المقالات الأخيرة

“لقاء مارس 02: تواشجات” دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

“لقاء مارس 02: تواشجات”

دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

فيما يشبه الالتزام الأخلاقي والجمالي، تبنى لقاء مارس السنوي، الذي تنظمه مؤسسة الشارقة للفنون، في دورته الجديدة التي انتهت أنشطتها قبل أيام، طيفًا واسعًا من القضايا والموضوعات والنقاشات وعروض الأداء، التي لئن اختلفت وتعددت وتنوعت، إلا أنها تذهب كلها إلى منطقة واحدة،...

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

الشك.. شرطًا معرفيًّا لكتابة التاريخ

بواسطة | يناير 1, 2022 | الملف

على الرغم من كون ابن خلدون أول مُؤرخٍ عربي في العصر الوسيط، تسلّح بمنهج الشك في النظر إلى مفهوم التاريخ وحوادثه وأحواله وصناعته، فإن ذلك حقيقةً لم يكُن إلا عرضيًّا ويدخل بصفة عامة في مشروعه القائم على إخضاع عناصر التاريخ إلى دراسة علمية تنفي كل ما له علاقة بالأخبار والحوادث وإعادة التشكيك فيها والتدقيق في وقائعها.

وهذا الأمر لم يتوقّف عند ابن خلدون، بل امتد إلى أسماء فلسفية وتاريخية وأدبية شككت في الموروث المعرفي العربي الإسلامي كاملًا. غير أنه في الحقبة الحديثة وبفعل مناهج غربية فطن رواد النهضة العربية إلى ضرورة تجديد هذا التراث والتشكيك فيه، انطلاقًا من أدواتٍ تحليلية «علمية» مستمدة من الفلسفة وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، وهي المرحلة الإبستمولوجية التي ستشهد أوج الكتابة التاريخية إبان منتصف القرن التاسع عشر.

وذلك بفعل التطور الذي عرفته المعرفة الإنسانية، وجعل كثيرًا من العلوم تتلاحم فيما بينها لتُكوّن مزيجًا معرفيًّا يصعب الجزم في خطابه إذا كان تاريخًا أو فكرًا. وهذا الأمر تُظهره بعض المواد في الملف الذي تخصصه «الفيصل» لهذه القضية المتعلقة بنقد مفهوم الوثيقة التاريخية، وضرورة التشكيك في يقينياتها، ومدى نجاعتها في أن تكون قادرة على كتابة تاريخٍ حقيقي. على الرغم من أن مسألة «الحقيقة» أو «العلمية» في كتابة التاريخ تبقى نسبية وتتحكم فيها عوامل أيديولوجية أكثر منها فكرية.

ذلك أن المُؤرخ العربي، مهما ادعى تجرده من الأحادية والعلمية في النظر إلى الأحداث والوقائع، من الضروري أن تتسرب أيديولوجيته إلى جسد النص؛ لأن مفاهيم من قبيل: الشك والنقد والتهديم والتفكيك، تظل تُضمر بين طياتها أبعادًا أيديولوجية، حتى لو كان استخدامها يأتي وفق سياق تاريخي أو نسق معرفي. على هذا الأساس، يُعد الشك أول شرطٍ إبستمولوجي في كتابة تاريخٍ جديدٍ يجُبّ الذي قبله ويُهدّمه. مع العلم أن ذلك يبقى مُستبعدًا في التاريخ العربي الإسلامي الوسيط، بحكم تشابه المُنطلقات، وطريقة الكتابة، والنمط الفكري الخاضع بقوة إلى المرجعية الإسلامية في تفسير التواريخ والأحداث والوقائع، بطريقة تجعل من الرأسمال الديني مرجعًا أوليًّا لها.

«الفيصل» تدرك أهمية هذا الموضوع الراهن وضرورة فتح نقاش معرفي حوله، بمعية عدد من المفكرين والمُؤرخين من العالم العربي، كمُحاولة لمُساءلة مفهوم التشكيك في كتابة التاريخ ونقد رواياته الرسمية منذ الحقبة الوسيطية حتى اليوم.


هوامش نقدية على دفتر التراث

تركي‭ ‬الحمد ‬كاتب‭ ‬سعودي

إن استغراب بعض المفكرين العرب حول ابن حجر العسقلاني (مات عام 852هـ- 1449م) وكتابه «الإصابة في تمييز الصحابة» تحديدًا، يمكن أن يعمم على عدد من كتب التراث الرئيسية التي نقلت لنا النصوص المؤسسة للفكر الإسلامي، بعد الرسالة المحمدية.

معظم هذه الكتب دونت بعد أكثر من قرنين على وفاة رسول الإسلام، صلى الله عليه وسلم، وجل ذلك في العصر العباسي الثاني، وهي الكتب التي نرجع إليها باسم «أمهات الكتب» في الحديث والتاريخ والتفسير والسيرة والأدب، مثل مؤلفات البخاري والطبري وابن كثير وابن الأثير والثعلبي وابن هشام وغيرهم. هذه المؤلفات هي التي شكلت في لا نهاية العمود الفقري ما نسميه الفكر الإسلامي أو الثقافة الإسلامية حتى هذه اللحظة، وما عداها مجرد شروحات أو إضافات لا تخرج عن النصوص الأساسية في أمهات الكتب، فصحيح البخاري هو المرجع الرئيسي لأحاديث الرسول، حيث إنه أصدق كتاب بعد كتاب الله، وسيرة ابن هشام هي السيرة الرسمية المعتمدة لحياة الرسول، وهكذا.

حين نستعرض معظم هذه الكتب، التي تشكل العمود الفقري للموروث كما قلنا، نجد أنها في كثير من المواضيع لا تفرق بين الحقيقة التاريخية وبين الأسطورة.

ومن الأمثلة على ذلك «معركة بدر» التي كانت في العام الثاني للهجرة، والتي كانت بين مسلمي يثرب من المهاجرين والأنصار، وقريش المكية، وقد انتصر فيها المسلمون وثبتوا الدعوة. معركة تاريخية كأي معركة أخرى، ولكن «الأسطرة» اللاحقة في عصر التدوين تمثلت في إضفاء قدسية معينة على الحدث من خلال أسطرته، وإدخال كائنات غير مرئية في الموضوع. ونجد الأسطرة نفسها في سيرة الرسول الأعظم، حيث وصفه المدونون لاحقًا، كالبخاري والحلبي، وبقية كتاب ومدوّني التاريخ الإسلامي، بأنه «لا ظل له حين يسير تحت الشمس»، مع أن القرآن الكريم وصفه بالقول: «قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي» (الكهف، 110)، وبالقول: «إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون» (الأعراف، 188).

والشيء ذاته، أي الأسطرة، مُورِس مع صحابة الرسول الكريم، فبعيدًا عن القول بعدالتهم جميعًا دون استثناء على كثرتهم، فإن هنالك قصص كثيرة عنهم تدخل في فضاء العجائبي والغرائبي، الذي هو فضاء أسطوري في الكثير من جوانبه. فمثلًا قصة «يا ساريةُ، الجبلَ»، حيث كان عمر بن الخطاب على منبر رسول الله، ثم فجأة صاح: «يا ساريةُ، الجبلَ.. الجبلَ»، فسمعه سارية بن زنيم في نهاوند، على بعد 1500 ميل، فلجأ إلى الجبل، حتى فتح الله على المسلمين وانتصروا في تلك الموقعة.

أما علي بن أبي طالب وذريته، وبخاصة الحسين بن علي، فحدّث ولا حرج عن ذلك الكم الهائل من الأسطرة، وبخاصة التراث الشيعي المكتوب والمنطوق، بحيث يكاد علي والحسين يصلان إلى مرتبة الألوهية، كما في الأساطير الإغريقية والرومانية والبابلية، أو كما في الثالوث المسيحي المقدس، حيث يكون المسيح هو الإله والإنسان في الوقت ذاته. ومن هذه الأساطير مثلًا، أن السماء أمطرت دمًا يوم مقتل الحسين (ذكرها ابن عباس)، وأن الشفق الأحمر لم يظهر إلا بعد وقعة كربلاء ومقتل الحسين، والأمثلة كثيرة على مثل هذه الأسطرة، سواء عن السنة أو الشيعة أو بقية الفرق.

وفي هذا المجال، يجب التفرقة بين الأسطورة والخرافة، وهو أمر يشكل على الكثيرين. فالخرافة عبارة عن حكاية خيالية، تدور غالبًا حول كائنات غيبية، أو أفراد يقومون بأعمال خارقة للعادة أو غرائبية، وذلك مثل معظم حكايات ألف ليلة وليلة، وليس من الضروري أن يكون لها أساس من الصحة، ولو بالنزر اليسير. أما الأسطورة، فقد تكون في بدايتها حقيقة تاريخية، ولكنها بعد ذلك تضخم، ويضاف إليها كل ما هو عجيب وغريب، وأحيانًا قدسي وإلهي، فتنتقل من كونها واقعة تاريخية أو فرد تاريخي، إلى أسطورة يغلب فيها الخيال على الحقيقة، ولكن ذلك لا ينفي بداياتها التاريخية، ولعل في ملاحم الإلياذة والأوديسة، وملحمة جلجامش البابلية، وسيرة عنترة بن شداد العبسي، وسيف بن ذي يزن، وتغريبة بني هلال وأبي زيد الهلالي، والزير سالم، والظاهر بيبرس وغيرها، خير مثال على المقصود هنا. فسيف بن ذي يزن مثلًا، وهو من الشخصيات الأسطورية المحببة إليّ كثيرًا، ملك يمني أسهم في تحرير بلده من الغزاة الأحباش، وهذا موثق تاريخيًّا، ولكنه يتحول إلى بطل أسطوري في السير الشعبية، له أخت من الجن، وصديق من المردة والعفاريت، قدرات خارقة للعادة وقوانين البشر والطبيعة، والأمثلة كثيرة في هذا المجال.

فالأسطورة، كما يرى مرسيا إلياد، «تمثل تاريخًا مقدسًا من جهة، تروي كيف جاءت حقيقة ما إلى الوجود، تصف لنا مختلف تفجرات القدسي في العالم، وتكمن وظيفتها في تثبيت النماذج المثالية لجميع الطقوس والفعاليات البشرية الهامة» (مرسيا إلياد. رمزية الطقس والأسطورة. دمشق: دار العربي، 1987م، ص 92- 93). وبناءً على ذلك، فإن البطل التاريخي، سواء كان نبيًّا أو زعيمًا أو محاربًا أو غير ذلك، ما لم يتصف بصفات خارقة للعادة، أو لنقل إعجازية، يتجلى فيها الإلهي الخالد في الإنساني البائد، فننسج من حوله الأساطير التي تجعله فوق مستوى البشر، وأقرب للسماء منه للأرض. هكذا صنع بشخصيات وأبطال تاريخيين، أي أن لهم وجودًا تاريخيًّا، مثل يوشع بن نون والملكين النبيين داود وسليمان في العهد القديم من الكتاب المقدس، و«يسوع» المسيح في العهد الجديد، وهرقل وأطلس وأخيل في أساطير الإغريق والرومان، وعنترة وسيف و«ذوي الكرامة» من «الصالحين» في تاريخنا وسير أبطالنا.

الأسطورة ليست خرافة يتسلى بها، كما ذكرنا آنفًا، ولكنها نسق من الرموز الدالة على معنى يختفي وراءها، ومهمتنا هي حل هذه الرموز من ناحية لاكتشاف المعنى، والتمتع أدبيًّا وفنيًّا بالجماليات التي تحملها تلك الأساطير التي لها دور مهم في حياتنا وثقافتنا الإنسانية، وذلك حين تفهم على أنها أساطير.

المشكلة تكمن في عدم القدرة على التفرقة بين الأسطورة والحقيقة، كما هو حاصل بالأمس واليوم، في الثقافة الإسلامية، ومن هنا يتوجب إدخال معاول النقد؛ لا لهدم الأسطورة، ولكن لتنقية الحقيقة التاريخية والاجتماعية. يذكر الثعلبي في قصص الأنبياء، وبرواية عبدالله بن عباس، أن طول قامة الفرد من «قوم عاد» كان ثمانين ذراعًا، وأن رأس أحدهم كالقبة العظيمة، وكانت عين الرجل تفرخ فيها الضباع، وكذلك مناخرهم. (الثعلبي. قصص الأنبياء المسمى عرائس المجالس. بيروت: المكتبة الثقافية).

هنا يتبين القصد من فرز الأسطورة عن الحقيقة التاريخية، فقوم عاد مثلهم مثل كل البشر في أطوالهم وأشكالهم، ولكن قصتهم تحولت إلى مثل هذه الأسطورة لغاية ما، ولكن تلك حكاية أخرى، ومجال بحث آخر.


الرواية التاريخية العربية (الإسلامية)

خالد‭ ‬زيادة ‬مؤرخ‭ ‬لبناني

ليس هناك ما يمكن تسميته تاريخًا رسميًّا للإسلام، والمؤرخون الذين كتبوا في التاريخ جاؤوا من مشارب مختلفة، وكبار المؤرخين أمثال المسعودي والطبري تدخل مؤلفاتهم الضخمة في التاريخ العالمي حسب رؤية العصر الذي انتموا إليه. نضيف إلى ذلك أن التاريخ كعلم لم يكن جزءًا من العلوم الإسلامية كاللغة والحديث والفقه والكلام. كذلك فإن الفلاسفة لم يعتنوا بالتاريخ فكانت مادة الفلسفة العقل والبرهان والمنطق، وليس الخبر والأسطورة. ولم ينشأ في علم التاريخ تفكير منهجي إلا مع ابن خلدون.

إلا أن ذلك لا ينفي أن كتابة التاريخ لدى المسلمين مثّلت تطورًا بالمقارنة مع كتابة التاريخ لدى الشعوب الأخرى كاليونان والفرس، ويمكننا أن نُرجع أحد أسباب تطور كتابة التاريخ لدى المسلمين من الوجهة المنهجية و(الموضوعية) بسبب انبثاق كتابة التاريخ عن علم «الحديث النبوي». فكما يلزم المحدث أن يسند روايته إلى راوٍ، وأن يكون الراوي معروفًا يتمتع بصفات تؤهله لرواية الحديث النبوي، فإن المؤرخ يتبع منهج المحدثين بإسناد كل خبر إلى راوٍ، من هنا الضوابط التي حكمت كتابة التاريخ، يُضاف إلى ذلك أن كتابة التاريخ في عالم الإسلام قد انطوت على حلقة مركزية وهي ظهور الدعوة الإسلامية، فالتاريخ من قبل هو تاريخ الجاهلية حتى بلوغ الدعوة التي تشكّل نواة التاريخ، ومن بعد فإن التاريخ يبتعد تدريجيًّا من زمن الرسالة وبالتالي فإنه يتجه نحو الفساد.

التاريخ ومنهج الجرح والتعديل

على الرغم من الموقع الذي يحتله الرسول في قلوب جميع المؤمنين، فلا توجد سيرة «رسمية» معتمدة له. ومن المعلوم أن أول من صنّف سيرة مبكرة للرسول هو ابن إسحاق (80-151هـ/699-769هـ). أي أنه وُلد بعد وفاة الرسول بما يزيد على ستة عقود من الزمن، وقد اعتمد على أخبار رواها التابعون عن الصحابة. والواقع أن سيرة ابن إسحاق قد فُقدت ولا نعرفها إلا من اقتباسها من جانب ابن هشام (218هـ/833م)، والأخبار تُفيدنا بأن ابن إسحاق لم يسلم من النقد والتشكيك بروايته، فاتّهم في عقيدته من جانب الذين اعتبروه قدريًّا وغير ذلك، أي أن التشكيك قد رافق ولادة الكتابة العربية بسبب الأصداء السياسية والنزاعات العقائدية.

ولكن تعدد رواة الحديث وتكاثرهم، وابتعاد الرواة من عصر الرسول كلما تقادم الزمن، أدى إلى نشوء علم قائم بذاته عُرف باسم «الجرح والتعديل» يفحص الرجال من حيث امتلاكهم للأمانة والعدالة. و«الجرح والتعديل» علم إسلامي بامتياز، ينطوي عل منهج نقدي. وإذا كان قد طُبّق على رواة الحديث، إلا أنه لم يُطبّق على رواة التاريخ، وذلك لأسباب معروفة. فالأحاديث النبوية تترتب عليها أحكام فقهية ومعاملات وزواجر وموانع، أما الرواية التاريخية فلا يترتب عليها شيء من ذلك.

وكما نلحظ فإن «الجرح والتعديل»، اقتصر على نقد الرواة ولم يتطور إلى نقد الرواية، أو المضمون أو النص أو الخبر. أي أنه لم ينشأ العلم الذي يمحص الروايات التاريخية من حيث معقوليتها. فحين نقرأ لدى أغلب المؤرخين فإننا سنعثر على كثير من المعطيات والأخبار التي يمكننا أن نشك في صحتها. وخصوصًا حين يتعلق الأمر بالأخبار التي تخص البلاد البعيدة التي يدخل بعضها أو كثيرها في باب العجائب والغرائب.

والثقافة العربية التي استنبطت علم «الجرح والتعديل» غير المسبوق، أنجبت مؤرخًا أنجز رؤية حول التاريخ هو ابن خلدون. أي أنه أضفى على الأخبار والوقائع منطقًا عقلانيًّا من خلال صياغته لمفهوم العصبية في كلامه عن صعود الدول وانحطاطها عبر دورات وحقب زمنية. فالتاريخ لا تتحكم فيه العجائب والغرائب والميول الشخصية والنزعات الفردية، ولكنه يتبع منطقه الخاص، ولا بد من الإشارة هنا إلى أحد تلامذة ابن خلدون وهو تقي الدين المقريزي (1365-1442م)، وخصوصًا في أحد كتبه «إغاثة الأمة بكشف الغمة»، الذي يُرجِع فيه سبب المجاعات، ليس إلى العوامل المادية كشُحّ المياه في النيل والفيضانات فحسب، وإنما أيضًا إلى سوء التدبير السياسي والفساد والتضخم المالي. وكما نرى فإن هذين المؤرخين العظيمين اللذين عاشا في القرن الرابع عشر الميلادي، وأدركا القرن الخامس عشر، لم يخلفا كتّابًا أو مفكرين أو مؤرخين يتابعون ما بدؤوه من تكوين رؤية تاريخية وتحليل الظواهر، والوقائع الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية. وسنجد أن ما بدأه كل من ابن خلدون والمقريزي قد تطور وتحوّل إلى مدارس فكرية في أوربا ابتداءً من القرن السابع عشر.

الاستفادة من المناهج النقدية العقلية

طه حسين

لقد تطور في أوربا المنهج النقدي الذي يدرس النصوص والأفكار من حيث معقوليتها، وليس من حيث شكلها فحسب. وعادة ما نرجع إلى الفيلسوف رينيه ديكارت (1596-1650م) وخصوصًا في كتابه المعروف باسم «مقالة الطريقة» وهو كتاب في المنهج العقلي. ونجد تطبيقًا له لدى فيلسوف آخر هو باروخ سبينوزا (1632-1677م) الذي كان فيلسوفًا عقليًّا. ونشر كتابه «الرسالة اللاهوتية السياسية». ومن المعلوم أن طه حسين حين نشر «في الشعر الجاهلي» (1926)، أي قبل ما يقرب من مئة سنة، طبّق، حسب قوله، منهج ديكارت، فأثار حفيظة الأزهر والمحافظين.

وإذا كان طه حسين قد تراجع وحذف من كتابه المقاطع المثيرة للاعتراض والجدل، فإن المسألة المطروحة، قد طويت على نوع من التسوية وإنكار الموضوع. ومع ذلك فإننا لا نستطيع أن نغض النظر عن تطور مناهج البحث التاريخي والتدقيق في النصوص والأخبار وتحليلها ونقدها، فإذا لم نفعل ذلك سيفعله غيرنا.

محمد إقبال

تطورت المناهج العلمية والنقدية تطورًا كبيرًا في أوربا، بل إن مناهج التفكير سلكت في الفكر الأوروبي طريقتين: الأولى التي افتتحها ديكارت مع منهجه العقلي، والثانية مع فرانسيس بيكون (1561-1626م) ومنهجه التجريبي، وقد استفاد العديد من المفكرين المسلمين من هذه المناهج، فنجد أن محمد إقبال (1877-1938م) صاحب كتاب «تجديد التفكير الديني في الإسلام»، يرى أن مفكري الإسلام وفقهاءه قد أخذوا المنهج العقلي نقلًا من اليونان، وأنهم بذلك قد ابتعدوا من دعوة القرآن للإنسان إلى العمل والتجربة في حياته، فالتجربة الإنسانية لا حدود لها ولا تحدها قواعد عقلية مسبقة.

إن هذا النوع من قراءة النص الديني على ضوء منهج عصري، تعني إدراك المؤمنين لتجربتهم الإيمانية. وتفسح المجال أمام اتساع مجال التفكير. وبخصوص إقبال، وعلى عكس بعض معاصريه، فقد رأى في تجربة تركيا الجمهورية، بعد إلغاء السلطنة والخلافة، نوعًا من الاجتهاد الذي لا يخرج عن مبدأ الاجتهاد في الإسلام. ويمكن أن تتفق مع إقبال أو لا تتفق معه، ولكن محاولاته تعني فهم المؤمنين لإيمانهم وتدعوهم إلى التفكير. وأعتقد أن إقبال مفكر مسلم بارز استفاد من مناهج التفكير في أوربا من دون أن يدّعي أنه يريد أن يصيغ مشروعًا فكريًّا متكاملًا. في المقابل، نجد أن المستشرقين (وهم باحثون غربيون في مجالات متعددة منها: الدين والقانون واللغة والأدب والتاريخ)، قد طبّقوا مناهج البحث المستخدمة والمطبقة في العلوم الإنسانية.

فرانسيس بيكون

وعلى الرغم من الاتجاه الراهن الذي يميل إلى نقد الاستشراق واتهامه بالتحيّز، و«التآمر» على الإسلام خاصة (علمًا أن الاستشراق يشمل الصين والهند أيضًا)، فإن المستشرقين الكبار قد قدموا خدمات جمّة للتراث العربي وخصوصًا نشر أعمال كبار الشعراء والأدباء والمؤرخين، يُضاف إلى ذلك الموسوعات التي أعدوها والمؤلفات التي نشروها، فقد ألّف عشرات المستشرقين مؤلفات تُبجّل الحضارة العربية- الإسلامية، من غوستاف لوبون إلى سيديو إلى بروكلمان وغيرهم، إضافة إلى أبحاث في الأدب والتاريخ، نذكر على سبيل المثال الروسي كراتشكوفسكي في عمله الكبير والفريد في الأدب الجغرافي العربي، كما نذكر كلود كاهن في دراساته عن السلاجقة.

وقد عبّر بعض المستشرقين عن آراء أثارت جدالًا مثل غولدتسيهر وڤون غرونوباوم، قوبلت بردود ونقاشات تاريخية من أمثال عبداللطيف الطيباوي وعبدالله العروي وهشام جعيط وغيرهم. ومع ذلك ينبغي التمييز بين مستويات مختلفة، فهناك الدراسات التي أغنت البحث باستخدام منهجيات طبقت من قبل على التاريخ الغربي نفسه والتي أغنت فهمنا للتاريخ والآداب. وهناك الدراسات المثيرة للجدال التي وجد بعضها ردودًا عميقة من جانب دارسين عرب كما ذكر قبل قليل. وأخيرًا هناك النزعة التي برزت في العقود الأخيرة الكارهة للعرب والمسلمين، والتي لا تمتّ بِصِلة إلى الأبحاث الأكاديمية والعلمية، وتعبر عن اتجاهات سياسية وعنصرية مغرضة.

الاستشراق ما له وما عليه

نميل إلى الاعتقاد أن هناك مؤامرة على العرب والمسلمين، وعادة ما تشير المؤامرة إلى معانٍ غامضة وسرية. حقيقة الأمر لم يكن هناك مؤامرات وإنما احتلالات وحروب استعمارية حدثت في وضح النهار، ونهب للثروات واضطهاد للشعوب العربية والهندية والصينية والإفريقية على حد سواء. خدم بعض المستشرقين أغراض حكوماتهم كباحثين ومستشارين وهذه أمور لم تحدث في الخفاء، وفي المقابل برز بعض أبناء المستعمرين كمستعربين قدموا دراسات موضوعية وعميقة مثل الفرنسي جاك بيرك. من هنا علينا أن نخرج من الأحكام العمومية، كما علينا أن نخرج من رهاب الغرب والعداء المتأصّل له (رغم أننا غارقون في تقليده).

ولنعد إلى بداية السؤال حول التشكيك في التاريخ. الحقيقة المجردة أن مسألة الوعي التاريخي هي مسألة حديثة. لقد تعرّف رفاعة الطهطاوي إلى التاريخ العربي الإسلامي من خلال المستشرق الفرنسي سلفستر دوساسي، كما تعرف خير الدين التونسي إلى الحضارة العربية من خلال المستشرق سيديو. وفي القرن التاسع ومع بروز النزعات الوطنية دخل التاريخ كعنصر من عناصر تحديد الهوية الوطنية أو القومية. وهكذا يصبح التاريخ أداة من الأدوات في خدمة اتجاه سياسي أو عقائدي، مجّد العروبيون الأوائل قيم العرب قبل الإسلام، ورأى الإسلاميون أن المرحلة الراشدة هي مرجعهم. ورأى السوريون أنهم ورثة الدولة الأموية، أما العراقيون فرأوا أن الدولة العباسية هي مرجعهم. وكل هذا لا شأن له بالتاريخ الذي ينبغي أن يدرس وفق المنهجيات الحديثة من دون تأثير الأيديولوجيا أو الأهواء السياسية والمذهبية.


التاريخ العربي الرسمي:
في نقد مفهوم الوثيقة أولًا

أشرف‭ ‬الحساني ‬باحث‭ ‬مغربي

لا شك أن التفكير اليوم في مسألة الوثيقة التاريخية، قد أضحى من المسلّمات الإبستمولوجية للعديد من المُؤرخين العرب. على خلفية الجدل المعرفي الذي رافق هذا العنصر المهم في كتابة التاريخ منذ النصف الأول من القرن العشرين. ولا سيما داخل مدرسة الحوليات مع كل من لوسيان فيبر ومارك بلوك وفرناند بروديل، حيث غدت الوثيقة أكثر تحررًا من ماديتها وقدرة التاريخ في هذه المرحلة، على اختراق المسكوت عنه داخل الاجتماع الإنساني؛ إذْ لم يكُن التاريخ مع المدرسة المنهجية/ الوضعية لدى كل من شارل سينيوبوس وشارل لانغوا، إلا مجرد تاريخ للسلطة يقتصر نمط كتابته على نوعٍ من الكتابة التاريخية، التي تظل سادرة أمام الأحداث الفردية وسردها بطريقة يُصبح فيها التاريخ مجرد حكاية أدبية، على الرغم من كونها تفتقر إلى الخيال، فإنها تظل تهجس بخصائص السرد الأدبي الرتيب، وتتمركز بالدرجة الأولى حول سلالات الدولة وإنجازاتها وأطوارها، وملوكها وأبطالها وسلاطينها، وهو ما يعني أن التعامل مع الوثيقة ظلّ مُحتشمًا وتتحكّم فيه عناصر أدبية أكثر منها تاريخية وعلمية. هكذا عملت مدرسة الحوليات، قبل أنْ تُوجه نقدها اللاذع إلى التيار الوضعاني إلى تكسير مسألة الحدود بين التاريخ كنهرٍ معرفي تصبّ فيه جميع المعارف على اختلاف ألوانها ومَشاربها وبين حقل العلوم الاجتماعية. وهو ما جعل مفهوم الوثيقة أو الشاهدة تتوسع أكثر صوب الاهتمام بتاريخ المجتمعات بدل الأفراد. وقد كان لمسألة تكسير الحدود الوهمية، بين العلوم دور كبير في تجديد صناعة التاريخ لدى المُؤرخ، وهو ما فتح أفقًا جديدًا ومُغايرًا داخل الكتابة التاريخية الحديثة، حيث أضحى هناك تاريخ للفن والصورة والمتخيل وغيرها من التعبيرات الجسدية والأنثروبولوجية التي طالما رفضها المُؤرخ المغربي عبدالله العروي، خاصة في كتابه «الأيديولوجية العربية المعاصرة».

مصادر مختلفة للتاريخ

ولأن تكريس صورة الكتابة التاريخية الحديثة، لا يُمكن أنْ تتأتى من دون تفكيك أو توجيه نقدٍ للتيار المعرفي القائم، فقد عمل رواد مدرسة الحوليات على توجيه سهام النقد لجملة من المرتكزات الإبستمولوجية، التي أقيمت عليها المدرسة المنهجية، ومنها تكسير حدة التاريخ الحدثي السياسي/ الدبلوماسي ونزع القداسة عنه، على اعتبار أن التاريخ، لا تُساهم في صناعته السلطة وحاشيتها وخدامها فقط، وإنما عامة الناس أيضًا. كما أن التفسير النفسي لسير الملوك والسلاطين في التاريخ، جعل الكتابة التاريخية تتحكم في صياغتها أهواء ذات نزعةٍ ذاتية تنفي كل ما له علاقة بالعقل والمعارف والعلوم.

وبما أن التاريخ الرسمي لم يكُن يُكتب إلا عبر الوثيقة المادية، التي يسهل العثور عليها في سجلات السلطة الرسمية وكنانيشها ومحفوظاتها، فإن الحوليات قد ثارت على هذا الشرط الضيق، حيث وسّعتها وانفتحت على مصادر أخرى مختلفة مثل الجرائد وسجلات محاكم التفتيش واللوحة والفوتوغرافيا والسينما. وهو ما جعل الكتابة التاريخية تتخلى عن حياتها القديمة لترتاد عوالم الكتابة الفكرية، حيث اعتُمِدَ على التاريخ التنظيري وتطبيقه في كتابة مونوغرافيات تاريخية، ولا سيما بعض القبائل العربية، التي لا تتوفّر إلا على تاريخ شفهي. وهو ما استدعى بلورة ما سُمّي لاحقًا بالأنثروبولوجيا التاريخية والاجتماعية، بغية تطبيق مفاهيم الطبقية والبنى في كتابة تاريخ هذه القبائل المُتفرقة.

إننا نستعيد هذا السياق التاريخي/ الفكري من أجل تبيان كيف أن جمود الوثيقة التاريخية، في كتابة التاريخ العربي، قد ساهم طيلة التاريخ العربي الإسلامي، وفي مراحله المُتعددة، في إنتاج تاريخ رسمي، لا أحد ينتقده أو يُشكك فيه أو حتى يُخوّل لنفسه طرح سؤال عن مدى صحته من عدمه. وإذا كان التاريخ الجديد تاريخًا إشكاليًّا حسب تعبير المؤرخ الفرنسي جاك لوغوف، فإن تعريفًا كهذا، قد يُثوّر مُخيلة المُؤرخ العربي ويجعله ينتفض ويثور على مختلف الأنماط والمصادر المُتعارف عليها في كتابة التاريخ العربي الإسلامي منذ عصر التدوين مثل كتب السيرة والأدب التاريخي والمسكوكات والكتابات المنقوشة.

وهي مصادر قد استنفدت مادتها على مستوى التأريخ، ولم تعُد صالحة لكتابة تاريخ عربي، أمام تحولات شتى طالت المنظومة السياسية والثقافية والاجتماعية العربية. وبالتالي، فإن تجاوز التاريخ الرسمي ونقده يبدأ أولًا من مفهوم الوثيقة وضرورة تجديدها، حتى يجد المُؤرخ نفسه في مواجهة سجل جديد قادرٍ على تقديم معرفة تاريخية غير مألوفة وقادرة على طرح أسئلةٍ حول مراحل من التاريخ العربي الإسلامي. غير أن الملحوظ في الكتابة التاريخية العربية المعاصرة أنها لم تتجاوز قلاع الوثيقة المادية، وهو ما جعلها ممهورة بالتكرار وذات منطلق إبستمولوجي واحدٍ لا يخرج في مُجمله التاريخ السياسي، غير أن بعض التجارب المغربية التي وسَّعت وثائقها كانت أكثر قدرة على الإقناع وجذب القارئ صوب عوالم لم يختبرها من قبل داخل المراجع التي تُقدم نفسها مُتخصصة في مرحلةٍ ما.

الصورة كوثيقة وسلطة

وإذا كانت دراسة «مغاربة في البرتغال» للمُؤرخ المغربي أحمد بوشارب، قد فتحت قارة شبه مفقودة داخل البحث التاريخي المغربي، من خلال الاعتماد على سجلات محاكم التفتيش الإسبانية والبرتغالية، فإنها من جهة أخرى، قد عملت بشكلٍ ضمني على اختراق التاريخ الرسمي حول الوجود الإيبيري بالسواحل المغربية وتقديم رواية تاريخية تُنافس الرواية الرسمية الموجودة داخل المراجع الأكاديمية والمقررات المدرسية. والسبب يعود أساسًا إلى كون أحمد بوشارب، لم ينقل تاريخ إسبانيا والبرتغال على سواحل المغرب، بل اعتمد تاريخًا إشكاليًّا ينطلق من وثائق أجنبية لكتابة تاريخ ذهني وبنيوي يرصد علاقة المغاربة بأزمة الضمير خلال القرن السادس عشر، وينقل في آنٍ واحدٍ أوضاع المغاربة الذين رُحِّلُوا إلى البرتغال وما عاشوه هناك من عنفٍ وتصدعاتٍ.

لكن بعيدًا من هذا المنزع المادي في التعامل مع الوثيقة مغربيًّا، يقترح علينا المُؤرخ الفرنسي مارك فيرو (1924- 2021م) ضرورة أنْ نُقيم بعضًا من الحدود والسياجات في كتابة التاريخ المعاصر انطلاقًا من الوثائق المكتوبة، حتى لو كانت بعيدة من مراكز السلطة. وذلك من خلال الانفتاح على الصورة السينمائية، بوصفها من أبرز مصادر كتابة التاريخ المعاصر في العالم. بحكم أن الصورة (بوصفها سُلطة) لا يُمكنها الدخول في عملية تماهٍ مع السلطة الأصل؛ لأن السينما لا تتلقى التاريخ كما هو، وإنما تعمل على غربلته وعقلنته وجعله يدخل في سيرورة مشهدية تكون أقرب إلى الدقة وهي تنثر التاريخ ليغدو طبوغرافية بصرية.

وعلى الرغم من أن هذه المُغامرة الفكرية تبدو صعبة التطبيق والتبلور والتجلي في كتابة تاريخٍ عربي انطلاقًا من المُدونة السينمائية العربية، فإنها تظل تطرح أسئلة قوية داخل أفلام غربية عملت على تكسير الرواية التاريخية الرسمية وتفنيدها والتشكيك في صحتها. أما السبب الذي يحول دون تحقيق «أطروحة» مارك فيرو، فهو أننا داخل العالم العربي، لا يكاد المرء يعثر على أفلام كبرى من الممكن أنْ تُشكّل خرقًا اجتراح تاريخ جديد وابتداع أفكار تتصل بالتاريخ العربي، لكون كثير من الأفلام لا تتوفّر حتى على أدنى الشروط التقنية والفنية والجمالية، فبالأحرى أنْ يقوم صاحبها باعتماد طرق كتابة التاريخ وما يتعلق بها من وثيقةٍ وسرد وحكي ومُحاولة تشريح ذلك على جغرافية الصورة السينمائية بطريقة يغدو فيها الفِلْم الروائي أو الوثائقي ينضح بمُقومات منهجٍ معرفي يعتمد الصورة كهاجسٍ نقدي يخترق به مُخيلة المُشاهد العربي.


الإسلام المبكر بين الأكاديميين والمستشرقين

خزعل‭ ‬الماجدي ‬مؤرخ‭ ‬عراقي

لا بد من التمييز بين تيارين فيما يخص إعادة النظر في التاريخ الإسلامي المبكر؛ الأول هو التيار الأكاديمي العلمي الذي يستند إلى فكرة صحيحة ودقيقة علميًّا وهي أن التاريخ، أي تاريخ ولأي شعبٍ وأية أمة وفي جميع مراحل التاريخ المعروفة، يجب أن يقوم على أسسٍ آركيولوجية (آثارية) دقيقة يقوم بها علماء الآثار المشهود لهم بالعلمية والمصداقية والحياد، وهذا التيار يتمتع بمصداقية عالية.

أما التيار الثاني فهو التيار الاستشراقي، الذي قد يضم أكاديميين لكنهم مؤدلجون، فهو يتخذ من تلك القاعدة الآثارية وسيلةً للتشكيك والطعن، ويخلط الآثار بالأيديولوجيا ويسير مجرى الأحداث وفق أهواء ومشاعر خاصة للخروج بنتائجٍ تؤدي الى أغراض معدة سلفًا. وهو نوع من أنواع ما عُرف بـ(الاستشراق الجديد) الذي ظهر بوضوح بعد أحداث سبتمبر 2001م خاصة.

التيار الأول لا بد من متابعته والحوار معه والمساهمة العلمية فيه من جانب المؤرخين والمتخصصين العرب؛ لأنه يساهم في وضع الأسس الصلبة والصحيحة لتاريخ الإسلام كله، وليس المبكر منه فقط، أما الثاني فيجب إخضاع طروحاته ونتائجها للميزان العلمي الدقيق وتمحيصها وفرز الأخطاء والمبالغات التي ظهرت فيه، ووضع الحجج البديلة العلمية المقنعة مكانها.

وفي الحالين لا بد من التحلي بالشجاعة والصبر والعلمية في معرفة أدوات العصر الذي نحن فيه، والذي ما عاد فيه مجال للردود والملاسنات السطحية المؤدلجة والخاوية. وعدم عدّ كل ما يصدر من الغرب نوعًا من المؤامرات الخفية المدروسة، فهناك مناهج وعلوم حديثة تتقصى الحقائق لا يجوز الاستهانة بها.

نقد المصادر الخارجية

الروايات الرسمية للتاريخ العربي الإسلامي ليست كلها صحيحة، ولا شك أنها قابلة، دائمًا، لإعادة النظر وللتصحيح والغربلة. ولا بد أن يفعل ذلك المؤرخون العرب والمسلمون قبل غيرهم، من دون تعصب أو تهجم على الآخرين، لا بد من حكمة مرهفة ودقيقة أمام هذا التحدي الذي سيبقى قائمًا طالما كان هناك تجديد في المناهج والعلوم. فالروايات الرسمية ليست مقدسة ولا هي أبدية، بل هي تخضع للمراجعة والجدل والنقد.

المنهج التنقيحي أو (الإتجاه الجِذْري) السانكروني هو الاتجاه الذي يحاول بناء سردية عن «تاريخ الإسلام المبكر» و«تاريخ القرآن» من خلال إقصاء كل المصادر التاريخية الإسلامية حول نشأة الإسلام والقرآن، بوصفها مصادر منحازة وغير موثوقة، مستغلين غياب التدوين العربي لما يقرب من قرنين بعد ظهور الإسلام، ويعتمدون على مصادر غير عربية أو على النقوش الأثرية حصرًا في بناء هذه السردية من خلال الروايات المعاصرة لظهور الإسلام والمكتوبة باللغات الأخرى كاليونانية والسريانية والأرمنية والفارسية والآرامية والقبطية. المنهج التزامني السانكروني أو منهج التحليل البلاغي يذهب إلى تقدير النص في شكله النهائي، وأنه يمتلك نظامًا خاصًّا في بناء متنه، لا بد من كشفه ومعرفته، على الرغم مما قد يظهر فيه من عدم اتساقٍ وانقطاعٍ دلالي. المنهج الدياكروني ينطلق، خلاف ذلك، مفترضًا أن هذا الشكل النهائي للنص وما يحويه من مظاهر عدم اتساق فيه دلالة على كونه منتحلًا، وبالتالي يحاول البحث في مصادر تكوينه السابقة عليه، فيصير البحث مكانيًّا في اللغة والبلاغة والمقارنات اللغوية والفيلولوجية.

نرى أن الحل الصحيح هو في أن نتعلم هذه المناهج جيدًا ونجيد استعمالها، ونردّ على الطروحات الاستشراقية خاصة بطرق علمية رصينة، ونستخدم كل ذخيرتنا العلمية في كتابة تاريخ مبكر جديد للإسلام يكون بديلًا عما كتبه الطبري وابن الأثير وغيرهم من المؤرخين القروسطيين، الذين لم يعرفوا منهج البحث العلمي، وكانت كتابة التاريخ عندهم مجرد مرويات وسرديات تعج بالمبالغات والأحداث المتناقضة الغريبة، بل هم لم يتقصوا ميدانيًّا أماكن الأحداث وكتبوا كتبهم على النقل والسماع.

وهنا أسأل: ما فائدة كل أقسام التاريخ والآثار واللغات القديمة ودراساتها العليا وبحوثها إن لم تفعل هذا؟ وهل من الصحيح أن نبقى في منطقة المدائح التاريخية لتراثنا وأعلامه؟ أليس من الصحيح والطبيعي أن ننفض غبار الموت هذا، ونرتقي بمادة جديدة تكون مقنعة في هذا الزمن المحتدم بالمعرفة والمعلومات والاتصالات السريعة؟

إن التحصن بنظرية المؤامرة من جانب الكثيرين عندنا لا يعني سوى الضعف والجهل، ولا بد من فرز المادة العلمية عن المادة المؤدلجة المدببة، سواء عند المستشرقين أو عند الأكاديميين، لا بد من منهجٍ صارمٍ في تحليل طروحاتهم وتفكيك مرجعياتها الأيديولوجية (الدينية والسياسية) البعيدة الجذور. ولعل أخطر ما نسلكه هو الرد الأيديولوجي عليهم متهمين إياهم، بعموميات فجة، بأنهم جزء من مخططات استعمارية وغيرها، وقد نصل إلى ما يشبه هذا ولكن ليس عبر الجهل والصراخ ولكن عبر العلم والمنهجية العلمية.

نحو منهج نقدي علمي

ربما كان (المنهج التنقيحي) الذي كان أهم رواده، جون وانسبرو ومايكل كوك وباتريشا كرون، هو أكثر المناهج شيوعًا، فهو يعتمد على مصادر غير عربية أو على النقوش الأثرية حصرًا في بناء هذه السردية. نقطة ضعفه في اعتماده على المصادر غير العربية تكمن في أن هذه المصادر هي روايات أيضًا، على الرغم من أنها قريبة أكثر من زمن بداية الإسلام، لكنها تحمل طابع المرويات، المخطوطة في الأغلب، وهي بذلك تتمثل صيغة ومنهج المرويات التي تبالغ وتنقل الأخبار عن طريق السماع لا التثبت، وتكرر ما هو شائع… إلخ. فلِمَ نكذب المرويات العربية ونصدق المرويات غير العربية؟ وإذا كان زمن ظهورها هو العذر فالأفضل أن نذهب للنقوش والكتابات على الصخور والأحجار من ذلك الزمان!

وهذا هو السبيل الثاني للمنهج التنقيحي، لكن النقوش لا تخبرنا بشيء واضح، فهي مكونة من كلمات قليلة لا يربطها رابط، في أغلب الأحوال، وتكون خالية من المضمون المهم الذي نبحث عنه، ويندر أن تقدم لنا حقائق تاريخية لفك لغز بداية الإسلام. وربما يكون الحل في العملات وما نقش عليها وهو أمر مبتسر تختلط فيه الأسماء ولا نعرف منها الكثير على الرغم من أهمية أن تكون هي إحدى الوسائل وليس كلها.

المطلوب هو تنقيح الرواية أو المرويات العربية، ومعها المرويات غير العربية التي ظهرت في حدود تاريخ المرحلة، عن الإسلام المبكر، وإخضاعها للجدل العلمي الدقيق والوصول لسردية تقريبية عن هذه المرحلة، وهو ما يمكن أن يساهم فيه المفكرون التنويريون العرب والمسلمون.

وسأضرب مثلًا واحدًا لأذكر الجميع بما أنتجه تيار التنقيحيين (أو المراجعين) فقط، بل سأذكر بما أنتجته رائدة المنهج التنقيحي (باتريشيا كرون) التي وضعت كتبها في هذا المجال ابتداءً من أطروحتها للدكتوراه المعنونة بـ«الموالي في الفترة الأموية» بإشراف المستشرق المعروف برنارد لويس. ثم كتابها المعروف «الهاجرية» مع مايكل كوك، ثم «العبيد على الخيل: نشأة الدولة الإسلامية» و«والقانون الإسلامي والروماني» و«التجارة المكية»، بعدها اشتغلتْ مع مارتن هيندز على فكرتها المثيرة للجدل «خليفة الله» حول المفهوم المبكر للسلطة الدينية في الإسلام. ثم عملت بالتعاون مع نوفين دوستدار على إصدار سلسلة من ثلاثين كتابًا تحت عنوان: «صانعو العالم الإسلامي» التي غطت من خلالها ترجمة مجموعةٍ من الشخصيات التاريخية الإسلامية.

فهل تابع مؤرخونا هذه الكتب؟ هل وفروا الحوار العلمي لها؟ هل انتبهوا للعدد الكبير من المؤرخين الذين معها في التيار التنقيحي وغيره من التيارات الجديدة التي ناقشت موضوع الإسلام؟ لذا نرجو ألا نتنابز مع هؤلاء بطريقة فجة وسطحية، بل يجب توفير سبل الدرس العميق لطروحاتهم والحوار معهم في قلب المشكلة لا في حواشيها.

نحو سردية وهوية جديدتين

إن إلحاح الهوية ليس له دور في هذا التشكيك الذي لا يؤدي إلى طمس الهوية بدواعي الليبرالية وحرية الرأي والبحث العلمي، ونرى أن الهوية القائمة على الوهم والأخطاء التاريخية هي المرشحة للاهتزاز وللزوال والطمس، لذلك نحتاج إلى هوية وسردية قائمة على العلم والآثار مع الحفاظ على الأساطير المؤسسة لها، لا بوصفها حقائق أو مسيرات أيديولوجية، بل بوصفها لمسات أدبية مطلوبة لشيوع وتمكين السردية من القبول العام والتداول المدروس. والقصد من هذا أن الفصل بين التأريخ والأسطورة مطلوب، والمطلوب أكثر تقديمهما في طبقين منفصلين، نعرف سلفًا أن أحدهما للعلم والآخر للأدب.

العلم هو الذي يحفظ الهوية ويكرسها في هذا العصر، أما الخوف والأيديولوجيات الصلدة فتفككها وتدمرها. لذلك تأتي مطالبتنا في هذا الإطار لكي نكتب لنا هوية جديدة قائمة على العلم والفهم العقلاني المدروس والعميق من دون أن نفقد خصائص الأسلوب والطريقة وروح المضمون وجماليات الأداء الخاصة بنا.

أريد أن أوسع الأمر وأقول: إننا في حاجة لسردية جديدة تحلّ محلّ السردية القديمة التي كانت صالحة للكتاتيب والمساجد القديمة، سردية مبنية على علم الآثار وعلم التاريخ لا تفرطُ في خصوصيتنا، ولا تُهين تاريخنا، بل تشذبهما من أشواك المبالغات وكراهية الآخر والتعصب والتزمت والانغلاق.

السردية العربية الإسلامية، خاصة، يمكن أن تقوم على مصداقية آثارية، وعلى مصارحة كاملة فيما يخص حقائق الأمور ودقتها، وعلى كشف العيوب مثلما على كشف المآثر، ويجب أن تتضمن نقدًا واسعًا لذوي السلطان والجاه والحياة السياسية، وأن تعمل على كشف المضامين الحضارية التي أنتجتها الشعوب الإسلامية من دون انحياز عرقي وقومي، وبخلاصةٍ شديدة يجب التخلي عن الطريقة السردية القديمة وإنتاج سردية جديدة تضع الأمور في نصابها.

من هذا المنطلق سيكون موضوع «الإسلام المبكر» فاتحة مهمة لهذه السردية في عصرها الوسيط خاصة. ولا شك أن هذا يستدعينا الذهاب لمرحلة ما قبل الإسلام والحديث عنها بطريقة مشابهة، والتخلي عن الوصمة المخجلة لما عُرِف بـ«عصر الجاهلية» حيث لا بد من التخلي عن هذه الصفة الجاهلية لصالح تحقيب علمي دقيق يقوم على المراحل الصحيحة التي تجمع علم الآثار والتاريخ والحضارة في صياغة واحدة.

الهروب من هذه المشكلات يضعنا في خانة الجهل، ويجعل غيرنا يتحكم في تأريخنا وفينا، ولا بد من شحذ الهمم وفق أسس علميةٍ صحيحة، ونبذ الملاسنات الأيديولوجية والتعصبية في هذا الموضوع، وسيكون هذا بمنزلة انطلاقةٍ جديدة رصينة تكون في صميم الموضوع وليس في هامشه.


الرواية الرسمية في كتابة التاريخ العربي الحديث وأيديولوجية الدولة الأمة

موليم‭ ‬العروسي ‬مفكر‭ ‬مغربي

نشأ العدد الأكبر من دول ما يسمى العالم العربي اليوم بعد الحقبة الاستعمارية. لم تكن الدول التي نعرفها راهنًا داخل الجامعة العربية كيانات سياسية قائمة الذات باستثناء القليل وعلى رأسها المغرب. على العكس من ذلك كان العالم الإسلامي فضاءً روحيًّا يحتمي بداخله كل الناس الذين اختاروا أن يسكنوا إليه.

نعرف كيف تشكلت دول الشرق الأوسط ومعظم دول شمال إفريقيا ابتداءً من العشرية الثانية للقرن العشرين وكيف أن أوربا لعبت دورا أساسيًّا أولًا في تأسيس أيديولوجية «العروبة» وبعدها أيديولوجية القومية العربية. فما كان بالأمس مناطق تخضع لسلطة مركزية واحدة دينية بمكة وسياسية عسكرية بإسطنبول، أضحى كيانات متعددة، كلٌّ منها يقرر ويحاول تسيير شأنه بمعزل عن جيرانه حتى إن كان ذلك بمساعدة الأجنبي. أي أن الكيان الكبير الذي كان يتأسس على الإسلام تفكك.

كل هذا التفكيك من طرف أوربا كان يسعى إلى السيطرة على هذه المناطق وإضعاف الدولة العثمانية التي كانت تبسط سلطتها على معظم مناطق ما يسمى اليوم بالعالم العربي. تكونت الكيانات الواحد تلو الآخر وسُطِّرَتِ الحدود على أساس إضعاف الطوائف والعشائر وتفكيك الثقافات والعادات والعقائد المحلية. وحاول كل كيان أن يؤسس لتاريخ يختلف عن تاريخ جاره، وأن ينحت له شخصية وهوية تختلف عن أخيه الذي اختِيرَ له أن يكون في الجهة المقابلة.

وعلى الرغم من أن المستعمر الذي خط الحدود حاول جاهدًا أن يقوم بتقطيع أوصال بذور الوحدة داخل ما أصبح يسمى بالوطن الواحد، كيفما كان مصدرها حتى لو تطلب ذلك رسمًا للحدود يتنافى والمنطق والحس السليم، فإن التاريخ الرسمي لهذه الكيانات حاول أن يدخل كل ساكنة الكيان في رواية تاريخية واحدة تختلف حتى عن تاريخ أفراد العشيرة أو الطائفة نفسها المتواجدين في الكيان المجاور. ولم تختص الدول العربية وَحْدها بهذا الأمر؛ فقد شاهدنا ما حدث في دول البلقان والكوريتين وتايوان مع الصين، والصين مع حضارات وثقافات داخل الصين الكبيرة نفسها ومجمل الدول الإفريقية مع بعض الاستثناءات بالطبع.

أثر الأيديولوجيا في التاريخ

نعرف أن التاريخ الرسمي روايةٌ تُحَرَّرُ وتُدَعَّمُ بالحجج والوثائق صحيحة كانت أم غير صحيحة. لكن إن كان الأمر عكس ذلك، فإن المؤرخ، إنْ تَسلَّح بالمناهج المسماة علمية، لا بد أن يحمل فكره بعضًا من أفكاره الأيديولوجية، ولا بد أن يتماهى من دون شعور منه مع جزء ولو قليل مع الروايات الرسمية. هذا ليس بالجديد، ذلك أن نقد الروايات والسرديات الكبرى كانت محط انتقاد من طرف فلاسفة عديدين لكن الأمر هنا يختلف؛ إذ يتعلق الأمر بالكتابة داخل نطاق معين وفضاء تاريخي محدد.

نعرف أن معظم الدول العربية ظهرت بعد الحقبة الاستعمارية كما أسلفت، ولذلك فإنها كدول جديدة تحاول أن تؤسس أمة لذا فإنها لا تعدو أن تعيد كتابة تاريخ جزء مما كان يسمى الأمة الإسلامية. ليست كل الدول التي نسميها اليوم بالعربية عربية تاريخيًّا؛ ذلك أن مفهوم العروبة جديد، وتأسس على أنقاض الإمبراطورية العثمانية كما سبق. تأسس الفضاء الذي نسميه اليوم عربيًّا على أساس وَحْدة الدين، ولم تكن القرى والبوادي والأمصار الخارجة عن محيط المدن والعواصم الكبرى تتكلم العربية ولا علاقة لها بالشعوب الأخرى التي اعتنقت الإسلام ودخلت تحت لواء الدولة المركزية التي كانت تحكم باسم الإسلام أينما كانت.

من جهة أخرى، وعلى الرغم من أن التاريخ يحاول أن يقدم نفسه كعلم، أي فرع من العلوم الإنسانية، فإنه ليس هناك ضمانة على منع الأيديولوجية من أن تتسلل إليه. وعلى الرغم من كل هذا فلا بد من التفريق بين المؤرخ المُعْتَمَدِ للسلطة، والمؤرخ الباحث الأكاديمي الذي لا يشتغل تحت إمرة سلطة سياسية. لكن الأمر يصبح أكثر تعقيدًا عندما نتساءل: من يكون هذا المؤرخ الحر البعيد من أمور السياسة، الذي يتعامل مع الوثائق ويستنطقها بكل تجرد؟

في الوقت الذي كان المؤرخ ينتمي لمدينة أو عشيرة، أصبح ينتمي لكيان له عَلَمٌ ونشيد وطنيان يختلفان عن عَلَمٍ ونشيد ابن عمه وابن عشيرته الذي ينتمي إلى كيان آخر، ويحمل هوية إدارية مختلفة، مع أن هويته الثقافية والعقيدة هي مثل هوية ابن عشيرته. هل سوف يتجرد من كل هذه الحمولة الرمزية ليبحث عن الحقيقة وحدها أم إنه سوف يدافع عن الهوية الجديدة؟ أضف إلى ذلك أن مجمل الكيانات العربية تأسست بمشاكل مرتبطة بالحدود وبمطالبات ترابية. ترك المستعمر هذه القنبلة الموقوتة لاستعمالها عند الضرورة؛ لذا يصعب على المؤرخين أخذ المسافة اللازمة من هذا التصور الجغرافي الذي أصبح مكونًا أساسيًّا من تاريخ أمته الجديدة.

لكن الحدث الأبرز هو ظهور عنصر جديد في هذا الفضاء الرمزي المسمى عالمًا عربيًّا الذي تختلط فيه مشاعر الانتماء للأرض بمشاعر الانتماء لتاريخ معجون بمشاعر العقيدة. هذا العنصر الذي ظهر في الحقبة التي بدأت تنشأ فيها هذه الدول كأمم هو دولة إسرائيل التي جعلت العديد من العرب والمسلمين يحسون وكأن هويتهم وكيانهم أصبحا في خطر؛ لذا وعوض أن تتأسس الأمة العربية الجديدة الناشئة على أنقاض الدولة الإسلامية على أسس دنيوية كما هو حال تأسيس عدد من الدول الحديثة، اضطرت لتبني الدين كمرتكز أيديولوجي لتتأسس عليه. وتأسيسها على الرواية العربية النابعة من الدين جعلها تعيد تكرار المرويات التقليدية للدول التي تعاقبت على حكم العرب المسلمين وغير المسلمين. لن نعود هنا طبعًا إلى نقد المرويات الكبرى للدول الإسلامية التي اختلط فيها الدين بالشخصي بالميثولوجي.

لذا كان من الضروري لعدد من السياسيين الذي تكفلوا بإنشاء هذه الدول أن يختلقوا مفهومًا مُوَحِّدًا ممركزًا يكون قريبًا من العقيدة؛ فكانت العروبة وبعد ذلك القومية العربية. وبنظرة فاحصة على مكونات المجتمعات المسماة اليوم عربية لن نعثر إلا على عدد قليل جدًّا من هذه الكيانات التي يمكن فعلًا أن نسميها عربية. هذا التعريف أي الانتساب إلى العروبة كمبدأ مطلق يكاد يكون ميتافيزيقيًّا، مَثَّلَ عُنْفًا رمزيًّا على عدد من الشعوب والثقافات التي كانت تتعايش تحت راية الإسلام لكنها لم تكن قط ترفض العنصر العربي الذي تتقاسم معه الدين وتختلف معه في العادات الأخرى.

الهوية والاحتلال اللغوي

لا بد أن نعرف أن علوم الإسلام كانت تدرس إلى حدود الخمسينيات في عدد من المدارس العتيقة في المغرب باللغة الأمازيغية، وتخرج من هذه المدارس عدد كبير من العلماء الذين خدموا العقيدة. لكن مع حدوث الأيديولوجية العربية المعاصرة، وخصوصًا كما وضعها منظرو حزب البعث بشقيه، وكذا التيار الناصري بمصر سوف يبدأ التخلي عن هذه المدارس واستبدال التعليم بها باللغة العربية النمطية المسماة فصحى.

لكن ما الحجج التي أسس عليها هؤلاء الأيديولوجيون رواياتهم التاريخية القائلة بعروبة هذه المنطقة من المحيط إلى الخليج؟ قامت كل جهة بتأسيس روايتها التي تَصِلُها بالعروبة. وتكلف عدد كبير من المؤرخين والكتاب والمفكرين والسياسيين والفنانين والجغرافيين وعالِمِي الآثار والمنقبين بإيجاد الأدلة حتى لو كانت ضعيفة أو اختلاق بعض منها عند الضرورة.

نعرف أن المنطقة المسماة شمال إفريقيا التي تمتد من مصر إلى المغرب عاشت على مدى عصور طويلة تتجاذبها الحروب من الشمال والجنوب والشرق، وأن معظم سكانها من الأمازيغ. هذه حقيقة ما زالت ثابتة إلى اليوم، ولم تظهر وثائق جديدة لتكذيبها. ولهؤلاء الأمازيغ لغتهم وتقاليدهم وعاداتهم وتاريخهم الذي يختلف في مناحي عدة عن العرب. فكيف كَيَّفَ هؤلاء الأيديولوجيون تاريخ هذه المنطقة بكاملها؟

درس أبناء هذه الأقطار في كتب التاريخ وفي شتى مراحل التعليم أن الأمازيغ جاؤوا إلى شمال إفريقيا من اليمن. ولم يختلف المؤرخون الأيديولوجيون إلا في الطريق التي سلكها هؤلاء النازحون من جنوب جزيرة العرب، فهناك من قال بطريق الحبشة، وهناك من قال بطريق مصر، وآخرون حاولوا ضرب عصفورين بحجر واحد فدمجوا الأمازيغ واللبنانيين وقالوا: إنهم توقفوا في لبنان قبل أن ينطلقوا إلى إفريقيا. بل إن إفريقيا نفسها، وفق الاتجاه الأيديولوجي نفسه؛ قد أخذت اسمها بفضل عربي يسمى أفريقش استوطن القارة فسُمّيت كلها باسمه. والبرابرة -أي الأمازيغ- كما كان يسميهم أعداؤهم قَدْحًا، سموا كذلك وفق النهج نفسه؛ لأن عربيًّا، يعدُّونه جد الأمازيغ، ذهب إلى إفريقيا فلما سألوا عنه قالوا: «بَرْبَرَ» أي أنه أسلم وجهه للبراري ومن ثم، وفق التفكير نفسه، سمي أبناؤه بالبربر.

هذه الكتابة التاريخية التي حاولت أن تُوَحِّدَ ما تفرق من الشعوب بسبب اللسان، ولكن أيضًا بسبب العادات والتقاليد والموسيقا والمطبخ واللباس حتى الممارسات الروحية والعقدية… هي التي طبقت بحذافيرها على الأقباط والدروز والأكراد… وأهل نوبة مصر… وشعوب السودان والصومال وتشاد وموريتانيا… وهي الأيديولوجية نفسها التي كانت سببًا في عودة المد الهوياتي بطرق عنصرية ضد العنصر العربي محملة إياه كل ما لحق بها من بؤس ودمار. وهذه الهوية هي التي تنص عليها الدساتير العربية، تلك الدساتير التي لم يطلب رأي الناس فيها بالطرق الديمقراطية المتعارفة.

ما السبب إذن في اعتماد هذه الروايات؟ وما الفرق بينها وبين ما يلقنه الإسرائيليون لأبنائهم وخصوصًا في المدارس ذات النزعة الصهيونية؟ نتابع باهتمام كبير تلك الحرب التي تشنها إسرائيل على الموروث العربي الإسلامي مُحاوِلةً استلابَه وتحويله إلى إرث يهودي بحت حتى تجد لنفسها هوية منغرسة في تربة الشرق الأوسط الثقافية والحضارية، وتقدم نفسها على أنها أقدم الحضارات في المنطقة. وتجد إسرائيل في الإقصاءات التي تمارسها الأنظمة باسم العروبة ذريعة للتدخل في شؤون دول المنطقة بزعم الدفاع عن الأقليات.

الرواية الرسمية وتقديس العروبة

إذا كان لا بد أن نسمي هذه المناطق عرضًا مناطق عربية فمن المفروض أن نقوم بتصفية كل ما ليس عربي. وهذا بالفعل ما تقوم به الكتابة التاريخية الرسمية حيث إنها تحاول أن تجد لكل شخصية ولكل حدث تاريخي يخدم اتجاه الدولة جذورًا في العروبة. وهذا الطرح تسلل إلى كتابة عدد من المؤرخين المعروفين بيقظتهم الفكرية من أمثال عبدالله العروي. فلقد عمد هذا المؤرخ إلى تأليف كتاب في بداية ستينيات القرن العشرين حول الأيديولوجية العربية المعاصرة.

انطلق العروي من بديهية أن العروبة شيء قائم ولا مجال لإعادة النظر فيه، وكل ما سيحاول هو العثور على خيط رابط يجمع بين ما اختلف من أفكار لدى مفكرين منهم من كتب بالعربية وآخرون كتبوا بلغات أوربية، لكن القاسم المشترك بينهم هو انتماؤهم لعنصر يرى المؤرخ أنه عربي بفعل بطاقة الهوية. لا داعي للقول بأن عبدالله العروي كان يعيد إنتاج أحد منظري الدولة المركزية في القرن التاسع عشر، يتعلق الأمر بالفيلسوف الألماني هيغل؛ لذا فإنه كان يمحو كل ما تعارض مع مفهوم الوحدة ومع المفهوم الذي تبناه للكتابة.

فكرة الأيديولوجية العربية سوف تتحول على يد مواطنه محمد عابد الجابري إلى عقل عربي؛ وإن كان الفارق بين الرجلين كبير جدًّا على مستوى الطرح المنهجي. فعبدالله العروي أكثر صرامةً في التفكير بينما تغلب الأيديولوجية على عابد الجابري. ولذلك تظل مشكلة الموضوعية قائمة عند كتابة التاريخ لكنها تصبح مفضلة عندما يتعلق الأمر باستعمال الرواية الرسمية.


في وقائع نقد الرواية الإسرائيلية الرسمية لقضية فلسطين

أنطوان‭ ‬شلحت ‬باحث‭ ‬فلسطيني

تسبب سن الكنيست الإسرائيلي (البرلمان) يوم 19 يوليو 2018م، لما يسمى «قانون القومية الإسرائيلي»، من بين أمور أخرى، في استئناف الجدل داخل مجتمع دولة الاحتلال بشأن الحركة الصهيونية وعقيدتها الأصلية. ويُعرف هذا القانون الأساس إسرائيل بأنها «الدولة القومية للشعب اليهودي»، ويمنح أفضلية للغة العبرية على اللغة العربية، ويعطي أولوية للاستيطان اليهودي، كما يمنح حصرية تقرير المصير في فلسطين لليهود فقط، ويَعُدّ القدسَ الموحدة عاصمةً أبدية لإسرائيل.

وقد برزت في خضم هذا الجدل أصوات كثيرة أبدت معارضتها لـ«قانون القومية» من منطلق أنه «يتضاد»، في رأيها، مع «أسس العقيدة الصهيونية»، بل زعم بعضهم أن «القانون يحول الصهيونية إلى عقيدة عنصرية»، بما يوحي بأن ثمة قناعة راسخة بأنها ليست كذلك.

وربما تستدعي هذه الطعون إعادة الالتفات إلى جوهر الحركة الصهيونية وإلى ماهية عقيدتها الأصلية. وبطبيعة الحال فإن هذه المسألة تراكمت بشأنها إلى الآن دراسات كثيرة عربية وعالمية يجمعها في الأساس قاسم مشترك هو تأكيد كون تلك العقيدة عنصرية بامتياز. وما يهمنا من هذه الدراسات هنا، ارتباطًا بمحور البحث الذي ننوي الخوض فيه حول نقد الوثيقة الرسمية، هو دراسات أنجزها باحثون يهود وإسرائيليون، وآذنت بوجود نقد أو استئناف على الرواية الرسمية للصهيونية، عقيدةً وممارسةً.

ولا بُد من القول: إن هذا التراكم جاء أيضًا على خلفية دراسات سابقة بهذا الصدد كان لها قصب السبق، وتحديدًا على مستوى الدراسات التي وضعها باحثون يهود وإسرائيليون، ولعل أبرزها ما وضعه جرشون شفير، وهو عالم اجتماع يهودي إسرائيلي وأستاذ في جامعة كاليفورنيا في سان دييغو. ومنها مقالة ظهرت في كتاب «المجتمع الإسرائيلي: وجهات نظر انتقادية» (صدر باللغة العبرية عن منشورات «بريروت»، 1993)، من إعداد وتحرير الباحث أوري رام. وهي معتمدة، في الأساس، على كتاب لشفير صدر بالإنجليزية بعنوان: Land, Labour and Origins on the Israel-Palestinian Conflict 1882-1914,. وقد ظهرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب عام 1989م عن منشورات جامعة كمبريدج؛ ثم صدر في طبعة ثانية باللغة نفسها عام 1996م.

تأريخ جديد للاحتلال

كما هو شأن كتاب شفير هذا، ثمة كتب عدة لمؤرخين وعلماء اجتماع وباحثين إسرائيليين لا تزال، حتى الآن، تمارس حقها في البحث والسجالية بلغات أجنبية فقط. ولعل دافعي الرئيس للتنويه بهذا الأمر، الذي قد يتراءى إلى بعضٍ عديمَ الأهميةِ، هو كونه يمثل أحد جوانب المجابهة المباشرة، من طرف المؤسسة الإسرائيلية، مع الاجتهادات العلمية غير المفطورة على الإجماع الصهيوني بشأن السردية التاريخية للقضية الفلسطينية؛ وهو جانب عدم الالتفات إلى وجود هذه الاجتهادات، جريًا على طريقة «القتل بالإهمال».

إن أهم خلاصة يتوصل إليها شفير في هذه المقالة، وفي كتابه عمومًا، تتمثل في أن الحركة الصهيونية، منذ أولى بدايات مشروع الاستيطان اليهودي في فلسطين، احتقنت بطابع استعماري- كولونيالي إزاء الفلسطينيين سكان البلد الأصليين وأصحابه. ومن الإثباتات المبكرة على هذا الاحتقان يستشهد المؤلف، من ضمن أشياء أخرى، بوقائع المواجهة التي حدثت بين آباء الهجرة اليهودية الأولى وبين آباء الهجرة اليهودية الثانية -وهما الهجرتان اللتان ترتب عليهما مشروع الحركة الصهيونية لاغتصاب فلسطين- حيال ما ينبغي أن تكون عليه المقاربات الصهيونية إزاء شعب فلسطين.

وهو يتوصل إلى نتيجة مؤداها أن تلك الوقائع لم تكن، في جوهر الأمر، أكثر من مجرد اختلاف بين بدائل مختلفة للاستعمار الكولونيالي في سبيل اعتماد «البديل الأفضل» لإنجاز استعمار فلسطين، كولونياليًّا، من طرف الحركة الصهيونية وتيارها الرئيس المتمثل في ذلك الوقت بـ«حركة العمل». واكتسبت هذه الخلاصة أهميتها في حينه، كما تكتسب أهميتها الآن، من مناخ سياسي عام يجتهد من أجل إرجاع جذور القضية الفلسطينية إلى حرب حزيران/ يونيو 1967م فحسب، في محاولة للهروب إلى الأمام مما سبق ذلك العام من أحداث تعود في أصولها إلى سنوات تأسيس الحركة الصهيونية وإلى الطابع الكولونيالي لهذه الحركة.

ربما من الواجب أن نشير أيضًا إلى أن كتاب شفير المذكور صدر بموازاة صدور كتب أخرى لمؤرخين إسرائيليين أمثال، بيني موريس، وآفي شلايم، وإيلان بابه. وقد عُدّت تلك الكتب الأربعة في عداد أول قطاف لموجة ما اصطلح على تسميته بـ«التأريخ الإسرائيلي الجديد»، المغاير بكيفية ما لـ«التأريخ القديم». ورأى بعضٌ أن يُرجع هذا «التأريخ الجديد» إلى عاملين رئيسين:

الأول: نشوء رعيل جديد من المؤرخين الإسرائيليين لديه قدر ما من الجهوزية للتسليم بجزء من الانتقادات الأخلاقية والسياسية، التي وجهت إلى إسرائيل عقب عام 1967م (في إثر احتلالها وممارسات عسكرها في الأراضي الفلسطينية)، وهو ما أدى بهذا الرعيل إلى إعادة فحص المرحلة التي سبقت ذلك العام (1967م)، بل محاولة الربط بين المرحلتين.

الثاني: إماطة اللثام عن وثائق من عام 1948م، وكانت حتى ذلك التاريخ -أي النصف الثاني من ثمانينيات القرن العشرين الفائت- في طي السرية التامة. كما أنه لا يجوز عدم أخذ الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي اندلعت في تلك المدة (بدءًا من عام 1987م) في الحسبان.

ولكن ما ينبغي قوله هو أن جرشون شفير يفترق عمن ذُكر من الباحثين بعودته إلى فحص ما يسميه «جذور الصراع الصهيوني- الفلسطيني»، وهي عودة كانت حتى موعد تأليفه لكتابه هذا لا تزال مقتصرة عليه، وعلى قلائل من الباحثين أمثاله، وفي مقدمهم الباحث النفساني بنيامين بيت هلحمي، الذي سبق شفير في هذا المضمار. يُضاف إلى ذلك أن المراجع الأرشيفية، التي يستعين بها شفير في هذه المقالة، شأنها شأن المراجع الأرشيفية في كتابه الكامل، لم تكن من بين تلك التي أميط عنها اللثام في المدة المذكورة. وإنما كانت، قبل ذلك، مفتوحة أمام مرمى أبصار المؤرخين والباحثين. وعلى الرغم من كونها كذلك، فإن شفير يعترف بأنها تطلبت منه «قراءة جديدة للمواد القديمة»، في سيرورة يُراد لها أن تعيد إلى هذه المراجع ما سبق أن غاب- أو جرى تغييبه عمدًا- عن أعين القراء السابقين. وكل ذلك حدث قبل أن ينكفئ كثير من رموز تيار «التأريخ الجديد» على أنفسهم تحت تأثير عوامل عدة أبرزها، إن لم يكن الأبرز، هو عامل الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي اندلعت في أيلول/ سبتمبر 2000م.

الموقف من الكولونيالية

كذلك يجدر القول: إنه حتى ظهور مقاربة شفير المُعَبَّر عنها في مقالته هذه، كان المنظور الكولونيالي منبوذًا على نحو يكاد يكون مطلقًا في التيار الأكاديمي الإسرائيلي العام. أما بشكل عام فإن أصداء الفكرة التي تتعامل مع إسرائيل بوصفها مجتمعًا كولونياليًّا لم تجد أصداءً لها داخل المجتمع اليهودي سوى في أوساط جماعات هامشية من المثقفين فقط، وأبرزها جماعة «ماتسبن» (البوصلة) المنشقة عن الحزب الشيوعي الإسرائيلي، التي تشكلت عام 1962م من طرف شبان راديكاليين تركوا صفوف هذا الحزب والتحقوا في وقت لاحق بالأممية الرابعة التروتسكية.

وتؤكد دراسات عدة أن برنامج «ماتسبن» كان أول تعبير عن النظر إلى المجتمع اليهودي في إسرائيل من منظور كولونيالي صريح. ويتكرر حُكم القيمة السالف بالنسبة إلى مقالة شفير هذه في كثير من المناسبات، التي قد تحتاج الإحاطة بها إلى ما هو أبعد من هدف هذا المقال. وبناء على ذلك سأتوقف عند مناسبتين يفصل بينهما نحو عقدين من الأعوام.

الأولى: دراسة الباحث في علم الاجتماع أوري رام المعنونة بـ«الموقف من الكولونيالية في علم الاجتماع الإسرائيلي»، التي نُشِرت عام 1999م ويشير فيها إلى أن توصيف الصهيونية كحركة كولونيالية، حتى المدة التي ظهرت فيها مقاربة شفير، عَدّها تيار البحث الرئيس «نوعًا من التشويه» لهذه الحركة، حيث إن النظر إلى إسرائيل كمجتمع كولونيالي ينطوي، في عُرف ذلك التيار، على اعتراف ضمني بأن اليهود احتلوا وسلبوا أرضًا مأهولة واستغلوا أو طردوا السكان الأصليين، وفي هذا ما يتنافى مع صميم الصورة الذاتية التي رسمها الصهاينة عن الصهيونية بوصفها حركة «شعب بلا أرض يعود إلى أرض بلا شعب». وهو ما عَدَّه «اليسارُ الصهيوني» في إسرائيل منفرًا، الذي كان العرف لديه هو الكلام حول التحرر الذاتي، وتخليص أرضٍ (فلسطين) كانت قفراء بواسطة الكدح، كما أنه عَدَّه منفرًا بالقدر نفسه اليمينُ الإسرائيلي الذي دأب على القول: إن «أرض إسرائيل الكاملة» هي مُلك للشعب اليهودي، وهي ملكية لا تقبل الدحض بحكم «الحقوق التاريخية» و«الوعد الإلهي».

الثانية: المناسبة التي تتعلق بإشارة أستاذ الفلسفة اليهودية والتلمود في جامعة تل أبيب يشاي روزين تسفي، في سياق مقال نشره في صحيفة «هآرتس» يوم 11/10/2018م، إلى أن المقولة بأن الصهيونية حركة كولونيالية لا تزال حتى أيامنا الراهنة بمنزلة تابو في الخطاب الإسرائيلي العام. وهي كذلك في رأيه لكون السمة الكولونيالية ما انفكت ملازمة للعقيدة الصهيونية ولم تتحول إلى شيء ما من الماضي، وهو يؤكد أنه في دولة تقوم بسن «قانون القومية» السالف ذكره، وفيها أكثر من نصف مليون مستوطن في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967م، وتتواتر من جانبها مشروعات ترمي إلى تهويد منطقتي النقب والجليل اللتين تقطن فيهما أعداد كبيرة من الفلسطينيين، لا يمكن الكلام حول الكولونيالية الاستيطانية كما لو أنها أمر ينتمي إلى الماضي. وفي ضوء ذلك من المتوقع أن تظل تلك المقولة عرضة للحجب والإنكار تحت طبقات سميكة من علم الاجتماع، ومن التأريخ الرسمي الإسرائيلي.

الغاية من نقد الصورة السائدة

إجمالًا، يمكن القول: إن مثل هذا النقد للرواية الإسرائيلية الرسمية يحقق غايتين رئيستين:

أولًا- فتح ما يمكن وصفه بأنه «باب مغلق» أمام المعرفة الإسرائيلية في جل أشكالها المسبقة البرمجة والأدلجة، وهو الباب الذي يشير إلى الأفق الأخلاقي، وذلك بغض النظر عن عدد الباحثين الذين يقتربون من هذا الأفق.

ثانيًا- الاستئناف على سيرورة تسخير المعرفة لهيمنة الرواية السائدة التي أصبحت بعد إقامة دولة الاحتلال هيمنة دولة ومؤسسة أكاديمية ومؤرخين، كما أصبحت أدبًا موجهًا لبناء العناصر الأكثر أهمية في القصة الإسرائيلية التقليدية، التي توصف بأنها «فوق تاريخية» و«أبدية».

ومن نافلة القول: إن تحقيق الغايتين المذكورتين يبقى منوطًا أكثر من أي شيء آخر بجهد الباحثين، وتوقهم إلى المعرفة الأخلاقية، وبالتالي فإن هذا الجهد لا يمكن أن يكون منحصرًا في تعرية منظومة الهيمنة المبطنة في المعرفة السائدة أو الشائعة التي يروجها أصحابها وحسب، بل أيضًا في الإشارة إلى البديل.


ننقد الماضي لنفهمه بشكل أفضل

الواقع ليس به شر مطلق ولا خير مطلق

شريف يونس – مؤرخ مصري

حرية التعبير وحرية البحث العلمي كلاهما يحق له أن يثير الشك في الروايات التاريخية الراسخة، سواء في النصوص الدينية أو الوقائع والأحداث التاريخية، لكن فيما يخص البحث العلمي فله مواصفات ومناهج محددة، أهمها إثبات المراجع والمصادر التي أخذ عنها الباحث أو قام بتحليل وتفنيد ما ورد بها، سواء ما يتفق مع فكرته أو ما يختلف معها، فهناك مصادر يمكن أن تتفق مع الفكرة التي يطرحها الباحث، وهناك ما يناقضها، ولا بد أن يثبت ذلك كله كيلا تكون رؤيته أحادية، وبحثه منحازًا وغير حيادي. ودائمًا حين نقوم بعمل فكري فإننا نفند ما سبقنا من آراء وأطروحات، ونوضح ما قصدته المصادر، ونعرض للآراء السائدة، موضحين إلى أي مدى نتفق مع المصادر والمراجع التي بين أيدينا، وإلى أي مدى نختلف معها، فإذا كانت هناك وجهة نظر سائدة في المجتمع، فليس شرطًا أن تكون خطأ، فالبحث التاريخي قد يؤكّدُ صحتَها ويأتي بما يعضدها، ومن ثم فليس شرطًا أن نختلف مع الروايات السائدة، أو التي نظن أنها خاطئة، لكننا نثبت ما نتوصل إليه من خلال بحثنا في هذا الاتجاه، ومن ثم فإننا في النهاية قد نغير من قناعاتنا أو نختلف كلية مع وجهة النظر السائدة، وذلك وفقًا لمنهج من النقد التاريخي، وليس لانحياز أو هوى.

التطور العلمي

نقوم بعمليات النقد هذه كي نفهم ماضينا بشكل أفضل، فمثلًا جميعنا يعرف أن الماء يغلي عند درجة حرارة مئة، لكن كيف وصل إلى هذه الدرجة من الغليان، وما الفارق بين جزيئات الحالة السائلة والصلبة، هذه الأسئلة يجيب عنها العمل العلمي، ومن ثم فالتطور العلمي ومناهجه تجعل الموضوع محددًا بقواعد ثابتة وواضحة، ووفقًا للتطور العلمي ومناهجه فإننا حين نعيد النظر في الحادثة فإننا نجعل معرفتنا أدق وأوضح. ونفهم من أين أتى الخطأ، ومن ثَمّ نستطيع أن نكوّن حاضرنا بشكل أفضل، فأسوأ الأمور أن نقول: إن العصر الملكي في مصر عصر عظيم أو العكس، فهذا كلام أحادي الجانب، إما مع أو ضد، ولا يوجد في الواقع شر مطلق أو خير مطلق، ومن ثم كلما كانت لدينا عملية نقدية قوية استطعنا أن ننفض الغبار عن تاريخنا، ونعرف حقيقة ما جرى بما له وما عليه، وليس وفقًا لانحيازاتنا، فحين ننظر إلى الصحوة الإسلامية التي تجتاح العالم العربي الآن وكأنها شيء أتى من الهواء أو من لا شيء، فإننا لن نفهم الأسباب التي أدت إلى وجودها، وبالتالي فعملية النقد التاريخي تتجاوز فكرة الخير والشر، سعيًا لتقديم رؤية حقيقية للأمر، وإلا فإن تاريخنا سيكون قد تمزق، ووعينا قد تشوه، وهذه مشكلة التاريخ المعياري الذي ينظر إلى الأمور على أنها خير أو شر، فما يعجبنا هو خير وما لا يعجبنا هو الشر، ولا بد من تجاوز هذه الثنائية.

ضرورة الشك

وبطبيعة الحال فإن التشكيك يحمل نوعًا من الخطر، وأن أي تطور هو في حد ذاته خطر وله آثاره السلبية، فالذين قدموا الثورة الصناعية لم يعرفوا أنها ستلوث البيئة، وهكذا هي التحولات السياسية والاجتماعية، ومن ثم لا بد من المخاطرة لأجل التطور، ولكي يصبح وعينا أفضل، فكل تحول إلى الأمام يحمل نوعًا من المخاطرة، والنقد عملية حيوية من أجل تطور المجتمعات. ولا بد منها من أجل التغيير، فلو رفضنا التغيير تجنبًا للمخاطر، فإننا نكون قد حكمنا على أنفسنا بالموت في مكاننا.

مصادر متأخرة شوّهت الخلفاء الأوائل

بثينة بن حسين – مؤرخة تونسية

تتبع الدراسة العلمية التاريخية منهجًا صارمًا، وتستند إلى وثائق ومصادر موثوق فيها. وأعطي مثالًا على ذلك، وهو دراسة الدولة الأموية من خلال البلاذري والطبري. بينما أعدّ التشكيك في إسلام معاوية بن أبي سفيان، وعدّه مسيحيًّا هو نوع من تشويه التاريخ، وصنع زوبعات لطلب الشهرة بإذاعة أخبار زائفة. وأعتقد أن كل جماعة لديها الحق في المحافظة على هويتها، كأن تحافظ الإباضية من الخوارج على هويتها في البلاد التونسية، وبالتحديد في جزيرة جربة وجبال مطماطة بالجنوب الشرقي. لكنها تبقى محترمة للهوية التونسية كلها، وهو ما يوحد البلاد من شمالها إلى جنوبها. أما العكس فإنه يمثل خطرًا على وحدة البلاد.

يستند البحث العلمي الحقيقي على عمل رصين يقوم على مقارعة للمصادر كالطبري والبلاذري. ولا يمكن للباحث مثلًا أن يستند إلى بعض المصادر المتأخرة في دراسة القرآن والحقبة الإسلامية المبكرة. فقد شوهت هذه المصادر بعض الخلفاء الأوائل كأبي بكر، وعمر بن الخطاب، وعائشة، وهناك استشراق حديث في يومنا هذا يوظف الأيديولوجيا، ويتبعه بعض أشباه المثقفين في العالم العربي لنشر هذه الأفكار، ولا يجدون من يرد عليهم بكل أسف، وبالتأكيد التعصب للمذهب يدفع بالأشخاص إلى تشويه التاريخ.

مشكلة العالم العربي في تعامله مع عالم ما بعد الحداثة

محمد عفيفي – مؤرخ مصري

دائمًا ما يصبح سؤال الشك التاريخي مطروحًا بشدة؛ لأن الأمم تكون مترددة في دخول المستقبل قبل أن تحسم ماضيها، ومع الربيع العربي أصبح هذا الأمر مطروحًا بشكل كبير، ليس في مصر فقط ولكن في سوريا والعراق واليمن وغيرها، وربما يكون انتشار الرواية التاريخية في الآونة الأخيرة جزء من هذه العملية أو دلالة عليها، والشك أو التشكك ظاهرة تاريخية مهمة وحاضرة، وقد يركبها أحيانًا أناس باحثون عن شهرة أو مدعو ثقافية راغبون في المزايدة.

وموضوع التاريخ أمر حساس في المنطقة العربية، لارتباطه بأفكار الدين والقومية وغيرها، ومن ثم يستخدم بعض أحيانًا التشكيك في الروايات الراسخة أو الثابتة من أجل الشهرة. الأمر الآخر أن طريقة تدريس التاريخ في بلادنا طريقة أحادية، فالطالب يستمد التاريخ من كتب المدارس والمسلسلات التلفزيونية، وهذه هدفها محدود وموجه، بينما التاريخ متعدد الأوجه، وبالتالي لدينا مشكلة في الثقافة التاريخية أنها أحادية النظرة، وبالتالي فحين يخرج باحث ويطرح رأيًا مخالفًا، أو مختلفًا عن المعتقدات الراسخة أو الثابتة فإنه يثير كثيرًا من ردود الأفعال، ويواجه بكثير من الانتقادات.

الأمر الثالث أننا لم نتعود في منظومتنا التعليمية على الرأي والرأي الآخر، ومن ثم لا يتعلم الطالب تقبل الرأي الآخر أو المخالف، ولننظر إلى ردود الأفعال حول فِلْم سينمائي مثل فِلْم «ريش»، وكيف انقسم العالم إلى فسطاطين، إما مع أو ضد؛ لأننا اعتدنا في تعليمنا على وجهة نظر أحادية، إما أبيض أو أسود، وهو ما ينتج العديد من المشكلات، وبخاصة أن العالم العربي الآن يمرّ بالعديد من التحولات الكبرى التي لا ننتبه إليها جيدًا؛ لأننا نعيشها ونشكل جزءًا منها.

وهناك العديد من المفاهيم التي وضعتها التحولات الراهنة موضع الشك والتساؤل، من بينها فكرة القومية العربية التي تعيش حالة من المراجعة القوية، سواء بالشكل القديم أو بمحاولة طرحها عبر أطر حديثة، ففكرة القومية تراجعت كثيرًا في بلدان مثل سوريا ولبنان حتى اليمن، نظرًا للهزات الكثيرة التي تعرض لها مفهوم القومية، حتى في السودان الذي انفصل جنوبه عن شماله، ومن ثم فمشكلة العالم العربي الآن في تعامله مع عالم ما بعد الحداثة، وعلينا أن نعيد تشكيل رؤيتنا بشكل يتناسب مع عالم ما بعد الحداثة، وليس هناك بديل عن مفهوم المواطنة في ظل التشكك الكبير في فكرة القومية.

هذا‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬وليس‭ ‬علينا‭ ‬تبريره

حمدي‭ ‬أبو‭ ‬جليلكاتب وباحث مصري

أنا لست مع التشكيك في المرويات التاريخية، أنا مع أن هذا ما حدث، وهناك روايات مشكوك فيها بمقاييس الفقه الإسلامي، وهناك أحاديث يقال عنها صحاح، بغض النظر عن مضمونها وما بها من أفكار أو حتى ألفاظ، فالكلام ليس مهمًّا بقدر صحة السند، وعلى كل فهذه كانت حياة الأسلاف وطبيعتها، وكل فكرتي أنها لا تناسبنا، فلا يمكنني أن أعيش بالطريقة نفسها التي كان يحيا بها شخص منذ ألف وخمس مئة عام، إلا إذا كنا دواعش؛ فداعش وحدها التي تريد أن تعيش وفقًا للحياة التي كانت منذ ألف وخمس مئة عام.

ومشكلتنا في معركة التنوير أن هناك نصًّا مناسبًا لحياتنا الراهنة وممكن أن ننطلق منه نحو الحاضر والمستقبل، وهناك نص آخر إرهابي، هذا الصراع بين النصين وأنصارهما يعطلنا ويجعل معركة التنوير محلك سر، لتدور الحياة بنفس الاتهامات والصراعات التي كانت منذ بداية التنوير حتى وقتنا الراهن، وأرى أن مقاومة الأفكار الظلامية النابعة من التراث، أو الإمعان في التراث كما هو، تسببت في أن العلاج الناجع لهذا التراث الملوث بالدم يحتاج إلى مراجعة، وأن الغالبية العظمى من المسلمين ستنفر منه ومن فكرة إعادة إنتاجه، فتاريخ الفقه الإسلامي هو رحلة طويلة من التهذيب والتبرير؛ لأن ناقلي هذا التراث كانوا موالي أو عبيدًا، فابن إسحاق مولى بني هاشم، ومن ثم فكل ما يقوله سيده مصدق، فأمر مثل ميلاد النبي، بحسب رواية ابن إسحاق، ورد فيه أن عبدالمطلب زوَّجَ ابنه عبدالله من آمنة، وتزوج هو من أختها، فأنجب عبدالمطلب ابنه حمزة بعد عام واحد، بينما لم تلد آمنة إلا بعد أربعة أعوام، ومن ثم فالفقهاء لا يعترفون بخطأ ابن إسحاق ومن نقل عنه، لكنهم يبررون الأمر بأنه من الجائز أن يبقى الجنين في بطن أمه مدة أربع سنوات، ويُتَداوَل هذا الأمر حتى يصل إلى الشعراوي في عصرنا الحديث، الذي يجافي كل المقاييس العلمية التي عاشها ويقول بجواز حمل المرأة مدة أربع سنوات.

التشكيك سمة العصر

غسان حمدان – شاعر ومترجم عراقي

أصبحَ التشكيك بالمُسلَّمات من سمة العصر، وأصبح السؤال هو محور كثير من الدراسات والبحوث والقراءات، فلم يعد السؤال حكرًا على أحد أو محجَّمًا، وهذا بفضل التقدم المعرفي عمومًا. لكنه يجنحُ أحيانًا، ولا يمكنك التثبُّت وقتها من غاية السؤال أو دوافعه، ولا التأكد من سلامة أدوات السائل، فيتحول الأمر إلى عبثية تخريبية وليس استقراء تفكيكيًّا للوصول إلى صور متعددة للرواية الواحدة، ثم المقابلة فيما بينها من أجل رواية جديدة، ليس بالضرورة أن تعارض الأخرى المستقرة تاريخيًّا، لكن تقدِّمها في ثوب جديد تُسلط الضوء فيه على جوانب إنسانية واجتماعية وثقافية أهملتها الرواية الرسمية المرتكزة على الجوانب السياسية والعسكرية في أغلب الأحيان، وهي ذات مثالية فجة وانتقائية فاضحة ونقاء متصنع. وتفتحُ مساءلة الرواية الرسمية الباب على مصراعيه لقراءتها بأعين مختلفة عن السابق الذي قد يدفع ضمنيًّا الباحث إلى التشكيك، وليس بالضرورة أن يكون التشكيك هو غايته. إن المساءلة في حد ذاتها تُضمرُ تشكيكًا غير مُعلن، بيد أن الفيصل في هذا التشكيك آليات الدَّرْس والفَحْص والنتائج التي نصل إليها في آخر المطاف، فلا أهمية للتشكيك لأجل التشكيك، فهو حينًا عبث لا طائل منه، سرعان ما يزول دون أي تأثير.

والتشكيك بالمسلَّمات، وليس بالروايات التاريخية المستقرة فحسب، سمة من سمات عصرنا، لكن إلى أي مدى هي مفيدة فهذا ما يتعيَّن علينا معرفته، وفقًا للمنطلقات والغايات والوسائل الواضحة والصريحة والحقيقية التي يُعلن عنها الدارس، وكما أشرتُ سابقًا لا تنتجُ العبثية المعرفية بأدوات استقرائية ملهمة رؤًى رصينةً، وإن حدث ذلك فهذا محض مصادفة، وأشكُّ في جدوى هذا النتيجة إن أتت؛ لأنها لا تحمل معها الخطوات المؤدية إليها. يشي التشكيك برغبة المرء بالدليل الدامغ وقدرته على التفكير ووضع مسافة، لنسمِّها مسافة الفصل والفحص، تجعله في مأمن من التصديق بكل شيء قبل التمحيص، وهو بهذا يبقى في منأى عن التأثر المباشر بكل الأفكار. ولا يمكن الوصول إلى مرحلة نُشيع بها هذه الآلية في تلقي الأفكار، إن لم يكن هناك تعليم مؤسسي يعزز هذا عند النشء، حتى تتحول لاحقًا إلى نظام حياتي فكري، وليس حركة عشوائية متأثرة ببيئة خارجية، أكثر مما هي نِتاج بيئة داخلية.

ولا يكمن الخطر إلا في شيوع العشوائية والعبثية، وهي من أوجه الجهل الأعمى غير المدرك لذاته، فهو يُخرِّب حاضره دون أن يقوِّمه، ويهاجم ماضيه دون أن يدرسه، ويضع نفسه في مهب ريح مستقبلية ليس هو المسؤول عن فصول هبوبها أو جهاتها. والمحصلة في الأخير مسخٌ لا ينتمي إلى أي مكان، وبلا أي ملامح، والخطر الأكبر يمكن إن استمرَّ على هذا الحال دون أن يستيقظ فيمضي إلى الهاوية قُدمًا جارًّا معه غيره، وإن استيقظَ قد لا يجد الوقت الكافي لإصلاح ما أفسده.

نقد المرويات التاريخية والروايات الراسخة

بكور عاروبشاعر وكاتب سياسي سوري

يقف النقد التاريخي على حافة حادة جدًّا ومؤلمة بين واجب النقد العلمي والانفلات إلى تعميم حالات الرفض لروايات دينية وتاريخية راسخة، فمن ناحية هناك ضرورة ماسة لتجديد الخطاب الديني والتاريخي الذي شوهته الحكايات والروايات والابتعاد من المنهجية العلمية والتوظيف السياسي في مراحل معينة والحروب التاريخية والمذهبية والسياسية سواء في المجال الديني أو السياسي مما وفر مجالًا رحبًا لتقديم روايات كثيرة مشوهة وغير عقلانية متطرفة وموظفة سياسيًّا على حساب الحقيقة التاريخية.

ثم إن تراكم الروايات المشوهة وفاقدة العلمية، والاحتكام في المرجعية الفقهية الدينية إلى مرويات يمكن اختراقها، وعدم الاحتكام إلى الكتاب أساسًا وما وافقه عقليًّا وزمنيًّا ومكانيًّا ومنطقًا ولغويًّا ونفسيًّا وروحيًّا، في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الخلفاء والصحابة من السنة، فتح باب الخلل والتمزق بين مكونات الأمة، وكذلك راكم المقدسات، وجاءت المرويات التاريخية والسياسية أيضًا لتزيد الخلافات، وكذلك تزيد نسبة الوهم في حياة الأمة لتخرج الكثير من الشخصيات التاريخية والدينية عن الطبيعة البشرية المعتادة، والحدود البشرية للبطولة إلى حالات مقدسة وملحمية، تخرج عن كونها شخصيات يمكن الاقتداء بها ومجاراتها وإعادة ولادتها، إلى شخصيات أسطورية غير قابلة للتكرار والولادة والتجديد في الحياة الاجتماعية والسياسية للأمة، وأصبح تراكم مقدسات معطل للفكر والاجتهاد والولادة والتنوير دون تدخلات خارجية، وعطالة للتغيير الداخلي للأمة على المستويات كافة، وانعكس هذا بوضوح من خلال رفض أي حالات حداثوية في الدين والأدب والفكر والمجتمع.

حتى مسار إعادة فتح باب الاجتهاد في المجال الإسلامي مع حركة الإصلاح الديني في منتصف القرن التاسع عشر، فإن هذا المسار لم يلبث أن تعددت اتجاهاته وتنوعت مجالاته لتصل الى مرحلة الصدامية؛ لأنه أخذ موقفًا مؤسفًا في خدمة السيطرة السياسية على حساب الاتفاق العلمي وعمومية التأثير في الأمة ومكوناتها كافة، وهو ما أدى إلى اضطرار مكونات سياسية ودول في المنطقة لاستخدام مفاهيم مناقضة تحت عنوان استغلال الجانب الديني في السيطرة السياسية، فعملت تركيا على نشر الماتردية، وتبنّت مسارات محددة ذات خلفية دعوية كردية؛ لتحافظ على تماسك الكرد مع المجتمع التركي، وغيره من الأمثلة في مختلف دول المنطقة.

على الرغم من علمنا ووعينا بالدوافع اللاعلمية لموجة نقد المرويات التاريخية التي انطلقت مع موجة الاستشراق الكلاسيكي ثم الأنغلوساكسوني، وأنها ألقت بظلال مشوهة على كثير مما قدمه التنويريون العرب والإسلاميون، وما تبع ذلك من عمليات تشويه لكثير من المرويات والشخصيات التاريخية والدينية، فإن الواقع العلمي وضرورات البناء المستقبلي تفرض علينا احترام نقد المرويات، لكن بشريطة أن يتم ذلك من خلال مؤسسات علمية وبحثية مختصة، وإقليمية منفصلة عن التأثير الوطني المباشر في عملها، وأن تأخذ صبغة قومية عربية وإقليمية توافقية علمية، وليس توافقية نفاقية كما جرى في كثير من مؤتمرات تقريب المذاهب، والورشات ذات الخلفيات الدعوية الخاصة بجهة أو فصيل أو حكومة.

(كسر حدة تراكم المقدسات مع ضرورة الحفاظ على قيم الاحترام التاريخي) هذا العنوان من الواجبات المهمة، ومن أهم الضرورات في بناء العملية المستقبلية، بحيث تخرج بالنقد التاريخي إلى مناخ العلم وترسيخ الحقيقة وأنسنة الشخصيات التاريخية والسياسية، وفي الوقت نفسه تحافظ على مكانة هذه الشخصيات انطلاقًا من المفهوم العلمي للناقد التاريخي الأول، رسول الأمة محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، الذي قال: «إنما أنا بشر».

فإن صح ذلك في حقه فكيف نسمح لأنفسنا أن نجعل شخصية مثل السلطان عبدالحميد الثاني العثماني رجلًا فوق العادة الإنسانية، بناءً على الأحلام والرؤى والحكايات التي لا تتسع لها شخصية الرجل.

المرجعية اليهودية كتهمة جاهزة

في هذا الجانب أيضًا نجد أن الفصائل، وخصوصًا لدى الإسلام السياسي والمذهبيات، استغلت حساسية العربي والمسلم من أي انتماء يهودي أو علاقة مع اليهود، لتشوه صورة القادة السياسيين والتاريخيين بل الدينيين الذين يقفون ضد مصالح هؤلاء، ولاحظنا أن هذا الاتهام الذي جاء في عمومه باطلًا يفتقد لأبسط المعطيات، وقد نال من قادة مصر الوطنيين والقوميين وشمل عددًا من القادة العرب المعروفين، والثابت تاريخيًّا أنهم عرب أقحاح نسبًا ووراثة جسدية، وهذا المجال أبرع من استغله الإخوان المسلمون والإسلاميون عمومًا، ليصل بهم الأمر إلى جعل ابن تيمية من أصل يهودي، وامتد الأمر ليشمل أسرًا سياسية في الخليج والوطن العربي كله، وبعض القادة الإقليميين، وكل هذا تحت عنوان تمزيق الأمة، متناسين أن النبي محمدًا كان صهرًا لليهود، وإن بطبيعة ونمطية مختلفة، ولكن تحت عنوان أن الإنسان فوق كل الانتماءات والخلافات.

هذا يفرض احترامًا خاصًّا للقيم الدينية والتاريخية، ولكنّ حكمًا تحت عنوان احترام القيمة العقلية والعلمية والاتفاق العام والأنسنة التاريخية، لتكون هذه الشخصيات نموذجًا يحقق حالة الاستمرارية والنمو، وليس تكريسًا لحالة الحنين التاريخي المعطل الذي وصل بكثير من أبناء الأمة والمنطقة إلى أنهم لا يتصورون تكرار شخصيات سياسية قريبة العهد، ووضعها ضمن هالة التقديس والملحمية المستحيلة وهذا هو البلاء الأعظم.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *