتحقيق ذاته دون أن يتخلى بذلك عن دوره الجوهري كدين يضمن الطمأنينة الروحية والسلام الداخلي وتحقيق مكارم الأخلاق والهداية والتعايش والتسامح بين البشر.


الدين‭ ‬في‭ ‬الصين ومجتمع‭ ‬السوق‭ ‬والدولة[1]

جاك بارباليت[2] عالم اجتماع أسترالي، ترجمة: حمدي عبدالحميد الشريف – كاتب ومترجم مصري

متى نظرنا إلى المناقشات السائدة حول العلاقة بين الدين والاقتصاد سنجد أن لها بعض التمثلات الرمزية في تفسيرات ماكس فيبر الكلاسيكية المتعلقة بالتقارب الانتقائي بين الكالفينية (Calvinism) وروح الرأسمالية الحديثة. ومع هذا، فإن عرض فيبر للدور الداعم للمعتقد الديني في صعود الرأسمالية وازدهارها قد انعكس في معالجته لتاريخ الصين حيث زعم أن الكونفوشيوسية والطاوية كان لهما تأثير تقييدي مقنع في الترشيد الاقتصادي. ولهذا التحول بعد إضافي، حيث إن النتيجة غير المقصودة لتطور اقتصاد السوق المتوسع والتصنيع المصاحب له في الصين منذ إصلاحات دنغ شياوبنغ في عام 1978م تمثلت في توفير مساحة للتعبير الديني لم يسبق لها مثيل منذ ظهور النظام الشيوعي في الصين عام 1949م، وربما حتى قبل هذا الوقت نظرًا للسياسات السلبية السائدة تجاه الدين من جانب الدولة في أثناء مدة الجمهورية منذ عام 1912م.

دنغ شياوبنغ

سوف يظهر في هذا المقال أن إحياء البوذية والطاوية، وهو إحياء يبدو على المستوى الظاهري أقل ارتباطًا بتعزيز اقتصاد السوق في جمهورية الصين الشعبية من المسيحية، هو آلية مهمة في توفير الاستثمار المطلوب للتنمية الاقتصادية في الصين. إن نمو البوذية والطاوية يجذب ويغذي المساهمين الصينيين المغتربين في اقتصاد البر الرئيس الصيني. ويثير هذا التطور الشكوك حول تفسير ماكس فيبر للتأثير السلبي للتوجهات الكونفوشيوسية والطاوية في النشاط الرأسمالي. وذلك لأن السكان الصينيين في الخارج الذين حققوا نجاحًا اقتصاديًّا يعتنقون بصفة عامة العقيدة الكونفوشيوسية والطاوية التقليدية التي رأى فيبر أنها مسؤولة عن تثبيط تطور التوجهات والممارسات الرأسمالية.

الحرية الاقتصادية أو سياسة عدم التدخل

في الاقتصاد والطاوية: حالة (وو وي[3]) Wu Wei

أثبت جوزيف نيدهام، المؤلف المتميز لكتاب متعدد الأجزاء «العلم والحضارة في الصين» (1954-2004م)، أن كل الاختراعات المهمة في تاريخ البشرية تقريبًا نشأت في الصين: ولا تشمل هذه الاختراعات البارود والطباعة فقط، ولكن أيضًا المشروبات الكحولية، والمحامل الكروية، والبوصلة المغناطيسية، والورق، وورق التواليت، وفرشاة الأسنان، وما إلى ذلك.

جوزيف نيدهام

وفي هذا الصدد استعار الاقتصادي الفرنسي فرانسوا كيسناي، عقيدة عدم التدخل الصينية، عمدًا، في تطوير نظريته الفيزيوقراطية. والمغزى من هذه النصوص التي تركها لنا، هو أن الدولة التي تمارس (وو وي) تمارس سلطة أقل، ومع هذا يُنجَز كل شيء وفقًا لاحتياجات الدولة. وليس من الضروري بطبيعة الحال أن نعود إلى أسرة هان للعثور على أدلة تشير إلى ميول الصين قبل عام 1978م نحو مبدأ عدم التدخل أو رأسمالية السوق. فقبل أن تتبنى الصين اقتصاد السوق في الثمانينيات، كان المهاجرون الصينيون الجنوبيون إلى شرق وجنوب شرق آسيا منذ منتصف القرن التاسع عشر وطوال القرن العشرين منخرطين بنجاح في الأنشطة الرأسمالية. وسنبين في القسم الثاني من المقال أن رأسمالية الصينيين المغتربين كانت، وبشكل يثير التناقض، عاملًا فعالًا في التطور الأحدث لسوق رأس المال في جمهورية الصين الشعبية، بمساعدة الدولة الصينية. كذلك فإن الطاوية لا تزال تقوم بدور في نجاح الرأسمالية الصينية، كما فعلت في صياغة مبدأ عدم التدخل في عهد أسرة هان. ومنذ عام 2000م، ظهر في مجلات العلوم الاجتماعية والحزب الصينية عدد من المقالات التي تُطَبَّق فيها المفاهيم الطاوية، وبخاصة (وو وي) والمفاهيم الأخرى ذات الصلة، لفهم تطور وإدارة اقتصاد السوق الصيني.

إدارة الدولة للدين واقتصاد السوق في الصين منذ عام 1978م

من الملحوظ أن القبول المشروط الجديد للدين في جمهورية الصين الشعبية هو جانب من جوانب التحرير الأوسع الذي رافق اندماج الصين في الاقتصاد الرأسمالي الدولي ودخولها إلى المسرح السياسي العالمي. وبينما يستمر قمع الدولة للحركات الدينية مثل فالون غونغ وحركة دونجفانج شانديان الأصغر (والمعروفة أيضًا باسم «البرق الشرقي») في جمهورية الصين الشعبية، فإن الضمانات الدستورية لحرية الاعتقاد والممارسات الدينية أمور معترف بها لدى المنظمات البوذية والطاوية والكاثوليكية والبروتستانتية والإسلامية التابعة للهيئات الجامعة التي تسيطر عليها الدولة. إن العلاقة بين التحرر الديني في الصين، وبخاصة إعادة بناء المعابد البوذية والطاوية، وبين التنمية -والازدهار المندفع في واقع الأمر- لاقتصاد السوق في جمهورية الصين الشعبية يمكن العثور عليها في بُعد آخر ومتصل لإعادة توجيه الحكومة منذ منتصف الثمانينيات، أي الانقلاب في الموقف تجاه الشتات الصيني.

الرأسمالية والصين وماكس فيبر

ليس حجم نمو وقوة اقتصاد السوق في الصين هو الذي يثير الإعجاب فحسب، بل إنه اندلع ضد كل التوقعات. ويمكن القول: إن النمو الاقتصادي في الصين كان حتميًّا بالتخلي فعليًّا عن الاشتراكية، واحتضان السوق، والانضمام إلى العولمة الرأسمالية. وبوسعنا أن نرى القيود التي تعيب هذه الحجة جزئيًّا في فشل الهند في التمتع بمستويات التوسع الاقتصادي التي حققتها الصين. ومن المهم أن نلحظ، كما ذكرنا آنفًا، أنه في القرنين التاسع عشر والعشرين، شُكِّلَت سلالات تجارية ومالية داخل المجتمعات الصينية في الخارج، وهذا يدل على الطريقة التي يمكن من خلالها تحقيق فرص السوق من جانب الأشخاص الذين يعتنقون الديانات الصينية. ومع هذا، وفي حجة لا تزال تحظى باهتمام العديد من علماء الاجتماع، أكد ماكس فيبر على أن الديانات الصينية التقليدية والالتزامات العائلية المرتبطة بها تتعارض مع تطور الرأسمالية. ومع هذا، وفي مواجهة النجاح الاقتصادي الصيني الأخير في كل من السكان الصينيين في الخارج وفي جمهورية الصين الشعبية بعد عام 1978م، يجب أن تكون المهمة هي التوضيح من جديد لمسألة كيف يمكن للدين في الصين والبنية الأسرية المرتبطة به أن يكونا مرتبطين بالتنمية الرأسمالية.

إن توصيف فيبر للدين في دولة الصين في كتابه «الدين في الصين» يعنى بإظهار الأساس الثقافي لإخفاق الإمبراطورية الصينية في تطوير الرأسمالية الصناعية العقلانية أو الحديثة. ويرى فيبر أن القيم الصينية التقليدية في العقيدة الكونفوشيوسية عززت توجيه المواهب نحو خدمة الدولة، وإلى المساعي العلمية التي تميل إلى الحفاظ على التقاليد وفي الوقت نفسه إلى ثني عزيمة المفكرين عن الابتكار والإبداع. وعليه؛ فإن الكونفوشيوسية، وفقًا لفيبر، تولد عقلانية تقود الأشخاص إلى التكيّف مع العالم بدلًا من تشجيعهم على تغييره.

فرانسوا كيسناي

إن الأدلة على القيود المؤسسية السياسية والاقتصادية تتحدى مدى كفاية حجة فيبر بأن «رأسمالية المشروعات العقلانية… قد عُوِّقَتْ [في الصين]… بسبب الافتقار إلى عقلية معينة». ومع هذا، ليس الغرض هنا الادعاء أن الكونفوشيوسية والطاوية لا علاقة لهما بفهم العمليات الاقتصادية، وبخاصة نشاط ريادة الأعمال في المجالات الثقافية الصينية. ولكن من المهم أن ندرك، خلافًا لنهج فيبر، أن النتائج الاجتماعية للثقافة، والقيم على وجه الخصوص، ليست داخلية بالنسبة للثقافة أو القيم نفسها ولكنها فعّالة من حيث السياق.

إن ميل فيبر إلى التعامل مع المؤسسات من حيث ما يراه من القيم المتأصلة فيها أدى إلى سوء فهم خطير فيما يتعلق بوظيفة المؤسسات الرئيسة، بما في ذلك الأسرة. ففي كتابه «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية»، على سبيل المثال، كتب فيبر أن العقيدة أو الدعوة البروتستانتية تولد انفصالًا عاطفيًّا وتزيل شخصية العلاقات الأسرية، وبالتالي تقديم رواد الأعمال الأوربيين في أوائل العصر الحديث كأفراد متحررين من الروابط العائلية والالتزامات التقليدية. وقد ذكر فيبر هذا المنظور حول الأسرة بقوة أكبر في دراساته اللاحقة، وبخاصة في كتابه «الدين في الصين»، حيث قال: إن الأسرة والمجتمع مصدران للقيود التقليدية التي تمنع الروح الرأسمالية المتمثلة في تحقيق الربح في حد ذاته نتيجة للقيم الدينية. ومع هذا، فإن هذه الحجة خاطئة بشكل خطير، سواء للرأسمالية الغربية أو الرأسمالية الصينية. ويمكن القول بالنسبة لمسألة العلاقة في الصين بين الدين والرأسمالية: إن محرك النمو الاقتصادي هو رأسمالية العائلات وليس الأفراد المنعزلين اجتماعيًّا والمشبعين برغبة التملك في كل من أوربا، وفي الشتات الصيني منذ القرن التاسع عشر. ومن هنا كانت العائلات والأسر موردًا للتنمية الرأسمالية.

الدين في الصين وتوسيع هياكل الفرص والموارد

يؤكد العرض الذي قدمه فيبر للطاوية، في كتابه «الدين في الصين»، على ما يراه ثلاث سمات أساسية: نزعتها الصوفية، وتركيزها على الماكروبيوتيك Macrobiotics (= فن الصحة وطول العمر من خلال العيش بتناغم مع البيئة) والخلود، ونزعتها التقليدية- «فهي أكثر تقليدية من الكونفوشيوسية الأرثوذكسية»- المبنية على استخدام التقنيات السحرية. غير أن فيبر في تحليلاته، يخلط بين الطاوية التأملية والطاوية الهادفة والطاوية الهسينية، وهو ما يجعل تقييمه للعولمة لا يقوم على أسس راسخة. إن ادعاء فيبر أن تعاليم لاوتسي أو كتاب «داوديجنغ» تحتوي على «الصوفية التأملية» إنما يعكس ما وُصِفَ بأنه تفسير كونفوشيوسي عدائي الذي قبله على نطاق واسع المبشرون المسيحيون الذين كتبوا العديد من المصادر التي اعتمد عليها فيبر.

وهكذا، لقد أهمل فيبر العقيدة الطاوية نسبيًّا في اعتبارات الدين في الصين، ربما لأنها أضعف مؤسسيًّا من البوذية. ومع هذا، فإن الطبيعة المنتشرة للدين في الصين تعني أن أهميته وتأثيره لا يمكن قياسهما بعدد مؤيديه ولكن بمدى انتشار مفاهيمه. وعلى سبيل المثال، يعتمد النهج التقليدي لربط نجاح الأعمال الصينية في الخارج بالمبادئ الكونفوشيوسية على افتراض أن ديناميات الأسرة الصينية ذات أسس كونفوشيوسية. وهناك أكثر من عنصر من الحقيقة في هذا الافتراض، على الرغم من أنه يتجاهل أهمية الأفكار الطاوية فيما يتعلق بالأسرة والعلاقات الزوجية. وتعمل هذه الأفكار على تقريب وتعزيز المبادئ الكونفوشيوسية المرتبطة بمتانة الأسر الصينية، وبخاصة ما يتعلق بتشجيع الطاوية على اكتشاف المسار «الطبيعي» في العلاقات، وتأكيد أهمية الأنوثة، ومن ثَمّ تشجيع نوع معين من احترام المرأة.

خاتمة

من الممكن النظر إلى الدين في الصين واقتصاد السوق الصيني بوصفهما داعمين بعضهما الآخر بطرق عدة. أولًا، كان إحياء البوذية والطاوية في الصين ما بعد عام 1978م قناة مهمة للاستثمار في اقتصاد السوق لجمهورية الصين الشعبية منذ الشتات الصيني. وثانيًا، يشير نجاح الصينيين المغتربين منذ القرن التاسع عشر في المشروعات الرأسمالية في شرق وجنوب شرق آسيا إلى وجود علاقة إيجابية بين عقلانية السوق من ناحية والدين في الصين والأسرة من ناحية أخرى، وهو الأمر الذي يثير تساؤلات بشأن منظور فيبر الذي لا يزال مقبولًا. وثالثًا، أوضحنا نهج التعامل مع الدين كجزء من جهاز ثقافي فعال في فهم هياكل الفرص للنشاط الرأسمالي، وهو الأمر الذي يشير إلى أهمية عدم التفرد الديني للأديان في الصين عامةً والطاوية خاصًة بالنسبة لارتباطات السوق الناجحة من خلال إدراك الفرص. وقد أشرنا إلى أهمية العلاقة بين السلطة السياسية للدولة والدين. كما وصفنا العلاقة التاريخية الطويلة في الصين بين الدولة والدين بأنها علاقة تنظيم الدولة للدين، وهي علاقة تسودها حلقات قصيرة متفرقة من المحسوبية أو الحظر. وكثيرًا ما تضمنت العلاقات التنظيمية خيارًا مشتركًا للقوى الدينية لأغراض الدولة. ويتجلى هذا في مرحلة ما بعد عام 1978م الحالية من خلال برنامج إعادة ترميم المعابد وتجديدها الذي ترعاه الدولة ولكن بتمويل خاص، الذي يعدّ قناة لاستثمار رأس المال في جمهورية الصين الشعبية من جانب الصينيين المغتربين.

في المقارنة بين الدين في الصين والدين في الغرب، ظهر أن المصطلح الصيني للدين، زونغ جياو، اختُرعَ في القرن التاسع عشر لأنه لم يكن موجودًا من قبل. فلقد كان الدين بالمعنى الغربي الحديث لنظام عَقَديّ مدعوم بالعقيدة والتنظيم والقيادة غائبًا ببساطة عن المجتمع الصيني. وترتبط التقاليد الصينية للمعابد وممارسات الطقوس وممارسي الاحتفالات بالمجتمعات المحلية وإيقاعات احتياجاتهم في أماكن متعددة الوظائف حيث لا يكون لشعائر الدينية سوى القليل من الأهمية وتسود فيها الأصول الأدائية. وفي هذا السياق، فإن إدخال مفهوم «الدين»، كنظام عقائدي لجماعة يقوم على تنظيمها رجال دين محترفون، إنما يتحدى طقوس وممارسات المجتمع التقليدية من خلال فصل «الخرافة» وكذلك «الثقافة» عن «الدين» على حساب الأشكال التقليدية (Ashiwa and Wank, 2009: 9–12; Dean, 2009: 188–91). وعلى هذا فإن اختراع الدين في الصين في القرن التاسع عشر، الذي استند إليه فيبر وساهم فيه، كان بهذا المعنى أداة أخرى لتنظيم الدولة في خدمة التحديث. وأحد جوانب الدين في الصين، إذا استخدمنا المصطلح بفطنة، الذي ظل بشكل أو بآخر خارج نطاق تنظيم الدولة وسيطرتها، وقد أشرنا إليه آنفًا على أنه جوانبه «المنتشرة». وهذا يشمل الأصول المفاهيمية والتنظيمية للتراث الثقافي الموجود في اللغة والمفاهيم. ويُعَدُّ هذا الجانب من الدين في الصين مؤشرًا على فطنة منظومة الأعمال الصينية في توليد هيكل فرص موسع ضروري للمشاركة في السوق.


السوق‭ ‬حقلًا‭ ‬جديدًا‭ ‬للصراع‭ ‬الأيديولوجي

من‭ ‬خلال‭ ‬ابتكار‭ ‬‮«‬المنتج‭ ‬حلال‮»‬

شهاب اليحياوي باحث تونسي

تستدعي إستراتيجيات الانتشار الديني الحديثة، بحثًا عن عودة الديني أو اختراقه للمجال العام الذي طالما تحصن تدثرًا بمعقولية الحداثة والعلمنة في وجه الحيز الديني المخصوص[4]، مجالات المشترك اليومي في توظيف جديد يعيد ترتيب العلاقة بين الخطاب التجاري والخطاب الديني والأخلاقي أيضًا. فهذه المجالات التي أبرزها اللباس والموضة والاستهلاك اليومي أو المناسباتي للسلع الغذائية، تشكل عوالم ثقافية تشي رساميل اجتماعية وثقافية ورمزية[5] تحرك وتبرر السلوك والأفعال الفردية وتمنحها عمقها الجماعي وتجذرها المجتمعي. وقد شكل هذا المنحى إستراتيجية تسويقية للخطاب الديني الإسلاموي اتخذ من اللباس أو الأكل بدرجة أولى والمواد الصحية والصيدلانية والتجميلية والسياحة بدرجة ثانية منفذًا لتسلل الديني إلى التجاري أو استدعاء التجاري إلى عالم الديني في مزيج يستشكل بعمق هذا التوجه التجاري الجديد الذي نشهده منذ مدة والمسمى بالتجارة الحلال أو باختراق يتجاوز اللفظ (العلامة التجارية/حلال)[6] إلى توظيف مفاهيم واصطلاحات دينية ضمن مجال البيع والشراء ومنطق جديد للتسويق والترويج يحيلنا إلى معقولية رأسمالية مبتكرة تقوم على تتجير الديني في اتجاه يوسع دائرة وفئات المستهلكين ويخلق سوقًا ومعاملة تجارية مبتكرة ذات فاعلية ومردودية تجارية عالية.

فهل نحن أمام إستراتيجية رأسمالية تسويقية وبالتالي حركة تتجير للدين بغاية تتجاوز دائرته؟ أم إننا أمام ديناميكية جديدة لأدينة الحياة الاجتماعية تتخذ من السوق حقلًا جديدًا للصراع الأيديولوجي ولتنشيط صحوة جديدة بآليات مجددة؟

التجارة الحلال: بين تصور الذات والديناميكيات الاقتصادية

هل ظاهرة التجارة الحلال مصطلحًا وممارسة، هي فعل ديني أو مسيرة دينية كافرة بقناعة أوليفيه روا[7] وجيل كيبيل تقبلها قيم السوق أو تلبسها بقيم العلمنة هو أساس فشل ما يسمى بالصحوة الإسلامية في تقديم خطاب هووي ديني نقي؟ أم إننا أمام ديناميكية أدينة للنشاط التجاري في سياق حركة مصالحة المسلم مع سياقه المعيشي الذي يطرح عليه إشكالات يومية تربك فعله وتواصله مع ذاتيته وتمثلاتها ومع وضعياتها الحياتية التي تحكمها قيم ومعانٍ لا تمنح لبعد الهوية في الإنتاج والترويج والتسويق للسلع الاستهلاكية بالذات أهمية؟ فيستشعر المسلم شديد التدين أو المتدين القلق أن مجاله الاجتماعي المشترك يتغافل أو يتجاهل اختلافه وقلقه الهووي، ويجبره على بذل جهد أكبر في فهم بيئته الاجتماعية أو ترغمه بمنطق الحاجة على قبوله والتأقلم مع أشيائه وقيمه.

من هذا المنطلق قد يبدو هذا المدخل القيمي والهووي (هوية دينية للبضاعة) جسر مصالحة المتدين القلق[8] مع سياقه الاجتماعي المقلق، أو أنه نافذة المتدين للمجال العام وحضور في حضرة التمايز الذي يرضي صورته لذاته[9] ولمنظوره المخصوص للعلاقة بالعالم. فالجاليات المسلمة في البلدان الغربية خاصةً، وفي سائر البلاد الإسلامية عامةً، تعيش قلقًا وحيرة في التعامل مع المنتجات الغذائية الحيوانية بالخصوص لجهلهم بطريقة ذبحها التي تتناقض مع الشروط والنواهي الإسلامية التي تحلل وتحرم استعمالها؛ لذلك فإن حضور التاجر المسلم في الفضاء التجاري أو أفراد هذه الجالية بعلامة «حلال» أو «ذبح على الطريقة الإسلامية» هو خلاص للمسلم من حيرة وتردد يلازمانه معيشيًّا واستبدال تردده ونفوره الاستهلاكي من هذه المنتجات بتبضع مطمئن يطلق ميوله الاستهلاكية ويوسع دائرتها.

أوليفيه روا

أليست، إذًا، كلمة «حلال» التي توضع على غلاف منتج، هي حيلة تجارية تسويقية وتوسيع دائرة الاستهلاك والمستهلكين لا تشكل القيمة الدينية غاية ضمن دينامية أدينة للمجال العام بغاية رسم الفواصل الأيديولوجية وتوسيع حضور المجال الديني الخاص، كما يجوز أن تقرأ الظاهرة ذاتها في منظور تفهمي آخر. فاستدعاء الديني ضمن حقل الاقتصادي يجوز فهمه على أنه ابتكار بمفهومه الشومبتري[10] الذي يجعل من التاجر المسلم أو التاجر المتأسلم[11] أو الموظف للخطاب الديني في التجارة والمعاملات التجارية مقاولًا يلتقط بذكائه التجاري ومعقوليته الاقتصادية الرأسمالية فكرة جديدة ينجح في تسويقها لخلق ممارسة جديدة (تجارة متأدينة) أو فكرة جديدة أو منتج جديد (بضاعة إسلامية) أو تغيير موقف المستهلكين من منتج ما يمنحه مجالًا جديدًا للانتشار والرواج أو قد يخلق عنصرًا جديدًا في السوق (التاجر المسلم) وخلق مؤسسات اقتصادية وتجارية جديدة (صناعة الحلال) أو في كثير من الأحيان خلق أسواق جديدة لم تكن موجودة وذات قدرة تنافسية وتسويقية عالية.

فسوق الحلال تجاوز بُعده المحلي الموصول بالجاليات الإسلامية ليتوسع إلى البلدان الإسلامية ذاتها، وليشكل سوقًا عالمية للحلال كقطاع اقتصادي جديد موسوم بالقدرة السريعة على النمو وتحقيق أرباح ضخمة. فصناعة الحلال العالمية أضحت من القطاعات الأسرع توسعًا مجاليًّا وتنمويًّا يقدر سنويًّا بـ20٪ مما يبوّئها المراتب الأولى عالميًّا في سرعة النمو. فسوق الحلال العالمي تجاوزت دائرته الزبونية أو الاستهلاكية مليار وثمانمئة مليون مسلم في مختلف بلاد العالم، ولم يعد ينحصر في الغذاء والمنتجات الغذائية، بل توسعت إلى صناعات الأدوية، ومستحضرات التجميل، والمنتجات الصحية، ومستلزمات وأجهزة طبية والأزياء، والسياحة الحلال، ووسائل الإعلام المكتوبة والإلكترونية، والعلامات التجارية. وتشير تقديرات تقرير الاقتصاد الإسلامي العالمي 2017/2018م إلى أن الإنفاق الإسلامي العالمي على قطاعات الحلال بلغ تريليونَيْ دولار في عام 2016م. وتستأثر المواد الغذائية والمشروبات بالنصيب الأوفر حظًّا في إنفاق المسلم بمبلغ 1.24 تريليون دولار، تليها الأزياء بمبلغ يصل إلى 254 مليار دولار، و198 مليار دولار على الإعلام والترفيه والإنفاق على المستحضرات الصيدلانية ومستحضرات التجميل بقيمة 83 مليار دولار و57.4 مليار دولار.

لا يستقيم إقصاء تأويل أن تكون الظاهرة وتوسعها في المجتمعات الغربية تعبيرًا عن عودة الديني وتوسع الصحوة الدينية للجالية المسلمة بهذه المجتمعات، أو كذلك بالمجتمعات المسلمة ذاتها في حركة تبحث عن مصالحة السوق (الحقل الاقتصادي) للهوية وقلقها الذي يدفعها إلى البحث فيما يمثل، ضمن عالم السوق والتبضع، خصوصيتها[12] الثقافية. فتتمسك بنظام البيع الحلال هذا وتصنع منه ما يسيج وعيها بهويتها أو يمنحها عنوانًا هوويًّا في المجال العام الذي تتحرك وتتفاعل ضمنه مع المختلف والمغاير. فالمسألة إيمانية بالنسبة للمتبضع لكونها تصالحه مع ذاته ومع صورته ومع المنظومة القيمية للدين، لكنها ليست دائمًا كذلك بالنسبة للمقاول المنخرط ضمن هذه السوق أو الصناعة المتدينة أو المتأسلمة. فهو تاجر وصانع يحتكم فعله أساسًا إلى القيم الربحية لنشاطه وإلى المردودية السوقية لاختياراته. إننا هنا أمام سردية دينية جديدة (برجوازي متدين أو متدين برجوازي)، لا تمثل أدينة السوق غاية لديها، بل إن التداخل بين الديني والاقتصادي يحمل معه تجربة نجاح بما أنها تخلق من الدين وقيمه رافعة روحية للفعل الاقتصادي (الناجح أو الرائج)، وتجعل من السوق أو النشاط التجاري رافعة مادية لتوطين رابطة بالهوية الدينية.

على أن تخالف معايير الحلال بين المجتمعات ضمن الأسواق العالمية للحلال، لا يتسيج دائمًا بمضمونه وبعده الاقتصادي، بقدر ما يشي تأثير الاختلافات المذهبية والتنوع الإثني للمجتمعات، وما تحمله من أفهام وتموقعات فقهية متباينة ومتخالفة، تجد في الحقل الاقتصادي رافعة مادية (السوق)[13] لفرض اختلافها، واستقطاب المتدين عبر سلوكه الاستهلاكي. وبناءً عليه فإن صراع شهادات الاعتماد الحلال للمنتجات تشتغل كدينامية لعب، تتخذ من تداخل وتنافذ الاقتصادي والديني خطابًا أخلاقيًّا يجسر بين معقولية السوق (المنطق التجاري) والمعقولية الدينية (رابط الفرد بالهوية) وتؤسس لديناميكية اقتصادية للتسرب الديني؛ أي تمرير مضامين دينية عبر المنتجات المتصالحة ظاهريًّا مع الحداثة والموصولة بأشكال متنوعة ومتعددة بالخلفيات الدينية، أو الرسائل والسرديات الإسلامية حتى المذهبية منها.

تشفير الهوية الدينية:[14] نحو خطاب أخلاقي أكثر مقبولية في السياقات الجديدة للمنتج

إن اختراق الخطاب الديني للمجال العام الاقتصادي عبر منتج «الحلال» أو منتج ديني لا يستطيع أن يحافظ على عذرية الرباط بالديني في ظل سوق ينجح بعامل توسع دائرة الاستهلاك وظهور مستهلكين جدد غير إسلاميين، في إضعاف السياج الروحي الذي يحيط به الخطاب التسويقي للمنتج الحلال نفسه. فظهور مستهلكين للمنتجات الحلال لا ينتمون للدين الإسلامي ولا يدينون بقيمه يستدرج هذا الخطاب إلى مراجعات تفتح لقيم السوق التجارية اللادينية منفذًا أو طريقًا إلى مضمونه. فكيف لخطاب تسويقي لمنتج تمجده هوية دينيةٌ ما تصنع زبائنها، أو هي تستدرجهم بسردية رُوحية تُجَسّر بين الحاجات والرغبات الاستهلاكية للمتدين، وهويته أو رأسماله الثقافي؛ أن يحتمل إكراهات المجال العالمي الذي انفتح لهذا المنتج الجديد؟ فتوسُّع دائرة المستهلكين للمنتج الحلال من خارج دائرة الديني فتَحَ للعلمنة ولقيمها جيوبًا في المجال الأصلي والحيوي لهذا المنتج الديني بالأساس. أصبح لزامًا على معقولية التتجير والتسويق أن تخفف من قوة حضور الديني في التجاري والبحث عن سردية جديدة قادرة على المحافظة على الرباط الأصلي بمستنداتها ومقوماتها الدينية كمنتجات موجهة أساسًا لإشباع حاجات غير تجارية أو استهلاكية (دينية/ مخصوصة). فالمستهلك غير المسلم لمنتج مسلم اتخذ أبعادًا عالمية في تسويقه كجديد مغاير لا تعنيه القيمة الثقافية المولدة للمنتج بقدر ما تعنيه أبعاد الجدة والتفرد والابتكار والجودة والاختلاف في هذا المنتج الجديد.

أحرج توسع حضور ومقبولية المنتج الإسلامي في المجتمعات الأوربية خلفيته الأصلية الهووية على نحو أجبره على تشفير هذا الرابط بالهوية الدينية أو تخفيف بعده المرئي أو قوة رابطه الهوياتي. وأصبح الدافع الاقتصادي والتجاري هو السياق الجديد للفعل التسويقي لهذا المنتج الإسلامي موضوع تزايد الطلب عليه في مجال غير إسلامي أو مجال معولم تحكمه معقوليات مغايرة للسياقات الأصلية لنشأة فكرة المنتج «حلال». غير أن المنتج لا يمكن له أن ينقطع عن عمقه الديني وعن تواصل رباطه بالجمهور المسلم وفي الآن ذاته هو مدفوع بعامل الرغبة في استثمار إعجاب وإقبال غير المسلم على البعد الجمالي والابتكاري في هذا المنتج الجديد والمغاير لخصائصه الثقافية، على صياغة خطاب جديد أقدر على امتصاص هذا التناقض أو هذه المعادلة الصعبة بين الديني والتجاري، الهووي والاقتصادي، الأسلمة والعلمنة.

لم يجد المسوق للمنتج الحلال، الذي لم يعد الباعث المسلم بل الشركات الكبرى غير المسلمة، غير ما أسماه باتريك هايني بتشفير الهوية، أي إعادة التمفصل بين العلامة التجارية والمضمون الديني للمنتج الإسلامي في اتجاه يحافظ على البعد الهووي الديني (يصبح لا مرئيًّا أو أقل مرئية) من جهة ويخلق خطابًا ذا مقبولية أوسع عند غير المسلم المستهلك للمنتج «الحلال» بمعقولية مختلفة جرت هذه السلعة الدينية أن تتخفف من حمولتها الدينية وجسورها الأيديولوجية؛ لذلك وقع الاستعاضة عن الخطاب الديني بخطاب أخلاقي غير إثني أي غير مرتبط بالخصوصيات الدينية، حسب باتريك هايني، يكف عن صلابة القيود الدينية ويستبدل بها المضامين الأخلاقية (الحشمة مثلًا) ويمزج بين القيم الدينية والموضة العالمية (حدود جديدة رخوة بين المسلم وغير المسلم) عبر شعارات وعلامات تجارية تحيل بشكل غير صريح إلى معانٍ دينية أو طقوس تعبدية أو أسماء تاريخية أو رموز. فالحمولة الدينية للمنتجات الثقافية المتعولمة تغادر الخطاب المعلن لتعود بأشكال ترميزية ومدلولات رمزية تعيد صناعة الرابط الهووي للمنتج بالمستهلك الرئيس أي المسلم.

الخاتمة

ينكشف في هذا التراوح بين المعقولية التجارية ومنطق التسويق وبين البعد الهوياتي المولد لفكرة المنتج الحلال، ازدواجية خطاب يريد أن يطوع عالم التجارة (كمجال عام معلمن ومعولم) إلى قيم الدين (كمجال مخصوص موصول إلى معقولية مغايرة) أو ينفذ من خلاله إلى ممارسة الدعوة الدينية بأشكال مخاتلة ومجددة عبر منتج جديد يصالح بين المسلم في مجال غير مسلم مع عمقه الديني (الهوية) عبر أسلمة الموضة أو السياحة أو المنتج الغذائي أو المعاملات المالية أو البيع والشراء. غير أنه يفاجأ بتوسع مجتمعه الاستهلاكي نحو غير المسلمين وهو ما أرغم مقاولي المنتج الحلال على أن يسقطوا فيما أسماه هايني بإسلام السوق؛ أي تبنّي خطابٍ إدماجيّ بين الأسلمة والعلمنة وبين التجاري والديني عبر إستراتيجية التخفي وراء الجمالي والرمزي اللذين يمنحان الخطاب التسويقي الجديد ديناميكية أقدر على استيعاب تناقض مرجعيات المستهلكين للمنتج الحلال. أم إننا أمام تحولات حقيقية تكشف أو تعاظم علاقة رخوة بالدين تجسر نحول توسع حضور إسلام السوق في الممارسة الثقافية للدين وبخاصة المسلمون ضمن سياقات مجتمعية غير إسلامية؟ أم إننا أمام ما يسميه برغر Berger بإعادة السحر إلى العالم[15] أي تحول المتعهد الاقتصادي إلى متعهد ديني يتخذ من الأشكال الثقافية المعولمة جسرًا نحو خطاب إسلامي متحجب بمعنى أنه يحتجب خلف منتجات ثقافية تنكر حمولتها الدينية.


المراجع:

– أبو العلا. محمد عبده، العلمانية وجدل العام والخاص، مؤمنون بلا حدود، قسم الفلسفة والعلوم الإنسانية، إبريل 2016م. www.mominoun.com.

– بتلر. جوديث، الذات تصف نفسها، ترجمة: فلاح رحيم دار التنوير، ط 1، بيروت، 2014م.

– بدوي. أحمد موسى، ما بين الفعل والبناء الاجتماعي، بحث في نظرية الممارسة لدى بيير بورديو، مجلة إضافات، العدد الثامن، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2009م.

– روا. أوليفيه. تجربة الإسلام السياسي، ترجمة نصيرة مروة، دار الساقي، بيروت، 1996م.

– شومبيتر.جوزيف.أ، الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية، ترجمة حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2011م.

– غيرتز.كليفورد، تأويل الثقافات، ترجمة محمد بدوي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2009م.

– المعموري. ناجح، القرابات المتخيلة، دار تموز، ط 1، دمشق، 2012م.

– هايني. باتريك. «إسلام السوق»، ترجمة عومرية سلطاني، مدارات للأبحاث والنشر، الدار البيضاء، 2016م.

– Berger.Peter, Le Réenchantement du monde, paris, Bayard, 2001.


دور‭ ‬الدين‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬أزمات‭ ‬العصر

علي محمد فخرو كاتب بحريني

لا يمكن الحديث عن القيم والمبادئ التشريعية الدينية الضرورية والقادرة على تصحيح نواقص الفكر الاقتصادي العولمي الحالي وعلى مواجهة فواجع تطبيقاته في الواقع الإنساني الحديث، إلا إذا سبقه، ولو باختصار شديد، إبراز الفكر السياسي الذي يحكم بصور مشوشة الواقع الاقتصادي ويحدد له أهدافه وحدوده وعلاقته بعوالم الاجتماع البشري، التي يقبع الدين في قلبها. هذا الفكر السياسي هو في الواقع حصيلة مدارس فكرية متعددة تفاعلت وتصارعت عبر قرون عدة، خصوصًا ما بين شتى صور الفكر الليبرالي الديمقراطي من جهة، وشتى صور الماركسية الاشتراكية والشيوعية من جهة أخرى؛ ليصل لأسباب تاريخية متعددة ومعقدة، إلى صورته الحالية العولمية المهيمنة تحت شعار: النيوليبرالية العولمية، الذي يضيف إليه بعضٌ شعارَ الرأسمالية بحيث أصبح غير ممكن الحديث عن أحدهما من دون الحديث عن الآخر الملازم له فكرًا وممارسة ليصبح تحت اسم النيوليبرالية الرأسمالية العولمية.

باختصار شديد تطرح النيوليبرالية، وإلى حد ما يشاركها في كثير مما تطرح الفكر المحافظ الجديد، الأفكار والشعارات الأيديولوجية التالية:

أولًا- أن فكرة الأمة، التي تطلبت سلطة حكم قوية تنظم أغلب نشاطات مجتمع الأمة، هي فكرة قديمة ما عادت تصلح لهذا العصر، عصر العولمة، الذي يتطلب حرية تبادل الأسواق من دون عوائق تفرضها السيادة الوطنية للأمة.

ثانيًا- وبالتالي فإن مسؤوليات سلطات الحكم الوطنية وعلى الأخص ما عرف منذ نهاية الحرب الثانية بالالتزام بدولة الرعاية الاجتماعية، وعلى الأخص، في حقول التربية والتعليم والصحة والبطالة والإسكان والمواصلات العامة، يجب أن يقلّص ويتراجع، ليفسح المجال أمام خصخصة تلك الحقول الاجتماعية لتقوم بها شركات خدمات خاصة ربحية. وبالتالي فهي ليست حقوق بمقدار ما هي امتيازات على الإنسان أن يشتريها كسلعة.

ثالثًا- أما الاقتصاد فإن تلك النيوليبرالية الرأسمالية قد همشت جانبه الإنتاجي، الذي عدَّتْه الرأسمالية الكلاسيكية الكينزية هدف النشاط الرأسمالي الأساسي المنتج لمزيد من الثروة والمؤدي إلى زيادة أعداد أفراد الطبقة الوسطى، قد همشته ليصبح اقتصادًا ريعيًّا وافتراضيًّا وهميًّا يدور في فلك المراهنات والمبادلات المالية، وعلى الأخص فيما بين من يمتلكون المال الوفير، والتي بدورها قادت إلى تقليص حجم الطبقة الوسطى، وإلى زيادة فاحشة في غنى الأغنياء وتركز الثروة في أيدي أقلية صغيرة منهم من جهة، وفي الوقت نفسه أدت إلى زيادة مهولة في عدد الفقراء وفقرهم المدقع من جهة ثانية.

ولقد قاد كل ذلك إلى زيادة كبيرة في نسب البطالة الظاهرة والمقنعة، وإلى تراجع مأساوي في أعداد وقدرات وحقوق النقابات العمالية، وإلى رؤية الملايين المشردين النائمين في الشوارع، وإلى التفكك الأسري.

رابعًا- وما كان لتلك النظرة السياسية الاقتصادية إلا أن تقود إلى عَدّ ما يرسم صورة الإنسان الحديث يجب أن يتمثل في، أولًا، فردية منغلقة على الذات وأنانية وممارسة لحرية شخصية وسلوكية منفلته، من دون مراعاة لأعراف أو دين أو وجود معنوي لآخرين، وثانيًا يتمثل في ممارسة مجنونة قصوى لمنافسة الآخرين وسلبهم ما لديهم كلما أمكن. فجأة وجد الإنسان نفسه محصورًا في فرديته المطلقة وفي تنافسه الأناني المجنون مع الآخر. وأصبحت البشرية مكونة من رابحين وخاسرين، والمجتمعات تدار كمؤسسات تجارية، والعلاقات بين البشر هي علاقات مصالح أنانية متنافسة، وأصبح الفرد يسمى رأسمالًا، وأن أي حدّ وتنظيم لذلك التنافس هو اعتداء على مبدأ الحرية، ويقصد به بالطبع حرية السوق المنفلتة والحرية الذاتية المنغمسة في الاستهلاك النهم.

وما كان لتلك الصورة البائسة لعالمي السياسة والاقتصاد، التي وضع أسسها في أوربا الفيلسوف والناشط السياسي النمساوي فريدريك حايك، وانتقلت بعد ذلك للولايات المتحدة الأميركية ليتسلم لواءها الفيلسوف والناشط الأميركي ملتون فريدمان، ولتتبناها قوى هائلة من أصحاب الثروات وبعض الجامعات ومراكز البحوث الممولة من المليارديرات والإعلام المجيش ببراعة لينشر تعابير وشعارات وخفايا النيوليبرالية الرأسمالية، وليطرحها ويزينها كدين جديد… ما كان لتلك الصور البائسة إلا أن تنتهي مؤخرًا بهجمة شرسة على القيم الدينية والأخلاقية والعلاقات الأسرية وأساسيات الزواج، حتى على التركيبة الإنسانية الجنسانية.

من هنا الأهمية القصوى لإبراز الدور الكبير الذي يمكن أن يؤديه الدين، وبالنسبة لنا الدين الإسلامي بالطبع، فيما لو استعين بتوجيهاته العقيدية الربانية وتشريعاته وقيمه الأخلاقية لمواجهة الكثير من الانحرافات الفكرية والسلوكية التي حلت بعالمي السياسة والاقتصاد النيوليبرالي. وبالمناسبة فإن الكتابات الناقدة لذلك الوضع البائس، التي تتزايد بصورة ملحوظة في بلدان الغرب تنتهي دومًا بوضع اللائمة لحدوث الأزمات الحالية على غياب القيم أو التلاعب بها وعلى المبالغة في تمجيد نسبية القيم ورفض اعتبار أي منها كقيمة مطلقة.

في وقتنا الحاضر، ومع انفجار الصراعات العسكرية، وعودة التنافسات الاقتصادية غير المنضبطة وما يصاحبها من أزمات مالية وتضخم، وتفشي الأوبئة الغامضة في العالم كله، وإمكانية انقلاب التقنية إلى كابوس في المستقبل المنظور، دخلت الحضارة، وعلى الأخص الغربية، في عدم اليقين وفي الشك في كل مسلماتها السابقة.

هناك شكوك حول صحة وصدق مسلّمات حتمية التقدم، وحول صعود وهيمنة العقلانية، وحول كثير من أنواع الحريات الفردية والجمعية، وحول النظام الديمقراطي، وحول إمكانيات العلوم المطلقة في حل مشكلات البشرية، وحول مستقبل البيئة الطبيعية وكوارث تقلباتها، وحول الكثير مما في مختلف الديانات من شرائع وقيم، بل حتى حول الأيديولوجيات السياسية الليبرالية الكلاسيكية ومصادرها الفلسفية.

نحن أمام حقبة اضطراب ذهني ونفسي وروحي بالغ التعقيد؛ بسبب غياب أية مرجعية يوثق فيها ويستجار بها. لكن الجميع يتفق على أنه لن يوجد حل صلب ودائم لتلك المشكلات المعقدة إلا إذا رافقه حل لأخطر وأشمل علله: وهو المتمثل في موضوع عودة القيم والأخلاق والفضائل إلى عالمنا، وعلى الأخص إلى عالمي السياسة والاقتصاد.

وفي اعتقاد كثيرين فإن الدين الإسلامي، كما سنبيّن، هو أحد أهم المصادر التي يمكن الاعتماد عليها في مسيرة تلك العودة.

جدلية الدين الإسلامي والاقتصاد وخلفيته السياسية

بالنسبة للدين الإسلامي هناك تناقضات عميقة، غير قابلة لأية مقاربة، فيما بين ما يدعو له ويسمح به أو يرفضه وما بين ما تدعو له وتمجده الأيديولوجية النيوليبرالية الرأسمالية.

ويجمع كثيرون على أن الثورة في القيم أكثر ضرورة من أي ثورة أخرى؛ لأنها ليست شيئًا مجردًا وقائمًا بذاته، وإنما هي منصهرة في السلوك والنشاطات الإنسانية برمتها. وتكمن قيمة تلك القوى في أن المجتمع الدولي العولمي برمته سيحتاج، إضافة للقوانين والتنظيمات والعقوبات، التوجه نحو ضمير الإنسان وأعماق داخله إذا كان يريد لتلك القوانين والتنظيمات النجاح والاستقرار والديمومة في الحياة الإنسانية.

إن المدخل الإسلامي لذلك هو ما أكده القرآن الكريم مرارًا وتكرارًا من أن الإيمان يكسب صدقه وحيويته فقط إذا اقترن بالعمل الصالح. ولأن الإيمان مدخل للأخلاق والفضائل يخلص الكاتب المغربي طه عبدالرحمن إلى أنه خلافًا لما يقوله الغرب من أن ما يميز الإنسان من الحيوان هو العقل، فإن ما يميزه حسب النظرة الإسلامية تلك هو الأخلاق، وينتهي إلى أنه لا إنسان بغير أخلاق، ولا أخلاق بغير دين.

وينظر الكاتب الدكتور علي عيسى عثمان إلى الموضوع الأخلاقي من زاوية أخرى مكملة؛ إذ إن الأخلاقية الإسلامية تستطيع إيصال الإنسان، بما تقتضيه فطرته من مسؤوليات أخلاقية واجتماعية وعقلية، إلى عزله وحمايته من سيطرة الجماعة وسلطان الظروف والأوضاع التي تمثل العصر والمكان الذي يعيش فيه.

ويضيف المستشار محمد سعيد العشماوي من زاوية النظر إلى ما سبق لينتهي إلى أنه عندما يستقيم الضمير وتنقى النفس ويرقى العقل وتقوى الروح، فإن الإنسان يقيم النظم على أفضل ما تكون ويطبق القواعد أسلم تطبيق، وهو ما فشلت النيوليبرالية الرأسمالية في الوصول إليه عندما جعلت النظم الاقتصادية تنبع من حرية الأسواق ومن التنافس الانتهازي فيما بين أصحاب الثروات، وتوزع الثروة لما تمن عليه الظروف من انسياب بعض تلك الثروة المتذبذب القليل مما تتفضل به جيوب الأغنياء إلى أفواه من يكدّون ويعملون ليلًا ونهارًا ليسدوا رمقهم ويطعموا عائلاتهم. ويخلص إلى أنه عندما يتكون الإنسان الرباني الذي يسمو بنفسه وبواقعه فإنه يضع أفضل النظم ويطبقها أصدق تطبيق. وهنا يجب أن نذكر أنفسنا دومًا بما قاله المفكر علي شريعتي من أن الأرض يرثها الصالحون… الصالحون قولًا…. والصالحون فعلًا…. والصالحون فكرًا.

ولعل أهم ما يميز الصالحين هو عيشهم، فكرًا وسلوكًا ونضالًا، حسب أهم شعار قيمي يطرحه القرآن الكريم وأسمى فضيلة يكررها، عيشهم حسب متطلبات وطروحات دعوة الحق والقسط والميزان، أي دعوة العدالة. ويشرح المفكر فهمي جدعان الأهمية الكبرى لذلك عندما يذكرنا بأن القرآن الكريم نفسه قد خص هذا المفهوم بمكانة مركزية وجعله موضوع أمر إلهي وصفة ثبوتية من صفات الله نفسه ففي القرآن الكريم وفي الأحاديث النبوية يتكرر الأمر بالعدل، والحكم بالعدل، وبالحق، وبالقسط، وبالميزان، مثلما يتكرر النهي عن الظلم والجور، وتنزيه الله عن أن يتصف بهما. وهو العدل الذي ينشد تحقيق مكارم الأخلاق والخير العام والمساواة في الكرامة الإنسانية وتأكيد مصلحة الجميع.

وليس من قبيل المصادفات أن يصبح العدل، الذي أعطاه الإسلام كل تلك الأهمية المركزية، هو المبدأ الأسمى الذي تطلبه مجتمعات ومؤسسات العصر الذي نعيش، كما أكده العديد من فلاسفة العصر وكُتّابه، من مثل الفيلسوف الأميركي جون رولز الذي عَدّ العدالة الفضيلة الأولى التي تحتاجها مؤسسات العصر لتواجه بها الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تعصف بالإنسانية حاليًّا.

ولا من قبيل المصادفات أن تكون العدالة الاجتماعية في الإسلام هي من أبرز الموضوعات التي طرحها كثير من المفكرين الإسلاميين طيلة القرن السابق إلى يومنا الذي نعيش. ولقد شدّد كثيرون منهم على أن العدالة الاجتماعية في الإسلام التي يتحدثون عنها هي عدالة إنسانية شاملة وجامعة، وليست اقتصادية فقط، تختلط فيها الأهداف الربحية المادية بالقيم الأخلاقية والروحية، وهي نظام تكافلي تضامني يتغير بتغير الأزمنة ولكن يجب أن يسمو بمرورها. وهي عدالة تلح على المساواة في الحقوق والواجبات، وبينما تقر الحرية الفردية إلا أنها تعدّ المصلحة العليا للمجتمع هي الحاكمة لتلك العلاقة فيما بين الفرد والمجموع. وبينما تقر حق الملكية الفردية فإنها تضع لها محددات وشروطًا تبعدها من الشطط والاستغلال.

أهداف السلام والتكافل والرخاء

ويستطيع الإنسان أن يرى في تلك النظرة الإسلامية لهذه الفضيلة الأخلاقية وما يتفرع عنها تحقيق أهداف السلام والسعادة والتراحم والتكافل والرخاء الاجتماعي، ورفضًا لكل علاقة تؤدي إلى مشهد الأزمات المختلفة والمتعاقبة التي برع الإنسان العصري وبرعت تنظيماته في تفجيرها. ولعل أسطع مثال على ذلك قصص الأنظمة والممارسات البنكية في إقراض القروض السكنية للأفراد التي فجرت العديد من الأزمات والإفلاسات في العقود الأخيرة بسبب التلاعب بمقدار وتذبذب وشروط فوائدها الربوية الفاحشة، من دون تدخل وضبط مبكّر من جانب سلطات الحكم لمنع الوصول لتلك الكوارث.

هنا يقدر الإنسان الموقف الإسلامي الأخلاقي الحقوقي من موضوع الربا لمنع كوارثه.

وإنه من الضروري الإشارة إلى أن تلك الصورة التي أبرزت بشأن إمكانية أن يكون هناك دور للقيم الإسلامية في مسيرة الاقتصاد والسياسة والاجتماع لا دخل لها بالمناقشات حول موضوعات الموقف من مثل الثيوقراطية أو العلمانية أو الحاكمية أو الديمقراطية أو العولمية أو كثير من الأيديولوجيات؛ ذلك أن موضوع نقاشها له مكان آخر ومقاييس أخرى خارج ما تطرحه هذه المقالة.

وأخيرًا، ففي كتاب صدر مؤخرًا في إنجلترا عن «الأخلاقية» بقلم جوناثان ساكز، يعيب على العالم الغربي كونه قد أوصل حضارته الحديثة إلى استهتار مخيف بالقيم الأخلاقية وبالعلاقات الإنسانية الذي يقف وراء أزماته الكثيرة الحالية. ما يلفت النظر هو أنه يختم كتابه بفصل كامل عما تستطيع الديانة التي ينتمي إليها فعله في عملية انبعاث جديد لتلك القيم والعلاقات.

ونحن بدورنا حاولنا تأكيد أن للديانات دورًا يمكن أن تلعبه، كما حاولنا إظهاره بوضوح بالنسبة للدين الإسلامي الحنيف، خصوصًا إذا تذكرنا أنه رسالة موجهة للإنسانية جميعها التي قالت عن هذا الحق: ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ، وأنه ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ.

إعلاء الحق والقسط والميزان الرباني، قيمًا وعلاقات والتزامات ومكونات من الضمير والنفس والسلوك، يمكن أن يساهم بصورة كبيرة في مواجهة كوارث الاقتصاد وغير الاقتصاد.


الاقتصاد‭ ‬والدين‭:‬ علاقة‭ ‬جدلية‭ ‬أم‭ ‬تكامل؟

الاقتصاد‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الدين‭ ‬والإلحاد

شادي أرشيد الصرايرة – أستاذ الاقتصاد بكلية عمان الجامعية للعلوم المالية والإدارية

الاقتصاد من العلوم الحديثة التي تعتمد على العلوم الرياضية والإحصاء وتقنيات تحليل البيانات؛ لذا لا يمكن الركون إلى النتيجة التي توصل إليها العلماء والمفكرون عن ماهية مسببات النمو واستدامة الازدهار الاقتصادي، دون اختبارها ضمن منهجيات وأساليب رياضية مقننة وموثوقة. وبناءً عليه؛ فقد فحص الاقتصاديون وحللوا بيانات يعود تاريخها إلى أربعين سنة مضت في عشرات الدول، وذلك في محاولة لاستكشاف الأثر الاقتصادي للمعتقدات أو الممارسات الدينية، ووجدوا أن الدين له تأثير ملموس في الاقتصادات النامية.

يقلل من الفساد

كذلك؛ قدم الاقتصاديون الإيطاليون نتائج تفيد بأن الدين يمكن أن يعزز الناتج المحلي الإجمالي عبر زيادة الثقة داخل المجتمع، كما أظهر باحثون في الولايات المتحدة أن الدين «يقلل من الفساد، ويزيد من احترام القانون بطرق تعزز النمو الاقتصادي العام». وقد جمع روبرت بارو، الخبير الاقتصادي في جامعة هارفارد، وراشيل ماكليري، الباحثة في مركز توبمان بجامعة هارفارد أيضًا، بياناتٍ من تسعة وخمسين بلدًا، يدين أغلبية سكانها بواحدة من الديانات الرئيسة الأربع، وهي الإسلام والمسيحية والهندوسية والبوذية، وذلك في المدة من 1981م إلى 2000م، وقاسوا متغيرات مثل: «مستويات الإيمان بالله، ومعتقدات الآخرة، وإقامة الشعائر الدينية»، ووضعوا كل تلك البيانات في نماذج إحصائية، لتظهر النتائج وجود علاقة قوية بين النمو الاقتصادي وبعض التحولات في المعتقدات. وفي ضوء ذلك تقول ماكليري: إنها ترى أن الدين يغير السلوك الاقتصادي للناس. وعلى الرغم من نمو عدد الملحدين عالميًّا في القرن العشرين، فإن تلك الزيادة لم تسر بمعدلاتها الطبيعية في الأعوام القليلة الماضية، التي تشير إلى نتيجة ربما لم تكن متوقعة، أو صادمة لمن يدعي غلبة الإلحاد على المستوى العالمي بحلول عام 2038م، وهي أن أعداد الملحدين في العالم قد تتناقص. فقد وجد الاستطلاع الذي أجراه معهد وين غالوب عام 2012م أن 13% من سكان العالم ملحدون، وبحلول عام 2015م انخفض عدد الملحدين بمقدار نقطتين مئويتين. وربما تثير تلك الإحصائية تساؤلًا منطقيًّا؛ إذ كيف يتراجع الإلحاد مع هذا التقدم الاقتصادي والاجتماعي غير المسبوق الذي وصل إليه العالم الآن؟ وبخاصة مع ربط اللادين العام والشعبوي بشكل ما بالتقدم الاقتصادي، إلا أنه ربما تتكشف في الأعوام القادمة بشكل أكبر درجة التفاعل بين الإلحاد والدين وتأثيرهما في الوضع الاقتصادي.


مبادئ‭ ‬وقوانين‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الإسلامي

صلاح الحماديأستاذ الاقتصاد الإسلامي بالجامعة العربية المفتوحة بالكويت

الدين الإسلامي له علاقة مباشرة بالاقتصاد من خلال توجيهاته وقوانينه الاقتصادية الخاصة. ومن أهم مبادئ وقوانين الاقتصاد الإسلامي تحريم الربا، أو الفوائد المفرطة، حيث يُعَدّ الربا أو الفوائد المفرطة محرمًا في الإسلام. وهذا يؤثر في نظام التمويل والقروض في الاقتصاد الإسلامي الذي يشجع على الصيرفة الإسلامية وممارسات التمويل الخالية من الربا، والزكاة التي هي صدقة مفروضة على الأثرياء، لتوزيع جزء من ثرواتهم على الفقراء والمحتاجين. وتُعَدّ الزكاة جزءًا من النظام المالي الإسلامي لتحقيق العدالة الاجتماعية وتقليل الفقر. ثالث هذه المبادئ هو العدالة الاجتماعية، حيث يشدد الإسلام على أهمية تحقيق العدالة الاجتماعية، وتوزيع الثروة على نحو عادل. وهو ما يؤثر في السياسات الاقتصادية والتوزيع العادل للثروة. وخامسها هو المشاركة في المخاطر والأرباح، فنظام الصيرفة الإسلامي وأسواق المال الإسلامية تشجع على المشاركة في المخاطر والأرباح بين الجميع، ويتجنب المشاركة في الأنشطة المحرمة.

ومن ثم فإن الاقتصاد الإسلامي يهدف إجمالًا إلى تحقيق العدالة الاقتصادية والاجتماعية والامتناع عن الممارسات المحرمة والمعاملات غير العادلة والربا. هذه المبادئ والقوانين تشكل جزءًا أساسيًّا من العلاقة بين الدين الإسلامي والاقتصاد الإسلامي.


الأديان‭ ‬لم‭ ‬تضع‭ ‬نظامًا‭ ‬اقتصاديًّا‭ ‬للمؤمنين

عبيد خليفي – باحث تونسي

ليس للدين في الاقتصاد من شيء. هذه مصادرة يثبتها تاريخ الأديان، فالأديان جاءت لتحدد طبيعة العلاقات العمودية بين الذات البشرية والذات الإلهية، بين الأرض والسماء، وتنعكس على الحالة السلوكية الفردية القائمة على الأخلاق، أما الاقتصاد فهو علاقة أفقية بين البشر. في علاقة تقوم على العدل والظلم والاستغلال والربح والخسارة. أثبت تاريخ الأديان استغلالًا فاحشًا للدين في ممارسة النشاط الاقتصادي، وتحديد طبيعة علاقات الإنتاج من الريع والإقطاع والرأسمالية. في الأديان التوحيدية كان هناك تداخل وظيفي بين الاقتصاد والدين، ليس أقلها البحث عن بركة الكنيسة والبيعة والمسجد ورجال الدين، وليس أكثرها الحروب الدينية التي تخفي مصالح اقتصادية، فما يُسَمَّى الفتوحات الدينية هي رغبة لتحول الدول إلى إمبراطوريات اقتصادية تسيطر على مصادر الثروات والطرق التجارية الدولية، على الرغم من الصيغة التضامنية لمعاش الناس في الأديان فإن هذه الأديان لم تضع نظامًا اقتصاديًّا للمؤمنين، وقد حاول كهنة الدين ورجاله استنباط نظام اقتصادي في ظاهره تضامني، لكنه يحافظ على طبيعة علاقات الإنتاج الراهنة، ففي السياق الإسلامي مثلًا رفعت الصحوة الإسلامية شعارًا مركزيًّا «الإسلام هو الحل»، وكتب منظرو التيارات الإسلامية كتبًا تحت عناوين: «الاقتصاد الإسلامي»، ولكن هذه النظريات لم تصمد أمام النظم الاقتصادية سواء الاشتراكية أو الرأسمالية أو النيوليبرالية. فالصحوة قدمت نظريات التوفيق والتلفيق لرؤية سطحية ساذجة في تصور طبيعة علاقات الإنتاج، ومن ثم يقع تركيزها على مفهوم الاقتصاد التضامني الذي هو مفرزة لتلطيف وحشية النظام الاقتصادي الرأسمالي.

ماكس فيبر والنظام الرأسمالي الحديث

وقد اعتقد ماكس فيبر أن النظام الرأسمالي الحديث الذي تطور في القرنين السادس عشر والسابع عشر في أوربا يعود في روحه إلى الذهنية البروتستانتية التي أنتجت قيمًا ومعايير عقلانية جديدة، شجعت على العمل الحر والتنسك والادخار، وخلقت مناخًا فكريًّا ساعد بدوره على تطور النظام الاقتصادي الحر، وبالتالي على تطور ونمو الرأسمالية في أوربا، وهو في النهاية مرتبط بعملية إصلاح ديني لم تحدث في بقية الديانات، والحقيقة أن هذا الإصلاح كان دافعًا لخروج الاقتصاد من التوظيف الديني التقليدي إلى قيم الحرية والعقلانية والمبادرة.

والعالم العربي لم يشهد إصلاحًا دينيًّا عميقًا، فقط كانت هناك محاولات لتحريك الإسلام في بعده الوظيفي السياسي، فنشأ الإسلام الحركي السطحي على قبور المصلحين الكبار، وأفشلوا مشروعاتهم في تجديد الخطاب الديني. وهذه المجتمعات العربية سواء زمن الاحتلال أو تأسيس الدولة الوطنية كانت عاجزة على تجذير علاقات اقتصادية لا تخضع للتبعية، فتكاسلت وراحت تبحث عن نماذج اقتصادية اشتراكية ورأسمالية مشوهة.


لا‭ ‬علاقة بين‭ ‬الدين‭ ‬والاقتصاد

أيمن رفعت المحجوب – أكاديمي مصري

على الاقتصاديين الذين يشكلون النظام الاقتصادي الإسلامي أن يتذكروا أن مبادئ الإسلام تتفق مع العقل وتحرص على خير المجتمع، وأن يتصف هذا النظام بالمرونة الكافية لكي يتلاءم ويتعايش مع الظروف العالمية المحيطة والعولمة، والترابط الشديد في المعاملات التجارية والمالية مع الآخر، شريطة ألا يعارض ذلك نصًّا إسلاميًّا. وإذا راجعنا تاريخ النظام الاقتصادي الإسلامي نجد أنه قد مر بتطورات كثيرة استجابة للضرورات، وأذكر منها التطورات التي مرت بالضرائب، وبخاصة في عهد خلافة عمر بن الخطاب، فقد أعاد تنظيم الضرائب، كما استحدث ضرائب أخرى لم يأتِ بها نص القرآن أو السنة، من بينها ضريبة العشور على أموال التجارة المتنقلة بين أقاليم الدولة الإسلامية.

نظام اقتصادي مرن

وهذه التعديلات التي أدخلت تؤكد أن نظام الاقتصاد الإسلامي ليس نظامًا جامدًا (كما يتصور بعض) بل نظام مرن؛ يستجيب للضرورات، وأن المبادئ والقيم الإسلامية لم تكن حائلًا دون ذلك، وأن هذه التطورات كانت في مصلحة المجتمع، ويجب أن تظل هكذا حتى آخر الزمان؛ لتحقق مصلحة المجتمع والأفراد، واحترام حقوق الدولة. فقراءة التاريخ واجبة إن أردنا أن نكون دولة حديثة متقدمة. والحق أنه ليس هناك اقتصاد إسلامي وآخر مسيحي، مثلما أنه ليس هناك طب إسلامي وطب مسيحي، فالعلم علم. وأقصى ما يمكن قوله: إن هناك دراسات اقتصادية في النظام الإسلامي.


هوامش:

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *