المقالات الأخيرة

“لقاء مارس 02: تواشجات” دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

“لقاء مارس 02: تواشجات”

دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

فيما يشبه الالتزام الأخلاقي والجمالي، تبنى لقاء مارس السنوي، الذي تنظمه مؤسسة الشارقة للفنون، في دورته الجديدة التي انتهت أنشطتها قبل أيام، طيفًا واسعًا من القضايا والموضوعات والنقاشات وعروض الأداء، التي لئن اختلفت وتعددت وتنوعت، إلا أنها تذهب كلها إلى منطقة واحدة،...

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

بلدي تحت جلدي.. مذكرات الحب والحرب

بواسطة | مايو 1, 2022 | مذكرات

في عام 2000م، بعد سنوات طويلة من العمل عليه، قررت الشاعرة والروائية النيكاراغوية الشهيرة جيوكوندا بيلي نشر سيرتها الذاتية بعنوان: «بلدي تحت جلدي: مذكرات الحب والحرب». يضم هذا الكتاب السيرة الكاملة للمؤلفة الحائزة على العديد من الجوائز المرموقة في إسبانيا وأميركا اللاتينية، منها: «جائزة الملكة صوفية» و«لاس ميركاس». ينطلق الكتاب من ميلادها ونشأتها في كنف عائلة ثرية تسكن أرقى أحياء ماناجوا، ومرورًا بتجنيدها اليساري وانضمامها للحركة الثورية الساندينية التي أسقطت الدكتاتور سوموثا عام 1979م، وانتهاءً بضلال الثورة وعدم وفائها بوعودها ثم هجرتها إلى الولايات المتحدة. بين كل ذلك، تحكي عن حياتها امرأةً وشاعرةً، وتتناول حياتها العائلية وقصص غرامها. صدر للكاتبة باللغة العربية العديد من الأعمال، من بينها رواية «الكون في راحة اليد»، و«بلد النساء». وتعدّ من أهم الأصوات الأدبية شعرًا ورواية باللغة الإسبانية.

هنا ترجمة لفصل من الكتاب، الذي سيصدر بالعربية، في غضون شهور عن دار المدى.

عن سفري إلى كوبا للمرة الأولى، ولقائي الغريب بـ«فيديل كاسترو»

بنما، هافانا 1978-1979م

  هل تحبين السفر إلى كوبا؟

سألني موديستو ذات مساء في بنما، بابتسامة فاتنة لساحر على وشك أن يحقق إحدى رغبات علاء الدين. كان الكوبيون يدعون أحد ممثلي «الحرب الشعبية الممتدة» للاحتفال بالذكرى العشرين لثورتهم. لو كنت متاحة لمدة أسبوعين، سأكون أنا الشخص المنوط به السفر إلى الجزيرة في الأيام الأخيرة من شهر ديسمبر.

لقد حاولت بشكل عام ألا أغيب عن بيتي أكثر من يومين أو ثلاثة أيام. كان أطفالي يستاؤون من غيابي المتكرر؛ لذلك كانت رحلاتي متكررة لكنها قصيرة. وكريستينا، التي كانت تغطي جبهتي المنزلية، اضطرت إلى العودة إلى نيكاراغوا. جاءت مكانها ماريا إلسا، نيكاراغوية أخرى. امرأة شابة وقوية وذكية، أحبت أطفالي سريعًا، وبخاصة كاميلو. وعلى الرغم من أني قد أغيب أكثر من المعتاد، قبلتُ اقتراح موديستو. كانت كوبا حينها فنار الثورة في أميركا اللاتينية؛ أول أرض أميركية لاتينية محررة. أي رحلة أرغب في القيام بها أكثر من هذه الرحلة؟

عدت إلى بنما في أواخر ديسمبر لأركب الطائرة المتجهة إلى هافانا. في الساعة الأخيرة، قرر موديستو عدم السفر، وكان هو من خطط للسفر معي. لا أتذكر الأسباب جيدًا. في اليوم التالي لوصولي، حدث بيننا نقاش غير منطقي وفي غير موعده طعنني فيه لا أعرف بخيالات فائتة ومتخيلة وقبل أن يلتزم صمتًا مهددًا، قال لي: إني سأسافر بمفردي إلى هافانا.

سافرت، إذن، حزينة ومستاءة على متن الشركة الكوبية الجوية. ومنذ جلست في الطائرة شعرت بدخولي إلى عالم آخر. كانت المضيفتان، واحدة بشعر فضي وأخرى بشعر أسود لامع –الكوبيات يعشقن الصبغات- تتحركان في الطائرة بلا مبالاة لطيفة. والرحلة المبرمجة للخروج في التاسعة مساءً تحركت في الخامسة فجرًا. قدموا لنا بيرة في الفطور وفي عشاء الليلة السابقة.

كان مظهر هافانا الباهت والفقير ومقشر الطلاء، والالتزام الذي لا تشوبه شائبة بين مسؤولي الحزب وموظفي الفنادق وسائقي السيارات الرسمية وكل من كانوا في انتظارنا، انطباعاتي الأولى عن الاشتراكية. وصلت إلى كوبا وأنا على استعداد لتغيير رؤى المراهقة المتعسفة الملأى بأساطير ضد الشيوعية؛ لأحل محلها واقعًا يوتوبيًّا استطاعت فيه الاشتراكية أن تخلق أفضل العوالم الممكنة. رأيت المدينة من خلال نافذة أوهامي الوردية. كان الحصار الاقتصادي من جانب الولايات المتحدة يفسّر البنايات المتداعية، لكن الأثر لم يكن قويًّا. أثار إعجابي كرامة الكوبيين، فكاهتهم التي لا تكل وهم يصعدون إلى الحافلات المزدحمة والمتأخرة، وارتداؤهم ملابس كانت تذكرني بموضة الخمسينيات والستينيات.

كان فندق كابري، حيث استضافوني، يتميز بديكور أرتديك مرمم وأعيد ترميمه، ذكرني بالفنادق القديمة في ميامي بيتش. تحققت من أنه لا مفر من تقييد حركتي في هافانا، ما لم أكن محاطة بموظف أبدي من الحزب ملتصقًا بكعبي. تجولت في الشوارع العمومية، وزرت مكتبات تباع فيها الكتب بسنتافو، وتحدثت مع صائدي أسماك منعزلين على رصيف بحري. أدهشتني الثقافة السياسية التي تمتع بها أشخاص بسطاء وشباب. وشعرت بتميز أشخاص بعيدين من الاشتراكية ومجبرين بسبب الظروف على تشكيل محاور حياتهم حول قيم روحية مثل التعليم والتضامن وحب الوطن وما هو جماعي. كان الكوبيون يعانون شح الأشياء، لكنهم كانوا يرتبون حياتهم بنفس راضية وبشعور ملحمي حول أنفسهم.

كان تأميم جميع الخدمات وقلة المنافسة في التجارة محسوسًا في المعاملات الورقية والبيروقراطية، في البطء والارتباك اللذين صادفهما المرء بمجرد مغادرة الفنادق ومحاولة شراء الآيس كريم والجلوس في مقهى. مع ذلك، كان الفندق يعمل بأعظم طريقة. وكان الطعام ممتازًا، وخدمة الغرف سريعة، والزبادي لذيذًا.

لقد أدهشتني الاحتفالات وجعلتني وجهًا لوجه مع كل محاربي أميركا اللاتينية وقادة البلدان الاشتراكية مثل فيتنام، وسفراء حركات التحرر الفلسطينية، والبوليسارية والجنوبية الإفريقية. كان الجو يشبه قصة أبطالها حوريات ثورية. رحت إلى الاحتفال العسكري ووجدت آلاف العساكر يحيون بكورال كبير ذكرى تشي جيفارا؛ وحلقت فوق رؤوسنا طائرات MIGS أطلقت الألوان المتعددة في تحدٍّ مفتوح لاعتراضات الولايات المتحدة على امتلاك كوبا لهذه الطائرات. زرت متاحف يملؤها صور فيديل مع الملتحين من مقاتلي سييرا مايسترا؛ وتعرفت تحت المطر المنهمر على غابرييل غارثيا ماركيز وصرنا زملاء حافلة لا يفترقان، نتجول معًا في هافانا من مكان إلى مكان. وفي كاسا دي لاس أميركاس تعرفت إلى الشاعر الأوروغواني البسيط والعذب ماريو بينيديتي، والكوبي فرنانديث ريتامار. مع اقتراب تاريخ الذكرى السنوية، شغلت الاستقبالات الرسمية كل الليالي. في أول ليلة، وكانت حفلة كبيرة في قصر البروتوكولات بهافانا، الحديث والمذهل، مددت يدي إلى فيديل كاسترو.

«أين أخفاكِ الساندينيون؟» سألني وهو ينظر إليَّ من أعلى إلى أسفل.

كنت بجانب دوريس تيخيرينو، المرأة الأسطورية داخل الساندينية، وكانت تعيش في كوبا في ذاك الوقت. كانت تمزح مع فيديل، وهو ظل لوقت طويل يتحدث معها وينظر إليَّ، وأنا تحدثت قليلًا، مرتبكة لمجرد وجوده بالقرب مني. كان فيديل رجلًا قويًّا جسديًّا. طويلًا وقويًّا. وكان قماش زيه الرسمي الأخضر الزيتوني يلمع كزي جديد، وكذلك كان حذاؤه يبرق. كل ما فيه يوحي بالسلطة والثقة، والوعي بأنه الشخصية الأهم في هذا الصالون. وعلى الرغم من أن ملامح وجهه إسبانية جدًّا، فإن تعبير عينيه كان كاريبيًّا، استوائيًّا، متسللًا ولعوبًا. بعد برهة، اقتربت شخصيات أخرى لينصتوا إليه. كان يسأل وينظّر حول واقع هذا البلد أو ذاك. وكان يتصرف مثل موسى في سيناء، يمتلك الوصايا العشر بين يديه: قائد الشعوب في رحلته إلى الأرض المقدسة. ثم ابتعد بين الحشود. وأنا شعرت بالفخر لأنه حدق فيَّ بالتحديد.

دائرة من الرجال يبتسمون بخبث

في الليلة التالية، وفي استقبال أصغر لوفود من أميركا اللاتينية، كنت أتحدث مع ماريو بينيديتي عندما اقترب فيديل مجددًا وحياني. كان برفقته مدعوون آخرون وموظفون من الحزب الشيوعي الكوبي. وجدت نفسي محاطة بدائرة من الرجال الذين يبتسمون لي بخبث متواطئ نظرًا للاهتمام الذي يوليني إياه رئيسهم. أخبره ماريو أني شاعرة، وأني فزت حديثًا بجائزة كاسا دي لاس أميركاس.

وماذا أفعل لأقرأ كتابك؟ سألني فيما كانت ابتسامات الآخرين تتسع.

وأنا ضحكت أيضًا وقلت له:

– سهل جدًّا، أرسله لك.

– لكني أريد أن تكتبي لي إهداءً، أضاف.

– طبعًا، بكل سرور يا كوماندة.

واصل فيديل الحوار من دون أن يتوقف عن التحديق فيَّ بعينين محدقتين. وأنا حاولت الاحتفاظ بهدوئي وأن أتصرف بطبيعية أمام تحديق نظرته.

– وكيف يمكن أن أراكِ؟ سألني. وصولي إلى فندقك صعب جدًّا، أنا معروف بما فيه الكفاية.

نظرت إليه مضطربة. ضحك الآخرون. افترضت أنها مزحة.

– أنت تراني يا كوماندة، قلت له، مشاركة إياه في المزح، ومخفية توتري.

بعد قليل، تجول فيديل في الحفلة، حيّا معارف قدامى ووجوهًا جديدة. كانت الحفلة في قصر البروتوكولات الكبير والأبيض. وفي حديقة ذات نباتات استوائية غزيرة، كانت الموائد مفروشة تحت الأشجار، ومنثورة في كل مكان. في كل مكان، كانت الحوارات تدور بين القادة المحاربين التابعين لحركة اليسار الثوري التشيلية، والجيش الثوري للشعب الأرجنتيني، وحركة التحرر الوطني الأوروغوانية والسلفادورية والغواتيمالية، والهاربين الذين تساوي رؤوسهم أثمانًا غالية في بلدانهم لمعارضتهم الأنظمة العسكرية أو نظام الحكم الحالي. سرت بين المدعوين أوزع التحيات على الأشخاص الذين أعرفهم، وأتحدث معهم. مبتهجةً، لحظت أن فيديل يحاول الاقتراب مني باستمرار. وكلما فعل، أحاطونا مجددًا. لم يكن يتحرك إلا وتوقفه مجموعة أو أحد ليتحدث معه.

– أترين، لا يتركوني للتحدث معكِ، قال لي في واحدة من مرات يأسه.

 وأنا كنت مستمتعة بالموقف. وكيف لا أستمتع بغواية شخص مثل فيديل كاسترو؟

 عند ساعة العشاء، جلس فيديل على مائدة في آخر الحديقة. وبعد قليل، ركض عدد من الرجال وتحركت عربات، وأعلنوا أن الكوماندة قد غادر. وخف الضغط عن الجميع بشكل تدريجي. مزح الرفاق الساندينيون من نوايا الكوماندة اتجاهي. وضحكنا جميعًا. قدموا لنا الحلوى حين جلس بجواري أوليسيس، وهو موظف كبير في شعبة أميركا بالحزب الشيوعي الكوبي، كنت تعرفت إليه في بنما.

– تعالي، قال لي. فيديل يريد التحدث معكِ.

 من دون أن أعرف ماذا أفعل، نهضت واتبعته حتى سيارته، كنت فضولية وخائفة في الوقت نفسه.

كان فيديل ينتظرني في بيت بارد لا يسكنه إلا في الظروف الطارئة؛ صالة بإضاءة سيئة تبدو صورة من خشبة مسرح، وجدران مكسوة بالأخضر بلوحات لها أطر مذهبة هنا وهناك، برسومات لمشاهد صيد قديمة. تذكرت حادث توريخوس. أتمنى ألا يفعل فيديل، قدوتي، الشيء نفسه. اطمأننت حين رأيته بصحبة مانويل بينيرو، بارباروخا، وأحد الرفاق في سييرا مايسترا، ورئيس شعبة أميركا. كان بينيرو رجلًا يصعب فهمه. كانت عيناه بلون القهوة، كثيفتين وخبيثتين، ومهددتين بشكل طفيف. كان يبدو أنه يعرف كل شيء أو يظن أنه يعرف. جلست بجانب فيديل في كنبة طويلة بجانب الحائط، فيما كان بينيرو يتأمل المشهد وهو جالس في كرسي آخر.

– معذرة لأني دعوتك للمجيء، ابتسم لي فيديل. لكن كما رأيتِ لم يكن ممكنًا الحديث معكِ بطريقة أخرى.

لا أحتفظ إلا بذكريات هشة عن الجزء الأول من الحوار. سألني فيديل عن أشياء شخصية كثيرة؛ عن طبقتي، أبوَي، متى أصبحت ساندينية، وشاعرة. أن يتحدث المرء عن نفسه مهمة سهلة، وبالتالي أطنبت، وشعرت بأني في أمان ما دمت أتكلم. حكيت له عن ماركوس، وعن سيرخيو، وعن أولادي. وحين تحدثت عن الأوضاع في نيكاراغوا بدأ الخلاف بيننا. لم أستطع تجنب إبداء رأيي. لم أكن أفهم لماذا هم –كوبا- يؤيدون بتفضيل واضح الاتجاه الثالث، الإخوة أورتيغا، رغم سلوكهم السياسي الذي يبدو لي مغامرًا على المدى الطويل وينقصه الوعي. انتفض فيديل وبدأ يحرك سبابته. كان الصوت يرتفع وينخفض حتى وصل إلى الهمس. وكانت نبراته العالية ترن كتوبيخ عذب، لكنه مسنون.

– كيف تشكين في نواياي؟ لقد كنت أنا أكثر المدافعين القاطعين عن الوحدة. قضيت ليالي مع قادتك لنتناقش حول الوصول إلى الوحدة، وكان ينظر إليَّ بعينين مخترقتين.

– لكن، لماذا إذن تؤيد طرفًا على حساب الأطراف الأخرى؟ ألححت وأنا أعرف جيدًا أن فيديل يدعم بالعداد والسلاح الاتجاه الثالث.

– لكن، من أين جاءتك هذه المعلومة؟ وعاد ليكرر أنه يؤيد الوحدة، وأنه يثق في قادة الحرب الشعبية الممتدة. لم يكن لديه شك في أن موديستو وتوماس وباياردو رجال مبادئ. ولم أكن قد انتبهت إلى أن هذا القلق الذي أشير إليه بخصوص آل أورتيغا يبرر أن يكون هو قريبًا منهم ويساعدهم على شق طريقهم بطريقة أفضل.

– لكن ما تفعله هو أنك تعزز وجودهم، قلت له بعند مثل بغلة؛ إذ كانت الفرصة متاحة، وكنت أريد أن يعرف فيديل ما يفكر فيه القواعد.

 وكان قولي هذا برهانًا على مقدار احترامي لذكائه.

وكما يحدث عادةً في حياتي كلما تعاملت مع رجال يتمتعون بالسلطة؛ أدركت ببطء أنه لم يكن يريد الإنصات لي وإنما أن ننصت له. ارتفع صوته. كانت نبرته على حافة الغضب. وكان جليًّا أنه يعدّ موقفي تحديًا له ويريد أن يقنعني بخطئي. وحين رأيت أني لن أحصل على شيء، وأن الحوار سيقتصر على مواجهة حقيقته بحقيقتي، توقفت عن استكمال الحوار.

– حضرتك تعرف أكثر مني، يا كوماندة، قلت له. ربما كنت مخطئة، بالتأكيد لا أتمتع بكل عوامل الحكم التي تتمتع بها. لكني لا أشك في حسن نواياك. أعرف أنك عملت من أجل الوحدة. وكساندينية، أشكر لك ذلك.

حتى هدأت الأجواء، قلت له أشياءً أخرى لا أتذكرها. شيئًا فشيئًا، عاد إلى وضعه المعتاد. وجالسًا على كرسيه، كان بينيرو ينظر إلينا، بعينين فطنتين، ومخترقتين. الاجتماع الغريب بلغ نهايته. ودعت فيديل عند الباب، مضطربة بعض الشيء، من دون أن أعرف بالتحديد ما انطباعي عن هذا اللقاء المميز.

لهفة من يستعيدون سماء ظنوا أنهم خسروها

في تلك الأيام وصل موديستو إلى هافانا. أرسل لي من يبحث عني. ورأيته مساء اليوم نفسه الذي تصالحت فيه مبدئيًّا مع كرهي للسلاح في ميدان الرماية. كان مقيمًا في ضواحي هافانا، وحيدًا، في بيت غريب وكبير، له غرف كثيرة. متوترةً، تحدثت من دون توقف عن انطباعاتي عن كوبا، وكنت أخشى لو صمت أن يقول لي: إنه لم يعد يحبني. لكننا تصالحنا في أقل من ساعة كأن الغضب لم يكن إلا ذريعة لنلتقي مجددًا بلهفة من يستعيدون سماءً ظنوا أنهم قد خسروها للأبد.

كانت حفلة 31 من ديسمبر لا تُنسى. مئات من الموائد المرصوصة في ميدان كاتدرائية هافانا القديمة، وهو ميدان صغير ومصنوع من الحجارة، وأحد الأماكن التاريخية الأشد جمالًا وحميمية في أميركا اللاتينية. كانت البنايات الكولونيالية تطوّق الميدان من أضلعه الأربعة، مضاءة بشكل سحري، كان ذلك هو الإطار الذي تدور فيه حفلة يشعلها مهرجان موسيقا بإيقاع أفروكاريبي: دانثون، غواراتشا، غوانتاناميرا. وعند منتصف الليل، انفجرت النخوب. وشربنا في صحة الثوريين في كل العالم، بمن فيهم أصحاب القضايا التي لم آلفها. وبالطبع، في صحة رفاقي الساندينيين. شربنا نخب نهاية الدكتاتورية، والانتصارات الشعبية، والثورات. وكنا كنيكاراغويين بعواطف مشتعلة، سيكون عام 1979م عام الحسم بالنسبة إلينا. كنا نعرف ذلك.

كان يوم عودتي إلى الرأسمالية والمنفى يقترب. كنت أقرأ في غرفتي بالفندق، في المساء، حين هاتفني أحد موظفي الحزب وطلب مني ألا أخرج من الفندق، من فضلك. كنت أجهل سبب طلبه الغريب، لكني افترضت أنه لشيء مرتبط بـ«موديستو»، الذي عامله الكوبيون بكثير من التقدير. في الثامنة مساءً عاود الاتصال بي وأمرني بالنزول ومقابلته في هول الفندق. كنت معتادة على الألغاز من حياتي السرية، فلم أسأل ولا حتى اهتممت بالمسألة. لم يخبرني مرافقي إلى أين نذهب حين استقللنا سيارته وانطلقنا، ولم أشغل بالي بوجهتنا ولا حتى عندما رأيت أننا قد اقتربنا من مقر الحزب الشيوعي الكوبي، وهو بناية عالية وحديثة تقع في ميدان الثورة.

أعتقد أننا كنا داخل البناية حين أخبرني في النهاية أن فيديل يريد رؤيتي مرة أخرى. ركبت المصعد المؤدي إلى مكتبه. وتذكرت أن فيديل كان يعمل بالليل؛ من الرابعة مساءً إلى الرابعة فجرًا. رأيته بمجرد ما فُتح الباب. سرنا حتى مكتبه وكان أنيقًا ورحبًا، مترعًا بالنباتات، أثاثه بسيط وتفوح منه رائحة تاريخ متراكم وحي. تحدثنا على مدار أربع ساعات تقريبًا، حتى منتصف الليل. مرة أخرى كان بينيرو يتجول هناك. يدخل ويخرج. وكان فيديل يرتدي زي الكوماندة الأبدي، زي سيقلده قادتنا في نيكاراغوا. وأنا كنت أرتدي الجينز مع قميص أبيض واسع، ملبسي طوال النهار. شكرني على الديوان الذي أرسلته له بإهدائي. وتحدثنا جالسين على كنبة بيضاء بجانب مكتبه.

– لم ألتقِ من قبل أحدًا من القواعد الساندينية، قال لي. عادة ما ألتقي القادة. أتمنى أن تصلي إلى نهاية كل ذلك. رأيت أناسًا كثيرين ماتوا في المحاولة. رفاق. لا تتخيلي، مثلًا، ما يعنيه لي موت كاميلو وموت التشي. أنا قدت بنفسي البحث بطائرة عن كاميلو، هذا البحر الذي لم يكشفه أحد قط. لقد ضاع كاميلو. لم نعثر عليه قط، رغم كل ما بذلناه من جهد. والتشي كذلك، ما زلنا نحتفظ بيده هنا. هل تعرفين؟ تخيلي. يداه. كان التشي مثل أخي.

كان يهمس بتأثر. وكنت مضطرة إلى الميل نحوه لأسمعه.

بعد ذلك تحدثنا عن الأفكار. سألته إن كان اشتراكيًّا حين انتصرت الثورة. كنت أتذكر سلسلته بصورة المسيح في رقبته عندما هبط من سييرا مايسترا.

– فكرت في نظام يطابق أفكاري، قال لي. توزيع الثروة. لقد اندهشت حين قرأت لماركس ووجدت نقاط الالتقاء بيننا. وسريعًا جدًّا ما اعتنقت الماركسية.

 حكى لي قصة الثورة الكوبية، وكيف كان يكتب خطبه.

– قرأت لـ«مارتي»، إنه منبع إلهامي.

وأخرج كتب مارتي، وقرأ لي مقاطع. وأنا كنت أسيرة لانبعاثاته البطولية. لم أكن أصدق أن الحظ أتاح لي مشاركة هذا الوقت مع فيديل، في هدوء هذا المبنى النائم وصمته. في وسط كل ذلك ألمح لي إلى استطاعتي بأن أساعده بمده ببعض المعلومات. كان يريد أن يعرف بعض التفاصيل حول رد فعل «الحرب الشعبية الممتدة» على تسليم حمولة من الأسلحة للتيار الثالث. أتذكر عبوس موديستو وغضبه عند خروجه من اجتماع اطلع فيه على أن الكوبيين لم يوزعوا الأسلحة بالتساوي بين التيارات الثلاثة، على الرغم من الوعود الكوبية.

– لو قلتِ لي ما تعرفينه، يمكن أن أوضح لك، قال فيديل. يمكن أن أوضح لك كل شيء، لكن لو كنتِ تعرفين، أما لو كان عكس ذلك، فما فائدة أن أوضح لك؟

في ذاك اليوم جعلني موديستو أقسم بأنه مهما حدث ألا أحكى رد فعله لأي أحد. بدا لي غريبًا حينها إلحاحه على صمتي، لكني لم أفكر في ذلك حتى بدأ فيديل يستجوبني. حينها تساءلت إن كان موديستو قد تخيل أن فيديل كاسترو شخصيًّا يريد أن يعرف ذلك. هل رد فعله شيء لا يجب أن يعرفه أحد حتى فيديل؟ لكن القرار لم يكن قراري. وفي مهنتي، السر مقدس. على فيديل أن يوضّح لـ«موديستو»، وليس لي. وأنا دوري ليس الإفشاء بالسر. فأنا لم أكن إلا فانية بسيطة في لعبة القادة هذه.

أوضح لي فيديل، ومطفآت السجائر وأشياء أخرى على مكتبه، أنه بحسب رؤيته، فقيادة حرب كلاسيكية للمعارضة في جنوب نيكاراغوا سيؤدي إلى تقويض جيش سوموثا وسيسهل للساندينيين الاستيلاء على السلطة؛ لذلك لا بد أن تتمتع جبهة الجنوب بالأسلحة الضرورية لتفجير حرب نظامية: مضادات للطائرات، مضادات للدبابات، مدافع. كانت هذه هي فكرته. كان متأكدًا أنها الإستراتيجية العسكرية الفعالة. وكان فاتنًا أن أراه شغوفًا، يكرر الثورة مرة أخرى. لكن الساندينيين كانوا عنيدين. كنا نحترم الكوبيين لكننا نريد أن نقوم بحربنا؛ أن ننتصر بشجاعتنا وبأفكارنا. ربما آل أورتيغا كانوا مستعدين لمواصلة اللعبة، لكن الساندينية لم تكن هم. وكان يعكرني عدم تنازل فيديل عن دوره للآخرين، أن يطالب ببطولة في ثورتنا. أنصتُ إليه في صمت. لم أكن أتفق مع تقديراته. كان رأيي أن فائدة الأسلحة أكبر لو عززت أعمدة الشمال، المدن. لم يكن لحرب الجنوب مستقبل كبير. لم نكن جيشًا نظاميًّا. لم نكن نجيد الحرب كجيش نظامي. سنضحى في ذلك بحيوات كثيرة، ستكون التكلفة أعلى. قلت له ذلك، لكني لم ألحّ. كانت مسألة خاسرة. وعند منتصف الليل دخل بينيرو، وألحّ أيضًا في طلب المعلومة التي يبحثان عنها.

– لا أعرف شيئًا عما تريدان معرفته، كررت لهما.

 في النهاية استسلما. عاد فيديل إلى إيماءاته الهادئة وسلوكه المعتاد. وعند الباب ودّعني بود.

– أبلغي سلامي لـ«كاميلو»، كان آخر ما قاله. وأدهشني أنه يتذكر اسم ابني، فابتسمت.

عند عودتي إلى الفندق، ساورني الشك إن كنت تصرفت التصرف السليم. اتصلت بسيارة أجرة. ومن الذاكرة، ومذهولة من حدسي ذاته، قدته في شوارع هافانا حتى وصلت إلى البيت الذي يقيم فيه موديستو. اندهش هو حين رآني عند الفجر، كانت الثانية صباحًا تقريبًا.

– تصرفكِ سليم، قال لي. سأتحدث أنا معهما. لا تشغلي بالك.

قبل أن أغادر كوبا، كتبت رسالة إلى فيديل. رسالة من رفيق إلى رفيق. قلت له: إني أقدره كثيرًا، لكنه يجب أن يدرك الموقف المستحيل الذي وضعني فيه. أنا مجندة في الساندينية. ولا يمكن أن أنتهك الأوامر. لقد اعتبرت خطأ من جانبه أن يحاول دفعي لفعل ذلك مستغلًّا سلطته وهيبته. لقد انتقدته وكنت ثورية جدًّا معه، بحسب رؤيتي حينها، وكنت ساذجة جدًّا، بحسب رؤيتي الآن.

قابلت فيديل مرة أخرى بعد انتصار الثورة الساندينية. حيّاني باحترام، لكن ببرود. رسالتي، بالطبع، لو كان قرأها، لم تكن تحمل أي لطف.

وعلى الرغم من أن معنى تلك الليلة لا يزال غامضًا بالنسبة إليَّ، أحتفظ بالذكرى كواحدة من الأشياء السحرية والخبيثة قليلًا التي تمر في حياة المرء. وفي ضوء السنين، لم يتضح الحدث وإنما غدا أكثر إظلامًا. هل كان فيديل يحتاج إلى هذه المعلومة مني؟ يبدو مستحيلًا. لا بد أنه يتمتع بوسائل كافية للاطلاع على الأخبار من دون مساعدتي. لا بد أن موديستو أخبره بلا شك. ما سبب إصراره إذن حينها؟ هل كان يريد أن يبرر ببساطة رغبته في لقائي والتحدث معي واختباري، مثل فراشة تحت المجهر، ودراسة رد فعلي أمام السلطة التي يحركها؟ هل كان يريد أن يفتنني؟ لا أعرف. وأظن أني لن أعرف أبدًا. لقد بقيت لي الذكرى. والأدب.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *