أريادنا إيفرون.. أنقذتها نقود بَسْترناك

أريادنا إيفرون.. أنقذتها نقود بَسْترناك

عندما وُلِدتْ، في السادسة والنصف من صباح الثامن عشر من سبتمبر، عام 1912م، راحت أجراس الكنيسة الواقعة خلف نهر موسكو تقرع بقوة داعية الناس للصلاة الصباحية، كما لو أنها تبشِّر بمصير صاخب لتلك الطفلة الوليدة ذات الشعر الذهبي، وبرعاية الرب…

إنها أريادنا (آلا، كما كانت تناديها أمُّها) ابنة أيقونة الشعر في القرن الفضي للشعر الروسي مارينا تسفيتاييفا التي أتعبتها حياة الذل والفاقة والقهر، فاكتشفت المغزى الصوفي لحبل كان قد أعطاها إياه بوريس بسترناك لتحزم به حقيبتها في رحلة الإجلاء عام 1941م… وزوجها الضابط في الحرس الأبيض، المثقف والأديب سيرغي ياكوفليفيتش إيفرون (وكنيته الحقيقية كالمانوفيتش- ولد عام 1893م في موسكو، وأُعدم عام 1941م بتهمة الخيانة، ثم أُعيد له الاعتبار.

سجين محكوم بالإعدام

درس سيرغي إيفرون في كلية الآداب في جامعة موسكو، كتَبَ القصص، كما حاول أن يعمل في المسرح، حتى إنه قام بدور ثانوي عام 1927م في فِلْم «مادونا العربات النائمة»، من إخراج الفرنسييَن مارغو دو غاستِن وموريس غلاز، حيث أدى دور سجين محكوم بالإعدام… ثم حاول أن يعمل ناشرًا للصحف.

عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى عام 1917م تطوع ممرضًا في الجبهة، وبعد الانقلاب البلشفي في روسيا خاض معارك عدة ضد البلاشفة، ثم شارك في تشكيل قوات الحرس الأبيض. وانتقل بعد هزيمة قوات الحرس الأبيض إلى القسطنطينية ومنها إلى براغ حيث درس الفلسفة في جامعتها. أصبح هناك عضوًا في اتحاد الكتاب والصحفيين الروس في المهجر. كما شارك في تنظيم «الاتحاد من أجل العودة إلى الوطن». ثمة رأي يقول: إنه انتسب في أثناء وجوده في باريس إلى المحفل الماسوني الروسي في المهجر وتدرّج فيه حتى المرتبة الثالثة.

ولكي يُسمَح له بالعودة إلى موسكو؛ لأنه كان يعاني الحنينَ إلى روسيا -وقد كانت عائلته المؤلفة من مارينا تسفيتاييفا وابنتهما أريادنا وابنهما غيورغي أو مور كما كانت تناديه تسفيتاييفا، قد سبقته في العودة- بدأ في عام 1931م بالتعاون مع المخابرات السوفييتية، الفرع الخارجي، فقام بتجنيد العملاء من بين المهاجرين الروس في باريس. ومن هذا المنطلق شارك في اختطاف الجنرال ميللر عام 1937م، أحد القادة العسكريين البارزين في الجيش الأبيض، ونقله من باريس إلى موسكو. كما اتهمته الشرطة الفرنسية بالاشتراك في مقتل الجاسوس السوفييتي في باريس إغناتي رايس (بوريتسكي) عام 1937م؛ لأنه رفض العودة إلى الاتحاد السوفييتي، ولرفضه علانية الاستمرار بالتعاون مع المخابرات السوفييتية.

بعد عودته إلى الاتحاد السوفييتي عام 1937م منحته السلطات السوفييتية شقة حكومية قرب موسكو حيث نزل فيها مع أفراد أسرته. ولم يكن ثمة ما ينبئ بكارثة، إلّا أنه سرعان ما اعتُقِلَت ابنته أريادنا التي قضت 8 سنوات في معسكرات الاعتقال، وأُعِيدَ الاعتبارُ لها عام 1955م. وفي 10 أكتوبر من عام 1939م اعتُقِل إيفرون نفسه، وحُكِم عليه بالإعدام رميًا بالرصاص في عام 1941م. ويعود الفضل إلى وجوده في صفوف الحرس الأبيض، بأننا قرأنا في الشعر الروسي سلسلة من أروع القصائد التي كتبتها مارينا تسفيتاييفا في ديوان «معسكر البجع».

هذه مقتطفات من كتاب مذكرات لم تنتهِ أريادنا من كتابته في أثناء حياتها.

خيط من الأيام والسنين

«ذاكرتي سيئة، ينقصها الترتيب الدقيق الذي يمتاز به آل تسفيتاييفا. فالأحداث والوقائع والوجوه المحفوظة فيها لا ترسو عند تواريخ محددة، بل يرتبط بعضها مع بعض بشكل تقريبي من خلال خيط من الأيام والسنين فقط. بيدَ أني أتذكّر، مع ذلك، كمًّا هائلًا من الأحداث يكفي لو كنتُ أجيد الكتابة، لأن أقوم بتأليف كتاب ضخم. ولكن بشرط أن أجيد الكتابة؛ إلا أن ثمة حالات يضطر فيها ذاك الذي لا يجيد الكتابة، لأن يمسك القلم عندما يكون لزامًا على الحبِّ والإحساس بالواجب أن يعوّضا عن غياب الموهبة. وما هي أهمية أن تتوافر الموهبة عندما تكون الكتابة بالضبط عن الإبداع وعن الموهبة. فهذا هو إيكرمان يستعين بغوته لتعويض عن غياب الموهبة لديه.

سوف تَمُرُّ السنون وسيجيء أناس يتغلبون على اللامبالاة الآثمة للزمن، وسيرغمون الزمن لكي يعيد ما طواه النسيان، وأن يتكلم عمّا لفّه الصمت، أن يبعثَ ما قُتِل. ومن أجل مساعدة أولئك الناس، أحاول أن أكتب ما تحفظه ذاكرتي عن أمي، وعن ذلك الزمن».

إنَّ ذكرياتي الأولى عن ماما وعن هيئتها أشبه بلوحات سريالية. لا تتوافر لدي صورة كاملة عن شكلها؛ لأن العينين لم تكونا قد تعلمتا بعد الإحاطة به، ولم يكن العقل قد تمكن من جمع الأجزاء المؤلفة للكل في وَحْدة متكاملة.

كل ما يحيط ومن يحيط يبدو كبيرًا وهائلًا، لا يمكن احتواؤهم ولا الوصول إليهم. فالناس لديهم أحذية ضخمة، وأرجل طويلة تسافر عاليًا، والأيدي عندهم تبدو ضخمة وقادرة على كل شيء. والوجوه غير مرئية، إنها هناك، في مكان ما في الأعلى، يمكن النظر إليها فقط عندما تنحني إليَّ أو عندما يحملني أحد ما بين يديه. عندئذٍ فقط أرى -وألمس بإصبعي- أذُنًا كبيرة وحاجبًا كبيرًا، عينًا ضخمة تنغلق حين يقترب إصبعي، وفمًا واسعًا يقبلني تارة وتارة يقول: «آم»، محاولًا التهام يدي، وهذا مضحك ومخيف.

مفاهيم العمر، والجنس، والجمال، ودرجة القرابة غير موجودة لدي، كما أنَّ «أنا» الخاصة بي لم تتبلور بعد، «الأنا» عندي مجرّد ارتباط مطلق بتلك العيون والشفاه، والأهم بِتينك اليدين. أما الباقي فَضباب وحسب. وغالبًا ما يمزقون ذلك الضباب بواسطتك كما يشاؤون. هاتان اليدان هي أول حقيقة وأول قوة فاعلة محركة في حياتي. إنهما يدان دقيقتان في الرسغ، سمراوان وقلقتان، وهما الأفضل من بين جميع الأيادي؛ لأنهما مليئتان بخواتم وبأساور فضية، وبلمعان يجيء ويروح معهما ولا ينفصل عنهما.

يدان مدهشتان، وعينان رائعتان وصوت رنان ساحر أيضًا. تلك هي ماما في أعوامي الباكرة جدًّا. كانت ماما متوسطة، وربما قصيرة القامة، مع خطوط مستقيمة وملامح واضحة لكن غير حادة للوجه. كان لها أنف مستقيم بمنخرين جميلين معبّرَين، بالضبط معبّرين. كانا يعكسان الغضب والاحتقار على وجه التحديد وبشكل صريح. في الواقع، كان كل شيء في وجهها معبّرًا وماكرًا: الشفتان والابتسامة عليهما، رحابة الحاجبين حتى الأُذنين الصغيرتين والمتنبهتين كما هو الحال عند الإله بان ابن هيرمس وإله الأراضي الخصبة والرعي عند الرومان.

كانت عيناها بذلك اللون الأخضر الفاتح النادر مع بريق يدعى لون حورية البحر. لم يتغير لون عينيها ولم يبهت بريقه حتى لحظة موتها. حافظ وجهها مدة طويلة على شيء ما طفولي، على استدارة ما فتية جدًّا. كان شعرها الخرنوبي ينساب خفيفًا ناعمًا بصورة دائمة. كلُّ شيء كان لديها بلا تجميل، وقد كان رائعًا من دون الحاجة لذلك. لم تكن يداها نسائيتين بل صبيانيتين، صغيرتين لكنهما غير قزميتين البتة، ولكنهما قويتان وصلبتان في أثناء المصافحة. كانت الخواتم والأساور تشكل جزءًا لا ينفصل من يديها، كما لو أنها التحمت بهما. هكذا كانت الفلاحات في الماضي يحمِلْنَ الأقراط بعد أن يلبسنها مرة لن تفارق أياديهنَّ أبدًا.

هكذا كان ثمة سواران قديمان فضيان، مسكوبان ومحدبان، واحد مع لؤلؤة مثبتة في داخله، والآخر ناعم، حفر عليه طائر يحلّق عاليًا وقد بسط جناحَيْهِ من أحد طرفي السوار حتى طرفه الآخر، يحيطان بمعصمها إلى الأبد. وثلاثة خواتم، من أيام الخطوبة، وقد حفر على الوجه الداخلي لأحدها اسم زوجها، والخاتم الثاني مع حجر في إطار فضي، عبارة عن رأس الرب هيرمس وهو يطير في خوذة، وخاتم ثالث أيضًا فضي، نقشت عليه سفينة بثلاثة صَوَارٍ، وحول السفينة نُقشت كلمات باللغة الروسية القديمة: إليك يا ملاكي! كان لديها كثير من الخواتم التي كانت تظهر وتختفي. لكن هذه الثلاثة لم تفارق أصابعها مطلقًا وقد ذهبت معها إلى القبر.

فتاة برأس دجاجة

لم يَبْقَ في ذاكرتي من ذلك الصيف لا بشر ولا أشياء، ولا غرف البيت الذي كنا نعيش فيه. لأول مرة ظهر بابا في مجال إدراكي وكان طويل القامة، أطول من ماما بكثير لدرجة أنَّ حقل نظري لم يتسع له. كانت ماما تحملني بين يديها، فَتقدّم لملاقاتنا شخصٌ في لباس أبيض، فسألتني ماما: مَن هذا؟ ولكني لم أكن أعرف. لم أعرفه إلا بعد أن انحنى عليَّ. عرفته وصرختُ: سيريوغا! (في طفولتي الباكرة كنت أنادى والديَّ كما كانا يناديان بعضهما: سيريوغا، اسم الدلع من سيرغي، وأيضًا سيريوغينكا، درجة أعلى من التصغير والتدليل، ومارينوتشكا تصغير مارينا!).

«آلا، كُلِي القطعة من لحم الدجاج!» – «لا أستطيع، يا مارينوتشكا!» – «آلا، كُلِي الدجاجةَ!» – «إنها مقرفة، يا مارينوتشكا!» – « ليست هي المُقرفة، بل أنتِ المقرفة. تلوكينها وتلوكينها… هَيّا ابلعيها مِن فَوْرِكِ!» – «لا أقدر، يا مارينوتشكا!» – «لا تقدرين؟ اسمعي ماذا سأقول لكِ: إذا رَفضتِ أن تبلعيها من فَوْرِكِ، فَسوف ينبت لديك رأس دجاجة! هل تفهمين؟» – «أفهم، مارينوتشكا!».

فجأة أحد ما ينادي ماما فتخرج، فَأبصق اللقمة في كفي بسرعة وأقدّمها للقطة التي كانت تلفُّ وتدور من حولي. تعود ماما. – «هل بَلَعتِها؟» – «نعم، لقد بلعتُها، يا مارينوتشكا! كلمة صدق» – «حَذَارِ!، وإلا فسوف ينبت لك رأس دجاجة…».

أعود إلى غرفتي مرعوبةً، وأبدأ بِجَسِّ رأسي. يبدو أنه بدأ ينبت عندي رأس دجاجة. لكن رأس الدجاجة غير مخيف على العموم، طالما أنني ألتزم المنزل؛ إذ إنَّ الجميع في المنزل سوف يعرفون أن هذه إنما هي أنا. بل لعلّهم سيحبونني أكثر. وفجأة تخطر في بالي فكرة صاعقة: ماذا لو أنني اضطررت للركوب في عربة الحُوذي؟! ثم وضعوا في غرفتي مرآة. «لتكن مؤقتًا في غرفة آلا» – قالت مارينا. ها هي فتاة أخرى تنظر إليّ من المرآة، وهذه الفتاة هي أنا نفسي بالذات. لكن هذا غير ممكن. حين تظهر مارينا في المرآة، ليس في ذلك ما يدهش؛ لأنني أراها إلى جانبي، من الجانب. أما أنا فأشعر كما لو أنني داخل المرآة. على العموم كنت واحدة، ثم أصبحنا اثنتين. وهذا أمر يزعجني.

أنا التي كسرت نابليون!

أهدتني مارينا فنجانًا رُسِمت عليه صورة لنابليون، لكي أشرب الحليب بمتعة أكبر؛ لأن الكأس العادية غير مريحة لشرب الحليب. كان ذلك الفنجان مطليًّا بالذهب من الداخل، وكلما شربتُ حليبًا أكثر بانَ الذهب أكثر. كان الوجه الخارجي للفنجان بلون أزرق فاتح، أما نابليون فقد رسم ضمن دائرة بيضاء، بأنف مستقيم وشعر أسود. وكان ينظر إلى بعيد. وهو بطل، وقائد، إنه إمبراطور؛ لذلك لا يجوز اللهو والشقاوة وأنت تشرب الحليب، هذا عيب.

وضعتِ المربيّةُ «نابليون» على الموقد لكي يسخن الحليب بعض الشيء. وهي تفعل ذلك كل يوم. لكن هذه المرة سخن «نابليون» أكثر من اللازم؛ لذلك احترقت يداي وأرخيت الفنجان فانكسر وتناثر. ركضتُ ورحت أبكي بحزن وبرعب وارتميت في حضن مارينا: «مارينوتشكا، لقد كسرتُ «نابليون!» مارينوتشكا لقد كسرت «نابليون!» لم تغضب مارينا، أمسكتني من يدي وراحت تهدّئ من روعي، وتقول: إنني لست مذنبة. بل أنا مذنبة! صرختُ من دون أن أستكين: بلى، أنا مذنبة! أنا التي كسرت «نابليون!»

عندئذ قامت مارينا، وأحضرت من الخزانة فنجانًا آخر بلون أزرق فاتح من الخارج ومطلي بالذهب من الداخل. كانت مرسومةً عليه ضمن دائرة صغيرة صورة لامرأة جميلة بيدين وكتفين عاريتين، وقد انسابت عليهما خصلات من الشعر الأسود. انظري، هذه هي الإمبراطورة جوزفين، زوجة نابليون. كان يحبها بشغف كبير.

الجنرال المتسول

عندما كنا نخرج مع مارينا للنزهة كنا نتصدّق على المتسولين. كان عددهم كبيرًا جدًّا، طاعنين في السن، مهانين، فقراء ومرضى. كان بعض منهم يقول: «تصدقوا لأجل المسيح»، وآخرون كانوا صامتين. لكننا كنا نتصدّق على الجميع. كان الفقراء عادة يجلسون على المقعد أو على الأرض مباشرة وهم يضعون أمامهم قبعة حيث يجب رمي النقود. كان لدى بعضهم كوبيكات كثيرة في القبعة، هؤلاء هم متسولون أغنياء، أما الآخرون فكانت القبعة أمامهم فارغة.

كانت مارينا تعاني حسر بصر؛ لذلك كنت أقول لها: «مارينوتشكا، ها هو فقير يجلس هناك!»، كانت مارينا تعطيني النقود فأركض لوضعها في القبعة. وفي هذه المرة أيضًا لم تكن مارينا ترى شيئًا، فاكتشفتُ أحد الفقراء جالسًا على مقعد وهو يحمل القبعة بين يديه. ركضتُ إليه مع الكوبيكات ووضعتها في القبعة. كم كان فقيرًا هذا المتسوِّل؛ لأنه لم يكن يوجد في قبعته كوبيك واحد. لكنه كان يرتدي بدلةً نظيفة وأنيقة. وكانت له لحية جميلة ومُسرّحة بشكل جيد؛ إلا أنه لم يكن شكورًا ولطيفًا، بدلًا من أن يقول: «ليحفظك الرب، يا ابنتي»، قفز وراح يصرخ عليَّ وعلى مارينا التي اقتربت… شعرنا كلانا بالخوف… أخذت مارينا النظارة وحدّقت إليه لتسمع هذا الفقير يصرخ: «يا لها من إهانة! هذه سخرية!». سحبتني مارينا من يدي، واختفينا خلف الزاوية: «هل هو مجنون، يا مارينوتشكا؟»، سألتها وأنا أشعر بالخوف. «بل أنتِ المجنونة»، أجابت مارينا غاضبة وهي تضحك. أن تعطي كوبيكات للجنرال، الجنرال الذي يجلس على مقعده الخاص قرب الفيلا الخاصة به! لماذا ظننتِ أنه فقير ومتسوّل؟ «لكنه عجوز، يا مارينوتشكا!».

رسالة إلى بسترناك

…أسرعت آلا، في نهاية شهر أغسطس وبعد أن مُنحتْ وثيقة بدلًا من البطاقة الشخصية في مكان نفيها، إلى البريد لتستلم النقود التي كان أرسلها لها بوريس ليونيدوفيتش بسترناك… إذ كانت قد كتبت له رسالة بتاريخ 26 أغسطس من عام 1949م:

«شكرًا لك، أيها العزيز، واغفر لي أنني أصبحت «متسولة». إنه لأمر فظيع جدًّا أن أطلب المال حتى لو كان منك، لكن المرعب أكثر هو أن تجلس هنا في هذا الكوخ وتبكي لأنك عاجز عن تأمين أبسط ما تحتاجه من مأكل رغم أنك تعمل كالحصان…

أنا أتذكر ماما بصورة دائمة، يا بوريس. إني أذكرها جيدًا، وأراها في أحلامي كل ليلة. إنها على الأرجح، تهتم لأمري وقلقة بشأني، فأنا أرى كل شيء…

اشتريت، بعد أن تَسلّمتُ النقود، سترةً سميكة وتنورة وخفّين. وسوف أشتري جزمة لبّادية، كما دفعت ثمن حطب يكفي لفصل الشتاء، ثم اشتريت بعض ما يؤكل مما تراه العين، وأكلت كل هذا البعض دفعةً واحدةً، كما هي الحال عند بطل جاك لندن. قد لا تكون هذه التفاصيل تثير اهتمامك؟ أيها العزيز بوريس، لقد بقيت كتبك «في البيت» مرة أخرى. ولذلك أرجوك أن تؤسس لي مكتبة متواضعة. فأنا بحاجة دائمة لكي تكون كتبك بين يدي… ولو كان الأمر يعود لي لما كنت تركتها أبدًا… ولكن هذا ما فرضته الظروف عليَّ…».

آلا تعيش مع آدا شكودينا

آدا شكودينا، وكنيتها قبل الزواج فيديرولوف، تزوجت وهي في الثانية والعشرين من عمرها رجلًا إنجليزيًّا كان يدرّس اللغة الإنجليزية حيث كانت تتعلم. وكان قد جاء إلى روسيا لبناء المجتمع الاشتراكي الجديد. ثم انتقلت إلى إنجلترا حيث مكثت سنتين ونصف سنة. لكن زواجهما لم يُكتَب له النجاح. فافترقت عن زوجها وعادت إلى وطنها في نهاية العشرينيات. وقد عملت بنجاح في تعليم اللغة الإنجليزية في الجامعة وفي الأكاديمية الصناعية. ثم أُغرِمَت برجل روسي وتزوجته. وكانت سعيدة في زواجها هذا. لكن الاعتقال وضع حدًّا لسعادتها. اعتقلوها عام 1938م من دون تهمة محددة؛ إلا أن المحقق سألها ببساطة إذا كانت تنفي حقيقة زواجها من أجنبي وأنها عاشت في بلد أجنبي؟ بالطبع لم يكن بإمكانها أن تنفي ذلك؛ إذ لا يمكن نكران ما سبق وكان حقيقة. حكموا عليها بالسجن وفقًا للمادة 58 بتهمة التجسس! أمضت مدة حكمها الأول ثم عادت وعملت في معهد تربوي. وقد الْتَقَتْ آلا في السجن عندما اعتُقِلَا للمرة الثانية عام 1949م.

أصبحت آلا -ولم يكن واردًا ألا تصبح- مترجمة رائعة ومحترفة لأعمال بودلير وفيرلين وغوته وأراغون وغيرهم. وتوجد ترجماتها في كثير من الإصدارات، جنبًا إلى جنب ترجمات مارينا إيفانوفنا (تسفيتاييفا)… عن حق وجدارة!

كما أنها تركت لنا إرثًا فائق الغنى في أدب الرسائل… ما يشير إلى أننا خسرنا كاتبةً لامعة وموهوبة. وهذا ما عرفته العاصمة موسكو بعد أن عادت إليها: راحت الألسن تتناقل قصصها وحكاياتها وهي تنتقل من بيت إلى بيت لتعود إليها، وقد أصبحت فلكلورًا… بل إن مصيرها في حد ذاته كان شبيهًا بذلك الفلكلور، بتلك الأسطورة المريرة والمليئة بالكبرياء وبالقسوة. مرارة لم تكن تستحقها على الرغم مما فيها من عظمة.