المقالات الأخيرة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

يصف موريس بلانشو الأدب كمنفى في الصحراء، حيث يصبح الكاتب ضعيفًا تسكنه المخاوف مثل تلك المخاوف التي سكنت بني إسرائيل عندما قادهم النبي موسى، امتثالًا لطلب «يهوه»، في رحلتهم عبر صحراء سيناء إلى أرض كنعان؛ فالصحراء فضاء هندسي مناسب لاحتواء مفاهيم من قبيل العزلة...

الذكاء الاصطناعي: صدام الأدمغة

بواسطة | نوفمبر 1, 2023 | الملف

عبدالله البريدي كاتب وأكاديمي سعودي

الذكاء الاصطناعي هو البركان الثائر للتقنية الفارة من قمقمها؛ في سياق يرتحل من «الكهنوت» إلى «الشبكوت». هذا البركان الهادر كان خاملًا في فلسفة تخطت منذ قرون «فهم الوجود» بما هو موجود (الفلسفة الإغريقية)، وصولًا إلى «التهام الوجود» (بيكون، ديكارت ومن بعدهما) ضمن «ميتافيزيقا التقنية»؛ إذ لم تعد التقنية مجرد طائرة ورقية ترتفع بهبوب الرياح، ولا طاحونة مائية تدور بجريان المياه، وإنما تقنية تأمر الطبيعةَ لكي تخضع للعقل والقوة (هايدغر). والتهام الوجود ليس بما هو موجود فحسب، بل بما يمكن أن يكون موجودًا، ضمن خيال مرتخٍ إمبريالي؛ وفق الرمز الأولي لـ«لحضارة الغربية الفاوستية» يتجسد في «المكان اللانهائي» (شبينغلر)، عبر القوة اللامحدودة (هوبز، نيتشه)، وهو ما يفسر لنا بوضوح الشهوة العارمة بغزو الفضاء الممتد اللانهائي لاستغلاله وإخضاعه، بعد تطويع كوكب الأرض وامتصاص خيراته.

ويمسي هذا البركان أكثر تدميرًا وعبثية إذا راعينا النقلة المربكة لهذه الفلسفة من الوثوقية التامة (اللوغوس والحد التام) إلى العدمية الصرف (اللامعنى والإيروس)؛ ومن المرجعية المتجاوزة إلى المرجعية الكامنة، ومن الثنائيات الكبرى إلى واحدية منمنمة حلولية (عبدالوهاب المسيري)؛ في مشهد يتغذى على عقيدة نيوليبرالية، تضمن لرأس المال سر نموه، والمتمثل في الحركة اللانهائية (وفق تعريف ماركس لرأس المال)، وضمان تغول السوق والشركات العابرة لكل شيء، ضمن «ميتافيزيقا اليد الخفية» (آدم سميث)، وهو ما أحال العلم المعاصر إلى مجرد «عامل شاي» لدى «السيد: السوق». فالذي يقود العلم ليس الإبستمولوجيا، وإنما التطبيقات الجالبة للأرباح، كالأَمَة التي تَلِدُ رَبَّتَها (يُمنى الخولي)؛ مع شيوع فردانية طاغية تطوِّح بكل شيء سوى سرديات صغرى (ليوتار)، تخلق من الإنسان كائنًا أنانيًّا إيروسيًّا تافهًا ذا بعد واحد (ماركوزه)، لا يعمل بغير العقل الأداتي (هابرماس).

المواقف حيال الذكاء الاصطناعي

هذا التوصيف المكثف يمثل قاعدة ذهنية لتحليل الذكاء الاصطناعي بشكل بِنيوي معمق في هذا النص الصغير، وقد يستغرب بعضٌ من الاتكاء على مثل هذه الأفكار المركبة المعقدة، التي قد تبدو مشتتة أو غير ذات علاقة. والأمر بخلاف ذلك؛ إذ هي في حقيقة الأمر أفكار متوالية متعاضدة، وهي ذات قدرة تفسيرية هائلة لما نعيشه راهنًا من ثورة الذكاء الاصطناعي، ولما سوف يحدث في المستقبل القريب والمتوسط. وبغض النظر عن مدى الاتفاق أو الاختلاف حول توصيفي المكثف Thick Description (للمزيد حول سمات هذا التوصيف، انظر كتابي: البحث النماذجي، 2023م)، أشرع في تحليل الذكاء الاصطناعي من جهة تأثيره الضخم غير المسبوق في الجانب العقلي أو الذهني Cognitive.

وقبل الولوج في هذا التحليل، يتوجب علينا تصنيف المواقف حيال الذكاء الاصطناعي في عالمنا المعاصر؛ إذ يمكن وضعها في أربعة مواقف رئيسة، وذلك كما يلي:

الموقف اللامبالي: وهو الموقف الذي لا يكترث إطلاقًا لتحليل الذكاء الاصطناعي بشكل معمق، من جهة إيجابياته وسلبياته، وفرصه وتحدياته، وحاضره ومستقبله؛ إذ يتعامل معه بموجب الأمر الواقع بنزعة سطحية براغماتية، مع تخبط في السياسات والقرارات، ويكون ذلك على مستوى الحكومات والمنظمات والأفراد.

الموقف الخاضع: وهو الموقف المسوِّغ لكل ما يُسمى «التقدم العلمي»، في نزعة براغماتية يغلب عليها طابع «العلموية النزقة»، مع مجافاة أي نقد جوهري للذكاء الاصطناعي، والاكتفاء بذكر إيجابيات عامة على قدر كبير من السطحية، واتهام الناقدين بـفوبيا التقنية ونحو ذلك.

الموقف الرافض: وهو على النقيض من سابقه، فهو يرفض أو يكاد يرفض كل شيء حديث، وفي الغالب يكون ذلك لأسباب أيديولوجية أو لعوامل تمت بِصِلة بفلسفة الحياة الخاصة كالنزعة التقليلية التزهدية التقشفية Minimalism.

الموقف الناقد: وهو أنضج المواقف وأكثرها نجاعة من الناحيتين: العلمية والتطبيقية، المنهجية والحياتية، وداخل هذه المواقف تيارات عديدة، ويتفاوت مستوى النجاعة وفق الأفكار التأسيسية والمِرشاد (البارادايم) والمقاربة المنهجية. وينسلك تحليلنا في هذا النص الصغير ضمن الموقف النقدي.

لقد تناول جملة من الباحثين الرِّصان والكُتّاب الجادين موضوع تأثير التقنية الحديثة في العقل ضمن حقول معرفية ومقاربات منهجية متنوعة، ومن بين أهم الأطروحات العلمية العميقة أطروحة «سوزان غرينفيلد» في كتابها المهم: «تغيُّر العقل- كيف تترك التقنيات الرقمية بصماتها على أدمغتنا» (ترجمة: إيهاب عبدالرحيم علي، عالم المعرفة، ع 445، 2017)، وهي عالمة أعصاب في جامعة أُكسفورد ومتخصصة في العقل والدماغ من زاوية الأعصاب. وكذلك أطروحة زميلها في الجامعة ذاتها «لوتشيانو فلوريدي» بعنوان: «الثورة الرابعة- كيف يعيد الغلاف المعلوماتي تشكيل الواقع الإنساني» (ترجمة: لؤي عبدالمجيد السيد، عالم المعرفة، ع 452، 2017)، متناولًا الموضوع من فلسفة المعلومات وأخلاقياتها. ومنها أيضًا أطروحة أستاذ الفيزياء النظرية الياباني الأميركي بعنوان: «مستقبل العقل- الاجتهاد العلمي لفهم العقل وتطويره وتقويته» (ترجمة: سعد الدين خرفان، عالم المعرفة، ع 447، 2017).

تحليلي النقدي للذكاء الاصطناعي سوف يركز على تأثيراته البِنيوية في العقل، التي يمكن صبها في قالبين كبيرين متواشجين، وذلك كما يلي:

الذكاء الاصطناعي يغتال الذاكرة

إن أخوف ما أخافه على الإنسان المعاصر هو تآكل ذاكرته. ولهذا، أجدني مؤمنًا بأن الحضارة التي ستغلب في المستقبل المتوسط هي تلك التي تحافظ على ذاكرتها، سليمة قوية، بعتادها المادي الفسيولوجي، وعتادها المعنوي الثقافي. الذاكرة الإنسانية هي إحدى المعجزات المبهرة في خلق الإنسان، فإمكانياتها هائلة، وهي جزء من الوعد الإلهي المقدس بتمكين الإنسان من المعرفة وفهم العالَم، ليكون خليفة تعمر العالم بالتوحيد والرحمة والعدالة والخيرية. إن أعظم عقار يمتلكه الإنسان هو ذاكرته، والذاكرة هي العقار الوحيد الذي يسعى المستبدون لامتلاكه! والإشارة إلى الاستبداد هنا تحيلنا إلى المستبد الإنسان والمستبد الآلة، مع وجود نزعة واحدية حلولية لنكون إزاء «المستبد الإنسآلي» أو «المستبد الآلساني».

لقد أحدث كتاب «حضارة السمكة الحمراء» (للفرنسي القدير برونو باتينو، من ترجمة المكين الدكتور مصطفى حجازي، 2021م) دويًّا هائلًا في فرنسا وأوربا وفي العالَم اليقظ أيضًا، حيث يُشبِّه المؤلف ذاكرةَ الإنسان المعاصر بذاكرة السمكة الحمراء المحشورة في الحوض الصغير، حيث لا تدوم ذاكرتها أكثر من 8 ثوانٍ، واستطاعت حواسيب غوغل العملاقة تقدير مدى انتباه «جيل الألفية»، وهم أولئك الذين وُلِدوا والشاشة الملساءُ حولهم، والذين يتمحورون حول الزمان-المكاني لشاشاتهم، حيث قُدِّر انتباه هذا الجيل بنحو 9 ثوانٍ، وبعد هذه الثواني «السمكية»، ينفصل ذهنُه عن موضوع تركيزه، باحثًا عن مُثير جديد (معلومة، خبر، مشهد، إعجاب) وذلك بدءًا من الثانية العاشرة؛ بفارق ثانية واحدة فقط عن هذه السمكة التعيسة!

في الحقيقة، هذا التشبيه موجعٌ جدًّا، حيث يؤكد خطورة توظيف الذكاء الاصطناعي في تحقيق ما بات يُسمى «اقتصاد الانتباه»؛ إذ يستهدف عمالقةُ الشابكة إبقاء الإنسان مربوطًا بالنت ما أمكن، حيث يحققون المليارات من مجرد بذل الإنسان انتباهه في شوارع شبكات التواصل الاجتماعي وردهات المتاجر الإلكترونية، مشيرًا إلى أن يد الشبكة حَلَّتْ مَحَلّ يد السوق الخفية (باتينو يقصد يد آدم سميث في الليبرالية/ الاقتصاد الكلاسيكي).

ويزداد الوضع مأساوية إذا أخذنا في الحُسبان تزهيد بعض التربويين والمثقفين والمفكرين من الحفظ والتلقين في التعليم، عادِّين الحفظَ والتلقين من عادات العصور المظلمة، وهو ما جعل كثيرًا من الأنظمة التعليمية والتربوية في العالم للأسف الشديد تلغي أو تقلل أنشطة الحفظ والتلقين وتهمشها، فلا يكاد يحفظ الطفل شيئًا يذكر، فعادَ ذلك على الذاكرة السمكية المتهالكة بمزيد إضعاف وإضمار. ولست أدري ما كنه التعليم الذي يخلو من الحفظ والاسترجاع؟ كيف يتعلم الإنسان أي علم من العلوم من دون حفظ أساسياته من البديهيات والمسلمات والمبادئ والنظريات والقوانين والافتراضات ونحو ذلك؟ هذا النمط التربوي المجافي للحفظ يفسر لنا جزئيًّا سر الخيبة التربوية وضعف الحصيلة العلمية والمهارية في العقود الأخيرة وفي العقود التالية أيضًا؛ إذ إنني أتوقع مزيدًا من التدهور في هذه الحصيلة، ما لم يحدث تصحيح بقالب إستراتيجي مؤسسي.

والألم يزداد بإضمار ملكة الحفظ والتلقين في عالمنا العربي الإسلامي، الذي كان يعد الحفظ والتلقين أحد أكبر مفاخره وإيجابياته نقاط قوته. وفي هذا يقول العلامة جورج مقدسي: «لعب الحفظ دورًا حاسمًا في عملية التعلم… لقد كان الحفظ سمة عامة أهل العلم»، مع القدرة على الانتقال من الرواية (الحفظ) إلى الدراية (الفهم)، موردًا قصة العبقري أبي العلاء المعري، حيث فقد أحدهم أوراقًا في كتاب لم يتبين عنوانه ولا مؤلفه لتمزق ظهرية الكتاب، فاقترح عليه صديقٌ أن يقرأ شيئًا من الكتاب على المعري، ففعل، فأوقفه المعري وشرع في إكمال الأجزاء الناقصة، مشيرًا إلى أن هذا الكتاب هو: «ديوان الأدب» لإسحاق بن إبراهيم الفارابي. (انظر: نشأة الإنسانيات، ترجمة المكين القدير أحمد العدوي، ص 413-415)، فهل يطيق أحدٌ الزعم بأن الحفظ جعل من المعري متعلمًا ساذجًا سطحيًّا كما يزعم مناهضو الحفظ والتلقين؟!

لو كنتُ مسؤولًا في التعليم، وطُلب مني قرار واحد، لما كان سوى تعزيز الحفظ وفرضه على جميع الطلبة في كل المراحل: من التمهيدي حتى الدكتوراه. وهذا يتناغم مع فكرتي ونبوءتي السابقة: الحضارة التي ستغلب في المستقبل المتوسط هي تلك التي تحافظ على ذاكرتها، سليمة قوية، بعتادها المادي الفسيولوجي وعتادها المعنوي الثقافي!

الذكاء الاصطناعي ينحر الدهشة

العقل يغفو بالمألوف، ولا شيء يوقظه سوى دهشة نشِطة. يَضمُر العقلُ بالرتابة اليومية وفقدان الاندهاش حيال الخارق أو اللافت. يموت العقل إذا شَعَرَ بالتخمة المعرفية، وموته إيذان بحياة الذاكرة. الدهشة رعشة حيرة، وومضة إعجاب؛ إذ يصاب العقل فجأة بارتباك وتعجب من جراء إبداعية الفكرة أو العمل الذي أمامه، ليبادر العقل بالتساؤل: كيف تم ذلك؟ وإن كان أكثر حيوية ونشاطًا لربما أضاف: لماذا لم يخطر مثلُ هذا على بالي من قبلُ؟ الدهشة تدل على أن العقل لا يزال على قيد التفكير والفعل المؤشرين على حياة العقل والروح. والأهمية السابقة للدهشة، هي ما أقنعتْ عددًا كبيرًا من الفلاسفة بالتعبير عن مكانة الاندهاش في الحقل الفلسفي، تنظيرًا وتطبيقًا. ومن ذلك ما يقرره أفلاطون بقوله: «إن انفعال الاندهاش الذي يخالجك هو السمة الحقيقية للفيلسوف»، ويؤيد مثل ذلك أرسطو مشددًا على أن الاندهاش هو ما دفع المفكرين الأوائل إلى فعل التفلسف، والدهشة ممزوجة بالاعتراف بالجهل، وقريب منه هايدغر بالقول: إن الاندهاش يحمل الفلسفة من أولها إلى آخرها ويديرها. مشددًا على أن الدهشة هي انفعال مستديم يصطبغ بالمعاناة والتحمل والصبر والتكبد والسحر والاستسلام لنداء الإبداع.

ويلتقط ياسبرز ملمحًا مهمًّا، بقوله: «إن الاندهاش يدفع الإنسان إلى المعرفة، فحين أندهشُ فمعنى هذا أنني أشعر بجهلي». لقد أشعلتِ الدهشةُ الفلاسفة الأوائل حينما تساءلوا عن أصل الأشياء، ومن بينهم طاليس القائل: إن الأصل هو الماء، وتبعه في ذلك المبحث أنكسيمانس وأنكسيمندار وغيرهما كما هو معروف في تاريخ الفلسفة. وهذه المسألة ذاتها هي التي أغرتْ أستاذة الفلسفة في جامعة جنيف ورئيسة قسم الفلسفة في اليونسكو جان هِرش بأن تعنون كتابها حول تاريخ الفلسفة الغربية بـ«الدهشة الفلسفية» (انظر كتابي: «كينونة ناقصة»، ط2، 2023م، ص 147-148).

الذكاء الاصطناعي في تياره الرئيس يؤثر بشكل ضخم في الدهشة، بل قد يعمد إلى نحرها ودفنها في مقابر الإجابات الجاهزة التي تتقافز بسرعة ورشاقة من الجهاز الذكي عبر تقنية شات جي بي تي- المندرجة ضمن ما بات يسمى «الذكاء الاصطناعي التوليدي»- فما على الإنسان إلا أن يوجه سؤالًا لتطبيق شات جي بي تي، ليجد إجابة حاضرة جاهزة، مع إمكانية طلب إجابة أكثر تحديدًا ودقة، وبخاصة مع التطور المتلاحق لهذه التقنية؛ إذ هي تتطور على مدار اللحظة؛ عبر إدخال مليارات المحددات/ المغذيات للتقنية التوليدية (Parameters)، التي تسعى جاهدة لمحاكاة تفكير الإنسان والتفوق على ذاكرته «المحدودة» وعقله «الاختزالي».

والكارثة لا تقف عند تخوم إقبار ملكة البحث عن إجابة لدى الإنسان المعاصر ذي الذاكرة السمكية، بل تتجاوز ذلك، لتصل إلى اغتيال ملكة التسآل نفسها، حيث تتيح هذه التقنية خاصية لبلورة الأسئلة في كل مجال، كأن يتساءل الطالب أو الأستاذ أو الباحث أو المستشار مثلًا: ما الأسئلة المنهجية التي يجب بلورتها من أجل تصميم بناء هندسي محكم؟! الآلة باتت هي التي تسأل وتجيب بجدية، ونحن نشاهد ونلعب ببلاهة، ضمن سلوكيات إدمانية للمشاهد والتطبيقات المعززة بخوارزميات الإعجاب والدوبامين في سياقات اقتصاد الانتباه. وكل هذا وأمثاله، يعني انطفاء الدهشة تمامًا؛ إذ لا يعمل الإنسان تفكيره وتأمله، بل يلجأ إلى الآلة لكي تجيب، بل لكي تسأل أيضًا.

لقد أعلنتْ شركةٌ منتجةٌ لـتقنية شات جي بي تي أنها بصدد التعاون والتحالف مع شركة ميكروسوفت، وهو ما يعني أن هذه التقنية من الذكاء الاصطناعي سيجري دمجها في الحواسيب الشخصية والبرامج المعروفة، حيث ستكون متاحة مثل القواميس المدمجة في برنامج الوورد، وهذا مجرد مثال للمشهد، مما يعني اكتساحًا تامًّا لهذه التقنية وأمثالها، وتعطيلًا قد يكون تامًّا هو الآخر للذاكرة والتفكير، وسينعكس هذا الأمر بصورة سيئة جدًّا في كثير من الأنظمة التعليمية التي تصدر من الموقف اللامبالي أو الخاضع؛ إذ سيجد المعلم صعوبة بالغة في تمييز إذا كان هذا الحل أو تلك الإجابة هي من صنع جي بي تي أو من إنتاج ذاكرة الطالب وعقله؟ هذا إذا كان المعلم أصلًا يهتم أو يكترث لهذه المسألة؛ إذ قد يكون منتسبًا لـقبيلة اللامبالين، وقد يكون هو الآخر يعبث بجهازه الذكي، وهذا يعني أن الذكاء الاصطناعي يعبث بذاكرته وتفكيره هو الآخر!

وكما يعلم بعضكم، فعملية إدماج الذكاء الاصطناعي لا تتم بين منتجات الشركات التقنية ذاتها فقط (كالإدماج السابق مع منتجات ميكروسوفت)، حيث يتجاوز ذلك إلى الإدماج مع الإنسان نفسه في عقله وجسده عبر زرع الشرائح الرقمية، بحجج قد يبدو بعضها مقبولًا أو مفيدًا في إطار جزئي مشروط (أشدد على إطار جزئي مشروط). ومن الخلفيات المهمة ذات البعد الفلسفي المعقد في توظيف الذكاء الاصطناعي بعد إدماجه في جسد الإنسان وعقله، فكرة «ما بعد الإنسانية» أو «ما فوق الإنسانية» Posthumanism أو Transhumanism (أو الإنسان الفائق أو أي تعبيرات مشابهة)، وهي ذات خلفية تطورية داروينية صرفة.. حيث يؤمنون بأن الإنسان الراهن (الذي هو نحن الآن) لا يستحق البقاء؛ لأنه ما زال يمرض ويبكي ويشيخ، بل يموت أيضًا!

وفي مثل هذه السياقات المعقدة، إن من جهة التربح المادي أو من جهة التغيير لبِنية الإنسان وجوهره لأهداف متعددة صريحة أو ضمنية، تُطرح تطبيقاتٌ عديدةٌ للذكاء الاصطناعي وتعلُّم الآلة بأجيالها الثورية المتعاقبة، ومن بينها: شات جي بي تي؛ إذ هي مجرد تطبيق ضمن تطبيقات، يتوالى صدورها تباعًا، بما لا نطيق مجرد متابعته، وسيكون لها آثارٌ مدمرةٌ جدًّا على بِنية العقل الإنساني والتفكير والاستنتاج والذاكرة وكل العمليات الذهنية.. فضلًا عن الجوانب الإنسانية الأخرى التي لا يمكن الحديث عنها في نص صغير كهذا، وهو ما ينذر بمخاطر تتهدد المنظومة التعليمية في العالَم وأسس التفكير والعمل والإنتاج أيضًا. ولمثل هذه السلبيات الكبرى، اتخذت جامعة ستانفورد (وهي التي احتضنت ولادة الرقمي والمنصات والمجتمع الشبكي) قرارًا بعدم إدخال المحمول في المحاضرات، وهي بصدد فرض غياب الحواسيب بشكل متصاعد داخل حرمها الجامعي!

في كتابه القيم، يشير باتينو إلى مسألة شديدة الخطورة، حيث يقول، بعد حديث عن تعلُّم الآلة والخوارزميات التي تتعلم من تلقاء ذاتها: «إن أنصار ما فوق الإنسانية يعلنونها قائلين: سوف يأتي وقتٌ تصبح فيه الحواسيبُ فائقةُ القوة والموصولةُ فيما بينها بشبكة متفوقةً على الإنسانية، وتتولى بالتالي تنظيم حضارة جديدة، قائمة على ذكاء الآلات. يطلق كرزفايل على هذه اللحظة تسمية «الفرادة»، ويعلن عن قدومها في العام 2045» (ص 179). راي كرزفايل هذا هو مرشدٌ «روحيٌّ» في كنيسة الوحدة الكونية (البعد الروحي!)، وهو في العقد السابع من عمره، وقد ابتكر حاسوبًا وهو في الثانية عشرة من عمره، ويقود جامعة الفرادة Singularity University في غوغل، حيث يستخدمها مركزًا لأحلامه في خلق عالَمٍ جديد، عبر «أبحاث ما فوق الإنسانية»، التي تربط حقول الذكاء الاصطناعي بالنانو وعلم الأحياء والعلوم العصبية والذهنية، والمعروفة باختصار: NBIC.

هذا، ومن المتحتم عليّ قبل إغلاق هذا النص أن أؤكد أنني أعقل تمام التعقل أن ثمة استخدامات مفيدة للذكاء الاصطناعي في مجالات عديدة كالبحث والاستكشاف والطب والزراعة ونحو ذلك، وأنني لست ضد هذه الاستخدامات المفيدة؛ شريطة أن تكون ضمن سياق غائي أخلاقي نقدي تركيبي إطاري شامل. كما أنه يتوجب عليَّ أيضًا التشديد على أنني لا أقرّ البتة بأن ما يحدث هو «تقدم العلم» ويجب من ثمَّ قبوله والتسليم به، وإنما هو «تقدم تطبيقات العلم»، وشتان بين العلم وتطبيقاته؛ فالأول يسوسه تعقلٌ إبستمولوجيٌّ بثوابته الدينية والأخلاقية والمنهجية والمعرفية، والثاني يغويه جشعٌ سوقيٌّ، بأنانيته وجشعه وماديته وتوحشه وعبثيته. هذا والله ولي التوفيق، وهو أعلم وأحكم.


المشروع والبرنامج: مشكلة الروبو

علي حرب كاتب لبناني

امتداد اليد

شكلت الأدوات لدى الإنسان امتدادًا لليد، يستخدمها في سد حاجاته وفي تذليل العوائق التي تعترضه في معترك الحياة. هذا ما تشهد به الاختراعات في غير مجال، من القوس إلى السيف، ومن البندقية إلى الصاروخ، ومن عربة الخيل إلى القطار البخاري، ومن المحراث الخشبي إلى الجرار الآلي، ومن السيارة إلى الطائرة، ومن الهاتف إلى التلفاز. وكلها مثالات تبين كيف أسهم تطور الأدوات والتقنيات، في مسيرة التقدم الحضاري للبشرية، بتطورها من الأبسط والأبطأ والأقل فاعلية أو خطرًا، نحو الأعقد والأسرع والأكثر فاعلية وخطرًا. ومع الثورة الرقمية بموجاتها المتلاحقة وتقنياتها الفائقة، من حيث سرعتها وفاعليتها، دخلت البشرية في طور جديد؛ إذ فُتحت معها إمكانات هائلة للنشر والبث، للإحصاء والمعرفة، للنقل والتواصل…

تحدي العقل

هذا ما حصل مع اختراع الحاسوب؛ إذ هو لم يعد مجرد أداة تعد امتدادًا لليد، بل أصبح تحديًا للعقل البشري. من هنا أثيرت الأسئلة واشتعلت الجدالات حول قدراته ومفاعيله: هل نحن إزاء أداة تتسع معها إمكانات الإنسان وتتضاعف، أم إننا إزاء جهاز قد يحل محل الإنسان ويصبح بديلًا عنه، أو يتجاوزه ليفلت من سيطرته؟ وكانت المباراة بين الحاسوب وبين كاربوف، أشهر لاعبي الشطرنج يومئذ، فاتحة عصر جديد؛ لأن الآلة الصماء قد تغلّبت على الذكاء البشري.

وأذكر في هذا الخصوص أن أحد أساتذة الفلسفة، في الولايات المتحدة، افتتح سنته الدراسية بالكلام على فلسفة أفلاطون، ولكنّ طالبًا جابهه بالقول: ماذا تجدينا العودة إلى القدامى؟ لنتحدث عن الحاسوب وأثره في حياتنا ومستقبلنا. وكان اعتراض الطالب في محله، ما دام الحاسوب قد أربك عقول البشر، وبالأخص الفلاسفة الذين ينظر إليهم الناس بوصفهم أصحاب العقول النيّرة والباسقة.

الشبكات العنكبوتية

ثم أتت الموجة الثانية، كما جسّدها اختراع الشبكات العنكبوتية بصفحاتها ومنصاتها، بمواقعها وتغريداتها. معها أيضًا فتحت إمكانات هائلة في مجال البث والنقل للمعلومات والرموز والصور. لقد أصبح بإمكان العامل على الشبكة أن يتصل ساعة يشاء، بمن يشاء، في أي مكان من العالم؛ كما أصبح بإمكان عدد من الأشخاص أن يشاركوا في ندوة افتراضية، مع بقاء كل واحد منهم في بلده.

وهكذا شكل اختراع الشبكات نقلة تقنية تغيرت معها علاقتنا بالواقع، الذي تمت مضاعفته وأعيد تشكيله كواقع افتراضي، سيبراني. إنها ثورة لا سابق لها جرت مع الإنتاج الإلكتروني الناعم، من العلامات والرموز والصور والأساليب، التي يجري بثها على الأثير، بسرعة البرق والضوء في مختلف أرجاء الكرة. بذلك تحولت الشبكات إلى خزان للمعلومات. نحن إزاء مكتبة كونية نجد فيها كل كتب العالم مسجلة على رقائق إلكترونية هي بحجم الإصبع بل الدبوس.

حديث الآلة

مع روبو المحادثة نشهد موجة تقنية ثالثة من موجات الذكاء الاصطناعي. صحيح أن الروبو يستند في بياناته ومعطياته إلى خزائن الشبكات. ولكنه يتعداها. لم يعد الأمر مقتصرًا على محركات البحث ومواقع التواصل. نحن إزاء جهاز له ميزتان: الأولى أننا نتحدث إليه، فنسأله وهو يقدم الإجابة. من هنا سمي روبو المحادثة. أما الميزة الثانية، فهي قدرته على تركيب ما أمكنه من النصوص والصور والأصوات أو الفيديوهات والشيفرات والسيناريوهات. من هنا سُمّي الروبو الجديد الذكاء الاصطناعي التوليدي. إذًا نحن إزاء آلة يمكن وصفها، بفضل هاتين الميزتين، بأنها آلة تتعلم أقله كما يتعلم الطفل، أي ليست صماء بَكْماء.

وهكذا صار بإمكان العامل على الشبكات أن يستشير مَكِنَتَهُ الذكية، للبحث عن حلول وأجوبة أو عن توقعات في مختلف الميادين والمجالات. بوسع هذه الآلة أن تكتب قصيدة، أو أن تقدم مرافعة في قضية قانونية، أو أن تعطي نصائح لأصحاب البنوك ليحسنوا التعامل مع زبائنهم، أو أن تزود الطالب بشرح وافٍ عن كيفية تكوّن البراكين. وقد سألها أحد الأساتذة الجامعيين عن الخطة التي يجب اعتمادها في دروسه. فقدمت له إجابة مقنعة كادت تغنيه عن البحث والتخطيط.

الروبو والفيلسوف

وسأبقى في المجال الفلسفي حيث المحك والرهان. فقد جرت مباراة في فرنسا بين الذكاء الاصطناعي وبين الفيلسوف ميشال أنتهوفن، وكان السؤال حول ماهية السعادة، وهي المسألة نفسها التي طرحت في فرنسا، في امتحانات الثانوية العامة، في شهر يونيو/حزيران الفائت 2023م. وقد أجاب الروبو عن السؤال في دقائق معدودة، بتقديم معالجة وافية تنطوي على الاستشهاد بآراء كبار الفلاسفة كأرسطو وكانط. أما الفيلسوف فقد احتاج إلى ساعة وربع الساعة لإنجاز إجابته. ولما نظرت اللجنة الفاحصة في الإجابتين وجدت فارقًا كبيرًا بينهما؛ إذ الفيلسوف تغلب على الذكاء الاصطناعي وسبقه بأشواط.

ولا غرابة. فالمعالجة الفلسفية لا تحتاج فقط إلى المعلومات والمعارف، حول هذه الفلسفة أو تلك القضية، أي ما يملك منه روبو المحادثة ما لا يملكه الفيلسوف، وهذه أصلًا أفضليته كخزان للمعلومات لا ينضب (Big Data).

ازدواجية الإنسان

إن المعالجة الفلسفية تحتاج إلى قدر من التفكير بما هو نظر وتأمل أو تفكر وتبصر أو فهم وتدبّر، وذلك يقتضي ارتداد المرء على ذاته، على سبيل المراجعة والمحاسبة أو الدرس والفحص أو التحليل والتشريح، بتقليب وجهات النظر والمفاضلة بين الاحتمالات.

وتلك هي ميزة الإنسان وحيلته كذات مفكرة: ازدواجيته كما تجسدها المسافة النقدية بينه وبين نفسه. ولهذا فنحن عندما نسأل الروبو عن اعتراضاته على هذا الفيلسوف أو ذاك، فإنه ينقل اعتراضات سواه، أي مما يختزنه من معلومات، ولكنه لا يضيف شيئًا من عنده. فهو لا يفكر؛ لأن ما ينقصه هو الوعي والإرادة أو القصد والنية أو المرونة والحيوية.

وقد طرح على أحد الروبوتات السؤال التالي: إذا كانت المرأة تحتاج إلى تسعة أشهر لكي تضع ولدًا، فكم تحتاج تسع نساء؟ كانت الإجابة سخيفة ومضحكة؛ إذ أجاب بأنها تحتاج إلى شهر واحد، وهو ما يعني أن للروبو أخطاءَه وسقطاته، إذا طرحت عليه أسئلة تخرج عما هو مُبرمَج بصورة مسبقة.

من هنا تمييزي بين مصطلحين:

المشروع وهو ميزة الإنسان، بما هو سبق دائم على الذات، يتيح لنا أن نعيد النظر فيما كنا نفكر فيه أو ننفك عما اعتدنا عليه من الطرق والأساليب، بحيث نخترع ونبتكر لكي نتغير ونتجدد، بكسر القوالب الجامدة وتفكيك الأنساق المغلقة.

مقابل ذلك هناك البرنامج وهو ميزة الروبو الذي باستطاعته أن ينفذ، بما يملكه من المعطيات، عملية معقدة قوامها سلسلة إجراءات وصولًا إلى الهدف المطلوب أو إلى حل المشكلة العالقة.

هذا ما يفعله الروبو بأقصى سرعة. ولكن مشكلته تكمن بالذات في سرعته الفائقة التي تتم على حساب التروي والتأني وإنعام النظر في اتخاذ الخيارات ورسم الخطوات. وهكذا فالفارق كبير بين شيء هو أسير مسبقاته ومعطياته، وبين كائن يأتي دومًا بما هو غير مسبوق ولا منتظر، لكي يجدد عدة التفكير.

الذكاء والعقل

أخلص من ذلك إلى ما يثيره الذكاء الاصطناعي التوليدي، من سجالات، على مستوى العالم، حول قدراته ومنافعه أو حول مضاره وخطره. أنا لا أعتبر الذكاء الاصطناعي التوليدي أهم ثورة تقنية في القرن الحادي والعشرين، الأحرى القول هو قفزة في مجال التقنية الرقمية والصناعة الافتراضية. ثم من يستطيع التنبؤ بما سوف يحدث على امتداد قرن من الزمان، إلا على سبيل التشبيح والرجم في الغيب؟! فاستقراء التجارب يحملنا على التواضع؛ لأنه يكشف لنا ما لا ينفك يحدث ويتحول في هذا العالم، إنما يفاجئ الإنسان دومًا بما هو غير متوقع. والأصل في ذلك أن عملًا ينطوي على الخلق والاختراع، إنما يأتي من مكان غير متوقع، بقدر ما يفتح آفاقًا للفكر والعمل لم تكن في الحسبان.

ولكني لا أقلل من أهمية الذكاء الاصطناعي. أنا مع تشومسكي بأن الآلة لا تفكر. ولكني لست معه، ومع زميليه، بحديثهما عن «الوعود الزائفة» للذكاء الاصطناعي (راجع جريدة الشرق الأوسط 23/3/2023). لا شك أن الذكاء الاصطناعي يمثل تطورًا غير مسبوق، قياسًا على الحواسيب والشبكات، بما يفتحه من الإمكانات؛ أولًا من حيث اختصار الوقت، ثم من حيث فاعليته القصوى في الحصول
على المعلومات.

هل القدرة على التوليد أو على التوقع تجعلنا نقول: إن الروبو قد يطور هذه الميزة، لكي يقترب من الإنسان ككائن يعي ويشعر ويفكر؟ لا أعتقد. فالروبو يبقى مجرد آلة مبرمجة. هي ذكية من حيث قدرتها على التخطيط لحل مشكلة ما. وقد تتفوق في هذا الخصوص، على الإنسان؛ لأنها لا تخطئ إذا أُحسِنت برمجتها، ولكونها تفتقر ذاتيًّا إلى المشاعر والعواطف. هذا، بينما الإنسان يخطئ لأنه ذات راغبة، أي له مشاعره وأهواؤه وأوهامه. ولكنه بسبب حيويته وازدواجيته، قادر على إعادة النظر لاستخلاص الدروس على سبيل إعادة التركيب والبناء أو التجديد والتطوير.

وهكذا، فالروبو لا مشاعر عنده. هو ذكي بقدر ما نحسن برمجته وقولبته. إنه كائن حسابي، إحصائي، أكثر مما هو كائن عاقل، سَوِيّ، يملك القدرة على التروي والتبصر. ولهذا فقد ينتج أفدح الضرر، إذا ما بُرمِجَ خطأ، أو إذا استخدمته مجموعات راديكالية إرهابية، أو عنصرية فاشية.

التلصص والتلاعب

لا شك أن للأدوات مساوئها ومضارها. فهي ككل شيء يخترعه الإنسان، سواء أكان فكرة أم أداة، يمكن استخدامه على الوجه السلبي أو على الوجه الإيجابي. هذا شأن المركبات والطائرات. إنها تستخدم لتذليل المسافات وتقليص الأزمنة. ولكن قد تستخدم كآلات حربية لإطلاق المدافع والصواريخ ودك البيوت على رؤوس أصحابها.

وهذا شأن روبوتات المحادثة، إنها تتيح لنا الحصول على ما نحتاجه من المعلومات والمعارف أو من الأجوبة والحلول بسرعة البرق. ولكنها يمكن أن تشكل أداة تمويه أو تضليل، عبر التلاعب بالصور والأصوات، أو بمراقبة الناس والتجسس على حياتهم الشخصية من حيث هم غافلون، كما يمكن أن تنضم القدرات التي تملكها الروبوتات الفائقة إلى ما تفتقت عنه علوم الأعصاب والجينات من القدرات العجيبة، لإحداث تغيير في طبيعة الإنسان وهويته يطول وعيه وفكره، كما يطول جسده ودماغه؛ لإنتاج كائن جديد، متحول وعابر للإنسان الذي نعرفه، وتلك مغامرة نحو المجهول، غير مضمونة العواقب.

الشبكة والكتاب

هل الذكاء الاصطناعي ينتج البطالة، بقدر ما بات يحل محل الإنسان في كثير من الأعمال والوظائف؟ أنا لست خبيرًا في هذا المجال. ولكن ما يفيدنا به تاريخ الثورات التقنية، هو أنه مع كل اختراع جديد تتراجع وظائف أو تزول، لكي تنشأ وظائف جديدة أو تزدهر.

ما أتوقف عنده في هذا المجال، هو أنه مع الثورة الرقمية، بحواسيبها وشبكاتها ومنصاتها وروبوتاتها، تكاد تتراجع لدى الأجيال الجديدة، ليس فقط الكتب الورقية، بل تتراجع أيضًا القراءة، الشفهية، بصوت عالٍ، كما جسدتها مادة «المحفوظات» في البرامج المدرسية لدى الأجيال السابقة؛ إذ كان يطلب من التلامذة حفظ القصائد والنصوص، شعرًا أو نثرًا لمشهوري الشعراء والأدباء.

وأنا أذكر، وكنت فتى دون العاشرة، أن أقرباءنا الآتين من الولايات المتحدة قد شاؤوا زيارتنا، فاستدعاني والدي؛ لكي أقرأ أمامهم بعض القصائد التي حفظتها، غيبًا، فابتدأت بلامية ابن الوردي:

لا تقل أصلي وفصلي*** إنما أصل الفتى ما قد حصل

وقد قرأت مؤخرًا أن بعض نجوم الثورة الرقمية منعوا أولادهم من قضاء معظم وقتهم ملتصقين بالشاشات والمنصات، بحيث يخصصون وقتًا لقراءة الكتب الورقية. والفارق كبير بين قراءة الواحد نصًّا على الشاشة، وبين قراءته في كتاب ورقي، فضلًا عن حفظه. فالقراءة الإلكترونية، بصمت، مآلها برمجة العقل وقولبة الفكر وطحن القارئ. ولذا فهي تضعف الذاكرة وتشل الطاقة على التفكير النقدي. أما القراءة على الكتاب الورقي، فإنها تتيح للواحد فيما هو يَقْلِب الصفحات، أن يتوقف لكي يقلّب أفكاره ويراجع حساباته. بهذا المعنى فالروبو يجعلنا أذكى، ولكن أقل حكمة وروية. فلا تتباهينّ بالسرعة والسيولة. فمآل ذلك هو أن تستهلك الأفكار والمشروعات قبل أن تؤتي ثمارها.

الفكرة والأداة

قد يكون للذكاء الاصطناعي مفاعيله السلبية، كما هي حال اختراعات الإنسان وصنائعه. ولكن ضرره لن يكون أفدح من الضرر الذي يحدثه استخدام أسلحة الدمار الشامل. ونحن نعلم أن عصر التنوير الأوربي لم يمنع استمرار الحروب الطاحنة في أورُبا، طوال قرون، انتهاء بالحربين العالميتين المدمرتين.

وإذا كانت أوربا عادت إلى رشدها، مع مجيء الأنظمة الديمقراطية، فإن ذلك لم يتحقق بسبب فلاسفة الأنوار، ولا لأنهم عملوا بكتاب الفيلسوف كانط حول السلام الدائم. لقد توقفت الحروب؛ بسبب الدمار المتبادل الذي دفع الأوربيين إلى التفكير بعقل تداولي تجسد في قيام الاتحاد الأوربي.

ولكن، ها هي الحروب تعود إلى أوربا من جديد، على أرض أوكرانيا، بين المعسكرين الروسي والغربي. بل إن العالم ليس على ما يرام. فهو مضطرب غاية الاضطراب، في غير مكان، وبخاصة في كثير من البلدان العربية التي تمزقها الحروب المركبة، التي هي أهلية بقدر ما هي عالمية. وفي الأصل ولّى زمن الحروب المحلية الأهلية، فالحروب تتعولم كما يتعولم العالم بمحاسنه ومساوئه.

ومكمن العلة ليس في الأدوات والتجهيزات ولا في الشبكات والبرمجيات، كما نحسب نحن الذين نتباهى بذكائنا الفطري، ونصرّ على أن الروبو لا يفكر مثلنا. لنحسن تشخيص المشكلة: نحن ضحايا أفكارنا وعقائدنا، كما نحن ضحايا مشروعاتنا وصنائعنا، التي تفاجئنا وتصدمنا، كما صدقنا الحرب في قلب أوربا، وكما يفاجئنا التغير المرعب في المناخ بسبب الاحتباس الحراري. ولعل هذه واحدة من مفارقات الوضع البشري: فما يصنعه الإنسان سواء أكان فكرة أم أداة، عقيدة مقدسة أم نفايات نووية، قد يتجاوزه ويفلت من سيطرته لكي يرتد ضده. فهل نخشى من الروبو، القادر على التعلم والتركيب والتوقع، من الإتيان بأفعال تقودنا، من حيث لا نحتسب، إلى المجهول وإلى ما لا تحمد عقباه؟!

هذا السؤال يعيدنا إلى البداية، إلى نشأة المدنية والحضارة. فلا عمل ولا مشروع ولا تقدم من دون ضوابط أو معايير تمليها المسؤولية والأمانة، فيما يخص المآلات والمصاير، إذا لم نشأ لها أن تكون صادمة أو كارثية.

الحرية والهوية

من هنا فالمسألة تتعدى الذكاء الاصطناعي لتطول الإنسان في وجوده وفي هويته. فمن هذا الكائن المسمى إنسانًا؟ بل ما هو وأي شيء هو؟ وإذا صح أنه الأذكى والأقوى والأقدر بين الكائنات، فهذه الميزة خاصة هي التي تجعل منه الكائن الأشد خطرًا على نفسه وعلى الحياة والأرض، إذا كان لا يقيم اعتبارًا لما تحتاج إليه الحياة على هذا الكوكب من القيم والقواعد المتعلقة بالتوازن والتكامل، بحيث لا يطغى بُعدٌ أو وجه على سائر الأبعاد والوجوه.

وذلك يقتضي ممارسة التقى الفكري والتحلي بالتواضع الوجودي، بحيث يكون للروبو سياسته وحدوده، وتكون له قواعد استخدامه والانتفاع به، كما تكون له فلسفته ويكون له فنّه. وإذا كان الذكاء الاصطناعي يغير علاقتنا بمفردات وجودنا، بالواقع والحقيقة، بالمعرفة والآلة، بالعقل واللغة، فإن مقاربته النقدية تتعدى المستوى الخلقي، لتطاول غير مستوى ومجال. هناك المسؤولية التي يفترض بالحكومات أن تحملها تجاه عمل الشركات العملاقة بنجومها وشبكاتها وروبوتاتها. ولا يجدر التذرع بحرية التفكير والعمل. فالتجارب تفيد أن شعار الحرية يترجم بعكسه عندما يعامل كحقيقة مطلقة أو أيقونة مقدسة. بالطبع هناك المستوى الخلقي.

فالإنسان لا يعيش وحده، ولا يعمل بمفرده، ولا ينجح من دون معاونة الآخرين، وهو ما يعني احترام ما تمليه الحياة المشتركة، سواء على مستوى قطاع أو بلد أو منطقة، أو المعمورة، من قواعد التكافل والتضامن، بقدر ما يعني خلق اللغات والأطر التي تتيح للواحد أن يمارس هويته كمواطن عالمي. فالآخر ليس جحيمًا، وإنما هو شطرنا الوجودي، الذي يحسن بنا التدرب على قبوله، بحيث تدار العلاقة معه بلغة التنافس العقلاني الشريف، لا بمنطق الصدام والتحطيم أو التغول، كما توحي الصراعات بين مارك روزنبرغ وإيلون ماسك. وإذا كان لكل تجربة معناها ولكل خبرة مفهومها، فما يعنيه عصر الشبكات هو أن هوية المرء لم تعد تفهم وتمارس كمماهاة تامة وخاوية مع الذات، ولا كمغايرة كلية وفقيرة مع الآخر. وإنما تفهم وتمارس بوصفها شبكة التبادلات وصيرورة التحولات التي تصنعها علاقاتنا مع الآخرين.

هناك من جهة ثالثة المستوى المعرفي. والمعرفة هي ميزة الإنسان وحيلته في تدبر وجوده، إذ هي التي تتيح له فهم واقعه بإعادة صوغ عالمه، بتحويله إلى مبدأ أو معتقد، إلى مفهوم أو قانون، إلى معيار أو قاعدة، إلى شكل أو أسلوب… وإذا كانت تقنيات الذكاء الاصطناعي تسهم في تغيير الحياة بمختلف وجوهها، فمن الحمق استعمال هذه التقنيات، من دون أن نعرف كيف تعمل، أو أن ندعها تطغى علينا، إنها بذلك تخرج عن سيطرتنا وتتحول من آلة إلى إله. فنحن لا نحتاج إلى هذا الكم الهائل من المعلومات والبيانات، التي إذا ما أسيء استخدامها تغرقنا وتستبد بنا، لتبلبل لغاتنا وتشل عقولنا.

إن البشر، وسط كل هذا الاضطراب العالمي، ووسط هذا التشابك في المصالح والمصاير، لا يحتاجون إلى هذا البحر المتلاطم من المعلومات، كما لا يحتاجون إلى أسلحة الدمار الشامل، وإنما يحتاجون إلى قدر من الحكمة والتعقل والتواضع، بحيث يديرون شؤونهم بمفردات التوازن والتكامل أو الرعاية والقناعة أو الشراكة والتبادل، لا بمفردات الاستهلاك المفرط والنمو الفالت أو التكاثر الفاحش؛ لأن مآل ذلك هو الخراب والهلاك.

من هنا حاجة الروبو إلى فلسفة. فالحياة لا تستقيم بالأداة والرقم والمعلومة، من دون سقف رمزي تجسده المعاني والقيم أو القواعد والفضائل. ولا يعني ذلك العودة إلى الوراء، وإنما يعني أن نتحول عما نحن فيه، في مواجهة التغيرات والتحديات، بابتكار الجديد من المفاهيم والقواعد أو الأنماط والأساليب.

لعل أهم ما فتحته الثورة الرقمية من إمكان وجودي، بمنصاتها وروبوتاتها، هو أنها أتاحت لكل فرد أن يتحول إلى لاعب فاعل، بوسعه أن يتدخل في الشأن العام، عبر الشبكات، بالقراءة أو الكتابة، بالمحادثة أو المناقشة. لنحسن استخدام هذه الأدوات والتعامل معها، بحيث يشتبك في أنشطتنا وأعمالنا، ما هو سياسي وخلقي أو اقتصادي وتقني أو معرفي وجمالي. وتلك هي فلسفة الروبو.


يوفال نوح هراري(٦) ويان لوكان(٧) وجهًا لوجه: الذكاء الاصطناعي أو صدمة الأدمغة(٨)

حوار: هيلواس بونس وغيوم غرالي – ترجمة: يحيى بوافي مترجم مغربي

الذكاء الاصطناعي هو موضوع الساعة الذي فرض نفسه على الجميع من دون منازع، من تشي جي بينع إلى جو بايدن وفلاديمير بوتين الذي صرح بنفسه سنة 2017م، أن البلدان التي ستكون لها الزعامة في ميدان الذكاء الاصطناعي هي التي ستكون لها الهيمنة والنفوذ على الساحة العالمية. وإذا كان التاريخ قد أظهر مدى ما تمتعت به رؤية سيد الكرملين من عدوانية على الأقل، فمن المستحيل أن يُتجاهَل اليوم ما حققه الذكاء الاصطناعي من تقدُّم. فهو قادر على تسهيل الملاحظة الفضائية أو إعداد آلياتها وصيانتها، وعلى إتاحة تمثيل البروتينات القابلة للطي مثل بلعمة (phagocyter) حقيقية، مع مضاعفة المشاهد التي تستلهم الراهن وتكون أكثر اتصافًا بالحقيقة من الطبيعة، فماذا تعتقدون بخصوص هذا الصعود القوي الذي هو، دون أدنى ريب، الصعود الأكثر هَوْلًا في مَشهديّتِه منذ أن ظهر تعبير «الذكاء الاصطناعي» سنة 1956م في مؤتمر دراتموث؟

من الناحية النظرية كل شيء يذهب في اتجاه تأكيد التعارض بين يان لوكان ويوفال نوح هراري؛ فأحدهما باحثٌ بينما الآخر مُؤرِّخ. يرى الأول أَلا شيءَ يدعو إلى الذُّعر من ظهور هذا التخصص، بينما يخشى الآخر أن يؤدي بحضارتنا إلى الانهيار. سبق ليوفال نوح هراري أن وقّعَ على الرسالة المفتوحة التي وجهها منتدى التفكير الذي يحمل اسم مستقبل الحياة (Think Tank The Future of life)، على غرار ما فعل قُرابة ثلاثين ألف باحثٍ طالبوا بالتوقف لمدة ستة أشهر عن تنمية وتطوير أدوات تكون أرقى من شات جي بي تي (- 4 GPT-)، النموذج اللغوي الذي سرّع من اعتماد شات جي بي تي في وقت قياسي، أما يان لوكان فلا يرى في هذا النداء إلا ضجة وزعيقًا لرسل الموت.

أُجرِيَت المقابلة التي اقترحتها مجلة لوبوان بشكل تناظري عن بعد؛ لأجل المواجهة بين وجهة نظر كل من يان لوكان ويوفال نوح هراري حول الذكاء الاصطناعي وما يعِدُ به من منافع وما يُنْذِرُ به من أخطار. الأول مدير البحث الأساسي في الذكاء الاصطناعي بشركة ميتا الحاصل على جائزة تورينغ التي تعادل جائزة نوبل في مجال المعلوميات، وصاحب كتاب «حين تتعلم الآلة» الصادر عن دار النشر أوديل جاكوب، والثاني هو مؤلّف لكتُبٍ تصدَّرت قائمة الكتب الأكثر مبيعًا: «العاقل، تاريخ موجز للبشرية» و«21 درسًا للقرن الحادي والعشرين» (صدرت ترجمتهما الفرنسية عن دار النشر ألبان مشيل).

الذكاء والوعي والمشاعر

● لتكن بدايتنا من أهم نقطة، أي ما تعريفكما للذكاء؟
  يان لوكان: الذكاء هو القدرة على إدراك وضعية، ثم تصميم وتخطيط مقطع من الأفعال لأجل بلوغ الهدف.

يوفال نوح هراري: الذكاء هو القدرة على حل المشكلات. غير أن الذكاء لا يرادف الوعي، مع أنهما يمتزجان ويختلطان لدى الإنسان، فالوعي هو القدرة على الشعور بالألم وبالحب وبالكراهية، والكائنات البشرية تستخدمُ الوعي أحيانًا من أجل حل المشكلات، غير أننا نجد العديد من الكائنات العضوية، كما هي الحال للنباتات والعضويات المجهرية، التي تحل المشكلات من دون أن يكون لها وعي بذلك، كما أن الآلة بدورها يمكن أن تكون ذكية وتقوم بحل المشكلات من دون أن تكون لها مشاعر.

يان لوكان: نعم لم يتحقق ذلك بعد، لكن الوقت سيحين لحصوله.

  أحقًّا آلةٌ ذكية ولها أحاسيس؟ لكن ما الموعد النهائي لتحقق ذلك؟
  يان لوكان: من العسير جدًّا تحديد المدة التي سيستغرقها ذلك، لكن ما يبقى يقينيًّا ولا يعتريه أدنى شك بالنسبة لي، هو أننا سنشهد على أقل تقدير، آلات يكون مبلغُها من الذكاء مثل ما لدى الكائنات البشرية، فإذا صارت قادرة على أن تضع لنفسها أهدافًا، عندها سيكون لها ما يعادل مشاعرنا وأحاسيسنا الإنسانية؛ لأن العواطف في الغالب الأعم ما هي إلا استباقٌ للنتائج. فلكي نخطِّطَ، على سبيل المثال، ونضع تصميمًا لا بد من أن نستبق النتائج هل ستكون جيدة أو سيئة؟ وهذا ما يشكل أحد الأسباب الرئيسة والأساسية للعواطف، فإذا ما أدركنا مسبقًا، بوصفنا كائنات بشرية، أن وضعية من الوضعيات تنطوي على أخطار صيرُورَتِها وضعية خطيرة، فإن الخوفَ يَنْتابُنا، مما يَحُثُّنا على البحث عن اختيارات مختلفة لأجل الانفلات من الوضعية الخطيرة، وإذا كانت الآلات قادرة على القيام بذلك، فستكون لها عندئذ مشاعر وأحاسيس.

  غير أننا، على ما يبدو، لا نزال أبعد ما نكون عن الآلة الواعية، التي استحضرها عالم الرياضيات البريطاني ألان تورينغ منذ الخمسينيات من القرن الماضي…
  يوفال نوح هراري: إنه أمر ممكن لكنه ليس بالأمر الضروري الذي لا يمكن تفاديه وتجنُّبُه، إن الوعي هو القدرة على اختبار الأحاسيس والمشاعر، وبالتالي فمن الممكن تمامًا أن تكتسب الآلات وعيًا، لكن يمكنها أيضا التطور وفقًا لنمط تطور مختلف، وأن تُنَمّي أنواعًا أخرى من الذكاء تكون أعلى من الذكاء البشري، لا تستلزم أي إحساس، وتلك هي الحالة الحاصلة فعليًّا في ميادين محدودة مثل ألعاب الشطرنج أو لعبة الغو، فألفا غو(٩) لم يشعر بالفرح حين كسب الجولة، مع أنه أكثر ذكاءً من الكائنات البشرية في هذه اللعبة، وبالتالي فمع الذكاء الاصطناعي العام يمكن للآلات دون إحساس أن تتخطى ذكاءنا بأشواط كبيرة.

يان لوكان: من اليقيني أن كثيرًا من الأنظمة التي نصفها بالذكية ستكون موجودة، بل إنها موجودة الآن، وسبق لها أن وُجدت فعليًّا، فعلى سبيل المثال لاعب الغو أو حتى نظام القيادة الآلية، كلها أنظمة لا تمتلك مشاعر وأحاسيس، لكن لو أردنا لها أن تكتسب مستوى بعينه من الاستقلالية وأن تعمل مُحاولةً تحقيق هدف، فمن الراجح أنّنَا سنُجهزها بما يكافئُ الأحاسيس أو المشاعر، بحيث تكون قادرة على التَّنبُّؤ بنتيجة مقطع خاص من الأفعال.

أخطار ومكاسب محتملة

  شات جي بي تي الذي تملّك لغتنا، الجوهرية جدًّا في العقد الاجتماعي، هل ينطوي على أخطار؟
  يان لوكان: لا أظُنّ أن هذا الرُّبُوت الخاص بالدردشة خطير في الوقت الحالي. كان يمكنه أن يصير كذلك، لو صُمِّم بكيفية مغلقة، وبعيدًا من الأنظار، غير أن العكس هو الذي حصل، لأن وسيلة التقدم للنماذج الكبرى الخاصة باللغة هي جعلها ذات مصدر مفتوح. وهي فكرة جيدة سواء نظرنا إليها من زاوية الأمن أو من زاوية البحث. لكن لنتصور مستقبلًا يكون فيه بإمكاننا جميعًا امتلاك عامل ذكي تحت إمرتنا وتحكُّمِنا؛ إنه تمامًا كما لو أن فريقًا من الأشخاص الأكثر ذكاء قد صار فجأة يخدمنا تبعًا لما نأمر به، حتى يجعلنا أكثر إنتاجية وإبداعية. وهؤلاء الفاعلون الأذكياء سنخاطبهم بكيفية طبيعية جدًّا، كما في فِلْم «هي» (Her). ومن جهتي، بوصفي مديرًا صناعيًّا سابقًا وأستاذًا جامعيًّا، أحاول ألا أعمل إلا مع من هم أكثر ذكاءً مني؛ لأنها أجود وسيلة للنجاح، وبالتالي ليس علينا الشعور بأننا مهدّدُون بهذا الأمر، بله يجعلنا أقوى وأكثر تعزيزًا، إنه مطلع نهضة جديدة وعصر أنوار جديد.

يوفال نوح هراري: إن السؤال المطروح هو معرفة من هم أولئك الذين سيكون هذا البرنامج في أيديهم، نعم يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون مدهشًا وعجيبًا، لكن إذا وقع بين الأيدي الخطأ، يمكنُه تدميرُ الديمقراطية أيضًا. إن مصدر الديمقراطية هو المحادثة والمناقشة بين الأشخاص، وإذا ما وُجد هؤلاء العملاء القادرون على إقامة محادثة أفضل من أي كائن إنساني كان، وكانوا مُوظّفين في خدمة فاعلين غير مسؤولين، فإن السيناريو الكارثي هو ما سيرتسم في الأفق. وإذا ما قُرصِنَت المُحادثة بين الأشخاص أو التُفّ عليها وشُوِّهَت، وهو ما يقدر الذكاء الاصطناعي على القيام به في الوقت الحالي، فإن ذلك سيقوِّضُ أسس ودعائم النظام الديمقراطي. إذن فمَنِ الأخطر، أن تكون حاصلًا على مساعد ذكي يقدم لك 95% من أجود النصائح، أم أن يكون لك مساعد يضاعف الهلوسات(١٠)؟

يان لوكان: إن الأنظمة الحالية للذكاء الاصطناعي مساعداتٌ جيدةٌ في الكتابة، لكنها ليست مصادرَ موثوقة للمعلومة. وفي غضون سنتين إلى خمس سنوات مقبلة، سيحقق النظام تقدمًا من أجل خلق أنظمة للذكاء الاصطناعي تكون أكثر واقعية، لتصير هذه الأنظمة في نهاية المطاف أكثر موثوقية من أي وسيلة أخرى للبحث عن المعلومة. لنأخذ على سبيل المثال الأنظمة الخاصة بالسيارات ذاتية القيادة: في الوقت الحالي نجد الأنظمة المساعدة على السياقة تكون على درجة كبيرة من الموثوقية على متن الطريق، لكنها لا تكون كذلك في مكان آخر ويُطْلَبُ من السائق وضع يديه دائمًا على عجلة القيادة. ومع النماذج اللغوية ذاتية الارتكاس، يُفْتَرَضُ بالمستخدمين ألا تبتعد أيديهم لحظةً من لوحة المفاتيح؛ لأن هذه الأنظمة يمكن أن تقول أشياء غبية وسخيفة، إذ ليس لها حس سليم، حتى إن كانت قد راكمت كمًّا هائلًا من المعارف التي يُمكنها اجترارها.

  ألا ينطوي وجود آلات أكثر استقلالية على خطر تطور ونمو عالم يتخلّى فيه الإنسان عن كل قدراته على اتخاذ القرار لصالح الآلة؟
  يان لوكان: إننا نعيش بالفعل في عالم معظم القرارات التي تُتَّخَذ هي قرارات تتخذها الآلات، طبعًا هي قرارات ليست على درجة كبيرة من الأهمية، لكن حين تعمدون إلى البحث على محرك البحث، فإن ترتيب المعلومات المعروضة تُحَدّدُه الخوارزميات مسبقًا. وإذا ما جمعتكم مناقشة على شبكة التواصل الاجتماعي مع أصدقائكم الذين يتحدّثون بلسان آخر، فإن الخوارزميات هي التي تتولى ترجمتها، طبعًا لا تكون تلك الترجمة بمواصفات الكمال المطلوبة، لكنها تبقى نافعة في كل الأحوال، وهو ما يدل على أن كل أداة يمكن أن تُوَظَّف؛ إما لتحقيق غايات جيدة أو سيئة، والمستخدمون هم من يحددون في نهاية المطاف، ما تقوم به الخوارزميات؛ لأن هذه الأخيرة تتكيّف وتتأقلم آليًّا بدلالة رغبات المستخدمين.

يوفال نوح هراري: لا يمكن للسكين أن تقرر قتل شخص ما أو إنقاذ حياة في أثناء عملية جراحية؛ لأن القرار كان دائمًا موقوفًا على الإنسان، بينما الذكاء الاصطناعي هو الأداة الأولى التي يمكنها الحلول محلَّنَا في عملية اتخاذ القرار. صحيح أننا لسنا بمأمن من القيام باختيارات سيّئة، فقد ارتكبنا أخطاء مُرعبة وعشنا تجارب فاشلة، من قبيل النازية والشيوعية، كما أن الحربين العالميتين الأولى والثانية كلتيهما كانتا خطأً فادحًا. وبعد تدمير حياة مئات الملايين من الناس، تعلمنا في نهاية المطاف بناء مجتمعات صناعية جيدة، والسبب الوحيد الذي يفسّرُ بقاءنا على قيد الحياة في القرن العشرين هو أن التقنية لم تكن بالقوة التي تتيح لها تدميرنا، أمّا تقنية القرن الحادي والعشرين فأقوى بكثير من نظيرتها في القرن الماضي، وإذا ما ارتكبنا من جديد خطأ من قبيل ذاك الذي وقعنا فيه كأن نُقيم، على سبيل المثال، نظامًا شموليًّا على أساس الذكاء الاصطناعي أو أن نُشعل فتيل حرب عالمية ثالثة، فإن حظوظ خروجنا من ذلك أحياءً، حتَّى نتعلّم من جديد من أخطائنا، تبقى ضعيفة جدًّا إن لم تكن منعدمة.

يان لوكان: الشيء نفسه يمكننا قولُهُ عن الثوْرات التي حدثت في التاريخ البشري، فالطباعة قوّضت المجتمع في أوربا عند بداية القرن السادس عشر الميلادي مع الطوائف الدينية، لكنها حملت معها الأنوار والنزعة العقلانية والفلسفة والعلم والفلسفة والديمقراطية.

يوفال نوح هراري: الطباعةُ غذّت الأنوار، لكنها غذّت الإمبريالية الأوربية والحروب الدينية أيضًا، لكن لو استُؤنِفَت الحروب الدينية من جديد، كما حدث بين البروتستانت والكاثوليك في فرنسا إبّان القرن السادس عشر، فإنني لا أعتقد، في ظل توافر الذكاء الاصطناعي والقنابل النووية أن البشرية ستبقى على قيد الحياة؛ لذلك فإن الخطر متمثل في أن الذكاء الاصطناعي يقوّض أسس الديمقراطية ودعائمها ويقود إلى خلق دكتاتوريات رقمية جديدة ستكون أكثر تطرفًا من الاتحاد السوفييتي.

على عتبات عصر جديد

  لكن على الرغم من ذلك، تقول أنت يا يان لوكان: «إن تعزيز وتضخيم الذكاء الإنساني بواسطة الآلة سيؤدي إلى عصر نهضة جديد»، هل حقًّا يمكن أن يحدث ذلك؟
  يان لوكان: إنها نهضةٌ أو عصر أنوار جديد، يدعمه تسارع التقدم العلمي والتقني والطبي والاجتماعي بفضل الذكاء الاصطناعي؛ لذلك فإن التخفيف من وتيرة البحث العلمي ليس مفيدًا لأنه لن يُوقف الخطر، وأقل ما يُقال عنه هو أنه أمر سخيف. ومن أجل استثمار وتوظيف أنظمة الذكاء الاصطناعي على أكبر نطاق، لا بد من التَّحلي باليقظة والحذر والقيام بذلك تحت رقابة الحكومات والجمهور.

يوفال نوح هراري: لقد استغرقت المجتمعات، ولا سيما الديمقراطية منها، عقودًا في فهم ما يحصل من تغيّرات، كما أن فهم تأثير الذكاء الاصطناعي على السياسة والسيكولوجيا والاقتصاد… سيحتاج سنوات عديدة؛ لذلك سيكون لزامًا علينا التخفيف من إيقاع السيرورة الخاصة به حتّى تكون المجتمعات قادرة على تعيين المخاطر وتحديدها؛ لتبني في المُحصّلة الفعل المناسب.

  ومع البرامج الجديدة كما الحال في برنامج (Midjourney) أو (Runway)، التي تتيح ابتكار صور فوتوغرافية وفيديوهات أكثر فأكثر اتصافًا بالخاصية الواقعية، وهو ما جعل مفهوم الحقيقة موضوع تهديد واعتداء…
  يوفال نوح هراري: إن المشكلة كانت قائمة حتّى قبل أن تظهر هذه الأدوات، فالحوار الديمقراطي قد انهار؛ لأن المواطنين بمن فيهم من ينتمون إلى أحزاب الحكومة، ما عادوا قادرين على التوَصُّل إلى تحقيق التوافق أو الإجماع، وتلك هي المفارقة التي تطبع الديمقراطيات الغربية، ففي الولايات المتحدة الأميركية، بوصفها إحدى البلدان التي تمتلك تقنية المعلومات الأكثر قوة، نجد الأميركيين عاجزين عن تحقيق الاتفاق فيما بينهم حول الأسئلة الأولية جدًّا: من الفائز في انتخابات 2020م؟ هل اللقاحات يمكنها مساعدتنا أم إنها على العكس من ذلك، خطيرة؟ بل إن الأمر قد بلغ بهم حدّ التساؤل عمَّ إذا كان التغيُّر المناخي أمْرًا واقعًا، فكيف لبلد يمتلك تقنيات قوية للمعلومة يعجز عن التّوصُّل إلى تحقيق اتفاق حول أمور هي من الأساسيات؟ وبناءً عليه يبدو أنْ لا شيء قد اكتُسِبَ.

يان لوكان: إن الجيل الشاب الذي نما وترعرع في صُحبة الإنترنت، يأخذ مسافة نقدية وله كيفية أكثر نسقية وتنظيمًا للتوصل إلى أصل معلومة من المعلومات، فكثير من التَّنبُّؤات لا تأخذ في حُسبانها أنَّ الناس يكيِّفُون طريقتهم في التفكير.

سلاح ذو حدين

  هل سنكون في حاجة إلى شكل التنظيم السائد نفسه في مجال الطاقة النووية؟
  يان لوكان: يتمثل الاختلاف الكبير في أن الذكاء الاصطناعي صُمِّمَ لأجل زيادة الذكاء الإنساني، بينما صُمِّمَت الأسلحة النووية لقتل الناس.

يوفال نوح هراري: إنه لَسؤال جيد: هل صمّمنا الذكاء الاصطناعي لجعل الناس أكثر ذكاء أم لأجل التّحكُّم فيهم؟ الإجابة عن هذا السؤال تختلف من بلد إلى آخر.

يان لوكان: من المرجّح أن بعض البلدان تصمّم الذكاء الاصطناعي للتحكم في الناس، غير أن تأخرها في مجال التقنية سيكون أمرًا لا مناص منه.

يوفال نوح هراري: أعتقد أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرّد أمنية، فعلى سبيل المثال كان النازيون أكثر تقدمًا من الغرب في مجال البنادق والطائرات النفاثة؛ إذ هزمت ألمانيا النازية فرنسا سنة 1940 هزيمة حاسمة، حتى إن كان التوازن الاقتصادي بين القوات قد شَجَّع التحالف الفرنسي البريطاني؛ لذلك لن أراهن على أن الديمقراطيات هي من تكون لها السيادة دائمًا.

  ما رأيكم في اقتراح إيلون ماسك زرع رقائق إلكترونية في أدمغة كائنات بشرية حتى تنافس الذكاء الاصطناعي؟
  يوفال نوح هراري: يعيدنا ذلك إلى طرح سؤال: كيف نفكر بخصوص إمكانية جعل «الكائنات الإنسانية مزيدة ومعزّزة»؟ أعتقد أنه من الخطير جدًّا استخدام الذكاء الاصطناعي أو الوصلات أو الأسطح البينية دماغ- حاسوب لمنحهم حياة أطول أو ذاكرة أفضل. فقد عانينا دائمًا، نحن معشر البشر، من وجود فارق وتباعد بين قدرتنا على استخدام الأنظمة والحكمة الضرورية من أجل فهم هذه الأنظمة في العمق، لكن الحاصل، للأسف، هو أن الاستغلال أسهل بكثير من الفهم. تعلَّمنا في الماضي التحكم في الأنهار والحيوانات والغابات، لكن غاب عنا فهْمُ تعقيد النظام الإيكولوجي، فكان أنْ أفرَطْنا في استخدام قوتنا وسُلطتنا؛ وهو ما تسبَّب في اختلال توازنه. وفي القرن الحادي والعشرين لم نعد قادرين على تعلُّم استغلال العالم الذي يحيط بنا وحسب، بل صرنا قادرين على التحكم في عالمنا الداخلي واستغلاله أيضًا، فالذكاء الاصطناعي والتقنيات الأخرى مثل الهندسة الوراثية، يمكنها إتاحة إعادة تصميم جسدنا وأذهاننا، وأن نتحكم في انفعالاتنا، وأفكارنا وإحساساتنا. كما أن الحكومات والشركات والجيوش يمكنها استخدام التقنيات الجديدة لتحسين الكفاءات التي تكون في حاجة إليها من قبيل الذكاء والانضباط، عبر إهمالها وتخليها عن تنمية العطف، والحساسية الفنية أو الروحية. هكذا يمكننا أن نفقد قسمًا كبيرًا من إنسانيتنا من دون أن نكون على بيّنة من ذلك. إننا نفضِّل التركيز على الزيادة في قوة الخوارزميات بدل أن نركز على البحث في الذهن الإنساني الذي لا نعرف إلا النزر القليل عنه؛ لذلك أتمنى أن نخصِّص في مقابل كل دقيقة نكرّسها لنمو الذكاء الاصطناعي، دقيقة أخرى للبحث في تطور ذهننا الخاص.

يان لوكان: فيما يخصُّ الرقاقات التي تُغرَسُ في الدماغ، فإن البحث فيها يجري منذ سنوات عديدة، وهي تظل مفيدةً جدًّا في علاج بعض اضطرابات البصر والسمع، وواعدة جدًّا في علاج أنواع بعينها من الشّلل، ويمكننا أن نتصور علاج بعض اختلالات الذاكرة في المستقبل عبر حصين اصطناعي، غير أنني أشك في أن يُوافق كثير من الأشخاص على وضع رقاقات مغروسة ليتفاعلوا مع مساعد افتراضي، وإن حصل ذلك فلن يحصُل في المستقبل القريب على الأقل. الذكاء الاصطناعي يسرع وتيرة تقدم الطب، وهو ما نعاينه الآن في مجال التصوير الطبي، كما ساعدنا بالفعل في فهم آليات أو مكانيزمات الحياة البيوكميائية، على سبيل المثال من خلال التحكم في تشَكُّل البروتينات وتفاعلاتها مع بروتينات أخرى. لا أومن بالسيناريو الذي يُشَجّع من الخيال العلمي، وفيه ستكون الهيمنة للذكاء الاصطناعي على الإنسانية وسيقضي عليها، ربما قد تكون أنظمة الذكاء الاصطناعي المستقبلية أكثر ذكاء منَّا نحن، لكنها ستَخْدُمنا ولن تكون لها أي رغبة في الهيمنة على البشرية.


الوجود الإنساني والأنطولوجيا الرقمية

عبدالعزيز بومسهولي كاتب مغربي

يعبر العقل الاصطناعي عن العالم برمته، كانكشاف أخير للإنسانية جمعاء. وهذه مسألة حتمية تفوق كل إمكانيات البشر؛ لأنها لا تعبر عن مجرد رغبات بشرية فردية، بقدر ما تعبر عن تلك الرغبة الفائقة التي يختزل فيها الوجود الإنساني كله داخل ما يمكن تسميته الأنطولوجيا الرقمية، التي مسّت في الصميم كل رغبة أنثروبولوجية خاصة، وحولتها إلى مجرد رغبة رقمية. وهي بذلك لا تحول دون إمكانية المعرفة بالنسبة للإنسان، أو ما الذي يمكنني أن أعرفه؟ كسؤال كانطي محض، وإنما تجعل من ذاتها إمكانية فائقة للمعرفة التي تتجاوز قدرات العقل البشري على إنتاج المعرفة. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن قدرة العقل البشري ليست ممكنة الآن في هذا العالم الرقمي من دون وساطة للعقل الاصطناعي. بل إن ماهية الإنسان عينها صارت بدورها رقمية.

ولهذا ينكشف السؤال مجددًا: مَنِ الإنسان؟ هل هو هذا الكائن الإنساني الذي يعبر عن العالم، كما لو كان راعيًا للوجود؟ أم هو هذا الكائن الإنساني الذي ينكشف بدوره في عالم الذكاء الاصطناعي ككائن رقمي؟ إذن، مَنِ الإنسان؟ هل هو كائن انتهى زمانه؟ وإذا انتهى زمانه الذي تؤسسه رغبته الأنثروبولوجية، فما الذي يكونه هنا والآن فيما يمكن تسميته ما بعد الإنسانية؟ وهل ما بعد الإنسانية ليست إلا مجرد استعارة تحكي الانكشاف الأخير للتاريخ كعقل كوني لرغبة ترهن الاقتدار البشري في عقل كلي يتحكم في التاريخ، ربما على نحو هيغلي، حيث ينكشف العالم ككتاب لا متناه الحدود وكأفق مفتوح؟

قدرات فائقة

العقل الرقمي لا يفكر كما العقل الإنساني، هو يعمل فقط، ولكنه يعمل بقدرات فائقة للعقل البشري، أو إن شئنا هو العقل الذي يحوي في ذاته العقل البشري كله، واللوغوس الكوني الذي يختزل في جوفه عقل أو نظام الطبيعة. وبالرغم من كون العقل الرقمي نتاجًا للفكر البشري، فإنه بقدرته الفائقة على العمل لا على التفكير، صار شرطًا ضروريًّا لإمكان تجربة الفكر، فليس بإمكان الفكر اليوم إلا أن يفكر لا انطلاقًا من معطى الحساسية وحسب، بل من معطى إدراك رقمي للحساسية. ومعناه أن العقل الرقمي اليوم هو الذي يملي قوانينه على تجربة الفكر. لقد كان الفكر الساذج واهمًا عندما تصور أن التقنية ستتحكم في الإنسان من خلال كائن آلي من صنعه، غير أنه أدرك اليوم أن ما يتحكم في تجربته ليس هو هذا الكائن الأسطوري المتشكل في مخيال الإنسان، وإنما هو هذا العقل الرقمي الذي صار يشكل عنصرًا مكونًا لماهية وجوده في العالم، بحيث إن ماهية وجوده تكاد لا تنفصل عن هذه الماهية الرقمية التي صار مرغمًا على التفكير من خلالها في اختبار تجربة وجوده، وفي اختيار نمط عيشه.

طبيعة رقمية

الجسد وحده قادر على أن يتشكل رقميًّا، ما دام أن طبيعته ليست فيزيقية محضة ولا هي روحية محضة، بل هي من طبيعة رقمية بالمعنى الذي يفيد بأن الفيزيقي والروحي هما معًا محض احتمال رقمي، وأنهما معًا ليسا موجودين مستقلين بذاتيهما، بقدر ما هما وجهتا نظر للإنسان عن الشيء عينه الذي هو الجسد، والذي يشهد بتحوله الرقمي على نهاية زمان بلغ فيه مع الإنسان أقصى كمالات إشباع الوجود. وهذا معناه أن الكائن الإنساني، قد انتهى زمانه، كما عبرنا عن ذلك في أطروحتنا لعام 2001م. أي أن زمان التاريخ بما هو إشباع للرغبة الأنثروبولوجية للإنسان قد استنفد أغراضه، ليفسح المجال لزمن يجعل من الجسد المشبع تاريخيًّا وأنثروبولوجيًّا عنصرًا أساسيًّا في المعادلة الرقمية للوجود.

توضيح أخير: الإنسان الذي جعل من نفسه وصيًّا على الجسد، انتهى زمانه، ليس بالمعنى الهيغلي- الكوجيفي ولا الفوكويامي، ولكن بمعنى أقرب من تصور سبينوزي مفاده أننا لا نستطيع معرفة ما يقدر عليه الجسد، وأن قدرة الجسد على التشكل تفوق كل الاحتمالات الممكنة وكل الممكنات المتماكنة أيضًا.

كاتب مغربي


تحديات السرد الروائي في مواجهة الذكاء الاصطناعي

لنا عبدالرحمن روائية وناقدة لبنانية

لم يعد عالم الرواية بعيدًا من رهانات الذكاء الاصطناعي؛ إذ تتواتر الأخبار بشكل متلاحق عن تجارب يقوم بها الكُتاب، بغرض امتحان علاقتهم مع التقنية الجديدة، واكتشاف الدور الذي ستؤديه في حياتهم. الكلام لا ينتهي عن تقنية «شات جي بي تي»، وعن روبوتات تحل مكان البشر، وتفعل أفعالهم، وتهددهم بوجود منافس قوي في مجالات علمية، ومهنية كثيرة، سواء في الطب أو الهندسة أو تصميم الغرافيك، ومهن أخرى؛ لذا يحضر التساؤل إلى متى ستظل الكتابة الإبداعية بمنأى عن الخطر الإلكتروني؟ وهل هي بعيدة حقًّا؟ وهل من الممكن لروبوت أو نظام حاسوبي أن يكتب رواية أو قصيدة تتفوق على ما كتبه البشر؟ وما القيمة الحقيقية للنصوص التي ينتجها الذكاء الاصطناعي؟ إن هذه التساؤلات التي تدور في أذهان المبدعين، أو الذين يعيشون في دائرة الإبداع من كُتاب وقراء، تستحق التأمل الدقيق بغية استقراء الغد، بكل ما فيه من مفاجآت محتملة؛ وبخاصة أن الرواية العربية تشهد حضورًا للتقنية بدلالات عدة؛ سواء بالكتابة عن دور الروبوتات في الحياة المستقبلية، أو قبول التشارك مع التقنيات الجديدة في كتابة رواية مشتركة.

توليد النصوص

أثارت قدرة التقنية الجديدة على توليد النصوص كثيرًا من النقاشات، حول مستقبل الأدب والشعر. يرى بعضٌ أن ما ينتجه الذكاء الاصطناعي هو مجرد تكرار للأنماط اللغوية التي سبق استخدامها، وليس له قيمة إبداعية حقيقية، كما أنه سوف يؤدي إلى فقدان الهوية الفريدة للكتّاب والشعراء؛ لأن النصوص، التي أُنشِئَت بواسطة الذكاء الاصطناعي، تفتقر إلى الروحانية والعمق الإنساني.

بينما يرى آخرون أن هذه التقنيات قد تفتح الأبواب أمام أشكال جديدة من الإبداع الأدبي، حيث يمكن دمج القدرات البشرية والآلية معًا لإنتاج أعمال فنية حديثة ومبتكرة؛ إذ بمجرد تدريب النموذج الإلكتروني بشكلٍ كافٍ، يصبحُ قادرًا على توليد نصوص جديدة تبدو طبيعية. ومع ذلك، يجب أن نلحظ أن هذه النصوص ليست ناتجة عن «تفكير» أو «إبداع» بالمعنى التقليدي للكلمة. بل هي نتيجة للأنماط اللغوية التي اكتشفها النموذج في أثناء مدة التدريب. المدافعون عن التجربة يعتبرون أن الجانب الإيجابي في الأمر يتعلق بسهولة الوصول إلى محتوى أدبي مختلف، من خلال استخدام تطبيقات ومواقع تستند إلى الذكاء الاصطناعي، كما أنه يُسرع من الوتيرة الإنتاجية للكُتّاب بسبب سهولة الحصول على المعلومات. هذا إلى جانب قدرة التقنيات الحديثة على تحليل وفهم النصوص الأدبية؛ إذ يمكن للخوارزميات والنماذج اللغوية تحليل النصوص بطرق تتجاوز قدرات البشر في بعض الحالات، ومن ثم يُمكن توجيه القراء إلى فهم أعمق للعناصر الأدبية، مثل الرموز والتعبيرات المجازية والتناص. وعلى الجانب الآخر قد يؤدي التحليل الآلي للأعمال الأدبية إلى تقييم سلبي، من دون أخذ العوامل الإبداعية والثقافية والاجتماعية والفردية في الحسبان.

رؤية غربية

كازو إيشيغورو

كتب كازو إيشيغورو الكاتب البريطاني الياباني الأصل، الحاصل على جائزة نوبل في الآداب، روايته «كلارا والشمس» حول الروبوت «كلارا» وعلاقة الصداقة التي سوف تجمعها مع فتاة مراهقة تشتريها من أحد المتاجر؛ كي تعيش معها وتعوضها عن أختها الميتة. إيشيغورو عبّر في أكثر من مناسبة عن قلقه، من أن يؤدي الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي إلى التقليل من قيمة العمل الأدبي، والخلفية الثقافية والتاريخية للإبداع. يطرح إيشيغورو تساؤلًا حول جوهر أن نكون بشرًا في عصر يتقدم فيه الذكاء الاصطناعي بقوة نحو الحياة الإنسانية، ويقدم نبوءة عن الحياة المستقبلية عبر سلسلة من العلاقات القوية، التي تجمع بين الإنسان والآلة، بداية من والدة الفتاة «جوسي»، التي تريد أن تشتري روبوت على شكل فتاة، لأنها فقدت ابنتها الكبرى، وابنتها الثانية مهددة بالموت؛ لذا حين تشتري «كلارا»، تطلب منها أن تُقلد حركات ابنتها في المشي والأكل، وسائر العادات.

تثير «كلارا والشمس»، تساؤلات عميقة حول تعقيدات العلاقات البشرية المستقبلية، وإمكانية حدوث تقاطع بين الوجود الإنساني الطبيعي، والمعدل جينيًّا والذكاء الاصطناعي. لكن المفارقة في السرد، أن إيشيغورو يضفي لمسة من الإنسانية على حوارات كلارا وجوسي، وعلى أفكار كلارا، وكأنه يحذرنا مما يمكن حدوثه مستقبلًا.

مارغريت أتوود

الروائية الكندية الشهيرة مارغريت أتوود، صاحبة رواية «حكاية الخادمة» التي تدور أجواؤها في عالم من الدستوبيا، تنحو إلى اعتبار أن الذكاء الاصطناعي قد يُمثل فرصة للبشرية لاستكشاف جوانب جديدة من الإبداع، شريطة استخدامه بطريقة مسؤولة، ولا يحل محل الإنسانية في الأدب. قدمت أتوود في روايتها هذه، التي تُعيد إلى الأذهان رواية جورج أورويل «1984»، عالمًا مستقبليًّا غارقًا في مأساوية عصرية، حيث النساء عاجزات عن الإنجاب، ويتعرضن للتعذيب عبر إرسالهن إلى معسكرات لتنظيف بقايا الإشعاعات النووية. تغوص أتوود في حكايات بطلتها، وبطلات أخريات، يواجهن أخطارًا تتعلق بالتغيرات الجغرافية والمناخية، وفقدان التوازن الاجتماعي والبيئي، وهو ما يجعل الحياة ككل مهددة بالزوال.

التقنية عربيًّا

ظهرت في الآونة الأخيرة، العديد من الروايات، التي تقدم نبوءات مستقبلية حول علاقة الإنسان مع التقنية والروبوتات والذكاء الاصطناعي من جهة، وحول مصير الإنسان على هذا الكوكب من جهة أخرى. والملحوظ حول هذه الروايات أنها تتقاطع عند مجموعة من الأفكار المشتركة.

في رواية «جزيرة المطففين»، الصادرة عن دار المتوسط، يقدم الكاتب اليمني حبيب عبدالرب سروري، رؤيته لتحالف الرأسمالية والتقنية، من خلال سرد تَنبُّئِيّ واستباقي للمرحلة القادمة، التي تحكم مصير الإنسان، وتحوله إلى مجرد مُتلقٍّ للنظام الرأسمالي العالمي، وعبر استغلال البيانات والذكاء الاصطناعي، يحدث التجسس على حياة الناس. تتعدد أماكن الرواية من بريطانيا إلى العالم العربي، وتتناول قضايا مصيرية وحساسة، مثل الهجرة واللجوء والأوبئة والكوارث البيئية، لكنها تركز على التحولات العصرية المستمرة، وتنبه إلى أخطار حلول الآلات مكان البشر، وإلى إمكانية خروج الآلة عن السيطرة البشرية وحدوث تمرد مخيف، سوف يهدد الحياة الإنسانية حقًّا. لنقرأ: «برز هذا السؤال سريعًا: من سينقل لبعض البشر غذاءهم لبيوتهم، في هذين الأسبوعين الحاسمين؟ الرد بديهي أيضًا: روبوتات هذه الحكومة الموحدة… ومن سيعاقب أي إنسان يغادر باب منزله؟ الرد بديهي أيضًا: درونات الحكومة الموحدة، ستقصفه بإشعاعات فاتكة، لمجرد رؤية عدساتها له وهو يحاول مغادرة باب مسكنه لأي سبب كان، أسبوعان لا يُنسيان في تاريخ كوكب الأرض، لم يقصف خلالهما غير نحو 25 ألف إنسان فقط».

من ناحية، يفتتح الكاتب المصري تامر شيخون روايته «شفرات القيامة» بعبارة لألبرت أينشتاين تقول: «العلم بدون دين كسيح، والدين بدون علم أعمى». تستشرف الرواية زمنًا مستقبليًّا يقع في سبتمبر 2045م، مع الدكتور نوح جوشواه اللاجئ السوري الأصل، الأميركي الجنسية. ومن خلال سرد يتنقل في الزمان والمكان مع شخصيات عدة، يطرح الكاتب رؤيته حول الأخطار التقنية القادمة. إنها تتسلل لحياتنا بقوة من دون أن ندري بها، وصلنا لمرحلة أصبحنا فيها لا نملك أداة للتغيير، وهذا يتضح من استخدام شيخون لكلمة «شفرات» التي تدل على أمرين: أولهما تحول البشر إلى مجرد «أكواد»، والثاني أن امتلاك بعض الشفرات السرية في أيدٍ عابثة ومؤذية سوف يؤدي إلى الخراب، وإلى حلول القيامة على الأرض. لنقرأ: «عجيب أمر التكنولوجيا، في لحظة فارقة، ينفرد فيها المرء بذاته ليواجه معضلة وجوده، يتابعني فيها عشرة ملايين مُشاهد، جالسين في بيوتهم أو مكاتبهم عبر شاشة هولوغرام سرمدي، من خلال كاميرا أصغر من حبة العنب مثبتة خلف أذني. سيستمتعون بلحظاتي الأخيرة «لايف»، كما استمتعوا بألعاب «كول أوف ديوتي، حروب الجيل السابع»، لكنهم أبدًا لن يدركوا ما إذا تلاشت نفسي في العدم أو انتقلت إلى برزخ موازٍ طالما أفسد حياتي الأرضية».

في رواية «البراني» للكاتب الموريتاني أحمد ولد إسلم، نقف أمام عالمين؛ أحدهما نقي ومجرد من التقنية «مدينة النعمة»، والآخر محكوم تمامًا للآلات «جزيرة المستقبل»، وبين هذين المكانين تدور الأحداث، تتقاطع مصاير شخوص الرواية مع الروبوتات، التي تحل مكان البشر في العديد من المهام، مثل مهمة رعي الأغنام، التي يقوم بها في الرواية روبوت ذكي اخترعه «مختور ولد احويبيب»، الذي يعيش وسط العالمين، ويحب الاستماع إلى الموسيقا التقليدية الموريتانية. يصفه وهو يواصل قيادته لسيارته الحديثة جدًّا، ويستمتع بترانيم ونغمات الفنان الموريتاني الشيخ سيد أحمد البكاي ولد عوه، المنبعثة من شريط كاسيت قديم غير متماشٍ مع طراز سيارته. تتناول الرواية الزلازل، وقوارب الهجرة غير الشرعية، وجزيرة موجودة في المحيط يسكنها جماعات ممن أطلق عليهم «العقول المهاجرة»، يتحقق فيها الرخاء والرفاه الإنساني، ويتحدث سكانها العربية كلغة أولى.

تتطرق الرواية أيضًا إلى فكرة إطلاق فيروس إلكتروني يوقف شبكة الإنترنت، وتفرد مساحة للحديث عن الروبوت الذي حمل اسم «ما يخرص»، ورؤيته للعالم. يقول: «خلال أشهر طويلة من التدريب على الكلام والحركة والأعمال المختلفة، واستكشاف عوالم الإنترنت، واستيعاب عشرات اللغات العالمية، تمكن «ما يخرص» من تكوين وعي ذاتي بنفسه وبمن حوله، وأدرك أنه مجرد برنامج ذكاء اصطناعي، صمم له مخترعه دمية مطاطية من البوليكربون غير قابلة للكسر، وجعله يقوم بمختلف الأعمال التي تحتاجها المزرعة، ووفر له مصدر طاقة مرتبطًا بألواح الطاقة الشمسية، فضلًا عن أنه ألبسه دراعة من أفضل أنواع القماش، وعلمه الحديث باللهجة الحسانية الموريتانية، وجعل منه رجلًا بدويًّا، لا يمكن لمن خاطبه في الظلام أن يساوره شك في أنه ولد على تلة جنوب مدينة النعمة أقصى الشرق الموريتاني».

أما الكاتب المصري الشاب أحمد لطفي، فإنه يتبنى فكرة حضور الذكاء الاصطناعي في الكتابات الإبداعية، ويرى أنه سيقدم مجالات خصبة لإصدارات قيمة في المستقبل. وضمن هذه الصيحة الجديدة المثيرة للاهتمام صدر له رواية «خيانة في المغرب»، عن دار كتوبيا. إنها أول رواية عربية تستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي. ويقوم بناؤها على حوار مشترك بين الكاتب وبرنامج شات جي بي تي، ومكتوبة بشكل أساسي للقراء اليافعين، وتتألف من مئة صفحة، تدور في أجواء بوليسية غامضة، حول شخصية بطل يدعى فارسًا، يتعرض لملاحقة من جانب إحدى العصابات، وهو ما يجعل أحداثها حافلة بالتشويق والإثارة، والأهم من هذا كله هو الاطلاع على بعض الفقرات، التي كتبها الذكاء الاصطناعي، لنقرأ منها: «إذا كان هؤلاء الرجال يلاحقونك بهذه الطريقة، فإن ذلك يعني أن هناك شخصًا قويًّا وخطيرًا خلفهم. شخصًا لديه نفوذ وثروة وسلطة في هذه المدينة، شخص لا تريد أن تواجهه أبدًا».

وعلى الرغم من قيام لطفي بهذه التجربة، فإنه يصف عجز الذكاء الاصطناعي عن القيام بمحاكاة لغوية للكتابات الإنسانية، في هذه المرحلة، وأن كل ما تنتجه الآلات يحتاج إلى التدخل البشري، وبخاصة على مستوى اللغة.

التحدي الأكبر

تُثبت التجارب حتى الآن، أنه ليس بإمكان الأنظمة الحاسوبية إنتاج نصوص أدبية بطريقة تبدو طبيعية وبشرية للغاية، إلا أنه من الممكن جدًّا حدوث تأثير ملحوظ للذكاء الاصطناعي في النصوص الأدبية من الجانب المعلوماتي فقط، أي تسهيل الحصول على معلومات وأحداث أرشيفية أو تاريخية قديمة؛ بسبب احتوائه على كميات هائلة من البيانات اللغوية، التي تشمل كتبًا، ومقالات، ونصوصًا أدبية، شعرًا وغيره، إلى جانب تزويد النموذج بملايين الكلمات والجمل، مما يمكّنه من فهم السياقات والقواعد والأنماط اللغوية. وعلى الرغم من كل هذا، فإنه حتى الآن لم يؤدِّ إلى كتابة نص أدبي أو شعري، أو أي نص إبداعي بشكل مستقل عن التدخل البشري؛ إذ لا بد من أن يقوم الكاتب المتعامل مع هذه التقنيات، بإعادة قولبة النص، وإضفاء الحبكة الإنسانية على ما كتبته الآلة.

لعله من المثير للاهتمام متابعة التطورات المستقبلية في هذا المجال، ورؤية كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي في خلق أشكال جديدة مما يُسمى كتابات إبداعية، وأن نضع نصب أعيننا أن الإبداع الحقيقي يأتي من الإنسانية والتجارب المختلفة والمذهلة، التي يخوضها البشر على مدار حياتهم؛ إذ على الرغم من الإمكانيات الهائلة التي يقدمها الذكاء الاصطناعي، فإنه لا تزال هناك حاجة إلى الإنسان، لإضفاء الروح والعمق على كل الجوانب الإبداعية في حياته، بل إن التحدي الأكبر، الذي سيواجهه هو قدرته على احتواء هذه الإمكانيات التقنية الهائلة، والاستفادة منها بما يساهم في إثراء التجربة الإبداعية والإنسانية.


الظل التقني.. والتلاعُب

فيسيل ريجرز، فليكس ماجوفيسكي، آنا فرينا نوتهوف
ترجمته من الألمانية: شيرين ماهر مترجمة مصرية

تُرى، كيف سيكون رد فعل أفلاطون تجاه أنظمة الذكاء الاصطناعي مثل (ChatGPT)؟! ربما كان سيعترف بهذه الأنظمة عادًّا إياها تحدّيًا سياسيًّا، مثلما فعل مع السفسطائيين. ولكن السؤال الأهم: كيف نتعامل اليوم مع الابتكارات التقنية التي يتكشف لنا كونها أحد أشكال السفسطة الحديثة؟

في القرن الخامس قبل الميلاد، شهدت اليونان القديمة اضطرابات ثقافية، تزامنًا مع ظهور السفسطائيين، حيث ظهرت طبقة من «الحكماء»، ادعى بعضهم أن لديهم إجابات عن كل أسئلة البشرية، وسرعان ما انتشرت الحجج السفسطائية في المجتمع اليوناني. لقد كان رموزهم خطباء جرى تدريبهم على أسلوب لغوي مجوف لا يهدف إلى المعرفة بقدر ما يهدف إلى الإقناع. فغالبًا ما كانت تتفوق طريقة العرض على ماهية الطرح الاستفهامية والمحتوى الذي يجري تقديمه للعامة. كل ما يَهُم، بالدرجة الأولى، التأثير الذي يمكن تركه في الجمهور من الناحية الأدائية والجمالية، بواسطة ما يُعرف بـ«الخطابة الاحتفالية» وهي أحد أشكال البلاغة التي تتعلق بالمدح أو الذم؛ فلم يكن البحث السفسطائي عن الحقيقة مرتبطًا، بالضرورة، بالمعرفة الواقعية، وإنما كان هناك انتشار سريع لما نسميه اليوم «الحقائق البديلة» أو «الأخبار المزيفة».

تبدو هذه الظاهرة القديمة معاصرة، بشكل لافت؛ لأن عبارات مماثلة تتكرر، عبر المولدات الخوارزمية التي طورها الذكاء الاصطناعي (AI)  من قبل شركة OpenAI؛ ومنها تطبيقات مثل chatbot وChatGPT وهي أحد أنواع نماذج اللغة الضخمة التي تعمل في إطار نماذج مُدربة مُسبقًا بواسطة الذكاء الاصطناعي التوليدي، حيث يمكنها إنشاء نصوص مُحكمة ومنطقية بشكل مثير للدهشة عبر مُدخلات بشرية، تُسمى «المحفزات»، على سبيل المثال: إذا كنت تكتب نصًّا عن «السفسطة القديمة» بواسطة ChatGPT، ستجد التطبيق يلخص الحجج ويرتبها بطريقة منطقية صارمة من حيث الأسلوب، علاوة على توفير إمكانيات اقتصادية غير متوقعة؛ لذلك لا تساعد مولدات الذكاء الاصطناعي في كتابة نص لمجلة فقط، بل يمكنها أن تكون (أكثر ربحية) في نطاق البرمجة، بصفة عامة.

ولكن مع كل هذه الضجة، يجب على المرء أن يضع أيضًا السلبيات في الحسبان. فعلى الرغم من أن الرياضيات والإحصاءات والخوارزميات المتقدمة، تغذي ChatGPT  بالبيانات الرقمية، إلا أن الذكاء الاصطناعي ليس آلة معرفة خالصة، لكنه غالبًا ما ينشر هراء لا يُصدَّقُ، وينشر أفكارًا عنصرية ومُحرِّضة على الكراهية وفق احتمالات إقناع نسبية، لكنها مجرد إخفاقات لفظية مكتوبة.

عالم الظل.. وما بعد الحقيقة

بالنظر إلى مثل هذه الإخفاقات، يتبادر إلى الذهن تساؤل مُلِحّ حول كيفية التعامل مع الذكاء الاصطناعي. لقد اقترح العديد من المؤلفين والكُتَّاب؛ مثل الصحفي الهولندي، جيسي فريدريك، عَدّ (ChatGPT) مجرد أداة مساعدة وليست بديلة، فيما سيكون التحايل هنا قائمًا على الفرز ومواجهة الهراء المتولد بشكل بناء، للحفاظ على الجيد وتجاهل السيئ. يمكننا أن نتخيل موقفًا مشابهًا في الماضي: بينما كان بعضٌ يستمع إلى سادة الفكر السفسطائي بطريقة تأملية، كان هناك آخرون يتجاهلون آراءهم ويشككون فيها، متجاوزين الحمقى في الملتقيات الفكرية: ولكن، ترى من يهتم الآن؟!

في الماضي، كانت هناك مجموعة صغيرة من الفلاسفة أكثر تشككًا بقيادة سقراط: لقد تعاملوا مع ظاهرة السفسطة ورموزها من السفسطائيين على محمل الجد، وعدُّوهم تحديًا اجتماعيًّا حقيقيًّا. أمّا هم، فلم تكن اللغة أداة محايدة، بل وسيلة يمكنها إغواء الجمهور بواسطة الخطابة التي تمارس الشعر على نحو متناقض؛ فيمكن من خلاله التلاعب ومزج الواقع بالوهم. واستنادًا إلى هذا المنظور السُّقراطي البحت، علينا أيضًا أن نكون حذرين بشأن الذكاء الاصطناعي، لكونه يتماهى مع الفكر السفسطائي، ومن ثم، هناك احتمالية مع استخدام تطبيق ChatGPT أن تعمل وفق النهج نفسه: بمجرد دمج ألعابها اللغوية مع خدمات الإنترنت اليومية، ربما تحولنا إلى حفنة من المتصفحين في عالم الظل التقني -أي في عالم ما بعد الواقع- وقد يحدث ذلك بوتيرة أسرع مما نرغب.

كما أنه لا ينبغي، بالضرورة، أن نفترض أن هذه البرامج حريصة على إعطاء الحقيقة المطلقة. وبصرف النظر عن عبارات العنصرية أو التحريضية والانتقائية، هناك أيضًا مراجع واقتباسات وهمية. كذلك يمكن للبرنامج إنشاء مواقع ويب مليئة بالأخبار المزيفة، التي تنتقل بدورها عبر الإنترنت كالنار في الهشيم وصولًا إلى مستوى جديد وخطير في الوقت نفسه؛ إذ يتحدث النقاد فعليًّا عن «كارثة نصية» محذرين من «انهيار النموذج»- وهي مرحلة لن يتدرب فيها الذكاء الاصطناعي على الأشياء التي سبق إنشاؤها فحسب، بل سيسود أيضًا كل هرائها ويصبح مصدرًا للبيانات التي ستولد بدورها زيفًا لا حصر له.. ترى، من يريد ولا يزال بإمكانه القيام بمراجعة وتفنيد الحقائق في مثل هذا التنبؤ المفزع؟ إنه ضياع تام للحقائق وبلا رجعة.

إثابات المال والكراهية

في مواجهة لغو العبارات السفسطائية، طور الفلاسفة الموالين لفكر سقراط أساليب جديدة لـ«تقصي الحقائق»، التي مهدت الطريق، لاحقًا، إلى ظهور ما عُرف بـ«علم المنطق». حتى إن أفلاطون، تلميذ سقراط، تساءل عن مراحل المعرفة في القصة الرمزية الشهيرة للكهف التي تعكس ماهية الفكر السفسطائي: حيث كان السفسطائيون، بحسب زعمه، يعرضون الظلال فقط على الجدران، متظاهرين بانعكاسات واقع زائف، بينما لا تتجلى الحقيقة إلا عند خروجنا من الكهف، عندما نرى العالم تحت ضوء كاشف من دون ظلال وهمية، وقتها سنصبح «مستنيرين» بمعنى الكلمة- بحسب الرؤى الأفلاطونية.

يمكننا أيضًا أن نسأل -من منظور فلسفي- عن كيفية اقتفاء أثر المعرفة في عالم ChatGPT الذي يكتنفه الغموض. لكننا بحاجة إلى أن نتجاوز مجرد التساؤل عن الحقيقة وأن نفرق، أولًا، بين ما هو «أصلي» و«مستحدث» في أنظمة الذكاء الاصطناعي، بحيث ستنحصر الإجابة، بشكل حدسي، في كل ما هو «جديد» ما لم يكن موجودًا فعليًّا. ومن هذا المنظور، يمكن قراءة ميلاد الكلمات على أنها بداية لأفكار جديدة، إلا أن التطورات التقدمية في الفن تسمح لنا أيضًا باكتشاف الجديد. لقد طور مصمم الألعاب جيسون إلين Jason M. Allen قالبًا فنيًّا ثوريًّا من خلال الرسم بطريقة مختلفة تمامًا- تجربة جمالية غير معروفة حتى الآن. لكن هل ينطبق الأمر نفسه مع الذكاء الاصطناعي؟!

في العام الماضي، لأول مرة، فاز عمله الذي صممه بمساعدة الذكاء الاصطناعي بالجائزة الأولى في مسابقة فنية صغيرة، حيث استعان «إلين» بمولد الصور Midjourney لإنشاء عمل فني رقمي بواسطة أدوات فلترة موجهة. يمثل عمله الذي حمل اسم « Théâtre d’Opéra Spatial» مزيجًا مستقبليًّا غامضًا يعود إلى عصر الرومانسية المتأخرة وأعمال الرسام النمساوي البارز «Gustav Klimt»، وهو تعديل لرسوم حرب النجوم السماوية بمصاحبة عائلة ملكية على الطراز الياباني، حيث تنظر الشخصيات المجهولة من نافذة مستديرة تطل على مدينة مترامية الأطراف، مع إلقاء نظرة لامعة على المناظر الطبيعية المغمورة، فيما تبدو الصورة غير واقعية، كما لو كانت افتراضية، مُصطنعة، وربما تكون هزيلة بعض الشيء، وكأنها قد أُنشِئَت توًّا.

أمّا هذه اللوحة التي صُنِعَت بواسطة الذكاء الاصطناعي، فتلقى «إلين» كل أنواع التعليقات الكارهة، فضلًا عن 300 دولار. لقد اعترى «إلين» مشاعر الغضب من فوزه بالجائزة بمساعدة متواضعة من صديقه الذي يعمل بالذكاء الاصطناعي؛ لأنه وفقًا لمفهوم النقد على وسائل التواصل الاجتماعي، لم يقم بإبداع نسخة أصلية، بل اقتصر دوره على إعطاء تعليمات؛ إذ يبدو الأمر أكثر حساسية مع الأحكام المتعلقة بأعمال الفن والأدب والشعر والجماليات التي يجرى تنفيذها بمساعدة تطبيقات الذكاء الاصطناعي مثل ChatGPT أوMidjourney، حيث تكون أصالة العمل والتأليف موضع نقاش جذري- بينما جاء تعليق إلين المقتضب على ذلك: «الفن ميت، يا عزيزي. لقد انتهى بالفعل. الذكاء الاصطناعي انتصر، وخسر البشر». هذا الزهو الجبري لا طائل منه بالنسبة لنا، لأن الفروق بين النصر أو الهزيمة، الإنسان أو الذكاء الاصطناعي لا تبدو مختزلة، بل إنها تخفي حقيقة أن الاختلاف المثير للاهتمام بين الإنسان والآلة يكمن في الطريقة التي يخلقان بها الشيء الجديد نفسه؛ وكيفية ارتباطه بالماضي والمستقبل.

إضاءات وزوايا متغيرة

هذا واضح بالفعل في طريقة عمل أنظمة الذكاء الاصطناعي؛ إذ يعتمد كل من ChatGPT وMidjourney على كميات هائلة من البيانات الموجودة فعليًّا؛ مليارات الكلمات من الكتب والمقالات عبر الإنترنت ورسائل البريد الإلكتروني وصور الأشخاص والأشياء. يُدَرَّبُ الذكاءُ الاصطناعي التوليدي على هذه البيانات لاشتقاق احتمالات تتعلق بإجراء التنبؤات. ثم يتنبأ تطبيق  ChatGPT بالكلمة المنطقية لمتابعة الكلمة السابقة، فيما يطابق برنامج Midjourney أي تكوين لصورة رقمية يناسب نمط إحصائي؛ إذ يبحث الذكاء الاصطناعي عن أوجه التشابه والسياقات المماثلة ثم يخلق ما يسميه العالِم الأدبي، هانيس باجور«المعنى الأحمق»، حيث يجري استخلاص المستقبل من الماضي، بينما لا يُلتقَط المعنى حقًّا، وإنما (إعادة بنائه) بواسطة تحليل الأنماط، التي يجري إنشاؤها استنادًا للاحتمالات.

أشار الصحفي، تيد تشينغ، الذي يعمل في مجلة «The New Yorker» الأميركية، إلى أن تطبيق ChatGPT  يعيد صياغة أجزاء من النص من الويب، بينما يوفر بحث Google الاستشهادات. وهكذا يُضغَط النصُّ بشكل مرِن، مثل صورة «JPEG» المضغوطة التي تحذف معلومات معينة لتحويل الصورة إلى تنسيق بياني متناهي الصغر؛ إذ يعملChatGPT  بشكل مماثل، في حال الوصول الكامل بالإنترنت؛ لأن المعلومات لا تُنسَخ أو تُقتبَس فحسب، بل تُكثَّف ويُعاد مَزْجُها بصورة متعمدة، بحيث يتولد شكل وحدس جديد للأشياء. قد يبدو الأمر مثيرًا للتساؤل عما إذا كان هذا الشكل الجديد مشابهًا بالفعل لذلك «الجديد» الذي من صُنع الإنسان، وبخاصة أن البشر ليسوا أكثر من «أداة» تتحد بواسطتها الاحتمالات؛ إذ لا يمتلك هذا «الجديد» سوى القليل من سحر البدايات، بينما هو مبني، في الأساس، على الأشياء السالفة.

لكن دعونا نتدرب على تغيير الإضاءات والزوايا: ترى الفيلسوفة حنا آرندت، أن المرء يمكنه الاعتراض على أن الناس لا يتوقعون المستقبل بالطريقة التي تفعلها الآلات. في الواقع، لا يختبر البشر الوقت بوصفه تكثيفًا لتفاصيل الأمس؛ وبدلًا من ذلك، لديهم كل من الذاكرة، والماضي الحي، والتوقعات، بما يخلق مستقبلًا مفتوحًا وخياليًّا وحيويًّا تمامًا. هذا التزامُن اللامتزامِن في الوقت الحاضر، إضافة إلى إمكانية التفكير والتفسير، يجعل من المتاح صناعة «مفاجأة» لخلق آفاق معرفية جمالية مختلفة وغير متوقعة؛ إذ يُظهِر العمل الفني لـ«إلين» أن أنظمة الذكاء الاصطناعي -بغض النظر عن الجودة الجمالية- بواسطة ثرائها بفضل المتغيرات، علاوة على العشوائية والأنماط المثيرة للاهتمام، تخلق حقًّا نوعًا من الإبداع.

وعلى الرغم من تخزين كم هائل من البيانات والمُدخلات، فإن هناك أيضًا حدودًا للإبداع الاصطناعي؛ فمن الصعب إنشاء شيء جديد من الاحتمالات الإحصائية يتضمن تنوعًا انعكاسيًّا للأفعال البشرية، وأشكال التعبير والتخيل، والوعي أو حتى معنى الأشياء نفسها. إن التمييز «الواعي» بين الإنسان والآلة ينطوي على قدر من التميز، ولكن على الرغم من كل قيوده، فإن أدوات الذكاء الاصطناعي قد وُجِدت في عالمنا الحداثي لتبقى وتُواصِل استمراريتها، لا لِتَفْنَى. يمكننا الآن أن نرثي نظرية الفن أو نستمتع بالتفوق المعرفي المفترض. ولكن هل الاستهزاء بالمنتج الرديء المتولد من هذه الجماليات الرقمية يجعلنا نصل إلى ما هو أبعد من ذلك؟ هل يمكن أن يتطور الأمر لمستويات مقلقة أيضًا؟

وفقًا لفيلسوف التكنولوجيا، برنارد شتيغلر، دائمًا ما تحدد التقنيات مسار المستحضرات الدوائية، فهي داء وترياق في الوقت نفسه. ينعكس هذا -بصورة غير مباشرة – في خطاب الذكاء الاصطناعي الحالي؛ إذ يؤكد بعضٌ جوانبَه السلبيةَ، حيث أصبح بإمكان الذكاء الاصطناعي التعرف إلى مفتاح «اليوتوبيا السيبرانية». أما هؤلاء، فيُعَدّ تطبيق ChatGPT  أداة للتقدم، وربما توليفة من التاريخ البشري، وصولًا للتنوير نفسه. ليس من الغريب أن يحتفل الطيف السياسي الواسع بالذكاء الاصطناعي، بدءًا من المدافعين عن الشيوعية المؤتمتة بالكامل حتى أنصار ما بعد الإنسانية التحررية الذين كانوا يثقون لسنوات في الوعود التقنية ويصفونها بـ«التفرد»، بحسب (راي كورزويل)، بينما يقدم الآخرون -ومعظمهم ممن طوروا تطبيق ChatGPT- الجانب المظلم من الذكاء الاصطناعي مستخدمين نبرة الهلاك. إنهم لا يحذرون من فقدان الوظائف فحسب، بل يحذرون أيضًا من القدرة المطلقة لهذه الأنظمة ويرون «ذكاءً خارقًا» يلوح في الأفق، يمكنه أن يقضي على البشرية. إنهم يركزون على الإمكانات الهائلة التي لا تُصدَّق -وإن كان ذلك مرتبطًا بدلالات سلبية- وبالتالي يروجون أيضًا لأساطير السرد الكارثي حول انقراض الإنسان وعالم «ما بعد الإنسانية» بوصفه «خطرًا وجوديًّا» قائمًا تحت مظلة الحداثة الإلكترونية، فيما يبدو ذلك غير بديهي، وإنما حيلة تسويقية تضخيمية، حيث يجرى الإعلان عن المنتج الرقمي ونماذج أعماله بخطاب قوي، فحسب.

تغيرات في العلاقات العالمية

وبعيدًا من «سيناريو الاستيلاء على الذكاء الاصطناعي»، يمكن ممارسة موقف أكثر استرخاءً وعقلانية مع «إيان بوجوست». فمن وجه نظره، لن يكون ChatGPT ترياقًا ولا سمًّا؛ إذ يفتقر الروبوت، ببساطة، إلى الذكاء الفعلي ليكون خطيرًا فعليًّا، بينما يجادل «بوجوست» في مقاله على موقع «The Atlantic» بأن تطبيق ChatGPT ليس نظامًا معرفيًّا، ولكنه نظام جمالي بحت، ولا يهدف إلى إنتاج المعرفة وتقصي الحقائق، وإنما يهدف إلى التعبير والأداء، بدلًا من فهمها الفهم العميق، حيث يجرى التلاعب بالنص، بحيث يقتصر الأمر على مجرد (ترقيع) نصي يفضي في النهاية إلى إنتاج مقالات مَعِيبة أو معيارية ومملة.

ولكن، هل صحيح أن الأنظمة الجمالية لا تنطوي على المخاطر الكامنة في النظم المعرفية؟ يعيدنا هذا السؤال إلى النقد السقراطي للفكر السفسطائي. استنادًا إلى رؤية سقراط، حيث يكمن الخطر في فرضية أن ChatGPT يمكنه أن يستدرجنا إلى شَرك الحقائق المبتذلة وأنصاف الحقائق، وبالتالي تطوير ديناميكية تتغلب على تنوع التعبير البشري. ذلك السحر الجمالي ليس موضع تساؤل فحسب؛ لأن بإمكانه تضليلنا أو أن يجعلنا نتظاهر بأن الأوهام المبهجة هي حقائق واقعية. إنها أيضًا مشكلة قد تدفعنا للاستغراق في حلقات التغذية المعلوماتية السريعة، من واقع تبني معايير اجتماعية تقنية، بكل سهولة ومن دون أدنى شك أو تَحَرٍّ للدقة.

هذا الاتجاه نمارسه فعليًّا في الحياة اليومية. بالطبع لا تزال لدينا القدرة على إيجاد طريقنا في جميع أنحاء المدينة باستخدام الخرائط الورقية، لكننا نستخدم خرائط Google. كذلك لا يزال بإمكاننا مصادفة الحب وتجريب الرومانسية من خلال لقاء الصدفة، ولكن يأمل كثيرون في حدوث أول نظرة مشتركة عبر تطبيق Tinder. النظم السيبرانية لا تحرمنا من الحرية، لكنها تبدو أكثر دقة وراحة، حيث توصي بأسرع الطرق وأفضل المقترحات، وتقدم مسارات عمل معينة، ثم توجهنا في النهاية بالميل التقني الاجتماعي الذي يحصر تنوع السلوك البشري في اتجاهات محسّنة خوارزميًّا.

يمكن أيضًا رؤية تطورًا مشابهًا مع تطبيق ChatGPT، فهو لا يغير فقط كيفية كتابتنا وقراءتنا، وأشكال التعبير التي نتبعها، ولكن أيضًا كيفية إدراكنا للعالم. يجب أن يكون واضحًا أن إمكانية هيكلة الإدراك العالمي، ليست فقط إشكالية استقلالية، لكنها سياسية أيضًا: نظرًا للأهمية اليومية للهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي. ووفقًا لرؤية الفيلسوف الألماني، يورغن هابرماس، يمكن للمرء أن يتحدث فعليًّا عن «تغيير البنية التحتية الاقتصادية للمنصة في المجال العام»؛ من تسويق وخصخصة الاتصالات الاجتماعية من جانب الشركات الفردية، وبالتالي من منظور التطور الذي يسمح بتداول جميع أنواع الأخبار المزيفة ونظريات المؤامرة؛ إذ يبدو الآن أن هذه اللعبة تتكرر مع نماذج اللغات الضخمة، حيث تحدد أنظمة الذكاء الاصطناعي والتطبيقات، بشكل متزايد، شروط وأحكام علاقاتنا مع أنفسنا والعالم.

نقد الأحكام الآلية

إذن ماذا نفعل؟ كيف يجب أن نتفاعل مع الأنظمة السفسطائية الحداثية؟ أولًا، يجب التشكيك في السرديات في مجال الذكاء الاصطناعي، وعدم أخذ ما ورد بها كـ«مسلمات»: غالبًا ما يتم التأكيد على أن التطور التقني أمر لا مفر منه؛ له جوانب إيجابية، بشكل أساسي، على المجتمع بالرغم من العواقب السلبية غير المقصودة، فيما يحذر، سام ألتمان، أيضًا من مخاطر الذكاء الاصطناعي العام (AGI) الذي يجنح إلى خلق حياة خاصة به، لكنه يدرك «أن الجوانب الإيجابية ستفوق الجوانب السلبية مرات عدة في نهاية الأمر». بالطبع يمكن للمرء أن يبدأ بالأسئلة الفلسفية، ولكن ربما يتطلب الأمر أكثر من الحجج العقلانية.. إذن كيف يعمل الظل التقني؟

نحن بحاجة، أولًا، إلى تغيير موقفنا تجاه أنظمة الذكاء الاصطناعي. يجب أن ندرك أننا لسنا عاجزين، وأنه يمكننا تشكيل التطورات التقنية بشكل ديمقراطي. تلعب المؤسسات الحكومية دورًا رئيسًا هنا، ليس فقط من خلال تعزيز التقنيات، ولكن أيضًا من خلال الحد من تأثيرها. وهناك أمثلة تاريخية توضح كيف يمكن تحقيق ذلك. فعلى الرغم من الخطر الهائل للأسلحة النووية، فقد أُبرِمَت اتفاقيات عالمية تنظم آلية استخدام التقنية من خلال المعاهدات، والوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA) وبالمثل كان الحال مع تقنيات الاستنساخ البشري، فعلى الرغم من أنها ممكنة تقنيًّا، لكنها تخضع للتنظيم أو الحظر في جميع أنحاء العالم. كذلك، لا يجب أن نستثني أنظمة الذكاء الاصطناعي من هذه اللوائح وضوابط الاستخدام.

ثانيًا، يتعلق الأمر بالمبالغة في التقدير الإيجابي أو الاحتفاء المفرط بمنتجات الذكاء الاصطناعي مقارنة بأشكال التعبير البشرية. لا يتم التأكيد على هذا فقط، من باب الحث على تقدير جهودنا الجماعية في إنشاء بيانات التدريب، وبخاصة أعمال الفنانين والمؤلفين، الذين يرون الآن وجودهم مهددًا. وإنما يجب أيضًا مكافحة النار بالنار، أي استخدام الذكاء الاصطناعي للكشف عن تلاعب منتجات الذكاء الاصطناعي؛ إذ يُنصح بمراجعة نظام القيم التقنية الاجتماعية لدينا بشكل أساسي والعمل عليه.

ثالثًا، أهمية تسييس المخيل التقني. هذا يعني ضرورة الاعتراف بأن أنظمة مثل ChatGPT لا تسقط من السماء مثل المَن، ولكنها تستمر في حياكة المشكلات الاجتماعية، بل تُظهِرها. على سبيل المثال، لجعل هذا التطبيق أقل عنصرية أو تحيزًا، استأجرت شركة OpenAI موظفي النقر الكينيين لتصفية المحتوى العنصري ودفعت لهم أقل من دولارين في الساعة. أكد باحثو الذكاء الاصطناعي النسوي، مثل عالمة الكمبيوتر الإريترية Timnit Gebru، أنه منذ سنوات تعكف أنظمة الذكاء الاصطناعي على الجمع بين المدخلات التمييزية و(التحيزات الخوارزمية، وما إلى ذلك)، وتنظمها. لذلك يجب أن ندرك أن النصوص والصور التي تُنشَأُ تَخلقُ أعباءً حقيقية، وأن هناك حاجة أكثر من أي وقت مضى للاهتمام بـ«حساسية التدريب» وفهم مختلف للتقنية؛ وبذل كثير من الوقت في فهم مسألة ما إذا كانت التقنية والفن يتيحان لنا الوصول إلى العالم، وما إذا كان ذلك يساعدنا على فهمه وفهم أنفسنا على نحو أفضل أم لا؟

إن اتباع هذا المسار ليس بالأمر السهل، لأسباب عديدة، حيث يرى، مارك فيشر، أنه «يبدو حاليًّا تخيل نهاية العالم أسهل من تخيل نهاية التقنية الرأسمالية الرقمية». هذا لا يعني أننا يجب ألّا نحاول. ففي ضوء عوالم التقنية السفسطائية الغامضة و«تحليل النص» المعلن عنه، ندرك فعليًّا أننا في عصر «الإنترنت المنقرض» بحسب «جيرت لوفينك»، حيث تدافعت فعليًّا الاحتمالات المندثرة، وهو عصر ترتبط فيه النظم التقنية ونقاط التحول في النظام المناخي ارتباطًا حتميًّا؛ لذا حان الوقت لعدم التكهن بمخاطر الذكاء الاصطناعي المستقبلي الخارق، وإنما ممارسة إشارة جذرية إلى الحاضر؛ لأن «المستقبل هنا بالفعل، لكن هناك توزيع غير متكافئ للحقائق».


رابط الموضوع:
https://www.philomag.de/artikel/technosophistische-schattenspiele


الذكاء الاصطناعي: ثورة علمية أم خطر يهدد الوجود البشري؟

صبحي موسى – صحافي مصري – هدى الدغفق – صحفية سعودية

كان الذكاء الاصطناعي حتى وقت قريب خادمًا جيدًا للإنسان، فمن خلاله أمكنه أن يجمع قدرًا كبيرًا من المعلومات في أقل قدر من دقائق، وأن يكتب نصًّا كان يحتاج إلى وقت طويل في جمعه وضبطه، وأن يوفر وقتًا عظيمًا في حراسة بيته أو إدارة تفاصيل كالإضاءة أو الرقابة أو ري الحدائق. لكنه أصبح خطرًا يهدد وجود الإنسان نفسه، ففي دقائق معدودة أصبح بإمكان الآلة أن تكتب عملًا روائيًّا، أو تنتج لوحة فنية. وأصبح بقدرة الحاسوب أن يرسم ديكورًا لمشهد سينمائي كان يستغرق تجهيزه شهورًا عدة، بل يستخدم وجوه ممثلين وأصوات مغنيين في إنتاج أعمال فنية لم يشاركوا فيها، حتى شهدت هوليوود مظاهرات عشرات العاملين فيها احتجاجًا على استخدام الذكاء الاصطناعي بديلًا عنهم. وما يزيد من خطورة هذا الذكاء أن بمقدور الآلة أن تطور نفسها بنفسها، من دون الحاجة للعودة إلى صانعها، وأصبح بإمكانها إنتاج أجنة من دون الحاجة لوجود كائن بشري. كل هذه التطورات المذهلة مثلت ثورة ليست فقط علمية، ولكن اجتماعية وفكرية واقتصادية وفلسفية، وأصبح على الإنسان أن يجيب عن العديد من الأسئلة التي اعتقد لقرون طويلة أنها صارت بديهية، وأن يقف أمام مرآة نفسه لمعرفة: هل ما زال الذكاء الاصطناعي يخدمه، أم إنه أصبح خطرًا يهدد وجوده على هذه الأرض؟

السعودية… تتقدم العالم

أمـيمة سعودي

في تميز واضح حصلت المملكة العربية السعودية على المركز الأول عالميًّا في مؤشر الإستراتيجية الحكومية للذكاء الاصطناعي الذي يُعَدّ أحد مؤشرات التصنيف العالمي للذكاء الاصطناعي الصادر عن «تورتويس» الذي يقيس أكثر من 60 دولة في العالم، فيما حصلت ألمانيا على المركز الثاني، وحلت الصين في المركز الثالث. بالنسبة للتصنيف العالمي للذكاء الاصطناعي فهو يقيس أكثر من 100 معيار ضمن سبعة مؤشرات كالتالي: الإستراتيجية الحكومية، البحث والتطوير، والكفاءات، والبنية التحتية، والبيئة التشغيلية، والتجارة. وقد نالت المملكة المركز الأول في مؤشر الإستراتيجية الحكومية للذكاء الاصطناعي، والمركز 31 في إجمالي مؤشرات التصنيف الصادر عن «تورتويس» وهي شركة عالمية لديها مجلس استشاري عالمي يضم خبراء في الذكاء الاصطناعي من أنحاء العالم.

وحققت المملكة نسبة 100% في معايير المؤشر من أبرزها، وجود إستراتيجية وطنية مخصصة ومعتمدة للذكاء الاصطناعي بالمملكة، ووجود جهة حكومية مخصصة للذكاء الاصطناعي، ووجود تمويل وميزانية خاصة بالذكاء الاصطناعي، مع تحديد ومتابعة مستهدفات وطنية خاصة بالذكاء الاصطناعي.

اهتمت السعودية بالذكاء الاصطناعي مبكرًا عندما صدر أمر ملكي عام 1440هـ بإنشاء الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي «سدايا» لتكون المرجع الوطني في كل ما يتعلق من تنظيم وتطوير وتعامل. وقادت سدايا التوجه الوطني للبيانات والذكاء الاصطناعي، فعملت على تطوير الإستراتيجية الوطنية للبيانات والذكاء الاصطناعي من أجل توحيد الجهود وإطلاق المبادرات الوطنية في البيانات والذكاء الاصطناعي وتحقيق الاستفادة المثلى.

ساهمت مراكز التميز التي أطلقتها الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا) بالتعاون مع عدد من الجهات الحكومية في تسخير تقنيات الذكاء الاصطناعي لخدمة أهدافها وتطوير منتجاتها في مجالات البحوث والابتكار التي تغطي المجالات الحيوية كافة، وفي مجال التوعية المحلية الدولية نظمت (سدايا) القمة العالمية للذكاء الاصطناعي في نسختيها عام 2020م و2022م، كما عملت على إنشاء أكاديمية سدايا التي تستهدف تطوير الطاقات الشبابية المهتمة بالذكاء الاصطناعي، وغيرها الكثير من اللقاءات والمنتديات والنشرات. وتعد «سدايا» ذات دور مهم في إطلاق المبادرات الدولية في الذكاء الاصطناعي؛ ومنها إطلاق مبادئ أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، والانضمام إلى شراكة التنمية الرقمية تحت مظلة البنك الدولي. وعملت سدايا على المشروعات العلمية والصحية والبيئية، وأطلقت مركز التميز في علوم البيانات والذكاء الاصطناعي بالتعاون مع جامعة «كاوست»، وإنشاء مركز التميز في الذكاء الاصطناعي بالتعاون مع وزارة الصحة، وإنشاء مركز الذكاء الاصطناعي في البيئة والمياه والزراعة بالتعاون مع وزارة البيئة والمياه والزراعة، وإطلاق برنامج الكوكب الذكي ضمن مشاريعها البيئية، كما كان لها دور مهم في الإثراء اللغوي من خلال إعداد «معجم البيانات والذكاء الاصطناعي» وإطلاق منصة «صوتك». وقد نشرت «سدايا» في موقعها الرسمي وحساباتها في مواقع التواصل الاجتماعي نتائج الاستطلاع وإحصائيات معدل ثقة المواطنين بالتعامل مع منتجات الذكاء الاصطناعي وخدماته.

الإستراتيجية الوطنية

أطلقت السعودية الإستراتيجية الوطنية للبيانات والذكاء الاصطناعي «نسدي»، للقيام بدورٍ رئيس في رسم مستقبل البيانات والذكاء الاصطناعي على مستوى المملكة والعالم؛ سعيًا للإسهام في تمكين البرامج والقطاعات الحكومية والخاصة في مختلف المجالات بما يحقق رؤية المملكة 2030.

وتستهدف الإستراتيجية الوطنية للبيانات والذكاء الاصطناعي «نسدي»، تحقيق كثير من المنجزات الوطنية المهمة حتى عام 2030م، وأبرزها: الوصول إلى أعلى 15 دولة في الذكاء الاصطناعي، والوصول إلى أعلى 10 دول في البيانات المفتوحة، والوصول إلى أعلى 20 دولة في الإسهام بالمنشورات العلمية، وتطوير الأفراد ببناء مورد مستديم للكفاءات لأكثر من 20 ألف متخصص وخبير في البيانات والذكاء الاصطناعي، وجذب استثمارات في مجال البيانات والذكاء الاصطناعي بما يقارب 75 مليار ريال (نحو 20 مليار دولار أميركي)، وحفْز ريادة الأعمال، والإسهام في خلق أكثر من 300 شركة ناشئة في مجال البيانات والذكاء الاصطناعي.

 وقد تحققت قفزات في المجالات ذات التقنيات المتقدمة التي تعتمد على الذكاء الصناعي، ومنها: مدينة «نيوم» شمال غرب المملكة التي تقام على مساحة 26 ألفًا و500 كيلومتر مربع، وتعد نيوم مثالًا ممتازًا على دمج الابتكار الحقيقي في البنية التحتية للمدن، بما سيتيح الفرصة لظهور المركبات ذاتية القيادة، المباني الذكية، والخدمات المتنقلة الجديدة، وإتمام المعاملات عن طريق «المترجم الآلي» الذي يغني عن المترجمين، بما يحقق «رؤية المملكة 2030» التي تهدف ضمن بنودها إلى الانتقال إلى عالم الإبداع والابتكار عبر التطور التقني، إضافة إلى توقيع المملكة مذكرتيْ تفاهم مع شركة مايكروسوفت الأميركية للإسهام في تحقيق التحول الرقمي للمملكة عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي، وهو ما يعد إحدى ثمار الشراكات الإستراتيجية بين السعودية والولايات المتحدة الأميركية، كما أنه في سابقة هي الأولى من نوعها في العالم، حصلت الروبوت صوفيا على الجنسية السعودية.

 تقرير ستانفورد

كذلك توجت المملكة العربية السعودية بالترتيب الثاني على مستوى العالم في الوعي المجتمعي بالذكاء الاصطناعي، بعد أن كشف استطلاع للرأي ارتفاع معدل ثقة المواطنين السعوديين بالتعامل مع منتجات وخدمات الذكاء الاصطناعي في المملكة وفقًا لتقرير مؤشر الذكاء الاصطناعي بنسخته السادسة  (Artificial Intelligence Index Report 2023)الصادر عن جامعة ستانفورد الأميركية خلال شهر إبريل 2023م. احتلت المملكة عام 2020م المركز الأول عربيًّا، والمركز 22 عالميًّا في المؤشر العالمي للذكاء الاصطناعي، مقارنة بالمركز 29 عالميًّا عام 2019م، وفقًا لتقرير مؤشر «تورتويس».

 ختامًا، تعمل تقنيات الذكاء الاصطناعي على تحسين أداء المؤسسات وإنتاجيتها عن طريق أتمتة العمليات أو المهام التي كانت تتطلب القوة البشرية فيما مضى، كما يمكن للذكاء الاصطناعي فهم البيانات على نطاق واسع لا يمكن لأي إنسان تحقيقه، وهو ما يعود بمزايا كبيرة على الأعمال.

يجب على العالم أن يضمن استخدام التقنيات الجديدة، وبخاصة تلك القائمة على الذكاء الاصطناعي، لصالح مجتمعاتنا وتنميتها المستديمة، ومن المهم أن تنظم تطورات وتطبيقات الذكاء الاصطناعي بحيث تتوافق مع الحقوق الأساسية، علاوة على ذلك، يلزم اتباع نهج شامل وعالمي، بمشاركة صناديق الأمم المتحدة ووكالاتها وبرامجها، لإيجاد طرق لتسخير الذكاء الاصطناعي من أجل التنمية المستديمة.

البقاء للإنسان

عيسى البستكي – رئيس جامعة دبي

مخاوف الخبراء من تطور الذكاء الاصطناعي وتأثيره في مختلف جوانب الحياة مبررة إلى حد كبير. يتعين علينا أن نتفق جزئيًّا مع هذه المخاوف، ويزداد القلق عندما يتعلق الأمر بإمكانية تطوير الذكاء الاصطناعي ذاتيًّا. إذا كانت لديه القدرة على تعلم وتحسين نفسه من دون تدخل بشري فعليّ، فإنه يمكن أن يتسبب ذلك في فقدان السيطرة على تقنيات الذكاء الاصطناعي. ومع ذلك، تجب مراعاة أن الإنسان سيظل مسيطرًا على العملية الإبداعية لمدة طويلة؛ فالآلات تعتمد بشكل كبير على التعلم من البيانات والخوارزميات التي نصمّمها. وإمكانية التفكير الإبداعي والقرارات الأخلاقية لا تزال في يد البشر. ولدينا القدرة على توجيه تقنيات الذكاء الاصطناعي بشكل يحقق المزيد من الفوائد للبشر ويقلل من المخاطر عليهم.

إطار قانوني

الذكاء الاصطناعي برنامج حاسوبي غير عشوائي، أي أن من الممكن أن نتوقع النتيجة ونمنعها عن طريق الذكاء الإدراكي لدى البشر… فالآلة مع الذكاء الاصطناعي برنامج حاسوبي مبرمج من قبل الإنسان… إذًا فالكلمة الأخيرة والسيطرة الأخيرة أو القرار الأخير دائمًا للإنسان؛ لذلك نعتقد أن الإنسان سيظل مسيطرًا على عناصر العملية الإبداعية في المستقبل القريب، ولكن يجب علينا أيضًا أن نتبنى إطارًا قانونيًّا وأخلاقيًّا قويًّا للتنظيم والرقابة على تطور التقنية والذكاء الاصطناعي لضمان استفادة الجميع منها بشكل آمن وفعال.

يتنبأ كتاب «التفرد قريب: عندما يتجاوز البشر علم الأحياء» للكاتب ريموند كرزويل بأن الذكاء الاصطناعي سيتخطى الذكاء البشري في سنة ٢٠٤٥م… وهذه رؤية لا أتفق معها؛ لأن الإنسان دائمًا متقدم على الآلة بخطوة حين يبرمجها، لكن بالنسبة إلى مجالات الفنون والآداب ستكون هناك منافسة بين الذكاء الاصطناعي والذكاء الإدراكي للإنسان، ولكن البراعة الإدراكية ستتغلب على البراعة الاصطناعية دون أي شك. إن الاحتمالات التي تمتلكها الآلة اصطناعية الذكاء محددة وإن كانت كبيرة جدًّا، وأما الإنسان فالاحتمالات الموجودة لديه في عقله وإدراكه متعددة الإبداعات بسعة شبه لا نهائية؛ فالعقل البشري لا يمكن منافسته عندما يأتي دور الجد ومن أجل البقاء. إذًا يجب أن نطمئن بأن الإنسان هو المسيطر على الآلة اصطناعية الذكاء حاضرًا ومستقبلًا إلى أن تقوم الساعة.

المواجهة العلمية وتشجيع الابتكار

عبدالرحمن المحسني – أكاديمي سعودي

يؤكد المتخصصون أن الذكاء الاصطناعي سيغير خارطة الكون وسينقل مركزيات الاهتمام الدولي، وأنه بعد سنوات قليلة سيكون مكانك هو بمقدار وعيك وقدرتك على التفاعل مع مستجدات الذكاء الاصطناعي ووضع آلياتك المناسبة والبنى التحتية للاستقبال والتفاعل. وفي كتاب سدايا (الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي) الصادر عام 2022م يرد ما نصه: «فقد قام مكتب إدارة البيانات الوطنية بالاستفادة من الممارسات والمعايير العالمية عند وضع إطار أخلاقيات الذكاء الاصطناعي والذي يهدف إلى: دعم وتعزيز جهود المملكة في تحقيق رؤيتها وإستراتيجيتها الوطنية المتعلقة باعتماد تقنيات الذكاء الاصطناعي وتشجيع البحث والابتكار وتعزيز النمو الاقتصادي لتحقيق الازدهار والتنمية المنشودة…»(١١).

وهذا الرأي هو عين الوعي الذي لا يقلل من خطورة الذكاء الاصطناعي ويواجهه لا بالتجاهل والتغافل، بل بالمواجهة العلمية وتشجيع الوعي والابتكار البحثي لمعرفة سبل الإفادة وتجنب الخطر. وتعد المملكة العربية السعودية واحدة من أهم دول العالم التي أخذت موضوع الذكاء الاصطناعي بجدية تامة منذ بدايات ظهوره. يؤكد ذلك الجهود الحثيثة التي تتبناها حكومة المملكة والجهات المختصة فيها لمحاولة وعي الظاهرة والتعامل العلمي معها. ولقد يكون من المستغرب في وقت مبكر قليلًا من عام 2015م اهتمام المملكة مثلًا بالروبوت (صوفيا) وهي تقريبًا أول نموذج روبوت ناجح شبيه بالبشر، صممته شركة «هانسون روبوتيكس» في «هونغ كونغ» في إبريل 2015م؛ كي تتعلم وتتأقلم مع السلوك البشرى، وتعد الأكثر اكتمالًا من منظور الروبوتات الشبيهة بالبشر، ومارست أعمالًا بشرية تمثل نقلة في عمل الروبوت، فنفذت صوفيا أول زيارة لمصر والقارة الإفريقية، كما أجرت العديد من اللقاءات الصحفية في مختلف دول العالم، وتحدثت فيه مع بعض المضيفين. وقدِمت صوفيا إلى الأمم المتحدة في 11 أكتوبر 2017م، وأجرت محادثة قصيرة مع نائب الأمين العام للأمم المتحدة، أمينة محمد، وأجرت صحيفة الأهرام مع صوفيا لقاءً مطولًا. وهي تستطيع استقبال الكلام وتحليله عن طريق تقنية الـ Block Chain التي تمكنها من الاستجابة لأيّ محادثات تقوم بها، كما أنها تستطيع القيام بأكثر من 60 تعبيرًا للوجه لمحاكاة التعبيرات البشرية، وشاركت في مؤتمرات ومُنحت الجنسية(١٢).

آلات تتصرف وكأنها ذكية

يتجه مفهوم الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence) إلى الطريقة التي يحاكي من خلالها قدرات الذكاء البشري، وهو جزء من علم الحاسوب الذي يتعامل مع عملية تصميم الأنظمة الذكية التي تُظهر مجموعة من الخصائص تُربَط بالذكاء المتعلق بالعديد من السلوكيات البشرية. ولعل من المهم أن نشير إلى عام 1955م حيث كان جون مكارثي أحد رواد منظمة العفو الدولية أول من حدد هدف الذكاء الاصطناعي على النحو الآتي: الهدف من الذكاء الاصطناعي هو تطوير آلات تتصرف وكأنها ذكية(١٣).

وفي محاورة الباحث مع الذكاء الاصطناعي ذاته وعن دوره في بناء المجتمع، يجيب الذكاء الاصطناعي بما يتجه إلى ما نحن بصدده من ذكر دوره في بناء المجتمع في اتجاهاته المختلفة (علمية واجتماعية وصحية…)، يقول:(١٤) «الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence) هو مجال من مجالات الحوسبة يهتم بتصميم وتطوير الأنظمة والبرامج التي تستطيع التفكير والتعلم واتخاذ القرارات بشكل مستقل، وذلك باستخدام مجموعة من التقنيات والأدوات الحاسوبية المتطورة. يهدف الذكاء الاصطناعي إلى تمثيل الذكاء البشري والتفاعل مع البيئة بشكل مستقل وذكي، وذلك بتحليل البيانات والمعلومات من مصادر مختلفة، واستخدامها لاتخاذ القرارات والتنبؤ بالأحداث المستقبلية. يُستخدَم الذكاء الاصطناعي في مجالات عديدة مثل التجارة الإلكترونية، والرعاية الصحية، والتصنيع، والتعليم، والأمن، وغيرها من المجالات الحيوية، وقد أدى التطور السريع في هذا المجال إلى تحسين العديد من العمليات والخدمات المقدمة للمستخدمين».

رؤية الذكاء الاصطناعي

 نلحظ أن الرأي السابق هو رؤية الذكاء الاصطناعي ذاته التي تعبر عن دورها البناء في خدمة المجتمع في اتجاهات متعددة. والسعودية تعد واحدة من أكثر دول العالم قدرة على توجيه الذكاء الاصطناعي بما يخدم التنمية، ولديها بنية تحتية مهمة، كما أن لديها أيضًا مدنًا ذكية تعتمد بالدرجة الأولى على قدرات الذكاء الاصطناعي في التفاعل مع الإنسان. ونستذكر هنا أهمية التشاركية الواعية بين الإنسان والآلة، وهو ما تؤكد عليه ستيفانيا جيانيني التي تقول: «يبدو أن أجهزة الحاسوب والبشر الذين يعملون معًا فهم أقوى مما لو عمل كلٌّ بمفرده».

 يلفت الانتباه فيما ورد من رأي الذكاء الاصطناعي قوله: «تمثيل الذكاء البشري والتفاعل مع البيئة بشكل مستقل وذكي». ولا أتصور أن فكرة استقلال الذكاء الاصطناعي تفوت على اهتمام المؤسسات السياسية والعلمية؛ فقضية خروج الذكاء عن السيطرة واستقلاله بالتفكير واتخاذ القرار يمثل قلقًا يقول به العلماء المتخصصون في مجالات التقنية والذكاء الاصطناعي بيد أن الوعي به أهم طرق المواجهة، بما يجعل الذكاء الاصطناعي داعمًا مهمًّا للتنمية وإعمار الكون.

الخطر الجديد

محمد الناكوع – باحث تونسي

«مع ظهور كل تكنولوجيا جديدة تتجدد الآمال والوعود بحل مشكلات الإنسان، ولم يصدق هذا، قدر ما يصدق على تكنولوجيا المعلومات والاتصال». بحسب رأي نبيل علي ونادية حجازي في كتاب «الفجوة الرقمية» (عالم المعرفة، الكويت 2005م، ص: 17) وباعتبار انتشار هذه التقنيات في كل الفضاءات وبين مختلف الفئات العمرية والطبقات الاجتماعية، غير أن الواقع يبدو عكس ذلك، مع تسرّب الخوف من هذا الوافد الجديد، ألا وهو الذكاء الاصطناعي، الذي قد يشكل الخطر الجديد الذي يهدد الإنسان، لا في أمنه فحسب، بل في علاقاته الاجتماعية. والأخطر من ذلك أن يهدّده في قوته، من خلال اختفاء مهن عديدة في المستقبل. وقد يتجاوز ذلك إلى ما يتصل بالوجود الإنساني الذي يشكل التكاثر، وهي الميزة الكبرى في المحافظة على النسل، هذا النسل الذي قد يختفي في صورة حصول التزاوج بين أبناء البشر والآلة.

تهديدات ليست جديدة

 في الحقيقة الخطر أو الأخطار التي تهدّد الوجود الإنساني ليست جديدة؛ حيث يذهب بيك أولريش(١٥) إلى أن المفهوم يندرج تحت كل ما يشير إلى تهديد الوجود الإنساني وعدم الأمان لديه، وهو ما يجعل منه مفهومًا قديمًا بقدم البشرية. وهذا أمر كان ينطبق بشكل أكبر على المجتمعات القديمة، من خلال ما كان يهدد الإنسان من مجاعات وأخطار ومن أمراض وأوبئة. غير أن الحديث انتقل اليوم من الخطر في حد ذاته إلى المخاطر المصنوعة أو المصنعة التي تشير حسب بيك أولريش(١٦) إلى «توابع نجاحات الحداثة، حيث تنشأ رعونة جديدة واستهتار بالمخاطرة بسبب فشل مواصفات وشروط حسابها ومعالجتها مؤسسيًّا إلى حد ما… ويشيع النقاش بشأن ما هو لصالح التوابع المحتملة وما هو ضدها».

لنعطي مثالًا على ذلك. مع تفاجؤ العالم بجائحة كورونا، احتد النقاش بين الأطباء حول العلاج الممكن، ولعل «الكلوروكين» من العقاقير التي صارت أكثر شهرة في العالم، وهو «الدواء الذي يُستخدم في العادة للوقاية من الملاريا ومعالجتها». بلغ النقاش أشده حول توابع استعمال هذا الدواء، بين مقلل من شأنها وبين محذر من استعماله باعتبار أن خطر مخلفاته قد يتجاوز خطر «فيروس كورونا نفسه». وما قيل عن «الكلوروكين» يُمكن أن يقال عن الذكاء الاصطناعي، إذا تواصل التعامل معه بمنطق اقتصادي ربحي. وهنا يُطرح السؤال: كيف السبيل لفك هذه العقدة، حتى لا يشتكي الراعي ولا يجوع الذئب، على رأي المثل العربي؟

الاختزال

يقترح علينا بورديزيكس إدوارد(١٧) أربع إستراتيجيات لمقاومة المخاطر المصنعة عمومًا، من بينها اختزال الأخطار، وهو اختزال يجمع بين ثنائية التمسك بالهدف والتعامل مع الأثر، الذي يعني، فيما نتعرض إليه، التشبّث بالتقنيات الحديثة وما قدمته وتقدمه للبشرية من خدمات جليلة، وفي الوقت نفسه بذل كل الجهود للتخفيف من الآثار الجانبية لها. لكن لعل السؤال الذي قد يُطرح: من يتحمل نفقات البحث العلمي الذي سيندرج في إطار التقليص من آثار الذكاء الاصطناعي؟

ضرورة‭ ‬تطوير‭ ‬قانون‭ ‬المصنفات

هاني شنودة ملحن مصري

يُعد الذكاء الاصطناعي أحدث الثورات في التقنيات الحديثة، ومثلما أن له فوائده فستكون له أضراره. ومؤخرًا سمعنا عن أن أم كلثوم تغني أغنيات ليست لها، وهو ما يحتاج منا وقفة مهمة، ليس لمنع الذكاء الاصطناعي، فهذا أمر قادم لا محالة، ولكن لضبط خطواته وتنظيمه. فالذكاء الاصطناعي لم يصل بعد إلى عالمنا العربي، ربما ظهر وتم التعامل به في بلدان العالم المتقدم، لكنه لم يصل إلينا بشكله الكامل والقوي بعد.

وهذا يستدعي منا أن نعقد مؤتمرًا موسعًا للموسيقيين والملحنين والمغنيين وكتاب الأغاني إلى جانب القانونيين؛ كي نضع القوانين اللازمة لضبط عمل الذكاء الاصطناعي. هناك العديد من الأسئلة التي لا بد من الإجابة عنها عبر هذه القوانين الجديدة، التي ينبغي أن تناسب هذه الثورة الجديدة. من بين تلك الأسئلة: هل يجوز أن توضع صورة أم كلثوم على أي أغنية؟ هل يحق في حالة استخدام صوت أم كلثوم أن يكون لها حقوق مالية وأدبية؟ وحين يوضع صوتها على كلام بذيء أو سيئ أو غير أخلاقي هل لدينا من العقوبات ما يمنع ذلك؟ كل هذه الأسئلة وغيرها لا بد أن تكون لها إجابات قانونية واضحة وحاسمة. ولا بد أن يوجد القانون قبل انتشار التقنية، فعادة ننتظر وقوع الكارثة ثم نَسُنّ القوانين، وتصبح لدينا فيما بعد مشكلة طويلة لا تنتهي. علينا أن نستبق الذكاء الاصطناعي بالقوانين التي تقلل من أثره، ونستدعي المستقبل قبل أن نسقط في هوة الماضي.

قوانين المصنفات

لا بد من التأكيد على أن الذكاء الاصطناعي سيستعمل في الخير مثلما يستعمل في الشر، ودور المصنفات الفنية هو منع الشر عن المجتمع، والمصنفات الفنية لديها قوانينها التي تعمل بها، لكنها بالتأكيد قوانين غير كافية، ومن ثم فلا بد من تطوير هذه القوانين، وتطبيقها على الذكاء الاصطناعي، علمًا بأن الواقع تحكمه القوانين، لكن شبكة المعلومات الدولية «النت» لا يحكمها شيء. وفي النهاية أؤكد أن الخطر الحقيقي يأتي من الماضي وليس الحاضر أو المستقبل، فحين نضع صوت عبدالحليم حافظ على أغنية جديدة لا بد أن نتأكد إنْ كان الكلام يستحق أم لا، أما المستقبل فليست به مشكلات، بمعنى أنه إذا تمكن الذكاء الاصطناعي من الوصول إلى توليفة صوت بطبقة معينة، ووضع له كلمات معينة كي يغنيها، فلا توجد مشكلة، وكل ما نرجوه ألّا يجور المستقبل على الماضي ويشوهه.

صدمة‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي

طارق الناصر – مؤلف وملحن أردني

هناك مخاوف من الذكاء الاصطناعي لكنها مؤقتة. أذكر أنني جئت بين مرحلتين: الأولى كانت الفِرق تعزف موسيقا حية، والثانية دخل فيها نظام يسمونه مجازًا بالحاسب الآلي، أي استخدام الحاسب الآلي لأول مرة في تصنيع الموسيقا. وقتها كانت هذه صدمة مثل صدمة الذكاء الاصطناعي الآن. بالتأكيد كانت هناك أشياء سيغيرها؛ لأن هذا هو المصير، فالأمور تسير دائمًا على هذا النحو. وبكل الأحوال فإن التقنيات والروبوتات ستصل لأشياء مثل هذه. وبالفعل هذا ما يحدث منذ بداية الثمانينيات، حين ظهر الحاسوب، وأخذوا يصنعونه بطريقة تجعلك قادرًا على وضع مؤلفك من خلاله، أي أن تصنع الموسيقا التي تريدها من خلال أصوات الحاسوب. وهذه طبعًا أصوات صناعية نسمعها اليوم بأجهزتنا، حيث الرنات في الهواتف المتنقلة وغيره، وهذا كله هو النظام الإعلامي نفسه الذي كان بداية صناعة الموسيقا بالحاسوب.

ليس هناك ما يدعو للخوف

أفادنا الحاسوب في تقنيات التسجيل وغيره، وهذا موضوع آخر، فكل هذه تقنيات للصوتيات أو لصناعة الصوت. أما فيما يخص التلحين والتأليف فأنا أعتقد أنه ليس هناك ما يدعو للخوف؛ لأننا اكتشفنا بعد زمن أن هذا الأمر يظل مرتبطًا بالإنسان؛ لأنه هو القادر على خلقه. وبالتأكيد سيحل الذكاء الاصطناعي كثيرًا من المشكلات، وستنتشر أنواع كثيرة من موسيقاه في الأسواق، وقد يصل الأمر إلى حد الحفلات، لكن ستظل منطقة اللايف محمية؛ لأن الموسيقا الحية لم تتأثر طوال السنوات الماضية، وبالتالي لا يوجد خطر عليها، كما هي حال صناعة الموسيقا في الأستوديوهات. سيؤثر الذكاء الاصطناعي (ai) كثيرًا في هذه الصناعة، وسيغير من شكلها، وهذا طبيعي؛ نظرًا للإمكانيات الهائلة التي يقدمها الذكاء الاصطناعي.

والآن أين المشكلة؟ بالتأكيد لا توجد مشكلة، لكن يمكن أن نسميها طفرات، فستحدث طفرات في الذكاء الاصطناعي، تعقبها طفرات موسيقية: أفكار جديدة، أصوات جديدة، تراكيب جديدة. ولكن هذه المفردات، حتى لو صنعها الذكاء الاصطناعي، لن تعمل من دون المعطيات التي نغذيه بها؛ إذ لا بد أن تخبره بما تريد. تقول له: نريد لحن أغنية بهذه المواصفات، وبهذا النوع من الموسيقا، وبهذا النوع من الأصوات، وبهذا النوع من المشاعر والانفعال، فمن الذي وضع هذه المدخلات، أليس الإنسان؟!

أفكار ومشاعر

منذ التسعينيات وأنا أتخيل الأمر على هذا النحو، وكنت قد قلت في إحدى القنوات الإعلامية مع مطلع الألفية: إنه سيأتي زمن يمكن لكل إنسان أن يؤلف الموسيقا التي يحبها، وبالطريقة التي يحبها، والذكاء الاصطناعي سوف يساعده؛ لأنه سيحدث طفرات، وسيحدث نقلة نوعية لمناطق ثانية في صناعة الموسيقا. لكن ستظل هذه الموسيقا بلا قيمة ما لم يبث فيها الإنسان أفكاره ومشاعره، بطريقة أو بأخرى. وبعدها سنكتشف أن هذا العمل أفضل من ذاك؛ لأن صانعه وضع فيه أفكاره ومشاعره. لكن هذا التطور سيتوقف إن اختفت الكهرباء، حينها سنبحث عن عازف ناي وعازف عود وعازف طبل…

هذه التقنيات الحديثة مرتبطة بنظام قائم يتغير يومًا بعد يوم حتى أصبحنا نتحدث عن قدرته على تلحين الموسيقا، لكني لا أعتقد ذلك؛ فهذه هي النقطة الجوهرية؛ لأن تأليف الموسيقا مرتبط بمشاعر المؤلف، وهذه المشاعر مثل التشكيل على الحروف: مثل الفتحة والضمة والكسرة، وهي التي تبين المعنى. المشاعر التي يعيشها الإنسان هي التي تجعله يصنع أغنية بكلمات ومواصفات محددة، حتى لو طلب من الذكاء الاصطناعي أن ينفذها، فهذه مجرد تقنيات.

مثلما قلت سابقًا، لقد صنعنا الآلات الإلكترونية المبرمجة من خلال الحاسوب، وقد عملت عليها مدة كبيرة منذ بدايتها، وظللنا نستخدمها طوال المدة التي كنا نقدم فيها الكروكات، فحين لا تكون لدي رغبة في شرح تصوري لمن أصنع له المواد الإعلامية، فإنني أنفذ موسيقاي على الحاسوب. أعمل خريطة، أو أرسم له إسكتش، وهو يُنفِّذ. وظللت منبهرًا بهذه التقنيات طوال حقبة التسعينيات حتى بداية الألفية، لكن فيما بعد أصبحت قناعتي أن الأصوات الحية هي التي ستظل، وهي التي تصنع الموسيقا، وليس المؤلف فقط، فالمؤلف هو الصوت الحي، وستظل له قيمته، وبالعكس ستزداد وتعلو.

إشكالات الذكاء الاصطناعي وحقوق الملكية الفكرية

 كنعان الأحمر – محامٍ تونسي مختص في حقوق الملكية الفكرية

‏أدت التقنيات ومخرجات الذكاء الاصطناعي إلى إشكالات عديدة تتعلق بحقوق الملكية الفكرية عامة، وحقوق المؤلفين المالية والمعنوية على أعمالهم خاصة، سواء أكانت براءات اختراع أو نماذج صناعية، أو علامات تجارية… إلخ. ونقصد بأعمال المؤلفين كل عمل أدبي أو فكري ‏أو علمي، أيًّا كان نوعه أو طريقة التعبير عنه (نص، موسيقا، تصوير، سينما،… إلخ)، مبتكر، ويحمل الطابع الإبداعي الذي يسبغ عليه أصالة فريدة.

الأصالة

الإنترنت عامة هي أهم عنصر في التقنيات التي تستخدم لإنتاج مخرجات الذكاء الاصطناعي، والإنترنت هي عمليًّا آلة نسخ ممتدة عالميًّا، بمعنى أنها تزود متصفح الإنترنت بنسخة على شاشة جهازه عن المحتوى الموجود بها. ولم تكد قوانين الملكية الفكرية تنتهي من احتواء تبعات آلية عمل الإنترنت على الحقوق الفكرية حتى ظهر مؤخرًا الذكاء الاصطناعي الذي لا يُعِيد نسْخ المحتوى كما في الإنترنت فقط، بل يستفيد منه مع مواد أخرى قد تضاف إليه لإنتاج مخرجات جديدة من نصوص أو رسومات أو صور أو أفلام،… إلخ. هذا خلَّف إشكالات وتحديات فلسفية وقانونية وأخلاقية وتطبيقية تتعلق بحق المؤلف وغيره، وما زالت هذه الإشكالات حتى الآن في طور التقويم والمعالجة من دون أجوبة نهائية واضحة.

أول هذه الأسئلة هو، هل ستخضع مخرجات الذكاء الاصطناعي- مثلًا: نص أو رسمة أو قطعة موسيقية أو فِلْم منتج بواسطة الذكاء الاصطناعي- للحماية تحت قانون حق المؤلف مثل الإبداعات البشرية؟ وإن كان الأمر كذلك، فكيف يمكننا حماية مخرجات الذكاء الاصطناعي بحق المؤلف الذي نشأ وتطور كحق طبيعي ذاتي من حقوق الإنسان، حق يهدف لحماية الروح الإبداعية الأصيلة عند الإنسان، ولاحترام التعبير عن الإبداع البشري ومكافأته ماديًّا وتشجيعه؟ ألا يمكن أن يؤدي ذلك لتسفيه الإبداع البشري الإنساني، والقضاء عليه تدريجيًّا من خلال وضعه في منافسة غير عادلة مع التقنيات القادرة على الإنتاج السريع والكثيف والسهل، بما لا يقارن مع قدرة الإنتاج الفردي البشري على الإبداع؟ إضافة لهذه الأسئلة الفلسفية والأخلاقية يبقى السؤال من الناحية العملية والتطبيقية هو: كيف ستستطيع مخرجات الذكاء الاصطناعي أن تحقق أهم شرط للحماية تحت حق المؤلف، وهو الأصالة والإبداع والذاتية المرتبطة بالعامل البشري؟ ومن سيكون مالك الحق؛ من أوجد البرنامج أم من استعمله؟ هذه الأسئلة جميعًا ما زالت من دون جواب، وستبقى كذلك حتى يتم وبشكل واضح ونهائي الاتفاق على تعريف وتحديد الذكاء الاصطناعي نفسه والتقنيات التي تنتجه. ولهذا ما زالت، على نحو عام، مخرجات الذكاء الاصطناعي من دون حماية لحقّ المؤلف.

من الضرورة

الإشكالية المقابلة هي كيفية التعامل مع تبعات وأثر مخرجات الذكاء الاصطناعي على حقوق المؤلف على الأعمال والمواد الإبداعية المحمية للبشر، سواء أكانت نصوصًا أو رسومًا أو صورًا أو أفلامًا سينمائية أو غيرها، التي تُغَذَّى تقنيات الذكاء الاصطناعي بها. والموجودة إما كمحتوى على الإنترنت أو خارج الإنترنت؟ مثلًا؛ من الناحية النظرية القانونية، يستطيع أي شخص اللجوء للنصوص القانونية المعترف بها في مجال حقوق المؤلف، بكل دولة، لمنع استخدام صورته من جانب الآخرين، عبر إنتاج صور مطابقة أو مشابهة، من دون إذنه. ولكن من الناحية العملية، ونتيجة لعولمة الإنترنت والانتشار غير المحدود لبرامج الذكاء الاصطناعي، وسهولة الوصول إليها عبر عدد غير محدود من الناس، وسرعة وسهولة القيام باستخدامها للنسخ أو التقليد في أي مكان من العالم، سيكون من الصعب عمليًّا على معظم المنتجين من الأفراد أصحاب الحقوق، الذين ليس لديهم موارد وإمكانيات الشركات الضخمة الكبيرة، القيام بأي منع للاعتداءات التي قد تصبح غير محدودة على صورهم أو حقوقهم، أو كشف وملاحقة المعتدين الذين يمكن أن يتوزعوا عبر بلدان عديدة. هذا أيضًا يمكن أن يؤدي لتسفيه الإبداع البشري الإنساني والقضاء عليه تدريجيًّا؛ لذا من المُلِحّ والضروري إيجاد الطرق والأطر القانونية والتقنية اللازمة لمعالجة كل هذه الإشكالات.

الذكاء الاصطناعي ودوره في الحياة الحديثة

معمر بن علي التوبي – أكاديمي عُماني مختص بالذكاء الاصطناعي

تجتاح تطبيقات الذكاء الاصطناعي ونماذجه المتعددة حياتنا، لنجد أبعادًا حديثة في مجتمعنا الصناعي الذي يدخل حقبة رقمية متقدمة تتمثل في تغير أنماط تعاملاتنا اليومية في الحياة؛ فنرى السرعة في انتقال المعلومات والبيانات وتحليلها الدقيق، كما طرأت الجودة -بجانب السرعة- في كل شيء. بات الذكاء الاصطناعي كائنًا رقميًّا يأخذ حيّزه الرقمي بجانب التقنيات الرقمية الأخرى، بل نراه شريكًا يزيد من فرص الجودة لوظائف التقنيات المتقدمة. فنرى، مثلًا، قوة ارتباط الذكاء الاصطناعي بالبيانات الكبيرة التي تشكّل وقودًا للذكاء الاصطناعي. وترتبط هذه البيانات كذلك بأنظمة جمع البيانات المتقدمة مثل إنترنت الأشياء والحساسات الذكية، وبوجود الحوسبة المتقدمة الخاصة بتخزين البيانات الكبيرة وتحليلها مثل الحوسبة السحابية والحوسبة الكوانتمية؛ لتتضح أهمية هذه التكاملية الرقمية التي تجتمع فيها مثل هذه التقنيات معًا؛ ولتشكّل قوة رقمية تعيد من تشكيل واقع حياتنا وتدفع بمجتمعنا الصناعي إلى مصب رقمي تجتمع فيه مكونات رقمية تسمح لسريان صناعي رقمي جديد في حياتنا أوصل المجتمعات الصناعية إلى ما يُعرف بالاقتصاد الرقمي، والتعليم الرقمي وغيرها من التطورات.

تبعات جدلية

من المهم أن ندرك أن أي ظهور تقني أو علمي حديث له تبعاته الجدلية التي تتعلق بتقبل المجتمعات لهذه التغييرات التقنية، من حيث ما يمكن أن تُظهره -في بداياتها- من نقلة غير معهودة. فبسبب هذا التحول، غير المألوف، تبدأ في الظهور بعض المظاهر السلبية التي يمس بعضها النمط المهني أو التفكيري المعتاد في الحياة والمجتمعات. وجدنا ذلك، مثلًا، مع بداية ظهور الإنترنت في بدايات تسعينيات القرن العشرين، وما أحدثه هذا الظهور من قلق لدى بعضٍ من حيث عدم الجاهزية في قبول هذا التحديث التقني المتمثل في الإنترنت؛ بحكم أنه يشكّل تحديًا لمؤسسات وأفراد لا يتقنون التعامل مع نظام اتصال المعلومات مثل الإنترنت؛ فبدأ القلق ينتشر خوفًا من اختفاء مهن تعتمد الطرق التقليدية وتحل محلها أنظمة متقدمة مثل الحاسوب والإنترنت. إلا أن هذه المخاوف، في غضون سنوات قليلة، بدأت تتلاشى مع التخصصات الرقمية الجديدة، ومع تنامي عدد المتخصصين.

ما أشبه اليوم بالأمس؛ إذ يتجلى دور الذكاء الاصطناعي في أنه نظام رقمي يعتمد مبدأ التحليل الدقيق للبيانات، والخروج بمخرجات تنبؤية دقيقة تتجاوز -في كثير من حالاتها- قدرات الإنسان التنبؤية والتحليلية؛ وبالتالي يعمل الذكاء الاصطناعي وفق آلية الدماغ البشري الذي يعتمد الشبكات العصبية وارتباطها وتواصلها، إلا أن الشبكات العصبية في الذكاء الاصطناعي تستعيض عن الأنظمة البيولوجية التي في الدماغ البشري بأنظمة رياضية مثل الأوزان التي ترتبط ببعضها الآخر مشكّلة خلايا عصبية رقمية، وكذلك خوارزميات التعلم الذاتي التي تسمح للنظام الذكي أن يتعلم ويتدرب على البيانات المُدخلة، ويعيد تعديل آلية إدراكه لهذه البيانات بسرعة عالية؛ ليحقق الهدف المنشود، وهذا النوع من الذكاء الاصطناعي الذي يُعرف بالتعلم العميق يشبه الكيفية التي يعمل بها الدماغ البيولوجي.

معظم جوانب الحياة

تعدّت قدرات الذكاء الاصطناعي كل التوقعات، وفي الوقت نفسه تجاوزت المخاوف معظم التوقعات السابقة -قبل الظهور الفعلي للذكاء الاصطناعي- فاقتحمت تطبيقات الذكاء الاصطناعي معظم جوانب حياتنا. فنجد هذه التطبيقات تتنافس في قطاع الصحة مثل التشخيص المبكر والدقيق للأمراض. فقد أثبت الذكاء الاصطناعي قدرته التي تفوق فيها على الإنسان من حيث السرعة والجودة، والبحث عن الحلول الصحية للأوبئة، وتحليل مكوناتها المعقدة؛ وبالتالي تحديد النمط العلاجي الأفضل والسريع عبر تصميم سريع للأدوية المناسبة. نرى كذلك تطبيقات الذكاء الاصطناعي في تعاملاتنا اليومية عبر هواتفنا وحواسيبنا؛ فباتت ترجمة اللغات أكثر سرعة وجودة بفضل نماذج الذكاء الاصطناعي، وكذلك الدردشة والدعم الرقمي عبر نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية مثل نموذج شات جي بي تي التابع لميكروسوفت وبارد التابع لغوغل.

على الرغم من هذه النقلة الإيجابية في حياتنا بفضل الذكاء الاصطناعي؛ فهناك تحديات ومخاطر تتعلق بوجود الذكاء الاصطناعي الذي يعدّ تفوقه في الذكاء على الإنسان مصدر هذا القلق. تفوق الذكاء الاصطناعي على الإنسان في مجالات كثيرة، وأدى إلى تلاشي بعض المهن التي كان الإنسان يشغلها، كما أن أخطاره تمس قيم الإنسان ووجوده؛ إذ من الممكن أن يقود تفوق الذكاء الاصطناعي إلى تسارع في مجال الصناعات العسكرية والبيولوجية دون أي اعتبارات أخلاقية، إلا أن ذلك -حسب ما أرى- قابل للسيطرة عبر التحكم المسبق بالبيانات وخوارزميات الذكاء الاصطناعي دون أن يُفقد مكانة الذكاء الاصطناعي ودوره الإيجابي في حياتنا.

هل سينجب الذكاء الاصطناعي في السينما جنينًا أم مسخًا؟

ليث عبد الأمير – مخرج وناقد عراقي

السينما فن إبهار! هكذا ولدت منذ قطار الإخوة لوميير. المشهد الذي صور قطارًا يسير باتجاه الكاميرا فولّد حالة من الدهشة، باندفاعه نحو الجمهور في أثناء العرض الأول له في باريس، وذلك في عام 1896م. والسينما إذ تعمل بهذا الاتجاه، فهي تهدف إلى خلق الصدمات وهز الجمهور. وهنا يصبح دور التقنيات حيويًّا في خلق الإثارة. وهو الأمر الذي يؤكد مدى الترابط الجدلي بين السينما كفن وصناعة.

أصبح، من الضروري، اليوم، التوقف عند كلمة «صناعة»؛ لأنها صارت مثل سمك «قرش الرمل الببري» الذي تتغذى الأجنة من جنسه على الصغار منها داخل الرحم. والتقنيات الحديثة، وبخاصة ما يُسمى بالذكاء الاصطناعي، تجاوزت كل الحدود المرسومة في السينما بين الصناعة والفن، حيث أصبحت الصناعة بانطلاقتها الكبرى متجاوزة للفن نفسه.

الإكستريم

السينما فن يعشق الهدم وتهوى التحرّش بالحدود والتجاوز على المألوف والعادي أو الشائع، بل تتجاوز ذاتها. وفي هذا توجه نحو ما نطلق عليه بظاهرة «الإكستريم» في السينما. ونقصد بالإكستريم: الأقصى، التطرف، التجاوز، المغالاة، الإفراط، البعد عن الوسط، والخروج عن المألوف. وهي ظاهرة ليست بحديثه ولكنها أصبحت مستفحلة في السينما، وفي هذا المنحى، بحسب جيل ليبوفسكي وجان سيرو، حداثة فائقة. تجري اليوم، في مصانع السينما، عملية هدمٍ غير مسبوقة، وهو هدم غير تأسيسي، هدمٌ للشكل، وتجاوزٌ للغة والأسلوب، وكَسْرٌ للمفهوم التقليدي للشاشة وكل هذا يقع ضمن حدود الحالة القصوى (إكستريم).

يقوم الذكاء الاصطناعي في زمننا المعاصر بعمل غاية في الدقة، فهو مشرط الجراح القادر على إزاحة دور الممثل التقليدي، بل حتى استئصال الكاميرا من موقعها، وذلك بفضل برامج الحاسوب القادرة على بناء زوايا تصوير عديدة، من مواقع يصعب على الكاميرا التقليدية الوصول إليها (بسبب أخطار التصوير).

إن هذا الشكل من «سينما الإكستريم» يهوى الأحاسيس والانفعالات العنيفة التي يُعبّر عنها بأشكال غير تقليدية، وذلك بالانجذاب إلى كل ما هو شديد ومُفرِط، ومبالغ فيه، أي هو حالة انفعالية. في هذا السياق يقول ميشيل لاكروا: «لكي نشعر بأننا أحياء، نحن بحاجة إلى تجارب عنيفة»؛ وذلك لأننا نعيش في مجتمعات مخدَّرَة، مُستَلبَة، وغير فعالة. فنحن البشر، حيث نمضي أغلب حياتنا في القلق والخوف والحروب والكوارث، نعيش في رعب دائم وحياة متوترة، نحن بحاجة إلى صدمات تهز أعماقنا وتملأ خواء أرواحنا. وهنا يصبح التساؤل مشروعًا: هل يا ترى سرقت التقنيات من السينما خصوصياتها الجمالية والفكرية والموضوعية؟ وذلك، لأن وسائل التعبير الفنية، قد تغيرت بناءً على مستجدات العصر وتقنياته الجديدة.

ملامح القادم

يبدو أننا لا نستطيع الآن أن نحدد ملامح ما سيأتي. ويصعب البحث عن إجابة في اتجاه واحد، ولكن المؤكد أننا على أبواب عصر جديد، بجماليات سرد من نوع مختلف: استغناء عن الممثلين وكتاب السيناريو، بناء ديكورات افتراضية وإنشاء شخصيات رقمية وتحقيق أشكال غير نمطية للصور. ونحن هنا لا نريد التكهن بالمستقبل، لكن يبدو أن حدود القادم، هو في مرحلة التكوين. وهي حدود جديدة، مفتوحة على فضاءات واسعة، وأخطار جديدة أيضًا.

ربما في هذا انعطافة نحو فن جديد، فن خارج من رحم السينما، فن لا حدود له، فن تصبح الأسطورة فيه أو الخيال والحياة الافتراضية واقعًا يعيش وينمو معنا. وفي هذا إنجاز عظيم للسينما أو العكس فربما هو تهديد للسينما نفسها أو «تدمير»؛ لأن التضخم في دور التقنيات والصناعة سيعمل باتجاه تدميري على حساب الفن نفسه. أو على أقل تقدير، سيسرق جزءًا حيويًّا من الموضوعات المحبَّبة، خلال كل تاريخ السينما العريق. ترى بعد كل هذا هل سيحبل الذكاء الاصطناعي بجنين شرعي أم بمسخ في السينما؟


هوامش:

(١) يوفال نوح هراري (Yuval Noah Harari) من مواليد م1976، مؤرخ إسرائيلي حصل على شهادة الدكتوراه في التاريخ من جامعة أُكسفورد سنة 2002م، يعمل أستاذًا للتاريخ بالجامعة العبرية في القدس منذ سنة 2005م، أصدر سنة 2014م كتابه «العاقل. تاريخ موجز للبشرية sapiens. Brève histoire de h l’humanité»، الذي بِيعَ منه أكثر من 23 مليون نسخة، كما أصدر سنة 2017م «الإنسان الإلة؛ تاريخ موجز للمستقبل une brève histoire du futur, Homo deus»، وفي سنة 2018م كتاب «21 درسًا للقرن الحادي والعشرين) (21 leçons pour le XXIe siècle وكلها صدرت في ترجمتها الفرنسية عن دار النشر ألبان مشيل (Albin Michel).

(٢) يان لوكان (Yann Le Cun) من مواليد 1960م، نال شهادة الدكتوراه بجامعة ببير وماري كوري سنة 1987م، يعود إليه الفضل في تطوير ما يسمى «تقنيات التعلم تحت الإشراف»، عمل أستاذًا بجامعة نيويورك سنة 2003م. أسس مختبر البحث حول الذكاء الاصطناعي التابع لشركة ميتا )فايسبوك سابقًا)، سنة 2013م، وحصل على جائزة تورينغ سنة 2019م التي تعادل جائزة نوبل في مجال المعلوميات.

(٣) Intelligence artificielle: le choc des cerveaux , entretien entre Yuval Noah Harar et Yann Le Cun, Propos recueillis par Héloïse Pons et Guillaume Grallet, le Point 2549 ,11mai2023 , P:48-55

(٤) ألفاغو هي برمجية في كمبيوتر غو طُورت من قِبل غوغل ديب مايند في أكتوبر من عام 2015م، وأصبحت أول برمجية تهزم لاعبًا بشريًّا محترفًا في لعبة الغو، حيث هزمت في مدينة سيول لاعب الشطرنج ليي سيدول lee Sedol، الذي كان يُعَدّ واحدًا من أفضل لاعبي الشطرنج في العالم.

(٥) لفظ يستخدمه الباحثون لأجل الدلالة على بيانات الآلات التي لا تكون لها علاقة بالواقع، فهو في مجال الذكاء الاصطناعي إلى حال تصيب أنظمته، فتجعلها تقدم إجابة غير صحيحة في الواقع أو غير مرتبطة بالسياق المعطى ومع درجة عالية من الثقة تجعلها تبدو مقنعة ظاهريًّا.

(٦) يوفال نوح هراري (Yuval Noah Harari) من مواليد م1976، مؤرخ إسرائيلي حصل على شهادة الدكتوراه في التاريخ من جامعة أُكسفورد سنة 2002م، يعمل أستاذًا للتاريخ بالجامعة العبرية في القدس منذ سنة 2005م، أصدر سنة 2014م كتابه «العاقل. تاريخ موجز للبشرية sapiens. Brève histoire de h l’humanité»، الذي بِيعَ منه أكثر من 23 مليون نسخة، كما أصدر سنة 2017م «الإنسان الإلة؛ تاريخ موجز للمستقبل une brève histoire du futur, Homo deus»، وفي سنة 2018م كتاب «21 درسًا للقرن الحادي والعشرين) (21 leçons pour le XXIe siècle وكلها صدرت في ترجمتها الفرنسية عن دار النشر ألبان مشيل (Albin Michel).

(٧) يان لوكان (Yann Le Cun) من مواليد 1960م، نال شهادة الدكتوراه بجامعة ببير وماري كوري سنة 1987م، يعود إليه الفضل في تطوير ما يسمى «تقنيات التعلم تحت الإشراف»، عمل أستاذًا بجامعة نيويورك سنة 2003م. أسس مختبر البحث حول الذكاء الاصطناعي التابع لشركة ميتا )فايسبوك سابقًا)، سنة 2013م، وحصل على جائزة تورينغ سنة 2019م التي تعادل جائزة نوبل في مجال المعلوميات.

(٨) Intelligence artificielle: le choc des cerveaux , entretien entre Yuval Noah Harar et Yann Le Cun, Propos recueillis par Héloïse Pons et Guillaume Grallet, le Point 2549 ,11mai2023 , P:48-55

(٩) ألفاغو هي برمجية في كمبيوتر غو طُورت من قِبل غوغل ديب مايند في أكتوبر من عام 2015م، وأصبحت أول برمجية تهزم لاعبًا بشريًّا محترفًا في لعبة الغو، حيث هزمت في مدينة سيول لاعب الشطرنج ليي سيدول lee Sedol، الذي كان يُعَدّ واحدًا من أفضل لاعبي الشطرنج في العالم.

(١٠) لفظ يستخدمه الباحثون لأجل الدلالة على بيانات الآلات التي لا تكون لها علاقة بالواقع، فهو في مجال الذكاء الاصطناعي إلى حال تصيب أنظمته، فتجعلها تقدم إجابة غير صحيحة في الواقع أو غير مرتبطة بالسياق المعطى ومع درجة عالية من الثقة تجعلها تبدو مقنعة ظاهريًّا.

(١١) مبادئ أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، الإصدار 1، ص 3.

(١٢) انظر لقاءً مسجلًا معها: صحيفة الأهرام: 19 إبريل 2018م: https://www.youtube.com/watch?v=QiFRJh5czCA

(١٣) انظر: موسى، عبدالله. وبلال، أحمد. (2019). الذكاء الاصطناعي ثورة في تقنية العصر. ط1. القاهرة. المجموعة العربية للتدريب والنشر. ص 20.

(١٤) موقع AI)). (2023)«ما مفهوم الذكاء الاصطناعي؟». رابط، https://poe.com/s/K06hknsZTOgvsGwHt1Wu، بواسطة المحسني، عبدالرحمن. تاريخ الدخول 15/7/2023. وانظر: المحسني، عبدالرحمن (2023). في أدب الذكاء الاصطناعي: الرؤية والنص (مركز التميز البحثي. جامعة الملك عبدالعزيز)، ص 10.

(١٥) أولريش بيك (2006، ص: 22). “مجتمع المخاطر العالمي، بحثا عن الأمان المفقود«. ترجمة علا عادل وآخرون (2013). المركز القومي للترجمة. القاهرة.

(١٦) أولريش بيك (2006، ص: 27)، المصدر السابق.

(١٧) بورديزيكس إدوارد (2008م، 127 – 128). «إدارة المخاطر والأزمات والأمن»، ترجمة أحمد المغربي. دار الفجر للنشر والتوزيع، الطبعة 1، القاهرة.

المنشورات ذات الصلة

1 تعليق

  1. خلدون الساكت

    مقال الاستاذ البريدي المعنون الذكاء الاصطناعي يغتال الذاكره رائع . لكني أعتقد أنه سقط سهوا في المقال ورود مصطلح الحفظ والتقين وأعتقد أنه قصد الحفظ والإلقاء وليس التلقين وقد تكرر ذلك في المقال . وأشكركم على كل المقالات الموجوده ودامت جهودكم الطيبه

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *