محمد أسعد، مصور صحافي لدى وكالة الصحافة الفلسطينية، ساهم في تغطية حروب غزة الأخيرة ونال العديد من الجوائز العربية والدولية؛ منها: جائزة منظمة ) الأوتشا (التابعة للأمم المتحدة، وجائزة الصحافة العربية لأفضل صورة صحافية وغيرها من الجوائز.

التقته «الفيصل» وحاورته حول تجربته إضافة إلى قضايا وموضوعات أخرى.

إلى نص الحوار:

●  إلى أي مدى ساهمت أعمالك الفوتوغرافية في تعزيز الوعي بالقضية الفلسطينية وعدالتها، وصياغة رواية الأحداث من وجهة نظر فلسطينية في الوعي العالمي الذي بات مؤخرًا مكتظًّا بقضايا كثيرة؟

■  أعملُ في هذه المهنة منذ خمسة عشر عامًا، خلال هذه الأعوام اكتسبتُ خبرة ميدانية جيدة. على الرغم من أن تخصصي بعيد من الإعلام؛ لكن الأحداث الميدانية صقلت موهبتي في التصوير الصحافي وجعلتني متمكنًا في الأداء الميداني مع خصوبة البيئة الفلسطينية المتمثلة في غزة التي شهدت أربع حروب طاحنة ومسيرات حدودية أوقعت إصابات جسيمة، إضافة إلى الحصار المستمر منذ أربعة عشر عامًا. جميع هذه الأحداث صقلتنا نحن المصورين الميدانيين ومنحتنا خبرة في إدارة رسالة الإعلام التي كان لها صداها وقوتها في المجتمعين العربي والدولي، على الرغم من أن قطاع غزة لا يتجاوز ٣٦٥ كيلو متر مربع. تغطية الأحداث في تلك البقعة أحدثت ردود أفعال قوية لتتصدر شاشات القنوات وواجهات الصحف، وهذا يعكس قوة الصحفي الفلسطيني.

●  تحملُ كاميراك تحت أزيز الرصاص؛ لتوثق المآسي؛ لكنك في مشروع آخر تغوص بها في أعماق البحر المتوسط لتوثق البيئة البحرية داخل أعماقه، كيف استطعت الجمع بين هذين المشروعين؟

■  الأمر في غاية الصعوبة لأنني أوثقُ الميدان والأحداث على الأرض. ذات مرة كنت أعدُّ تقريرًا بسيطًا عن حياة الصيادين، الغواصين بالمسدس البحري، فلقيت نفسي أمام عالم غير مكتشف، لم يتمكن الصحافي الفلسطيني من طرق بابه، فخضتُ التجربة بكاميرا (جوبرو) التي كانت جائزة نلتها من منظمة الأوتشا التابعة للأمم المتحدة، وبدأت بالغوص الحر بوسائل ميسرة جدًّا من دون أُكسجين؛ لأن هذه المعدات ممنوعة بسبب سياسة الحصار على القطاع، على الرغم من كل هذا استطعتُ صناعة أول فِلْم وثائقي فلسطيني عن بيئتنا البحرية من تحت سطح الماء. بعد ذلك صنعت قناة مغامرات الغوص التي تتحدث عن مكونات بيئة البحر المتوسط ولاقت نجاحًا وتغطيات إعلامية واسعة، وتعدّ فريدة على مستوى العالم العربي.

●  تلتقط أنفاسك لتتهيأ للغوص بلا أسطوانة أُكسجين؛ لتوثق كائنًا بحريًّا بعدستك؛ صف لنا تلك اللحظات وأنت داخل الأعماق.

■  أمارس رياضة الغوص الحر لأوثق المشاهد واللقطات التي أصنعها لأجل سكان حوض البحر المتوسط، مع العلم أن التوثيق العلمي للبحار بحاجة إلى معدات خاصة وطاقم خاص يتمثل في مخرج ومساعد مصور؛ إلا أنني أقوم بهذا العمل وحدي مع وجود صعوبات كثيرة، زعانف بالية ببدلة رقيقة بسمك 1.5 مل لا تقيني من برد الشتاء وهو الوقت الأنسب للتصوير لصفاء المياه؛ بالرغم من كل هذا، فإن النتائج وردود الأفعال جيدة وتحثني على المضي قدمًا.

●  في أغلب الأوقات الكاميرا تتوقُ إلى اللامألوف وكأنها صنعت لأجله، كيف تصف لحظة التقاطك لمشاهد الموت؟

■  تقودنا الأحداث ومجرياتها بطريقة دراماتيكية، ننطلقُ إلى حدث معين، فنجد أحيانًا أننا أمام مجزرة أو حادثة أليمة، يصبح الضغط على زر كاميرا أمرًا لا إراديًّا، وتبدأ أيدينا بتصوير هذه المشاهد ونحن في ذهول؛ ولا سيما إن كان هناك أطفال أو نساء عُزّل.

لكل صورة حكاية

●  وجهها المثقوب بجراح ركام الخيبات، فمها الذي رسم ابتسامة عزاء لرتق مسافات طويلة من الحزن… ولتستقر أخيرًا في عدستك موسومة بـ«عصية الدمع» التي اختِيرَت ضمن صور إنسانية كثيرة في مبنى الأمم المتحدة بنيويورك… ما حكاية تلك الصورة؟

■  داليا خليفة عمرها تسعة أعوام، بطلة هذه الصورة، في حرب ٢٠١٤م على غزة، أطلقت دبابات الاحتلال مدفعيتها بصورة عشوائية في اتجاه منازل المواطنين بحي الزيتون وهو ما أدى إلى سقوط قذيفتين على منزل الطفلة داليا الآمنة في منزلها، وأصيبت أختها وأفراد عائلتها عندما كانوا نائمين في منتصف الليل بمنزلهم. تناثرت الشظايا على جميع أجزاء جسدها الضعيف وعلى وجهها. وبينما كنتُ أتجول في المستشفى خلال مدة هدنة الحرب دخلتُ إلى غرفة الصغيرة داليا فنظرت إلى وجهها الملائكي وقد اخترقته شظايا القذائف الحاقدة؛ لكنها أبت الانكسار في ذلك الوقت. تلك الصورة هزت كل من رآها ونالت الفوز بالجائزة الكبرى لدى منظمة (الأوتشا) التابعة للأمم المتحدة في مسابقة روح الإنسانية، كما عُلّقت داخل مبنى الأمم المتحدة في أثناء انعقاد القمة العالمية للعمل الإنساني.

●  «مجموعة جسور للتواصل الدولي، ترحب بكم».. Gazza Message لافتة معلقة خلف ثلاثة يعزفون الموسيقا، بينما ثلاثة أطفال ينظرون إليهم، يقفون على الخراب ذاته لعمارة سكنية قُصفت في أثناء الحرب… هل كان حفلًا موسيقيًّا على ذلك الخراب أم إنها صورة التُقِطتْ بترتيب مسبق منك؟ ما حكايتها؟

■  في الحروب السابقة مع التصعيد المستمر، كان الاحتلال يستهدف أبنية مختلفة من ضمنها مراكز ثقافية ومسارح؛ لأن الاحتلال يرى الفن الوطني رسالة هادفة يجب محاربتها. في كل حرب، لم يقصر الفنانون والعازفون في شدو الأغنية الوطنية؛ فتلك رسالة لها صداها. بالنسبة للصورة المُلتقطة التي أشرت إليها، التُقِطَت في أثناء حفل موسيقيّ أُقِيمَ على أنقاض برج دمّره الاحتلال في الحرب، فهي رسالة بلغة الموسيقا إلى العالم علّه ينطق.

●  قبل بضعة أعوام، دُمّر منزلك ليكون أثرًا بعد عين، من بين الركام تظهر شهادة تقدير ودرع تذكارية مكسورة، بعد كل هذا الحطام وتلك الأعوام التي مرت، ألا يزال ذلك المنزل مشيدًا بذكرياته في ذهنك وروحك؟

■  جدران المنازل تحتفي بذكريات الناس الذين كانوا من بينها. في ذلك المنزل أتذكر أمي وأبي -رحمهما الله- وأصدقاءنا وحفلاتنا وسهراتنا وأعياد الميلاد، كما أتذكر عشًّا صغيرًا لدجاجتين وديك، كنتُ أربيهما في حديقة باحة المنزل، لم يسلم ذلك العش من بطش الدبابات، وأتذكر مكتبي والدروع وعشرات شهادات التقدير؛ لكنها دُمّرت بالصواريخ وصعدت عليها جنازير الدبابات فتحطمت إلى قطع صغيرة.

●  ذكرت في إحدى لقاءاتك: «… قبل النوم يؤرقنا شيء معين، هناك فِلم من الذاكرة السيئة المليء بالدماء والأشلاء والشهداء…» ومن يرى بعض أعمالك يجد فعلًا أنها صادمة جدًّا حدّ الذهول، كيف تتعامل مع تلك الذاكرة السيئة عندما تتسرب إليك في اللاوعي؟ هل ندمت على التقاط بعض ما هو صادم في وقت لاحق؟

■  هذا الشريط أو الكابوس لا يزال يلاحقني في حياتي عندما أفكر أو آكل أو عندما أقود السيارة، إنه كمسلسل رعب؛ بل إنه يلاحقني حتى في المنام، والغريب أنه لاحقني خلال رحلتي لتسلم جائزة الصحافة العربية في دبي على الرغم من الحياة الهادئة والجميلة.

تثبيت اللحظات الزائلة

●  تقول الكاتبة الأميركية سوزان سونتاج في كتابها الذائع الصيت: «حول الفوتوغراف»: «إحساسنا الطاغي بسرعةِ زوالِ الأشياء، صار أكثر دقّة منذ أن منحتنا الكاميرات الإحساس بتثبيت اللحظة الزائلة». كيف تتعامل مع لحظة فاتنة تستحقُّ التخليد بلقطة، لكن غياب الكاميرا حال دون ذلك، هل تُعيد خلق مشهد جديد مُشابه، أم إن لقطات الحياة الفاتنة لا تنتهي بالنسبة إليك؟

■  في كل حدث هناك فرصة لأخذ لقطة؛ لذا فإن كاميراي معي في سيارتي بصورة دائمة، وإن كنت أسير منفردًا فإن هاتفي سيسعفني حتى أكون حاضرًا وبقوة.

●  المتأملُ في نتاج عدستك يجدُ بعض الصور الفوتوغرافية التي لا تنتمي لمشروعك الذي سرتَ فيه وبرزت فيه أكثر؛ المتعلقُ بتوثيق المأساة. كيف توازن ما بين ذلك المشروع الذي سِرتَ فيه وما بين الصور الفوتوغرافية الأخرى التي لا تنتمي إليه؟

■  في مجال التصوير الصحافي الأمر مفتوح للإنسان والحجر والشجر والأرض والماء.. ولكل شيء. التغطية الشاملة هي العنوان، والحدث هو المقصد، فأينما وجد الحدث نكون.

●  أحيانًا الرصاص يغتال كاميراك ويحولها إلى حطام بُعيد توثيقها لمشاهد كثيرة، وأحيانًا تضطر إلى الصعود إلى الأعلى كيما تلتقط الأنفاس تاركًا في أعماق البحر كاميراك التي وضعتها لتلتقط مشاهد بحرية، بعد عودتك من الأعلى تتفاجأ بأن تلك الكاميرا اختفت؛ إذ ذهبت ضمن تيار بحري سحب معه ذاكرة التوثيق… كيف تتعامل مع لحظات ضياع الجهد؟ هل تكون حافزًا لأجل بذل المزيد وتعويض تلك اللقطات الضائعة؟

■  إن ضاع المشهد فإن مشهد اغتيال الكاميرا سيكون أقوى، الاحتلال يتسبب أحيانًا في جريمة ويغطيها بجريمة أكبر.

●  بعض زملائك المصورين الذين خرجوا معك في يوميات توثيق المأساة، استُشهدوا في أثناء التوثيق… ما مدى تأثير ذلك في رغبتكم في مواصلة هذا المشوار المُسوّر بالموت…. هل فكرت يومًا بالتوقف؟

■  المصور الصحافي الفلسطيني اعتاد على عدم وجود جهات دولية توفر له الحماية أمام عدو لا يكترث لأي مواثيق أو قوانين دولية، لكننا إذا تقاعسنا يومًا ستكون كارثة. الصورة يجب أن تبرز والرسالة يجب أن تصل حتى لو كلفتنا أرواحنا.

صور تحفز البحث عن مضمونها

●  يقول المصوّرُ الأميركي إيميت غوين: «التصوير الفوتوغرافي هو وسيلة للتعامل مع أشياء يومية يعرفها الجميع، لكنهم لا ينتبهون إليها. صوري، مقصودٌ منها أن تمثّل شيئًا ما، أنت لا تراه». الآن بعد هذه التجارب المتراكمة والنجاحات المتتالية التي تُوجت بنَيْلِك العديدَ من الجوائز المحلية والعربية والعالمية؛ ما رؤيتك الخاصة تجاه ذلك الفن؟

■  التصوير الصحافي جزء من التصوير الفوتوغرافي وهو أكثر تخصصًا حيث تكون اللقطات تحت عناوين محددة وأحداث واضحة وأحيانًا تكون للإيحاء بمعنى غير مباشر لقضية ما، لكن في النهاية يكون لها مدلولاتها للمشاهدين الذين يدركونها بسرعة، أما بالنسبة للصور التي لا تُفهم بسرعة فإنها تحفز من يراها على البحث عن مضمونها… كيف جاءت وكيف التُقِطَت؟ والقصة التي تقف خلفها.

●  ذكرت في أحد لقاءاتك أن: «… الأرض هنا خصبة بالأحداث ومليئة بالمجريات الميدانية، بالتالي يكون لدينا الكثير من المواد في جَعْبتنا التي نستطيع أن نُخرجها…»، هل يقلقك أن مشروعك الفوتوغرافي الأبرز مرتبط بل يكاد يكون رهينًا لاندلاع حرب بين طرفين ضمن نطاق جغرافي محدد؟ ألا تفكر مستقبلًا في الخروج من هذا المشروع أو الذهاب لمناطق نزاع أخرى في هذا العالم لتوثيقها؟

■  لأنني فلسطيني ولديَّ خبرة في أرضي؛ لذا لدي رسالة أخلاقية بأن أكون في بلدي لأتحدث عنها. هي رسالتي الوطنية قبل أن يكون عملًا أُكلّف به. إن تحررت بلدي يومًا ما، من الممكن أن أخرج لأتحدث عن الآخرين.

●  في بعض صورك من يتأملها يجد أنها قد تبدو عادية للوهلة الأولى؛ لكن الحكايا التي تقفُ خلف كل صورة تمنحهُا بعدًا آخر للمتلقي، ألا ترى أن هذا فيه إرباك للمتلقي، أي أنه لا بد أن يعرف الحكاية السردية خلف كل صورة لكي يعرف البُعد الأهم من اللقطة نفسها؟

■  هذا ما يجعل لها أهمية، البحث والتدقيق والتأمل يشدّ الجمهور أكثر، بذلك أكون قد أوصلتُ رسالتي للمتلقي بنجاح.

●  الآن في زمن شيوع التصوير، لكل شخص في العالم تقريبًا عبر هاتفه، ووجود منصات نشر للصور عبر وسائل التواصل الاجتماعي، هل تأثرت قيمة المصور المحترف أم إنها بقيت ثابتة، ما رأيك؟

■  بل إن وكالات الأنباء العالمية أصبحت تتعامل بالهاتف أيضًا، هذا منوط بالمصور الصحافي، يجب أن يطور نفسه دائمًا للتقنية المتقدمة بسرعة وإلا سيقف مكانه دون تقدم. في الوقت نفسه، الهاتف مكّن كثيرًا من الذين هم خارج مضمار الصحافة، تحت اسم نشطاء، بأن يكونوا ناقلين للحدث وهذا يصبّ في خدمة نشر قضية ما أو تغطية حرب أو كارثة أو أي حدث كبير في بلد ما.

●  صورك ستكون وثائق عتيقة في متحف المستقبل، للدلالة على تاريخ ما وربما للإشارة إلى حقائق معينة وثّقتها عدستك، هل تدرك ذلك الأمر في أثناء الالتقاط؟ أم إن اللقطة تأخذك بلا تفكير لالتقاطها؟

■  أحيانًا الأحداث تأخذنا اقتيادًا، نصورها بذهول؛ لكن في النهاية نصل إلى نقطة الوعي وسرعان ما نتداركها لتوظيفها في مكانها الخاص لنجدها على واجهة صحيفة أو متصدرة لموقع إخباري أو في معرض ما أو على غلاف كتاب أو مجلة أو ينطلق بها متظاهر في دولة ما ينادون بصوتك وقضيتك.

●  يقول مصور الحروب البريطاني السير دون ماكلين: «الكاميرا بالنسبة لي ليست رميًا عشوائيًّا… أستعملُ عاطفتي أكثر من استعمالي لتلك الكاميرا…»؛ ماذا تعني لك تلك الكاميرا؟

■  هي تلازمني، بل جزء من جسدي، نصفي الآخر، تكملني وأكملها، نوثق الحدث معًا ليراه من على الأرض.

●  ما كلمتك الأخيرة في هذا الحوار؟

■  أدعو زملائي في كل وسائل الإعلام إلى النظر والترقب والاهتمام بالقضية الفلسطينية والصحفي الفلسطيني. يجب على الصحفي العربي أن يهتم وينظر إلى الصحفي الفلسطيني المتمكن ويتفقده بكلمة شكر أو دورة تدريبية أو درع -لا يستطيع أن يدخله إلى قطاع غزة- يقيه من الرصاص، ويناصره في المحافل الدولية وينادي بصوته وحقه.