مذكرات أوجين يونسكو التاريخ خشبة مسرح سيئة. هو إطلاق العنان لأكثر أنواع الشغف دناءةً، وأكثرها تضليلًا.

مذكرات أوجين يونسكو

التاريخ خشبة مسرح سيئة. هو إطلاق العنان لأكثر أنواع الشغف دناءةً، وأكثرها تضليلًا.

في كتابه «المادة والذاكرة»، طبعة Digireads.com 2010م، يفرّق الفيلسوف الفرنسي هنري بيرغسون بين نوعين من الذاكرة: الذاكرة القائمة على العادة التي يكرر فيها العقل لنفسه مشهدًا سابقًا أو خبرة سابقة، وبين الذاكرة المتأملة المرتبطة باللاوعي، الذاكرة التي لا تنكشف إلا في لحظات الكشف والحدس. الذاكرة الأولى تقسّم الحياة إلى وحدات زمنية منفصلة متعاقبة خاضعة للرصد والقياس، والثانية لا تعترف بالدقّة، ولا بالتتابع الزمني، ولا تميّز بين ماضٍ وحاضر، وهذه هي الذاكرة الحيّة.

ربما التقط الكاتب المسرحي والروائي الروماني- الفرنسي أوجين يونسكو (26 نوفمبر 1909 – 28 مارس 1994م) من مواطنه هنري بيرغسون طرف الخيط ليكتب مذكراته الشخصية المهمّة والشائقة «الحاضر الماضي الماضي الحاضر»، الصادرة للمرة الأولى باللغة الفرنسية سنة 1968م عن دار Mercure de France، ثم نقلتها إلى اللغة الإنجليزية المترجمة هيلين. ر. ليين سنة 1971م، لتصدرَ منها طبعات عدّة، آخرها الطبعة الصادرة من دار DaCapo Press سنة 1998م بتصدير الناقد والمسرحيّ الأميركي د.روبرت برونشتاين، التي نعرض لها في السطور القادمة.

في تصديره للكتاب يعرّفنا برونشتاين بطبيعة الكتاب قائلًا: « كما يشي عنوان الكتاب، يمنح أوجين يونسكو ذهـنـه حرية الحركة والتنقّل متراوحًا بين الماضي والحاضر على مدار سبعة وعشرين عامًا، كما لو كانت هذه السنوات تتجاذب أطراف الحديث فيما بينها عـبـر حـوار تـاريخـي».

يصيب برونشتاين بهذه العبارة عين الحقيقة. كان يونسكو قد شرع في كتابة هذه اليوميات/المذكرات في سنة 1940-1941م، ثم أعاد تزويدها وتنقيحها في سنة 1967م، أي بعد انقضاء سبع وعشرين سنة على كتابتها. وهي خليط من اليوميات والسيرة الذاتية والتحليل الذاتي النفسي والتعليقات الشخصية على أحداث سياسية واجتماعية متباينة من بينها موقفه من أنظمة الحكم الشمولي كدول المعسكر الشرقي، ومعاداة السامية، وفضحه الثوريين البورجوازيين الأفاقين، كل ذلك عبر فقرات قصيرة متتالية، تخلو من التسلسل الزمنيّ، مجرد ثبات جريئة متتابعة من الحاضر إلى الماضي، ثمّ من الماضي إلى الحاضر كما يقول العنوان.

قد لا يألف القارئ في البداية أسلوب يونسكو المتوسّل بفقرات نثرية قصيرة لا يضبطها ضابط، ولا يربطها رابط، لكنه يكتشف بمواصلة القراءة أنّ الرجل يقدّم تصورًا ذاتيًّا جديدًا عن رؤيته للعالم ولنفسه، فما يلبث أن يألف أسلوبه ويحبّه. يذهب يونسكو إلى أنّ الكُتّاب الذين يسردون تجاربهم الحياتية وفق ترتيب زمني محددٍ هم في الأغلب ضحايا وهم ذاكرة حقيقي، لأن الكاتب في هذه الحالة يـضع رأسه بمحض إرادته تحت مقصلة الواقع، متناسيًا، أو ربما متجاهلًا حقيقة أن الواقع سراب وضباب كما سنرى لاحقًا.

نلحظ أيضًا أن يونسكو اختار سنتين فقط هما 1940م (تاريخ بداية كتابة المذكرات)، وسنة 1967م وهو تاريخ تحريرها والانتهاء منها. وهو تارة يشير إلى السنة، وتارة أخرى لا يخفيها، تاركًا مساحةً حرّة للقارئ ليتخيل سنة وقوعها. سأنقل في السطور القادمة فقرات مطولة ومُختارة من مذكرات يونسكو بحسب الترتيب الذي أورده في كتابه.

أول صورة لأبي

تبدأ الفقرة الأولى من المذكرات بصورة غائمةٍ عن الأب والأم حيث نقرأ: «أنبش في ذاكرتي عن أول صورة لأبي، فأرى ممرات مظلمة. أظن أنني كنتُ في الثانية، على متن قطار. أمي جالسة إلى جواري، وشعرها معقوص إلى الأعلى على شكل كعكة كبيرة، بينما يجلس أبي أمامي مباشرةً، إلى جوار النافذة. لا أكاد أرى وجهه. لا أرى سوف كتفيه ومعطفًا. يغشانا فجأة نفق مُظلم. أنفجر بالبكاء». «داخل غرفة مُظلمة. مصابيح سحرية. شخص ما – ربما أبي أو أمي – يُجلسني فوق مقعد صغير الحجم، قريبًا من شاشة عرض كبيرة. يقف رجال وسيدات بالغون خلف ظهري. ربّ الأسرة، وهو رجل ذو لحية سوداء طويلة، يغيّر الصور المعروضة على الشاشة. هل ثمّة أطفال جالسون إلى جواري على المقاعد؟ بالكاد أرى واحدة من الصور المعروضة: طفل صغير يجلس إلى طاولة تقف فوقها قطة لها ذيل طويل مرتفع في الهواء، وشعرها خشن. تختفي الصورة فجأة من على الشاشة، فأجهشُ بالبكاء صارخًا: “أعيدوا المشهد”، يُدهش من حولي. هل كانت هذه أول كلمة أتفوّه بها؟». بمرور الأيام وبانتقاله للعيش من المكان الذي ولد فيه، تأخذ صورة الأشياء في الشحوب، حيث نقرأ:

«شيئًا فشيئًا، شيئًا فشيئًا نختفي، نتراجع، نذوب، وما يتبقّى منا يُمكن كنسه بمجرفةٍ ورميه داخل كيس قمامة. هل سيأتي أحدٌ لالتقاطنا، ليعيدَ تجميع شظايانا؟». «يبدو لي.. يبدو لي بالفعل أن صور القرية والطاحونة التي طالما أحببتها قد مُحيتْ، ابتُلِعَتْ شيئًا فشيئًا، أو بالأحرى أخذتْ في الشحوب تدريجيًّا، وجفّتْ مثل أوراق الخريف».

«ما أصعب أن يصفح الإنسان عن أعدائه. إذ كيف يمنع الإنسان نفسه ألا يكرههم؟ حتى الانتقام لن يُرضي أحدًا ولن يرد إليه حقه. ما يبقى، رغم كل شيء، هو الأذى، وهو ما ينبغي للإنسان أن يتعايش معه». «في اللحظة الأخيرة قبل النهاية، حينما يضيع كل شيء تقريبًا، علينا أن نلوذ بالفرار، أن نسمو فوق الظروف، أن نتجاوز كل شيء».

«ننتقل إلى بيت جديد. أرى أبي يحمل حقيبة كبيرة بمساعدة شخصٍ آخر. نقف أمام مدخل البيت. هل ثمة عربة تجرها الخيول واقفة. ربما أنا في الرابعة من عمري، وربما في الخامسة. بصعوبة يرتقون درجات السُّلّم، حاملين الحقيبة».

«طالما اعتدتُ الخروج مع والدي للتنزّه. ما زلتُ أذكر قبعته المستديرة السوداء. في الغالب كنا نستأجر قاربًا لنتنزه عبر نهر السين، ينقلنا من Alfort إلى Grenelle. كنتُ أفضّل الجلوس فوق السطح السفلي من القارب، متسندًا بركبتيَّ على المقعد الخشبي. أتذكر الماء الأخضر، والضوء المزعج وقت العصر. في طريق العودة إلى المنزل، كنت أستطيع سماع صوت محركات السيارات. كان قريبًا مني. أشعر به، لكني لا أراه. يقول شيئًا لي».

«أنا برفقة أبي مرة ثانية داخل حجرة، ليست بيتنا. ذهبنا إلى زيارة أمي التي كانت طريحة الفراش. ضوء رمادي وحائط أصفر، حضورٌ باهت لأبي. أبي عبارة عن خيال ظلّ، كان متدثرًا بمعطف أسود يغطيه. اشترى لها زوّارها تفاحًا. كانت تعشق التفاح. تلتقط تفاحة وتقضمها. كانت أمي مريضة، كنتُ حزينًا عليها، غارقًا في القلق، لكن مشاعري كانت مختلطة بلونٍ من ألوان الصدّ والنفور».

«هناك ذكرى أخرى مرتبطة بالذكرى السابقة، وكان لها أسوأ الأثر في نفسي. لا أعلم إن كان من المفترض أن آتي على ذكرها أم لا، لكن كل شيء ينبغي أن يُفرغ داخل الكلمات. ربما من الأفضل أن أقول ذلك بأسلوب متلوّن لو جاز التعبير، بحيث لا يدرك القارئ هل ما قلته يخصني أم لا، وهل ما قلته حقيقة أم خيال. في نهاية المطاف نادرة هي الأشياء التي ينبغي أن نخجل منها. فجميع الأخطاء إن جـاز لنا تسميتها أخطاء، وكل الأشياء غير المبررة في حياتنا، وكل الحماقات والغلطات لها تفسير موضوعي لا يخلو من وجاهة، وهي في التحليل الأخير ليست أخطاءً. فكل إنسان يحمل مسؤولية التحكم في نفسه وفي رغباته، وكل إنسان قادر على أن يميّز بين الحقيقة والسراب». «أسأل نفسي: ما الذي تبحث عنه؟ ما الذي تفتش عنه في هذا العالم؟ لا أعرف. لكني أود أن أعرف. لقد نسيتُ. حتى وقت قريب كنتُ أدركُ تمامًا ما أبحث عنه. يتحتم عليّ أن أتذكر. لم أعد أعرف».

ذاكرة الذكريات

«أعيدُ قراءة الصفحات التي كتبتها عن ذكرياتي قبل فترة طويلة. في هذا الوقت لم يكن لديّ الكثير لأكتبه عن عالم الطفولة، بالأحرى أشياء قليلة جدًّا عن نهاية ذلك العالم وبعض الشظايا، وهي شظايا قليلة من مرآة مغبّشة أرى عبرها وجهي. والآن كل ما تركته مجرد ذاكرة الذكريات، ذكرى عن هذه الذكريات الصغيرة. وستظل ذكريات طالما أن شعور المرء ما زال يتفاعل مع الصور الذهنية ومع الأصوات الباقية داخلنا. وها هنا لا أظن أنني مِت».

1967: أعجز عن العثور على بقية ذكرياتي. من المؤكد أنها أكثر من الصفحات التي سودتها في دفتري، لأن الجُملة الأخيرة في الصفحة الأخيرة داخل الدفتر موسومة برقم 1.

«جميعنا يفقد ذاكرته. ويبدو أنني فقدتُ ذاكرتي أسرع من الآخرين، ربما حدث ذلك لأنني أريد تذكّر كل شيء، وربما لأنني أردتُ قول كل شيء. ليس عالمي الخاص بأكثر أهمية من عالم الآخرين. أحاول أن أجمع شتات عالمي عبر جمع شظاياه وأجزائه بعضها البعض، لا لشيء إلا لإثبات أن هذا العالم كان موجودًا في يوم ما. أعلم أن كل شيء يتحوّل إلى شيء آخر، فلا شيء يختفي إلى الأبد. قالوا لي ذلك: الكل واحد، وكل شيء يتحول إلى شيء آخر».

«لا أستطيع أن أشرح لنفسي كيف سمحتُ لها ببلوغ سن الثلاثين، سن الخامسة والثلاثين، ثم السادسة والثلاثين. لا أعرف كيف أخفقتُ في منع وقوع تلك الكارثة؟ هل كبرتُ في السن بينما كنتُ نائمًا؟ هل كنتُ غائبًا عن الوعي؟ هل أسقاني أحدهم شرابًا؟ تـحوّل عكسي: تحوّلتُ إلى حشرة. وأيًّا من كنتُ الشخص الذي صرتُ إليه، فينبغي أن أبقى ذلك الطفل الضعيف، في صورته البِكر النضرة، أن أبقى المراهق الذي ما يزال محتفظًا بشيء من طفولته».

ينتقل يونسكو في الجزء الثاني من الكتاب ليصدّره بالعنوان التالي: «بوخاريست سنة 1940 وما حول سنة 1940» (تاريخ بداية كتابة المذكرات). يواصل يونسكو سرد تفاصيل من ذكرياته ويومياته سردًا حرًّا كما نرى في الفقرات الآتية:

«أخطط لتغيير صوتي السردي وعاداتي في الكتابة. سأتجنب الكتابة تمامًا متى أصبتُ بالارتباك أو الإحباط الشديد. لن أكتب سوى أشياء دقيقة، ولن أحرّر سوى حقائق ملموسة بأضعف شغفٍ ممكن». «[..] لكني لن أكون قادرًا على الكتابة إن لم يكن لديّ شغف حقيقي، وإن لم أكن أعاني وأتألم. مئتا ورقة هي عدد صفحات الدفتر. ولقد بدأتُ لتوي في الكتابة. ماذا سيحدثُ إذا وصلتُ إلى صفحة رقم مئتيْن؟ أين سنكون وقتها؟ أتساءل في نفسي بقلق عميق: ما الذي سيطرأ عليَّ أثناء كتابة المئتي ورقة، أؤمل الوصول إلى نهاية الدفتر، إلى الورقة مئتين، فهذا يبعث الراحة في نفسي».

«لا يحقّ الكلام والكتابة إلا لمن يملك شيئًا ليقوله، وكل إنسان عنده شيء ليقوله، وأنا مثلي مثل أي شخص. عليَّ أن أحاول الكلام، أقصد الكلام عن نفسي تحديدًا. فبهذا أحقق ذاتي، أن تحققَ ذاتكَ يعني أن تمارس وجودك. ولا تحتاج في سبيل ذلك أن تكون صاحب “أيديولوجيا عظيمة”، فالعالم يغصُّ بهذا الفريق بعد انتهاء الحرب، يمتلئ العالم بعددٍ أكبر من اللازم من المفكرين. على الإنسان أن يكون نفسه، ومتى أراد الإنسان أن يكون نفسه، فعليه ألا يخشي أن يكون تافهًا».

«على الإنسان دائمًا أن يرى الأمور من فوق قمة جبل، على المرء ألا يترك نفسه عرضة للسقوط في فخّ “الأيديولوجيا”، ولا في فخ الكليشيهات اللحظية العابرة، ولا وقائع اليوم العادية المحددة». «أخبرني صديقي (س) اليوم أنني طالما كنتُ أحكي لنفسي، وما زلتُ أحكي لنفسي بشكلٍ أو بآخر. قلت له: لا تحمل همًّا بشأن التاريخ. عليك أن تحمل فقط بشأن الأمور الغيبية، فالتاريخ خشبة مسرح سيئة. التاريخ أحمق وهمجي، التاريخ إنما هو إطلاق العنان لأكثر أنواع الشغف دناءةً، وأكثرها تضليلًا».

«أقرأ الاقتباس التالي من يوميات أندريه جيد، مؤرخة في 29 يناير 1932: “لا أستطيع تحمّل فكرة أن المعاناة الشديدة يمكن أن تذهب سُدى دون ثواب، تؤرقني هذه الفكرة طوال الليل، وها أنا مستيقظ الآن”. لم يستطع أندريه جيد أن يمنع نفسه – ككاتبٍ غربي- من التفكير في أن المعاناة هي ثمن السعادة، وأن المعاناة ينبغي أن تُقابل بمكافأة. أما أهل البلقان فلا تأخذهم شفقة بمن يتجرعون المعاناة. فالحقيقة أن المعاناة لا قيمة لها».

«نشعر بالسعادة حينما يحل المساء. نعلم ساعتها أننا سنحظى بالسلام والهدوء حتى صباح اليوم التالي. نمنّي أنفسنا بوقوع معجزةٍ ما، نمنّي أنفسنا بهبوط خلاصٍ ما عند منتصف الليل أو عند بزوغ فجر الغدّ».

«أندريه بريتون واحد من المخلوقات التي لا يمكن للمرء تصوّرها لن تخلد أبد الدهر. لماذا نحبّه؟ إننا لا نحب بريتون لأنه منحَ الشعر بعدًا رابعًا، ولا لأنه أعاد ابتكار الأدب كما أعاد فرويد وكارل ج. يونغ ابتكار علم النفس، أو كما أعاد آينشتاين اكتشاف الفيزياء، أو كما أعاد كافكا ابتكار الدين، بل لأن بريتون كان تجسيدًا حيًّا للسموّ والنبالة الإنسانية».

تائه وسط آلاف الكلمات

«أنا تائه وسط آلاف الكلمات، تائه وسط فصول أعمال فاشلة: هذا هو عنوان حياتي، وهذه الأشياء ما تقتلع روحي من جذورها وتدمرها. الحياة محصورة بيني وبين نفسي، وأنا إذ أتحملها وحدي بيني وبين نفسي، لا أعترف بها كحياة تخصني. إذ كيف يمكن لشيءٍ يداريكَ أن يميط اللثام عنك؟ كيف يمكنكَ أن تجعل الأقنعة كلها شفافة؟ كيف يمكنكَ عمل نسخة احتياطية من النصيب، ومن الأخطاء، ومن التِيه، كيف تصل إلى منبع الأشياء الصافي؟ كيف يُمكنني أن أصحح كل شيء وضعني في المكان الخطأ؟ وكيف يمكنني استخدام الكلمات في التعبير عن الأشياء التي تداريها الكلمات؟ كيف يمكنني التعبير عما يجلُّ عن التعبير؟ أنا أنشد المستحيل. أنشد أن تكون الكلمات شفافة رائقة. آلاف وآلاف الكلمات والأقنعة والأكاذيب والأخطاء عليها أن تعبّر عما تخفيه الكلمة».

بعد هذه الرحلة من الشكّ وانعدام اليقين في اللغة والأدب والسياسة والأيديولوجيا، يعود أوجين يونسكو في نهاية الكتاب إلى مرحلة الطفولة حيث نبع الإنسانية الصافي فيقول:

«الطفولة هي عالم المعجزات والسحر. الطفولة نشأت كما لو أنها تفجرت مضيئة وهّاجة من قلب الليل، مفعمة بالجِدّة والنضارة والدهشة. أن تخرج مفارقًا عالم الطفولة يعني أن تُطرد من الفردوس، لتصير رجلًا بالغًا. لكنكَ تحتفظُ بالذاكرة، بنوستالجيا الحاضر، بالوجود الآني، تحتفظ بكنزٍ تحاول إعادة اكتشافه بكل الوسائل الممكنة. إما أن تعيد اكتشافه وإما أن تقبل التعويض. طالما كنتُ عرضة للعذاب، بسبب الخوف من الموت والرعب من فكرة الخواء المطلق من ناحية، وبسبب الرغبة المتقدة، نافدة الصبر الضاغطة لمواصلة الحياة. لكن لماذا يرغب الإنسان في الحياة؟ ما معنى الحياة؟ لقد عشتُ طوال حياتي منتظرًا أن أعيش. الطفولة هي الشيء الوحيد الذي يصون لنا الحياة».

يختتم يونسكو مذكراته بعبارة لافتة، لا أراها مجرد شذرة من يوميات أو مذكرات، بل فلسفة حياةٍ كاملة. «إن أنوار الذاكرة، أو بالأحرى الأنوار التي تمنحها الذاكرة إلى الأشياء هي أكثر الأنوار شحوبًا. فما يلبث المرء أن يتذكّر شيئًا وُلِد من ظُلمة النسيان، أو من العدم. لستُ متأكدًا إن كنتُ أحلُم أم أتذكر، ولستُ متأكدًا هل حلمتُ بحياتي أم كانت حقيقة. ترسّخ الذاكرة في وعيي – شأنها شأن الأحلام – لا واقعية هذا العالم وتلاشيه، الأمر أشبه بصورة مرتعشة على صفحة مياه متحركة ودخان ملون هائم في الهواء. الواقع هشّ إلى أبعد الحدود ومؤقّت إلى أبعد الحدود».

أُرجّحُ أنّ يونسكو يلمح هنا إلى غريغور سامسا بطل رواية التحوّل لفرانتس كافكا، إذ طالما أشار إلى تأثّره برواية كافكا وإلى استلهامها في أغلب أعماله. راجع حوار يونسكو مع د.حمادة إبراهيم في مقدمة ترجمة الأعمال المسرحية الكاملة، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2006م.


المصدر‭:‬

Present Past Past Present‭ : ‬A Personal Memoir‭

Publisher ‭: ‬Da Capo Press‭; ‬1st DaCapo Press ed edition‭ (‬March‭ ‬22‭, ‬1998‭)‬

Language‭ : ‬English