المقالات الأخيرة

“لقاء مارس 02: تواشجات” دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

“لقاء مارس 02: تواشجات”

دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

فيما يشبه الالتزام الأخلاقي والجمالي، تبنى لقاء مارس السنوي، الذي تنظمه مؤسسة الشارقة للفنون، في دورته الجديدة التي انتهت أنشطتها قبل أيام، طيفًا واسعًا من القضايا والموضوعات والنقاشات وعروض الأداء، التي لئن اختلفت وتعددت وتنوعت، إلا أنها تذهب كلها إلى منطقة واحدة،...

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

القراءة وعوالمها كما يتصورها مارسيل بروست

بواسطة | مايو 1, 2022 | قراءات

القراءة وجه الكاتب الأصلي بملامحه التي تشحب وتختفي مع السنوات فيعمل على استعادته في كلِّ ما يكتب، ملمحًا بعد آخر يدفع عنه الضباب، أو هكذا يحلم كلما جلس للكتابة. والكتابة، على هذا النحو، مغامرة بعيدة من مغامرات الخيال، وإنصات عميق للتجربة الإنسانية في حضورها الفردي، وسفر متصل خارج حَدَّيِ الزمان والمكان، يمنحنا في كل مرة ما يعمّق تصوراتنا عن ذواتنا وعن العالم.

في كتاب «عن القراءة»(١) يقدّم مارسيل بروست (1871- 1922م) رؤيته عن القراءة وعوالمها، ويبين موقفه منها ومن التجربة القرائية، موثّقًا علاقته الشخصية بالكتب والمؤلفين الذين قرأ لهم وحاورهم وتأثر بهم، والحديث عن عوالم القراءة بوصفها مزيجًا من الذكريات، والتأملات، والتساؤلات التي تُسهم إلى حد بعيد في رسم ملامح كل منا واستعادة وجهه. والكتاب، في الأصل، مناقشة لأفكار الناقد الإنجليزي جون روسكين (1819- 1900م)، التي قدمها في محاضرتين مؤكدًا فيهما أن القراءة «فعل عام، جماعي، من المحبذ ممارسته في المكتبات العمومية». وقد عارض بروست هذه الرؤية مبيّنًا أن القراءة محادثة مع أناس أكثر حكمة من الناس الذين نتعرف إليهم من كثب، فـلا يمكن «للقراءة أن تتنكر في هيئة محادثة ولو كان ذلك مع أكثر أبطال الرواية حكمة».

وبذلك يقدّم كتاب «عن القراءة» رؤيتين تعمل كلٌّ منهما على وضع القراءة في موضع خاص من مواضع المعرفة، ببعدها الاجتماعي، كما يذهب روسكين بوصفه مفكرًا اجتماعيًّا، وبعدها الفردي، كما يرى بروست، لتُسهم بالنسبة لروسكين، في صياغة الجانب الاجتماعي في كل منا، في حين ترمي، في تصوّر مارسيل بروست، لما هو أبعد من تمجيد الإنسان. فهي «أنشودة بوسع أي عاشق حقيقي للكتب أن يسمعها، يستمتع بها ويفهمها»، وهي ضرب رفيع من التوحّد، تتعدّى ما هو غير مُجدٍ في علاقتنا مع الآخرين، «الصداقة مع الكتاب على الأقل صادقة، ولو كنا نربطها مع شخوص خياليين، وكتّاب راحلين أو غائبين، الشيء الذي يمنح هذه الصداقة بعدًا مؤثرًا وخاليًا من المصالح».

القراءة مساحة واسعة للحياة

تترفع القراءة، في تصوّر مارسيل بروست، عن كلِّ ما هو آني وخاضع لشروط المنفعة التي في الأغلب تحكم علاقاتنا اليومية وتتحكم فيها، «ففي القراءة تعود الصداقة إلى نقائها الأصلي، مع الكتب لا مجال للمجاملة». تكشف القراءة رؤية بروست الجمالية، ومبادئه، وتذوقه، ليضعه حديثها مع مثقفي عصره المشغولين بالإبداع في وجوهه المختلفة، التشكيلية، والموسيقية، والمعمارية، فضلًا عن أقدم الإبداعات الأدبية، وهي تجد في القراءة أفق حياتها.

جون روسكين

إنه يعمل، من خلال القراءة، «على استخلاص الجمال من كل شيء»، ويحرّرنا من أوهامنا. إن القراءة، بتصوّر بروست، ليست منفصلةً عن مجمل ما يحيط بنا من أشياء وأفعال، وهي تُدخلنا في توافق كامل مع كلِّ شيء من حولنا، وبها نكون أكثر حساسيةً وقدرةً على أن نؤثر فيما حولنا ونتأثر. إن القراءة بهذا المعنى تضعنا في قلب إيقاع الوجود، نُنصت إلى نغماته الخفيّة ونسمع إيماءاته البليغة. «لم يكن لدي سوى رفقاء يحترمون القراءة للغاية، كالأطباق المزخرفة المعلّقة على الحائط، الرزنامة الممزّقة منها حديثًا ورقة البارحة، بندول الساعة ونار المدفئة اللذان يتكلمان دون أن يطلبا منا جوابًا، وكان كلامها الناعم، المجرّد من المعنى -عكس أحاديث البشر- لا يشكل التباسًا في معنى الكلمات التي نقرؤها».

يوسع كتاب «عن القراءة» تصوراتنا عن بروست بوصفه قارئًا فريدًا، وهو يجعل من فعله القرائي مادةً للحديث عما تخلّفه القراءة من سحر في دواخلنا، سحر يستمر في مراحل حياتنا كافة، ليمتزج ويتداخل مع تجاربنا النفسية والاجتماعية كلما تقدّمنا في العمر حتى يغدو أخيرًا جزءًا عزيزًا مما نستعيده من الذكريات.

ترتفع القراءة لدى مارسيل بروست وتسمو فتكون «عتبة الحياة الروحية». إنها تنفلت، بهذا التصوّر، من مدار آنيتها لترسم دورتها في قلب الوجود، وتحافظ على موقعها في منزلة نفيسة بين النسيان والتذكر، ننسى لنقرأ ونقرأ لنتذكر. كما أن الكتابة لا تكون من دون محو، لا قراءة بغير نسيان، على طِرْس الوجود تحقق حياتنا الروحية عتبتها وهي تواصل الحضور بين محو وكتابة، لتكون هي المحو وهي الكتابة في آن، وهي الطِّرْس مثلما هي الوجود ذاته.

عن أيام الطفولة يتحدّث بروست متخيلًا أنها مضت من دون أن نعيشها، «الأيام التي أمضيناها رفقة كتاب من كتبنا المفضلة»، يحضر النسيان هنا ويحضر التذكّر، فالأيام الذاهبة بلا عيش هي الأيام المنسية، بلا علامة تجعلها تحنُّ وتعود إلى خواطرنا، لكنها الأيام التي نتذكرها بمزيّة ما قرأنا خلالها. أيام التذكّر هي، وما النسيان إلا توهّم، التوهّم رديف الخديعة والتخيل. وهمَ الشيء: دار في خاطره، وقد دار في خواطرنا أنها أيام منسية، لكن الوهم طريق واسع لاعتقاداتنا الضالة، وها هي طفولاتنا، التي تعود بلا سبب، تعاودنا بأسباب القراءة. والأسباب طرق السماء في مراقيها ومعارجها، تعود إلى أول الكلام، كلام بروست، وللقراءة وهي ترتفع وتسمو، «لتنحت بداخلنا أعذب الذكريات».

ذكريات القراءة في الطفولة لا حدّ لعذوبتها ولا مجال لفهمها وإدراك ما إذا كان مبعث العذوبة فيها القراءة أو الطفولة، لكنها، كما أتصوّر أو أتخيّل، منطقة سحرية ثالثة مصنوعة من عجينة هائلة من دقيق الطفولة وماء الخيال. وفي هذه المنطقة العجينية ينتظرنا رفقاء يحترمون القراءة للغاية، «الأطباق المزخرفة على الحائط، الرزنامة الممزقة منها حديثًا ورقة البارحة، بندول الساعة ونار المدفئة اللذان يتكلمان من دون أن يطلبا منّا جوابًا». عالم غرفة الطعام بموجوداته المألوفة يغدو مع القراءة مساحةً واسعةً للحياة الروحية. كلُّ شيءٍ من أشياء الغرفة يدخل في فعل قراءتنا، يُنصت لأنفاسنا ويستشعر بهجتنا، بانتظار الجملة الفتّاكة يلقيها الأبوان على مسامع الطفل: «هيا، أغلق كتابك، سنتناول الغداء».

القراءة واستعادة الطفولة

عبر حديث بروست عن القراءة بوقائعها اليومية، ألتقط ما يأتيني من العائلة، وجوه وأصوات تتداخل في مشاهد تدور في غرفة الطعام، والحديقة، فأترك حديث القراءة، كما يفعل بروست، وأنشغل بالعائلة، أنساق إلى لعبته وأتشرّب خديعته، وأتخيلني كمن ينظر إلى العالم من ثقب الباب. إنه مفتاح القراءة الذي يكون بين عالمين، عالم المكتبة وعالم الأسرة البروستية، يوهمني مارسيل بروست وهو يستعيد قراءة طفولته بأن ضوءًا يتسرب من الثقب، فأنصاع لوهمه وأنظر.. من خلال القراءة تُستعاد الطفولةُ، كما تُستعاد القراءة فعلًا فاتنًا دائم العودة أبدي الرجوع. من خلال الطفولة، طفولة مارسيل بروست وقراءاته الأولى، تنفتح كلٌّ منها على الأخرى، تغذيها بالضوء وتستردّ تفاصيلها، الناس بمشاعرهم وحواراتهم، والمكان بمفرداته التي تُعلن عواطفنا وتكشف ما نُحب، وتكتم ما لا نُحب، كما لو كانت تنشر ثيابًا مبللةً.

غرفة مارسيل الطفل تكتسب جمالها من وجهة نظره بصدد انزلاق أشيائها بين دائرتين: من دائرة الراحة إلى دائرة المتعة، الأشياء تحفز خيال الطفل، تُعدّه لأدوار سيؤديها بأمانة وشغف. «الستائر البيضاء الطويلة التي تخفي عن الأنظار سريري الموضوع وكأنه في عمق محراب، أكوام الأغطية المتنوعة بين تلك المصنوعة من التافتا، الموشاة بالزهور، والمطرّزة، وأكياس الوسائد القطنية الرقيقة». يتحرّك السرير كما تتحرّك الغرفة، من حدود الواقع إلى رحابة الخيال. كلُّ شيء يتغير، الستائر ليست بالستائر الواقعية البيضاء، والسرير ليس بالسرير الواقعي، وهما ليسا متخيلين بالضرورة، فقد لعبت الذاكرة لعبتها باستعادة كل منهما على طريقتها، وأفاضت عليهما من سحرها. السحر الذي يضفي على الأشياء قداسةً كنسيةً وينقلها من واقعية اليومي إلى حلمية الذكرى.

حتى أصعب اللحظات وأقسى الأشياء تُمنح، عندما تستعيدها الذاكرة، ضربًا من السحر يجعل منها لحظاتٍ شفيفةً ويقرّب الأشياء البعيدة إلى النفس، لتحيا غرفة القراءة، في استعادة بروست، احتفالها وهي تشهد تفتّح العلاقات بين أشيائها. ولا تحضر الأيقونولوجيا بوصفها حقلًا تزيينيًّا يرعى حاجاتٍ آنيةً عابرة، في غرفة قراءة بروست، بل تشكّل مساحةً جماليةً تمنح السواكن حركةً، والصوامت صوتًا، وتقرّب بين المتباعدات لتعيش أشياءُ الغرفة احتفالها وهي تُطلق سعاداتها في الغرفة، تُنصت وتستجيب لكل شيء وهو يمضي ويتحوّل، يعيش أدوار حياته، يخرج من رداء العادي إلى أردية القداسة والخيال. فيكون الطفل حينئذٍ بضعةً حيّةً من المشهد، تقرأ وتتعثر وتسقط، تسقط معها صورة المخلّص دفعةً واحدةً.

القراءة تغيّر العالم، تُضفي عليه غلالةً سحريّةً وهي تطلق الأشياء مما يقيدها وتدفع بها في مسارات جديدة. «هذه الأشياء كانت تملأ غرفتي بحياة صامتة ومتنوعة، وبغموض أتوه معه وأقع تحت تأثير سحره في آن، وكانت تحوّل غرفتي إلى كنيسةٍ صغيرةٍ حين تعبر الشمس القرميد الأحمر الصغير الذي يعتلي النوافذ». وهنا تعيش غرفة القراءة حوارًا من نوع آخر، تحقق الأيقونولوجيا فيه حضورها الأمثل، إنه حوار الأعمال الفنية المختلفة، رائعة بوتيتشلي «الربيع» المقلدة، منحوتة المرأة المجهولة، صورة الأمير يوجين الرهيب والجميل بسترته الفاخرة، كلُّ عمل فني في الغرفة يرتفع بها طبقة أخرى من طبقات الخيال، حتى لو كانت الأعمال الفنية لا تتماشى مع أذواقنا ولا تشرب من مياه زمننا، إنها تحفزنا على الخروج من ذواتنا والغوص داخل شخوص يشبهوننا ولا يشبهوننا.

حضور ربيع ساندرو بوتيتشلي المقلّد، القادم من فلورنسا القرن الخامس عشر، المشعّة بأفكارها الجديدة، الفاتحة بوابات عصر النهضة بأسطورياتها العميقة وعناصرها المشفّرة التي تطمح لاستخلاص الإلهي من الدنيوي وهي ترنو للحياة الأبدية، لم يكن حضورًا صامتًا. كان صمت اللوحة يفيض بوساطة الحب وطاقته الكبرى، في تقابلات بليغة ومواجهات محكمة، تُكمل كلٌّ منهما الأخرى وتُعلي من أدوارها، فينوس آلهة الحب، مركز اللوحة وجوهرها. فينوس في وسط اللوحة، ليس في وسطها تمامًا، خلفها تصطف الأشجار قوسًا مكسورًا، ويحوم فوقها كيوبيد معصوب العينين مع القوس والسهم، لرسل الآلهة، ربات الحسن، حضور في اللوحة، إنها دوامات الجمال في هبوبه الآسر وفي احتفائه الرفيع بالحياة.

يُعنى مارسيل بروست وهو يتحدّث عن القراءة، بموضوعه المعتاد، مراقبة ما حوله والإنصات للأشياء وهي تُطلق أصواتها الخفيّة معبّرةً عن حياتها الخاصة، لتحيا بعدئذ في دواخلنا، بعضًا من حياتنا السرية، لتغدو، عندئذ، أشياءً منفصلةً عنّا، خارج أحاسيسنا وذكرياتنا، «كأننا نُحسُّ بأننا نحبس هذه الحياة السرية داخلنا، حينما نتّجه ونحن نرتجف لنسحب مزلاج الباب، ثم ندفعها على السرير وننام معها أخيرًا، ونتدثر بالملاءات البيضاء الكبيرة التي تغطي وجهنا، بينما تُقرع أجراسُ الكنيسة القريبة وتتناهى إلى أطراف المدينة كلِّها لتُعلن ساعات أرق المحتضرين والعشاق». تتداخل الحياتان وتتواشج أطيافهما، تغذّي كلٌّ منهما الأخرى بالوهم والخيال، حياة الداخل وحياة الخارج، وصولًا للتماهي والذوبان، حيث تؤثر الأشياء من حولنا في حياتنا الداخلية وتتأثر بها، بعد غرفة القراءة تؤدي جملة مثل «لم أكن قد أمضيت وقتًا طويلًا في القراءة في غرفتي عندما تحتّم عليَّ الذهاب إلى المتنزه الذي يبعد كيلومترًا من القرية»، وظيفتي الربط والتحوّل، بين عالمي الغرفة والمتنزه.

غلالة الذاكرة السحرية

في الوقت الذي أبدأ بالتفكير بما أولى بروست من عناية، أراها كاملةً، لمحيط قراءته، داخل الغرفة وخارجها، وأهمل القراءة نفسها، يفاجئني بالسؤال: «ماذا إذن عن هذا الكتاب؟» كما لو كان يُنصت لهواجسي ويحاور ظنوني، لأكتشف أنه قد استغرق في قراءة رواية، متحدّثًا عن شخوصها «الذين منحناهم اهتمامًا وحنانًا يفوق ما نمنحه الأشخاصَ الحقيقيين المحيطين بنا». تملك الرواية أن تأخذنا من عالمي القراءة الداخلي والخارجي، بإشارات حياتيهما السريّتين لتُغرقنا في عالمها الحافل بالحياة ونهاياتها القاسية. كلُّ نهايةٍ قاسيةٍ بطبعها، أقول، كأنها لم تكن من صنع مؤلف، نهايات غريبة نزلت من السماء.

يخلص بروست لبيان تصوّر جون راسكين بصدّد القراءة في محاضرتيه «الكنوز الملكية» المقدّمة بفندق مدينة «روشهولم» القريبة من «مانشستر» في السادس من ديسمبر عام ألف وثمانمئة وأربع وستين، و«حدائق الكتاب» المقدّمة في الرابع عشر من الشهر ذاته، وقد هدف من تقديمهما إلى المساعدة في إنشاء مكتبة بمعهد روشهولم في الأولى، والمساعدة في تأسيس مدارس مدينة «أنكوتس» في الثانية. يبين بروست، خلافًا لما يراه روسكين، أن القراءة «ليست ملزمةً بأن تلعب في الحياة ذلك الدور البارز الذي يخصّصه لها روسكين». إنه يضع جانبًا قراءات الطفولة الساحرة «التي علينا أن نحتفظ بذكراها كما لو كانت ذكرى مقدسة»، وهو، هنا، يعرّج على الذاكرة، موضوعه الأثير، وينطلق منها لمناقشة القراءة، بما تلعبه الذاكرة من دور أساسي في مجمل أعماله.

وفي عمله «البحث عن الزمن المفقود» على نحو خاص، يشير ميشائيل مار إلى أن بروست «لم يمتلك كتبًا تقريبًا، لقد حفظها جميعًا في ذاكرته.. وعلى الأغلب كان الأدب الفرنسي برمته قابلًا لديه للاستدعاء من الذاكرة»(٢). إن عالم مارسيل بروست تغلّفه، على نحو شبه دائم، غلالة الذاكرة السحرية، هذه الذاكرة التي مثّلت آلية لاستدعاء أشباح عالم غارب ومنحتها الفرصة للحياة في عالم راهن.

وهو بذلك يتمكن من تأمل ماضيه بطريقة لا تخلو من احتفالية، «وقد أخذ الماضي فعلًا بواسطة واحد من أفعال الذاكرة اللاإرادية التي هي بوابات الواقع في منهج بروست»(٣). سيبنى عالم بروست وتتأسس رؤاه على طبقات من كشوفات الذاكرة، إنه عالم الذاكرة المرئي والمحسوس بكلِّ ما تقدّمه آليات الرؤية والإحساس من سبل لاستعادة العالم والشعور بتجاربه ومنها تجربة القراءة التي يضعها بروست موضع المساءلة. «إن ما تخلّفه القراءة بداخلنا على نحو خاص هو صور الأمكنة، وما كان يميّز الأيام التي كنّا نمارس فيها الفعل القرائي، والتي لم أفلت من تأثير سحرها، لذلك وجدتني وأنا أرغب في التحدّث عن قراءاتي الطفولية، أتحدّث عن كلِّ الأشياء ما عدا الكتب، ولكن قد تكون الذكريات التي جعلتني تلك القراءات أسترجعها قد أيقظت بداخل القارئ ذكرياته أيضًا».

يرى بروست تطابق أطروحة روسكين مع مقولة ديكارت «مطالعة كلِّ الكتب الجديدة تتماهى مع محادثة أكثر مؤلفي العصور الماضية صدقًا»، مؤكدًا «أن القراءة هي بالضبط محادثة مع أناس أكثر حكمةً بكثير، وأكثر إثارةً للاهتمام من أولئك الذين بمقدورنا أن نحظى بفرصة التعرّف إليهم من كثب»، ليبين، مقابل ذلك، أطروحته التي تنصُّ على أن القراءة ممارسة جوهرية من ممارسات الوحدة التي تمكننا من الاستمتاع بالقوّة الفكرية. وهو بذلك يضعف من كلِّ ما استند إليه روسكين في أطروحته؛ لكونه «لم يسع إلى البحث في كنه فكرة القراءة»، وقد عمل، بتصوّر بروست، على حكي ما يشبه أسطورة أفلاطونية جميلة، تاركًا مهمة التعمق فيها لذوي المبادئ المعاصرة.

ويُنهي جملته بتحديد أوجه التباين بين رؤيته ورؤية روسكين، فإذا كان بروست يعتقد «أن جوهر القراءة الأصلي يكمن في معجزة التواصل الخصب في خضم الوحدة»، فهو ينفي ما أسنده روسكين لها من دور اجتماعي ذي بعد محوري في حياتنا الروحية. الاعتراض الذي وجد تحققه في حديث بروست بما هيأ له من مدخل حياتي لن يستغني عنه في مجمل حديثه عن القراءة، حيث تبدو القراءة أكثر حميميةً وأشدّ فرديةً ضمن إطارها الحياتي الفاعل، كما تكون جزءًا من ذلك الإطار بوصفها نشاطًا حيًّا وفاعلًا بين نشاطات الحياة.

لحظات مفتوحة على الزمان

كمن يحلم، منتقلًا من لحظة إلى أخرى، يواصل بروست حديث القراءة مقتربًا أكثر من الكتاب الذي بين يديه، كما لو أنه يضعه في عين العدسة، مستعيدًا إياه من على بعد عشرين عامًا مرّت على قراءته. كلُّ ما تقدّم من حديث القراءة لم يكن سوى استعادة وتذكّر، تختلط فيهما الصور الذهنية مع الصور البصرية لتقدّم ضربًا من التواصل الحلمي الذي يسعى بروست للوقوف على تفصيلاته وتذوق زخارفه الكتابية الفارقة، لكي يمنح الروح لأوقات خلت، أليست الروح هي الذاكرة بتعبير أمبرتو إيكو؟ إنه يعمل على النظر باتجاه المستقبل بما تحفزه القراءة من لحظات انتباه تشكّل استعادتها حافزًا للانتقال في الزمن. الذاكرة بقدراتها العظيمة تعزّز قراءاتنا التي تكون ماضويةً فحسب، لحظات مفتوحة على الزمان، متاحة في آفاقه.

يتحدّث مارسيل بروست، متذكرًا الكتاب الذي انشغل بقراءته، الذاكرة ذات المدى البصري تُخبرنا بعنوان الكتاب، إنه «القبطان فراكاس» لتيوفيل غوتييه، مستعيدًا بعض جمله التي «تمنحه شعورًا حقيقيًّا بالثمالة». يلتقط جمل غوتييه التي تضيء أحاسيسه وتعبّر عن تصوراته، هذه التصورات التي يتوق بروست إلى معرفتها، كما في حديث غوتييه عن طبيعة الضحك التي لا يراها قاسيةً في حد ذاتها «إذ إن الضحك يميز الإنسان من البهائم، وهو أيضًا كما يتضح في «أوديسا» الشاعر الإغريقي «هوميروس»، امتياز الآلهة الخالدة والمبتهجة التي تعربد ضحكاتها فوق قمة الأولمب، خلال خلودها المرفَّه».

إن التقاط جملةٍ مضيئةٍ واحدةٍ من كتاب يبقي الكتاب حيًّا في الذاكرة، كما يبقي كاتبه، من خلال ما يستطيعه من كشوفات، «كنت أحبذ أن يورد في كتابه جملًا من هذا النوع، ويحدّثني عن أشياء بوسعي أن أستمر في معرفتها عن ظهر قلب، ومحبتها حتى بعد إنهائي لكتابه». إن الكتاب الذي ينجح في خلق حوار مع بروست، ومع كلِّ قارئ سواه، يمنحه طاقةً هائلةً حتى إنه يعدو «في الطرقات في كلِّ مرّةٍ أغلق فيها الكتاب بحماسة بعد إنهائي له، كي أفرغ الطاقة التي احتشدت بداخلي طوال مدة سكوني؛ لذا كنت أركض في الهواء النقي الذي يصفّر في أزقة القرية».

يتوجّه بعدها للحديث عن «خصائص الكتب المدهشة» من وجهة نظر قارئ محترف، بين الاستنتاجات والحافزات، مؤشرًا طبيعة الحكمة التي تُمليها علينا الكتب، إذ إن ما يسميه المؤلف «استنتاجات» يشكّل بالنسبة للقارئ «حافزات»، وما بينهما تعقد الصلة بين حكمتين: حكمة المؤلف وحكمة القارئ. في النقطة التي تنتهي عندها الأولى تبدأ الثانية مدعومةً بأمل القارئ بأن يحظى بالوصول إلى إجابات عما يجول في خاطره، في حين أن كل ما يستطيع المؤلفون أن يمدّونا به هو الرغبات، وذلك ديدن الفن على تعدّد مشاربه واختلاف حقوله. ما يوقظه المبدعون في دواخلنا يتماهى، أخيرًا، مع «تأثير الحب»، عبر جعلنا نرتبط- حرفيًّاـ ونمنح أهمية لأشياء لا تعدو أن تكون بالنسبة إليهم سوى تمظهرات لانفعالاتهم الشخصية.

إن ضوء القراءة يُضفي على ما يضيئه من الأماكن جمالًا تبدو معه في نظرنا «أكثر اختلافًا وجمالًا عن باقي المعمورة». وذلك ما يعدّه بروست انعكاسًا مختالًا للانطباع الذي خلّفته مخيلة مبدعها العبقري، إنه يتحدّث عما يتحقق في كتابته هو وما يُدركه القارئ ويؤخذ به. فرؤية الطفل بروست في «البحث عن الزمن الضائع»، تمنح عالم الأسرة المغلق وهي تجتمع في بيت عمته الكبرى ليوني، والبيت ذي الحديقة في مواجهة شارع القرية، حضورًا أخّاذًا لن يكون، في تصوّر بروست الكاتب، سوى انعكاس مخاتل لما ترسّخ في مخيلته من انطباع، وهو التجلّي الذي يقودنا نحو سحر القراءة ونرغب على الدوام في «أن نصل إلى أبعد منه، وهو في حدّ ذاته جوهر هذا الشيء الذي يدعى رؤيا».

وذلك كلّه يُسهم في منح القراءة أهميةً قصوى تكون معها «مدخلًا للحياة»، وهي إذا ما جعلناها منهجًا، ستكون (عتبة الحياة الروحية)، لتمضي من تلقاء نفسها إلى «المناطق العميقة في دواخلنا -تلك المناطق التي تبدأ فيها الحياة الروحية بالفعل- في الوقت الذي تحلّق عاليًا، تتسامى فوق اللحظة الراهنة، لتقدّم لجموع القراء أكثر من «حافز قادم من روح أخرى».

القراءة والكتابة والحقيقة

يمضي، بعد ذلك، للحديث عن قدحة القراءة التي تُشعل ظلام الغابة، القدحة التي يتوصل إليها العديد من الكتاب عبر «قراءة صفحة من كتاب جيد قبل أن يشرعوا في الكتابة»، تضيء القدحة مساحة الخيال بين إيمرسون (1803- 1882م) وأفلاطون، وبين دانتي (1265- 1321م)، وبين كثير من الكتّاب. القراءة، بهذا التصوّر، تحقّق ارتباطًا أمثل مع الكتابة بعد أن تغدو عتبةً لعوالمها ومفتاحًا سحريًّا لبواباتها العظيمة الموصدة، البوابات التي تنفتح على أعماق كلٍّ منّا ولم نكن نعرف طريق الوصول إليها. وذلك التجسيد الأمثل لجملة بروست بصدد تأثير القراءة في حياتنا الروحية، لنكون، حال وصولنا إليها، في «راحة جسدية وروحية مثلى»، تأتينا مثل هبة بعد بحث طويل متصل في جهات الحقيقة وتشعباتها، الحقيقة التي يرى بروست أنها تظل «بعيدةً ومخبأةً داخل مكان يصعب الوصول إليه»، ليشير إلى «بعض المستندات السرية، وبعض المراسلات غير المنشورة، وبعض المذكرات التي تكشف أسرارًا غير متوقعة».

يأخذنا حديث القراءة، عند هذه النقطة، إلى ما يبدو خفيًّا ونادرًا وذا منحى شخصي من ضروب القراءة، كلُّ ضرب منه طبقة مغلقة على أسرارها، وكلُّ قراءة، بالمقابل، تتكتم على أسرار طبقاتها، حتى لو بدت بلا طبقات ولا أسرار، فالمسافتان بين خيالات الكاتب والورقة، وبين الورقة وخيالات القارئ، تخبئان وتكشفان كثيرًا من الأسرار وصولًا للحقيقة التي لا تنبع، كما يرى بروست، من داخل الروح المتعبة، «بل توجد ضمن أوراق مطوية ومحفوظة في دير يقع بهولندا، وإنه لكي نتمكن من الوصول إليها علينا أن نتعب ونعاني، لكن ما سنبذله في سبيلها لن يكون سوى جهد مادي».

أفكّر مليًّا بجملة بروست، وبالقراء المحترفين العظام، آلاف من القراء المحترفين العظام، وهم يختبئون في الجملة ويتمترسون خلف كلماتها كما تختبئ الأسرار عادةً وتتمترس خلف الكلمات. تهبّ عليهم رياح العصور وهم مأخوذون بما بين أيديهم من صفحات، صفحة تلو صفحة، تُضيء وجوههم أنوار الكلمات لحظة تتكشف لهم المعاني وتتضح الدلالات، جيش من قراء لا أول له ولا آخر، يرفعون وجوههم وينظرون من فتحات أبراج مراقبة قديمة منصوبة على سور ممتد يضيع حداه في ضباب كثيف، يفوتني أن ألمح بينهم الوجوه الصخرية لقرّاء كتاب الطبيعة القدامى، في مروري الخاطف كأني أتطلّع إلى المشهد من منطاد وأشعر بالرياح الباردة تضرب وجهي بينما تتراءى لي وجوه أرسطو، وابن رشد، وابن عربي، وديكارت، وهيغل، وماركس، ونيتشه، وفرويد، وفوكو، ولا أدري إن كنت رأيت في مثل خطف الضوء وجهي بورخس والمعرّي، أو خيل إلي أني أراهما يقطعان إنصاتهما مائلين برأسيهما ويرنوان من فتحتين متجاورتين. تنفلت الوجوه سريعًا من المشهد وتغيب من مجال الرؤية، ولا يبقى سوى رنين جملة مارسيل بروست وهو يتحدّث عن الأوراق المطوية المحفوظة في دير هولندي.

أفكّر أن من الواجب علينا التدقيق فيما تحتويه مطوية الأوراق، إنها الحقيقة ولا شيء سواها، وعند الحقيقة يكون صوت بروست قادمًا عبر الوهاد فليس الوصول إلى الحقيقة بالأمر الهيّن القريب المنال، إنها الثمرة الطيبة المرّة لشجرتي التعب والمعاناة، «لكن ما سنبذله في سبيلها لن يكون سوى جهد مادي؛ إذ إن فكرنا سيكون إذ ذاك غارقًا في راحة ساحرة».

للحقيقة في تصوّر بروست جرس عميق صليله مدوّخ، كما لو كان قادمًا من أعماق البحر، وهي بالنسبة للمؤرخ محض مؤشر ودليل، ليس حديث بروست عن الأدلة التي توصلنا إليها قراءاتنا دليلًا للوصول إلى الحقيقة المطلقة، إنها أدلة قديمة محضة مخبأة في بطون الكتب، وهي بالطبع ليست سوى مدخل لحقيقة أخرى، كأننا حين نتحدّث عن الحقيقة التي توصلنا إليها القراءة نتحدّث عن اللعبة ماتريوشكا، فكلُّ حقيقة تتجلّى لأذهاننا تقود، وتخبئ، وتشير لحقيقة سواها، ما إن نصل إلى ما نتوهم أنه آخر الحقائق، أصغرها وأجملها وأقربها إلى اليقين، حتى تُشرق حقيقة أخرى، تبقى مضيئة في أذهاننا أبد القراءة.

قراءة العقول السامية

الكتّاب الكبار أيضًا يدخلون حديث مارسيل بروست، في الوقت الذي يلجون فيه مجتمع الكتب، في الأوقات التي يكونون فيها على اتصال مباشر بكتبهم، زاوية مضادة أخرى يتحدّث فيها عن علاقة «العقول السامية» بالقراءة، إنهم ضرب رفيع من «الشغوفين بالقراءة»، وهي مناسبة للحديث عن الرجال العظماء الذين يقاسمنا كلٌّ منهم عيبًا من عيوبنا. إنها العيوب التي تنزلهم من عليائهم وتجعل منهم أناسًا عاديين وتقرّبهم إلينا أكثر.

لكن بروست يتساءل «إذا لم يكن هذا العيب في جوهره ميزةً معروفةً»، ملتفتًا لفيكتور هيغو (1802- 1885م) وموريس ماترلينك (1865- 1949م)، وآرثر شوبنهاور (1788- 1860م). هيغو وهو يحفظ مقولات (تاست) و(جوستان)، ليكون «بإمكانه إذا ما اعترض أحد أمامه على شرعية مصطلح ما، أن يُثبت فروعه وانتسابه وأصله اللغوي، عبر اقتباسات تنمُّ عن إلمام حقيقي»، وماترلينك الذي يؤكد، بالمقابل، على خطر الإلمام الكبير، وكذلك هوس «عشق الكتب». هذه المخاطر التي تهدّد الإحساس المرهف أكثر بكثير من الذكاء. يُستحضر بعدها شوبنهاور «مثالًا عن العقل الحيوي الذي يحمل بخفّة أضخم القراءات».

عيب شوبنهاور، بحسب بروست، أنه لا يُدلي برأي من دون أن يدعمه باقتباسات عدة، لكن النصوص التي يذكرها ليست سوى أمثلة، تلميحات متوقعه تنبثق من لا وعيه، اقتباسات لم تلهمه البتة، على سبيل الحجة. وهنا لا أستطيع أن أبعد صوت نانسي هيوستن من ذهني بسخريته اللاذعة، وهي تقرأ «بابا عدم»، إن مراجعة صاحب مقولة «السعادة الوحيدة هي ألا تولد»، لا تكون بغير حسِّ السرية، إن ما لا تقاربه العقول العظيمة «هو أننا لسنا «كلَّ شيء» ولا «لا شيء»، بل «فضاء للتبادلات»، فرد يعيش تحولات دائمة، لم يرث الحياة فقط وإنما اللغة والطقوس والتقاليد والمعارف أيضًا»(٤).

إن سخرية هيوستن بمنزلة مقابلة درامية لما يميّز تفكير شوبنهاور من جدية في تناول الموضوعات التي تكون المعاناة في صلبها، قويةً وحاضرةً، ولا يمكن استبعادها، وسواء «كنا نتفق أو نختلف معه، فإن لديه برهانًا له نتائج بعيدة المدى فيما يتعلّق بالقيمة التي يمكن أن تتعلّق بالوجود الإنساني»(٥). ومن كبار الكتّاب ينتقل بروست للحديث عن الصداقة، فالقراءة في نهاية الأمر صداقة مع كاتب وكتاب، وهو يراها على نوعين: الصداقة تجاه الأفراد، والصداقة مع الكتب.

 ومن الغريب أن يرى الأولى «تافهةً مهما رُوعِيَتْ»، بينما تكون الثانية في تصوره صادقةً على الأقل لكونها ارتباطًا مع شخوص خياليين وكتّاب راحلين أو غائبين، وهي في العموم، متحرّرة من «كلِّ الصفات البشرية التي قد تُضفي قبحًا على الصداقات الإنسانية». هكذا يكشف بروست في حديث قراءته، من دون قصد، عيبًا بشريًّا من عيوبه الشخصية في الوقت الذي يتحدّث عن عيوب الكتّاب الكِبار.


هوامش:

(١) مارسيل بروست، عن القراءة، ترجمة سلمى الغزاوي، دار الهجّان، البصرة 2021م، المستلات الواردة في القراءة من هذه الترجمة.

(٢) ميشائيل مار، فهود في المعبد، ترجمة أحمد فاروق، أبوظبي للثقافة والتراث (كلمة)، 2009م: 20.

(٣) جيرمين بريه، مارسيل بروست والتخلّص من الزمن، ترجمة نجيب المانع، دار الرافدين ط2/ 2019م: 9.

(٤) ناتسي هيوستن، أساتذة اليأس، النزعة العدمية في الأدب الأوربي، ترجمة: وليد السويركي، أبوظبي للثقافة والتراث (كلمة)، 2012م: 61.

(٥) كريستوفر جاناواي، شوبنهاور، مقدمة موجزة، ترجمة وشروح: سعيد توفيق، المجلس القومي للترجمة، القاهرة 2019م: 130.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *