المقالات الأخيرة

“لقاء مارس 02: تواشجات” دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

“لقاء مارس 02: تواشجات”

دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

فيما يشبه الالتزام الأخلاقي والجمالي، تبنى لقاء مارس السنوي، الذي تنظمه مؤسسة الشارقة للفنون، في دورته الجديدة التي انتهت أنشطتها قبل أيام، طيفًا واسعًا من القضايا والموضوعات والنقاشات وعروض الأداء، التي لئن اختلفت وتعددت وتنوعت، إلا أنها تذهب كلها إلى منطقة واحدة،...

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

أمين صالح.. ثورة ناعمة في ميادين الكتابة

بواسطة | يوليو 1, 2021 | الملف

للكتابة عند أمين صالح (1950- )، الذي فاز بجائزة العويس، وقع الثورات الناعمة التي تخاصم العنف، وتنأى عن استعمال الأسلحة بأنواعها، إلا أنها تحقق الغايات الجذرية نفسها للثورة المسلحة. أمين صالح، من دون بيانات ضاجة ولا منشورات تصحبها جلبة، يشعل الثورة تلو الأخرى في ميادين الكتابة، لا يشبه النص لديه نصًّا آخر، ثورة مستمرة بلا هوادة، حتى وهو في عمرٍ، يُهادنُ عادةً كبارُ الكتاب فيه ثوريتَهم ويتخلون عن قلق المغايرة، فيركنون إلى الدعة والطمأنينة، إلى ما سبق أن حققوه في سالف أعوامهم.

هو ثائر في الكتابة، على الجماليات السائدة. ومتمرد حين ينحاز لا إلى قيم السرديات المتجاوزة والكتابة على التخوم فحسب، إنما أيضًا إلى الإنسان البسيط في عذاباته ومواجهاته اليومية مع قوى البطش المتنوعة. يجنح صاحب «أغنية ألف صاد الأولى» إلى كتابة تبدو غير معنية بالصدام مع الواقع وسلطاته، لكن مع قليل من التأمل، يكتشف المتلقي أن صاحب «الطرائد» لم يغادر هذه المنطقة، منطقة الصدام والمشاكسة والاستشراس حتى، بيد أنه يختار طرائق وأساليب وممكنات سردية، سيصعب معها الوقوع، على ما تعودنا الوقوع عليه بصورة مباشرة في كتابات لها الهدف نفسه، صياغة موقف جذري من العسف، الذي يجري على الإنسان وهو يصارع أقداره وحيدًا.

يستعمل مترجم «النحت في الزمن»، السينما، بتقنياتها المذهلة، يوظف الشعر بكثافته وتجريده، يفجر الطاقات الكامنة في السوريالية، يذهب إلى مناطق غير مأهولة في جغرافيا اللغة، ليبتكر نصًّا فريدًا بالمعنى العميق للكلمة، نصًّا ما إن تقرأه حتى تتأثر به، والتأثر هنا لا يعني الكتابة على منواله والتماهي معه، إنما في عدوى الذهاب بعيدًا في المغامرة، واقتراف كتابة تبتعد من المتداول، وتوسع من حدود النص وتحوله إلى مختبر للتجريب، الذي لا ينتهي عند شكل معين.

شيّد صاحب «ترنيمة للحجرة الكونية» كتابة تقوله هو نفسه وترسم صورة لا ينقصها الوضوح له، ثم آثر ككاتب ومبتكر لهذه الحيوية النصية، الانسحاب كشخص، مكتفيًا بصمته وبمقاومته لحمى الإعلام التي تجتاح الجميع، كأنما الحضور في الأضواء لا يليق به. دومًا، ينحاز أمين صالح، في الكتابة والسينما، إلى ما يتخطى المختلف، الذي ألفنا اختلافه، إلى الفريد والعصي، إلى ما يحتاج مقادير من الصبر، وحصة كبيرة من المعرفة المركبة، لاستيعابه وتفهمه.

روائي، شاعر، مسرحي، قاص، ناقد سينمائي، مترجم، كاتب سيناريو، تتعدد الأنواع الأدبية التي خاض غمارها صاحب «ندماء المرفأ، ندماء الريح»، وصنعت منه ظاهرة متفردة في راهن الكتابة العربية.

«الفيصل» تحتفي بالكاتب البحريني الكبير أمين صالح، بتقديم عدد من الإضاءات والشهادات، كتبها مبدعون ونقاد عرب.


أمين‭ ‬صالح‭:‬ عن‭ ‬الدرس‭ ‬الأول‭ ‬والسَّلمندر وتخدير‭ ‬الحواجز‭ ‬وأشياء‭ ‬أخرى

عبدالله‭ ‬حبيب‬ناقد‭ ‬سينمائي‭ ‬عماني

«هذا يعني أن اسم (أمين صالح) مزيَّف فعلًا، وأن شهادة الميلاد (1949) ينتسب إليها أكثر من معتوه ودجَّال ومجرم حرب». (أمين صالح، حاشية على متن «هنا الوردة.. هنا نرقص»، 1973م).

من أي حرف من الحروف، وفي أي جرف من الجروف، يمكن الحديث عنه حدثًا غير هيِّن، والحديث منه حادثًا وَهِنًا يفتُّ الحادثات، والحديث إليه مُحْدَثًا جَلَلًا مُحدِثًا جَدَثًا؟ كيف أنجو من حِمى أخطاره وأنا في بيارق وبنادق المعسكر، أو لدى أيائل وأرامل السِّجن؟ سأخاطر بالقول عنه، و«في المخاطرة جزء من النجاة»، كما حدَّثنا النِّفَّري في غابر النبوءة، ومستقبل الحكمة والقَمْحِ، وسديد النصح. لا أخالني بحاجة ممسوسة لأن أهرش الأيام، والسنوات، والدهور التي في عُبابه مخرتُها، أو أجلو عنها الغبار، أو الزَّبَد، أو الصدأ، أو أحكَّ الأطياف، والأشباح، والأشخاص، والشخصيات كي يندلع البلُّور بهيئة قَصٍّ ينضح شِعرًا، ينضج تفَّاحة أخذتها الهيبة وأصابتها الغُلمة والبُحران فحوَّلها الجلال إلى ملاك يشبه أرنبًا بريًّا تائهًا، وأن أستدعي بوضوح شفّاف وشديد هل، ومتى، وكيف، وكم (وربما لماذا أيضًا) وَصَلَ -بتدرُّجٍ يهذي كقوس قُزحٍ لا يفرض نفسه على أحد سوى الألوان والأفق- اسم أمين صالح إلى حياتي ووجداني مبكرًا، وذلك بوصفه مصدرًا جوهريًّا من مصادر تكوينهما وأنساغ إلهامهما؛ بل والإسهام لاحقًا في إجراء مراجعات حادَّة، والإتيان بشكوك ضروريّة، وإعادة صياغة قناعات وقرارات معرفيّة وإبداعيّة حاسمة ستظل من محرِّكات ومداميك الوجود، والتوق، والقلق، والولع حتى الآن.

كان ذلك في أواخر سبعينيَّات/ أوائل ثمانينيات القرن الماضي، حيث كان اسم أمين صالح واحدًا من صنوٍ أو ثنائيٍّ إبداعيٍّ مقترنًا في القبض على جمر الرُّؤية والرُّؤيا بقاسم حدَّاد؛ فكان يكفي أن يأتي اسم أحدهما في كتابة، أو حديث، أو تذكار كي يحضر الآخر تلقائيًّا مثل الوَبَر، أو كما إستبرق الدم، بصورة سندسيّة أليفة، ومتآلفة، في العمل التأسيسي الهِرَقْلِيِّ الدؤوب الذي قاما به بلا كلل أو ملل في تشكيل هواجسنا، ونحت قرون استشعارنا، وحياتنا، وحساسيّتا الثقافية والفنية، وذلك غُبَّ الحبو المتأتئ في تحرُّكاتنا («تدحرجاتنا» قد تكون كلمة صائبة أيضًا) الأولى على مدارج وتلعثمات الوعي، والتجربة، وتهجيّات الكتابة، والحداثة، والاختلاف، والنَّزق.

وكان ذلك مرتبطًا بدوره على نحوٍ وثيقٍ ليس فحسب بالإصدارات المستقلة لكل منهما على حدة، وهي وفيرة (ولاحقًا أيضًا بعمل أدبي مشترك لهما لا يُنسى هو «الجواشن» 1985م)، وأيضًا بإصدارات أقرانهما المرابطين المثابرين في الخندق نفسه، بل كذلك في الجهد السيمفوني، والكد الجماعي الرصين، والمثابر، والمهم الذي اضطلعت به طيِّبة الذِّكر فصلية «كلمات» التي كانت تصدر بالحثيث من الأمل والحلم، والمتقشِّف من الإمكانيات المادية، والرحب من الاحتمالات الخلاقة عن أسرة الكتّاب والأدباء في البحرين؛ حيث انصهرت في تلك البوتقة الغنيّة –المُفْتَقَدَة بشدَّة كبيرة للأسف من مكتبتنا ومدوَّنتنا الثقافيّة اليوم- مساعي الإبداع والتنوير الثقافي التي قام بها بإبهار بالغ رهطٌ طليعيٌّ من البحرين (عبدالقادر عقيل، الدكتور إبراهيم غلوم، علي الشرقاوي، فوزية السِّندي، يعقوب المحرّقي، نعيم عاشور، خلف أحمد خلف، وسواهم)، وغير البحرين من الخليج السادر إلى المحيط الخائر (أدونيس، محمد بنيس، عبدالكبير الخطيبي، فواز طرابلسي، كمال أبو ديب، عبدالعزيز المقالح، وغيرهم) إن كتابةً أو ترجمةً وسوى ذلك. لقد كانت «كلمات» (لمن يتذكر تلك المرحلة، وأدبياتها، ومعطياتها الرقابيّة في بلدان المنطقة كلًّا بظروفها الخاصة والمُرَكَّبة) تجربة ثريّة، فائقة الألق، وبالغة الأهميّة. وإني أكاد لا أتذكر صدور أي عدد من «كلمات» لم تكن فيه لأمين صالح مشاركة حيويّة سواء أكانت نصًّا إبداعيًّا فاتنًا كتبه، أو ترجمة رشيقة اختارها بعمق تفكير وأجراها بحسن تدبير.

مد نضالي ومنارة للباحثين عن إبداع جديد

من نافلة القول: إن ذلك النَّشاط النَّشري النَّحليّ كان يحدث بالإضافة إلى الاضطلاع والتوازي مع عضويته في هيئة إدارة التحرير؛ وهو ما يعني انخراطه المباشر في المسائل والمسؤوليَّات الإداريّة والإجرائيّة وما يترتب على ذلك من ضرورة الحكمة والموازنة في التعامل مع المساحة الوقتيّة والطاقة العصبيّة. زِد إلى هذا أن ذلك الحراك الثقافي المتوهِّج (في الأدب وغير ذلك من ضروب الكتابة، في المسرح، في الترجمة، في التشكيل، في السينما، في الغناء والموسيقا،… إلخ) كان مرتبطًا بدوره على نحوٍ عضويٍّ ونقديٍّ لا تنفصم عراه بمدٍّ نضاليٍّ عرفته البحرين بصورة متفرِّدة على مدى عقود طويلة من الزَّمن عبر أحداث وبُرهات تاريخيّة معروفة؛ فكانت بذلك منارة حقيقيّة للباحثين عن الأشكال الإبداعيّة الجديدة على أصعدة البوح والتَّعبير، وكذلك للساعين لإيجاد وقائع وبدائل متقدمة في أنسقة الفعل السياسي الاجتماعي الحديث.

لهذا لم يكن غريبًا أن تجد في الحالة البحرينيّة الاستثنائيّة (على نحوٍ بارز أكثر من بقية بلدان المنطقة) أن بعض رموز المحاولة الإبداعيّة والثقافيّة المغايِرة هناك كانت في الوقت نفسه هي رموز المشروع الاجتماعي البديل (قد يكون قاسم حداد هو المثال الأبرز وغير الوحيد على ذلك). في هذا الإطار، وفيما يخصُّني ولا شك أنه أيضًا يخصُّ غيري من جيلي، شكَّلت البحرين حالة إشعاعيّة، ورفاقيّة، وأخويّة (ليس بمعنى جورج أوروِلْ و«1984» لا سمح الله) متَّصلة بالجوهر الأخلاقي والإنساني في الصَّوت والصَّدى، وفي التفاني والتكاتف والتعاضد، في الوجه وفي المرآة، في المودة العفويّة والخاصّة، في تشاكل الخلفيات وتمرئي الهموم والانشغالات، في العطاء السَّخي والإغداق العاطفي والموضوعي غير المشروط خاصّة –للأمانة– بالنسبة لنا نحن العُمانيِّين لأسباب لا يجهلها كل من هو مطَّلع على التاريخ السياسي والثقافي المعاصر للمنطقة، في الإيثاريّة الجمّة، وفي العمل العلني والسِّري على ضرورة ألا يُتْرَك أي أحد من دون رغيف، أو حلم، أو كلمات، أو نجمة.

في الإطار الذي سردته باختصار أعلاه، إذًا، انهمر أمين صالح عليَّ -أنا المغترب اضطرارًا في معسكر للجيش في أبوظبي يبحلق فيه الجنود ببلاهة وتمنيات صادقة بالشِّفاء العاجل والتام إن رأوك تقرأ كتابًا أو مجلّة- بغيومه الجديدة، وأطيافه القرمزيّة، وشظاياه المضيئة. لا بد لي من الاستطراد الضَّروري هنا بالقول: إنه فيما كانت الكتابة الإبداعيّة الجديدة في منطقة الخليج عهد ذاك منغمسة لشتَّى الأسباب والدَّواعي في «التَّعبير» عن الهموم والتطلعات المطلبيّة، الوطنيّة الوجيهة والمشروعة قطعًا -في تَصادٍ طبيعي مع ما كان يعتمل في ديارنا بسبب صدمة النَّفط، وانعدام الثروة، وتواضع الثورة- بدرجات متفاوتة الموهبة، وصدق المعاناة، وأغوار العمق، والاقناع، والإبداعيّة الحقّة، فقد جاء أمين صالح منذ البداية من أقاليم التمرد، والاختلاف، والمشاكسة، والعناد منذ مجموعته القصصيّة التدشينيّة «هنا الوردة.. هنا نرقص» (1973م).

الخروج على أعراف القبيلة

لقد كان صوته منذ البواكير ناتئًا، غريبًا، نافرًا، مضطربًا، ناشزًا، جفولًا، شريدًا، طريدًا (لا عجب والحال هذه، إذًا، في أن اثنتين من مجموعاته القصصيّة تحملان عنوانيْ «الصيد الملكي» [1982]، و«الطَّرائد» [1983])، ناقمًا، حرونًا، يتيمًا، مارقًا (أستخدم كل هذه النُّعوت التقريعيّة بالمعاني الأكثر إيجابيّة بالطبع)، وكأنه «بانثيون» بمفرده في الفرادة؛ لدرجة أن سَدَنَة ودهاقنة الكتابة المباشرة (بغرض التعجيل المتفائل في التغيير، واستمطار الشموس عبر التمني، واستعصار المستقبل من التكلُّسات) من مناضلين متقاعدين بإرادتهم أو مُقْعَدين لأسباب تقعد خارج إرادتهم، وفقهاء لم ينالوا حتى ثلث الزَّلل، ومهذاري مقاهٍ وثرثاري حانات، و«موسكوفيِّين»، و«ماويّين» (وربما «تروتسكيِّين» أيضًا من باب لمِّ الشَّمل، والحفاظ على وشائج المصاهرة بين المحاتد النَّبيلة، والعائلات العتيدة، والحفاظ على نقاوة النَّسل الكريم، والذُّريّة الصالحة، وطُهر الأرومات)، وأنصاف قراء، وأشخاص مخلصين من ناحية الفطرة وأنقياء من حيث المبدأ والسَّريرة، ونُقاد مدجَّجين بالمساطر، والسَّواطير، والخرائط، والشَّواقيل، والمعاجم، والتعاويذ، والحوقلات، وكُتبِ تَعلُّم اللغات في خمسة أيام فقط، وعبيد لله من حَسني نيّة وسيئيها، وواقعيِّين اشتراكيين، واشتراكيِّين لا يعيشون في الواقع ولا يقطنون في المخيّلة، ومن هم على شاكلتهم من كهنة وأوصياء على الكتابة وعلى الوطن، وغيرهم من سلالة الـ«homo sapiens sapiens species»، قد أغدقوا على الضال أمين صالح تهمًا وافرة بالهرطقة، والزَّندقة، والتجديف على العزّة الأيديولوجيّة والعياذ بالله، والحيد عن الطَّريق الصَّحيح، وجادّة الصَّواب، وحُسن الطويّة، واقتراف آثام وكبائر من قبيل الشَّكلانيّة، وضروب السورياليّة، وأصناف العبثيّة، وأمشاج العدميّة (وأظن أن اللائحة قد تضمنت المبايعة والولاء لِزُمَر «الفوضويّة» استطرادًا كذلك، بحيث إني لا أزال لا أدري كيف يمكن لشخص واحد أن يقترف كل تلك الموبقات والذُّنوب من دون أن يطلب أيّة مساعدة من أي أحد)، إلخ من تهم تتعلق كلّها بالمروق، والفساد والإفساد، والخطايا، واستحقاقات العقاب، والنَّكال، والإرسال إلى سَقَر مباشرة ومن دون المرور لحظة واحدة باقتراحات ومراجعات الأعراف.

في هذا الصَّدد يتذكر الجميع أن أمين صالح وتوأمه قاسم حداد قد أصدرا -في وجه حرب الادِّعاء العام وحِراب الأدعياء الخصوصيِّين- مرافعتهما الشَّهيرة «موت الكورس» (1984م) التي يُقران من خلالها، في تبجُّح نادر واستفزاز منقطع النَّظير، بكل ما نُسب إليهما من شرور وكبائر، بل يتوعدان بالمزيد من الانحراف، والكتابة، والعربدة، وإعادة القراءة، والفجور ليلًا جهارًا فجرًا فاضحًا (بَيْدَ أنه، وبعيدًا من القفشات، عليَّ أن أفتح قوسًا سريعًا هنا للقول: إن من مضغوا علكة الثمانينيات بالذهاب إلى أن كتابة أمين صالح وقاسم حداد قد طلَّقت «الهمَّ السياسي»، واستقالت من «الواجب الثَّوري»، ولا علاقة لها بـ«النِّضال الوطني» إنما لامسوا سطوح الأشياء وتمظهراتها الخارجيّة، ووصلوا بتشقيق الأنفس إلى منتصف الطَّريق فقط، وذلك على طريقة «ويلٌ للمصلِّين». لقد كان ذلك عَرَضًا بالغًا مؤسفًا من أعراض سوء الفهم حرفيًّا ومجازًا، ومرارة إضافيّة كان يمكن ألا تحدث في العلقم الفائض عن الكوكب أصلًا. وأستبعدُ أن يكون في ذلك القصور مدعاة للفخر والاعتزاز لأيِّ أحد).

في هذا الإطار الإبداعي، إذًا، سأجتهد أن القصّة القصيرة المعنوَنة «ولم ينتهِ هذا الحلم البلُّوري» (وليس نادرًا من أمين صالح أن يستهل بِواو العطف والشَّفقة علينا) التي كتبها عزيزنا في مارس 1975م وضَّمنها مجموعته الثانية «الفراشات» (1977م) قد أرست بصورة راسخة متينة مثلَّثه التعبيري والوجودي: السَّرد، والسِّينما، والشِّعر (والحال هذه فإن الترجمة في حالته هي مجرد تحصيل حاصل فحسب)؛ ففي القص الذي يحتويه هذا النَّص نجد اقتباسًا لمشهد من مشاهد فِلْم جان-لوك غودار «ريح من الشَّرق»، (هذا الأمين الصالح مطَّلع على عوالم غودار العصيّة في منتصف السبعينيات الخليجيّة الغارقة حتى أجفانها في رَمد السينما المصريّة، والهنديّة، والأميركيّة التجاريّة والاستهلاكيّة)!، كما نعثر -في «ولم ينتهِ هذا الحلم البلُّوري»- على اقتباس من قصيدة «قوس قزح» لبيير ريفيردي. إنني أتحدث هنا عن ورود الشِّعر بالمعنى الحرفي للكلمة بوصفه كِناية عن الفضاء واللغة الشِّعريين أصلًا في سرد أمين صالح (وبهذا المثلَّث الهائل -السَّرد، والشِّعر، والسينما- ستحاول روحي ما وسِعَها أيضًا أضلعها لاحقًا).

الجديد المنبوذ

كان ذلك، إذًا، ما جذبني -أنا الفتى الغر الذي كانت أصابعه وعيناه تتلمس العالم وأشياءه- في أمين صالح: إنه جديد تمامًا، ومنبوذ بالكامل، وقَتْلِيٌّ بصورة لا مناص منها، وانتحاريٌّ على نحوٍ لا ريب فيه. إلى هذا فإني أتخرَّص أني -على عكس ما قد يعتقد معظمكم- تقريبًا لا أعرف أمين صالح بصورة شخصيّة وطيدة، وتقريبًا شعرتُ على طول الخطوط وتقاطعاتها أن ذلك لا داعي له بصورة خاصة، بل هو مجرَّد نَفلٍ من الأنفال زائد عن الحاجة وخارج الاهتمام على الأرجح.

لكن هاكم ما حدث في التسيير وفي التخيير: خلال واحدة من أسوأ فترات التوتر والقلق في حياتي الصغيرة، بعد عودتي الأولى إلى عُمان ضمن ظروف أقل من مثاليّة بكثير كان فيها احتمال الانتزاع من عالم النَّهار واردًا في أية لحظة ليلًا، وفي ليلة كئيبة كالحة كانت تحديدًا وبالضبط في 8 سبتمبر 1985م وجدتني أستنجد بمغلف رسائل أبيض وأملؤه حتى مقلتيه بنداء استغاثة هو عبارة عن حمولة شاحنة صغيرة من رماد سجائري الذي فاض عن البحر القريب من الخرابة الخشبيّة التي كنت أقيم فيها (وقد كان جيراني قطيعًا صغيرًا من الماشية التي ترسل لي هداياها السخيّة من القراد ليلًا، وتسبقني صباحًا مع صاحبها ذي السَّحْنة البدويّة إلى حنفيّة الماء الوحيدة في تلك الواحة الغنّاء من الخشب والصَّفيح في قلب المدينة الحديثة)، ثم أغلقت المغلَّف وكتبت اسم أمين صالح عليه كالأطفال الذين يبعثون رسائل إلى الله. لكن لماذا أتذكر ذلك التاريخ بهذه الدِّقة؟ إنما أتذكر ذلك لأنها كانت الليلة نفسها التي كتبتُ فيها رسالة مطوَّلة بعض الشيء (بالحبر، والكلمات، والأشلاء، والورق هذه المرة( إلى قاسم حداد الذي تربطني به معرفة شخصيّة (ضَمَّنتُها لاحقًا في كتابي الضَّئيل «الفراغ الأبيض الذي سيلي: رسائل»، 2015م)، وقد وضعت الرِّسالتين -«رسالة الرَّماد» ورسالة الحبر (هذا إذا كان هناك فرق)- في مغلف متوسِّط الحجم في اليوم التالي وأودعته البريد إلى البحرين.

هكذا، إذًا، فقد عمَّدت بطريقتي الخاصّة ذينك الشَّقيقين في شقائي. كان ذلك أول تواصل شخصي مباشر (إن كان يصح وصفه هكذا) مع أمين صالح، وحين التقينا شخصًا لشخص في 2008م نسيت تمامًا أن أسأله عما إذا كان قد فكَّ شيفرة نداء الاستغاثة الذي أرسلته له.

أول أدبيات جادّة للسينما

سيكون لي بعد ذلك أن أرحل إلى المملكة المتَّحدة، فالولايات المتَّحدة، للدِّراسة. كان أمين صالح قد نشر ترجمة مختارات من كتاب عيموس فوغل «السِّينما التدميريّة» في أحد أعداد «كلمات» في الثمانينيات، من دون أن يتمكن المرء من مشاهدة الأفلام موضوع الكتاب في أثناء الإقامة في اليباب السِّينمائي في الإمارات وعُمان، هذا حتى بافتراض أن الفن السابع كان من مشاغله القريبة أصلًا (سيترجم أمين صالح كامل كتاب «السينما التدميريّة» لاحقًا وينشره، 1995م). ذلك الكتاب قائم -كما نعلم- على تحليل جماليٍّ ونصِّي لكادرات معزولة تظهر في الكتاب بوصفها صورًا فوتوغرافيّة، وهي مأخوذة من أفلام كثيرة مُبوَّبة بدورها في تأطير ثيماتيٍّ عام.

لن تخونني الذاكرة على الإطلاق إن قلت: إن ترجمة أمين صالح آنفة الذكر كانت أول أدبيات جادّة للسينما (الجادّة بدورها) قرأتها، وبالتأكيد فقد أذهلتني أيَّما ذهول (طبعًا سينشر أمين صالح لاحقًا كتبًا مرجعيّة مهمّة أخرى في المكتبة السينمائيّة العربيّة مثل «الوجه والظل: في التمثيل السينمائي [إعداد وترجمة، 2002م]، و«النَّحت في الزمن: تأملات في السينما» لأندريه تاركوفسكي [ترجمة، 2006م]، و«حوار مع فدريكو فلليني» لجيوفاني جرادزيني [ترجمة، 2007م]، و«الكتابة بالضوء: مقالات في السينما» [تأليف، 2008م]، و«عالم ثيو أنغِلوبولوس السينمائي»
[إعداد وترجمة، 2009م]، و«سينما فِرنَر هيرتزوغ: ذهاب إلى التُّخوم الأبعد» لبول كرونين [ترجمة، 2013م]، و«أوديب ملكًا: سيناريو بيير باولو بازوليني» [ترجمة، 2019م]، و«روبرت دي نيرو وصدمة التحول» [تأليف، 2019م[، و«شعريّة السينما» ]تأليف، 2020م]). وبما أن هذه شهادة ذاتيّة فإني لن أتورَّع عن القول: إن كل المخرجين السينمائيين الواردة أسماؤهم هنا (باستثناء فلليني الذي -يا للمفارقة- أنا من أرسل من إيطاليا أو الولايات المتَّحدة كتاب الحوار معه إلى أمين صالح بعد أن قرأته) هم من المخرجين الأثيرين لديَّ (أما فيما يخص فلليني فلعله عادل ومُحِقٌّ في معاقبة ذوقي السينمائي بترجمة ذلك الكتاب/ الحوار مع المخرج الذي اتَّهمتُه صراحةً بأنه «مخرجٌ استشراقيٌّ» في شيء من كتاباتي النقديّة [«مساءلات سينمائيّة»، (2009م)].

وهكذا فإني، في الولايات المتَّحدة، سارعت إلى ابتياع كتاب فوغل المذكور آنفًا (أي «السينما التدميريّة»)، والاشتراك بعضويّة سنويّة في محل فيديو متخصِّص في السينما النوعيّة في مدينة سان دييغو بولاية كاليفورنيا حيث كنت أدرس؛ فكنت أقرأ الكتاب ليس صفحةً فصفحةً فحسب، بل فِلْمًا بفِلْم أيضًا؛ حيث طفقتُ في استئجار الفيديوهات التي تحتوي الأفلام التي يناقشها فوغل، فأشاهد الفِلْم كاملًا في البداية أكثر من مرة، ثم أقرأ ما كتبه عنه فوغل، ثم أوقف شريط الفيديو إيقافًا مؤقَّتًا على الكادر/ اللقطة التي يتوقف عندها فوغل فيُعمل فيها مشرطه ورؤاه، ثم أتفكَّر، وأتأمَّل، وأحاول ألا أسهو. كانت السينما تخصُّصي الفرعي فحسب في مرحلة البكالوريوس (تخصُّصي الرئيس كان في مجال الفلسفة)، ولكني في الدِّراسات العليا تخصَّصت في الدِّراسات النظريّة والنقديّة السينمائيّة حيث قرأت مباشرة على أساتذة أجلاء من عيار مايكل رينوف، تومَس شاتس، هِلَري رادنر، جانِت بيرغرستروم، نِكُلَس براون، فيفيَن تشوبساك، تِشوما غابرييل، بيتر وولِن، ستيفن مامبر، وغيرهم. لكني واثق أن أحدًا منكم لن يجد أية صعوبة في فهمي حين أؤكد الحقيقة التالية بعدد لا يكفي من المرات: لقد كان أمين صالح، عبر ترجمته مختارات من «السينما التدميريّة» في «كلمات»، درسي الأول في السينما؛ فكيف يمكن للمرء أن يزجي ما يكفي من شكر، وعرفان، وتقدير، وامتنان لأستاذه الأول؟

وجهًا لوجه للمرّة الأولى

خلال فترتي الأميركيّة الأولى (1987 – 1992م) والثانية (1996 – 2005م) استمر تواصلي مع أمين صالح من خلال تبادل الكتب والنُّصوص بريديًّا، وعبر قاسم حداد شفهيًّا: («قول لعبدالله…»، و«قول لأمين…»)، وفقط في 9 إبريل 2008م التقينا وجهًا لوجه للمرّة الأولى، أي بعد ثلاث وعشرين سنة من إرسالي «رسالة الرَّماد» له من خرابة خشبيّة وصفيحيّة في مسقط. ولكن، مرّة أخرى، كيف يتأتَّى لي أن أتذكر هذا التاريخ بدقّة على الرغم من بؤس الذاكرة عمومًا؟ إنني إنما أستحضره لأنه كان تاريخ اليوم الأول للدورة الأولى من مهرجان الخليج السينمائي الأول المنعقد في دبي، حيث كان المخرج البحريني حسين الرّفاعي مشاركًا في المسابقة الرسميّة بفِلْمه الرِّوائي القصير «عشاء» من سيناريو أمين صالح وبطولة هيفاء حسين، بينما كنت عضوًا في لجنة التحكيم.

قمينٌ بي هنا أن أذكر وأذكِّر بالأفلام القصيرة والطَّويلة الرِّوائيّة الأخرى التي كتب سيناريوهاتها أمين صالح؛ فهي تشمل «الحاجز» (درامي طويل، إخراج بسام الذَّوادي، 1990م)، و«القفص» (درامي قصير، إخراج حسين الرّفاعي، 2009م)، و«مجرد لعبة» (درامي قصير، إخراج محمود الشيخ، 2010م)، و«كناري» (درامي قصير، إخراج محمد راشد بو علي، 2010م)، و«أيام يوسف الأخيرة» (درامي طويل، إخراج محمد جناحي، 2010م)، و«حادث» (درامي قصير، إخراج ياسر القرمزي، 2013م). أما قائمة أعمال أمين صالح التليفزيونيّة فتضم «العطش» (سهرة، إخراج عبدالله يوسف، 1983م)، و«العربة» (سهرة، إخراج عبدالله يوسف، 1984م)، و«يونس والآخرون» (سهرة، إخراج بسام الذَّوادي، 1989م)، و«بث غير مباشر» (منوَّعات مع قاسم حداد من ثلاثين حلقة، إخراج بسام الذَّوادي، 1991م)، و«ملح وذهب» (مسلسل من خمس عشرة حلقة، إخراج عبدالله يوسف، 1992م)، و«حالات» (منوَّعات من ثلاث حلقات، إخراج أحمد المقلة، 1993م)، و«تلفزيون صور الملوّن» (منوَّعات من ثلاث حلقات، إخراج بسام الذَّوادي، 1994م)، و«صانعو التاريخ» (دراما للأطفال من ثلاثين حلقة، إخراج محمد سلمان، 1994م)، و«الهارب» (مسلسل مع قاسم حداد من خمس عشرة حلقة، 1995م)، و«أبيض وأسود» (منوَّعات من ثلاث حلقات، إخراج أحمد المقلة، 1995م)، و«بحر الحكايات» (دراما للأطفال من ثلاثين حلقة، إخراج محمد سلمان، 1997م)، «أبواب» (منوَّعات للأطفال من ثلاثين حلقة، إخراج محمد سلمان، 1998م)، و«غناوي المرتاحين» (منوَّعات من ثلاثين حلقة، إخراج مصطفى رشيد، 1999م)، و«نيران» (مسلسل من ثلاثين حلقة، إخراج أحمد المقلة، 2000م)، و«السَّديم» (مسلسل من اثنتي وعشرين حلقة، إخراج أحمد المقلة، 2002م)، و«قيود الزمن» (معالجة دراميّة/ مسلسل من ثلاثين حلقة، 2006م)، و«هديل الليل» (مسلسل من ثلاثين حلقة، إخراج مصطفى رشيد، 2009م)، و«سماء ثانية» (مسلسل من ثلاثين حلقة، إخراج أحمد المقلة، 2011م)، و«حنين السَّهارى» (مسلسل من ثلاثين حلقة، إخراج محمد سلمان، 2014)، و«أهل الدار» (دراما تراثيّة، ثلاثون حلقة بالاشتراك مع راشد الجودر وعيسى الحمر، 2014م).

اسمحوا لي الآن أن أعود إلى لقائي المباشر بأمين صالح في 9 إبريل 2008م (وتذكيرًا، بعد ثلاثة وعشرين عامًا من إرسالي «رسالة الرَّماد» من مسقط في 8 سبتمبر 1985م)؛ فقد ضمَّتنا في مطار دبي صالة لاستقبال الوفود والمشاركين المنفردين في الدورة الأولى من مهرجان الخليج السينمائي. وعوضًا عن التقيُّد ببروتوكولات اللقاء الأول، والالتزام بآدابه المعتادة، وتهذيبه الميكانيكي المُتَكَلَّف، فقد وجدنا نفسنا ننخرط في نوبة فاجرة من قهقهات شامخات بسبب تبادل وابل عنيف من الطَّرائف والنُّكت (التي، للأمانة، من الصَّعب للغاية وصف معظمها بالحشمة الزائدة والوقار الشَّديد؛ ولذلك فإني أعتذر لعدم إمكانيّة إيراد أي منها هنا).

كنا في أتم الحياء عن أية رزانة، وبالغ الخجل من أي وقار في لقائنا الأول؛ فقد اتَّضح أنه ليس هناك من حاجز جليديٍّ أو رملي بيننا ليذوب، وأننا نعرف بعضنا الآخر، لدرجة أن نواجذنا قد بانت، منذ زمن طويل، وأن هذا مجرَّد لقاء آخر ضمن سلسلة متَّصلة من اللقاءات الدائمة فحسب. انفصلنا بعد حفل ليلة الافتتاح حيث انهمك هو في تعاطي الأفلام، والمشاركة في النَّدوات والفعاليات الأخرى، بينما انغمستُ في أعمال لجنة التحكيم، ولم نلتقِ إلا في الحفل الختامي حيث سألته: «هاه أمين، ترى كيف نقول trailer بالعربيّة»؟ فسكت لحظة ثم ردَّ ضاحكًا من أحشاء أحشائه: «سَمْبَلْ»!

استمرَّت لقاءاتنا في الدَّوْرات اللاحقة من مهرجان الخليج السينمائي وكذلك مهرجان دبي السينمائي الدولي (وقد توقفا كلاهما لاحقًا لشديد الأسف وعظيم الخسارة). قلت له في إحدى تلك الدَّوْرات، وهأنذا أقول لكم الآن، إن مما يدهشني في العديد من كتاباته هو أنني أتعرَّف فيها للمرّة الأولى إلى كائنات تشاركني مُواطَنَةَ الأرض وزمالة الحياة من دون أن أكون قد سمعت بها من قبل: أعني كائنات من قبيل السَّلمندر، والقندس، والباز، والحَجَل (قد تكون هذه المخلوقات، وغيرها، مألوفة لدى غيري، لكن متى كان شأن المرء إلا شأن المرء نفسه، ومتى كان شأن الآخرين إلا عناية الآخرين بأنفسهم)؟

تجمعنا كذلك مكالمات هاتفيّة متقطِّعة ورسائل «واتس آب» يوميّة تقريبًا بمحتوياتها التي غالبًا ما تكون أفلامًا، وكتابات سينمائيّة وأدبيّة وسياسيّة، ومقطوعات غنائيّة وموسيقيّة ورقصيّة، وأعمالًا تشكيليّة وما هو على شاكلتها، ومقاطع مصوَّرة من هذا وذاك مما يستوقف ويثير التفكر، ونكات غير محتشمة كثيرًا كتلك التي تبادلناها في لقائنا الأول في دبي (لست في وارد الافتراض أن جميع القراء قد بلغوا الثامنة عشرة من العمر أو جاوزوها، ولذا فأنا مضطر للتَّنازل مُكرَهًا عن الحماقة).

لقاء في زنزانة

غير أن أغرب لقاء من اللقاءات، وأكثرها جرحًا، وأعمقها غورًا، وأعظمها جوهريّة واستعصاء على النِّسيان (فيما يخصُّني) بيننا قد تم في 2018. لقد كنت حينها أقضي حكمًا بالسِّجن لأسباب ارتآها الادِّعاء العام في بلادي، وكان الأصدقاء يحضرون لي الكتب فيسلِّمونها إلى إدارة السِّجن أولًا بالطَّبع لتمضي بعد ذلك عبر الإجراءات المعروفة حتى تصل لي. أتصفَّح وأنا أرقن هذه السُّطور الآن أحد تلك الكتب التي جلبها مشكورًا الصَّديق القاصّ حمود سعود، فأجد في الصَّفحة الأولى من الكتاب ختم تدقيق رقابة السِّجن ممهورًا في 26 إبريل 2018م، وتاريخ تسلُّمي الكتاب مكتوبًا بخط يدي في 14 مايو 2018م. لكن عن أي سِفر أتكلم وأنا في السِّجن لا أسافر إلى جزر الواق واق ولا إلى بلاد فارس؟ إنني أتحدَّث عن كتاب «عباس كيارستمي: سينما مطرَّزة بالبراءة» من إعداد وترجمة أمين صالح (2011م).

خطرت لي من فوري، وفي الوقت نفسه بلا فاصل، ثلاثة أشياء في غاية الإلحاح، والمفارقة، والتبكيت. الأول هو أني التقيت كيارستمي في أروقة إحدى دَوْرات مهرجان دبي السينمائي الدولي، فأعرب عن رغبته الشَّديدة في زيارة عُمان قائلًا: إنها البلاد الوحيدة التي كلما قرأ عنها ازداد شغفه برؤيتها، وها أنا حقًّا ألتقيه للمرة الثانية، وإن بعد رحيله من عالمنا، هنا في عُمان وفي ذلك الظَّرف، فأيّة سينما هذه في الحياة وفي الموت؟ الشيء الثاني هو أنه مضت منذ تاريخ صدور ذلك الكتاب حتى تاريخ البدء في قراءته سبع سنوات كاملة لم أتمكَّن فيها من معاقرة تلك الصَّفحات، متذرِّعًا بخيوط عنكبوتيّة، وتلفيقات فاقعة، وأعذار واهية، من قبيل ازدحام الوقت، وكثرة المشاغل، ووشوك النَّفخ في الصُّور؛ وهو الأمر الذي يؤهِّلني بكل جدارة، وعدالة، واستحقاق لعقوبة سجنيّة ثانية مغلَّظة أكثر؛ ولذلك فمن الأفضل ألا يتناهى خبر وصول ذلك الكتاب إليَّ في السِّجن إلى أسماع الادعاء العام وعيونه. الشيء الثالث هو كيف بحق الأبالسة، والشَّياطين، والمَرَدَة جميعًا يتمكن هذا الشَّقيّ الذي اسمه أمين صالح من أن يضلِّل الحرس، ويخدِّر الحواجز، ويزيغ أبصار الكاميرات والشاشات كي يأتي إليَّ بمُدامِهِ في الزِّنزانة، «مُطرَّزًا بالبراءة»، وخافتًا كما «ترنيمة للحجرة الكونيّة»، وينادمني والسُّجناء في لغوهم لاهون؟ ليست لديَّ تعقيبات مقنِعة على أي من تلك الأشياء، ومن خصالي أني لا أمانع أحيانًا في أن أشعر بالجهل المطبق.

* * *

صِنوُ أمين صالح التأسيسي في الإبداع وصديقه الأقرب في المشوار قاسم حداد كتب مُنَبِّهًا في أحد نصوصه: «لسنا جزيرة صغيرة/ إلا لمن يرى إلينا من بعيد». وحقًّا فإنه حين تَدْلَهِمُّ علينا المدلهمات، وتفتكُ بنا الأوزار، وتَتكسَّرُ حولنا الجهات، وتَتكالبُ الجوائح، والدَّياجير، وتُحوِّل العاصفةُ الزُّرقةَ الوديعة إلى لُججٍ شنيعة وأشداق بغيضة، نلتفت ذات اليمين وذات اليسار، وحيث الأمام وحيث الخلف، بحثًا عن ملاذ أو مأوى، فنرى ضوءًا مغناطيسيًّا حانيًا يدعونا إليه بكل الألوان، وندرك أن ذلك الضوء ما هو إلا الفنار الذي اسمه أمين صالح في تلك الجزيرة الصغيرة/ البلاد الكبيرة.


شعرية‭ ‬الكتابة‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬أمين‭ ‬صالح‭ ‬الإبداعية
الانفتاح‭ ‬النصي‭ ‬والرؤية‭ ‬البصرية

نور‭ ‬الدين‭ ‬محقق ‬ناقد‭ ‬مغربي

تتعدد أنواع الكتابة الأدبية وهي تتجلى في صور شتى، تارة حسب المعاني التي تُعبر عنها، وتارة أخرى حسب الأسلوب المتحكم فيها، والأسلوب هو ما يَسِمُها أساسًا بميسمه ويجعلها متفردة بذاتها، بما أن المعاني تظل وتبقى دائمًا، حسب قول الكاتب العربي أبي عثمان الجاحظ، مطروحة في الطريق، ويعرفها بالتالي الجميع، ومن ثمة، ففي إمكانهم الإتيان بها وتناولها في كتاباتهم. وإنما الأساسي في الكتابة، ولا سيما الشعرية منها، هي الصياغة وعملية التصوير، والكتابة كما يقول الناقد الفرنسي الشهير رولان بارت عنها «باعتبارها حرية»، فإنها «تنحدر من إشارة دلالية للكاتب، فإنها تلامس التاريخ أكثر من أي عنصر آخر مكون للأدب». هكذا نرى أن الكُتاب يختلفون في نوعية الكتابة التي يمارسونها، وفي الشعرية المتحكمة في بنيتها، سواء على مستوى الشرق أو الغرب، ومن بين الكتاب العرب المجيدين الذين تفردوا بنوعية كتابتهم الإبداعية التي تنحو منحى الكتابة المنفتحة على تواشج بين مختلف الأجناس الأدبية داخلها، والرؤية البصرية المستمدة من الفنون البصرية، وفي مقدمتها الفن السينمائي خاصة، نجد الكاتب البحريني الألمعي أمين صالح.

شعرية الكتابة في مرآة الصور

تتحقق الكتابة الشعرية لدى الكاتب البحريني أمين صالح عبر القبض على الصور المرئية انطلاقًا من الكلمات، وهي عملية صعبة لا تنقاد إلا لشاعر خبير بالصورة على مختلف تجلياتها الرمزية وبعدها المرئي البعيد. هكذا نرى في هذه الكتابة الشعرية كثافة ثقافية متنوعة وشديدة العمق حيث «يصير الكلام في هذه الحال، هو الزمن المكثف لمخاض أكثر روحانية يُهيأ خلاله الفكر ليأخذ موضعه تدريجيًّا بوساطة مصادفة الألفاظ»، ففي ديوانه الشعري «موت طفيف»، طبع المؤسسات العربية للدراسات والنشر سنة 2001م، نرى منذ البداية أن «الزوارق تمر، الرياح تمر، اللقالق تمرّ…»، وهي صورة مرئية بامتياز، تعتمد في عملية بنائها على كلمة المرور في إطارها الفعلي الدال على الحركة المستمرة، وعلى عملية تكرارها بشكل يجعل من هذه الحركة تأخذ صورة الديمومة، مما يجعل من البناء الكلي لهذا المشهد الشعري يسير وفق إيقاع متحرك تتوالى فيه الصور وتأخذ أبعادًا مختلفة. ثم تأتي مباشرة صورة الثبات، لتُحقق انزياحًا دلاليًّا بتعبير جان كوهن في كتابه «بنية اللغة الشعرية» يخلق فجوة التوتر لدى المتلقي، ويجعله يعي بأن ما يقرؤه ليس كلامًا عاديًّا، وإنما هو شعر مُنفلت عن التصنيف الجاهز العادي. إن الدلالة الشعرية تأخذ هنا منحى مُغايرًا تمامًا، فبدل أن يكون الرجل وحيدًا في الضفة وهو يشاهد المياه، تصبح الصورة المقدمة هنا في إطار تركيب شعري فاتن مختلفة عن المعتاد. يقول الكاتب أمين صالح وهو يرتدي هنا قبعة الشاعر مُصورًا لنا هذا المشهد كما يأتي: «والآن،/ الضفة وحيدة مع رجل وحيد/ لا يعرف أن يكلّم المياه».

هكذا نلاحظ أن الكتابة الشعرية هنا، وهي تُكتب اعتمادًا على الصور الاستعارية المبثوثة فيها، وعلى لعبة التشويش الدلالي العميق الذي يضاعف من جمالية هذه الصور المعتمدة على الكلمات ويحولها إلى صور تكاد تُرى بالعين؛ لأنها صور وكأنها كُتبت بالضوء، على حد تعبير الكاتب أمين صالح نفسه وهو يتحدث عن الفن السينمائي في كتابه «الكتابة بالضوء: في السينما، اتجاهات وقضايا»، الذي أصدره سنة 2008م.

رولان بارت

إن الكاتب/ الشاعر أمين صالح هنا في هذا المقطع الشعري الأخاذ، يجعل من «الضفة» كائنًا حيًّا، إنه يؤنسنها، بحيث يضفي عليها صفة «الوحدة»، فهي تعيش على الأقل في هذه اللحظة «وحيدة» ومن يؤنسها هو الآخر «وحيد»، من يرافقها في هذه الوحدة هو «رجل وحيد». صورة شعرية غاية في الغرابة، وما يجعل من الشعر شعرًا هو هذه الغرابة الدلالية التي تحوله بالفعل وتغير مساره الضمني من كلام عادي إلى شعر متميز ومُختلف. إن هذه الكتابة الشعرية تتميز بالجدة، إنها تخرج بتعبير الكاتب الفرنسي رولان بارت، «ثمارًا ناضجة للدلالة»، وهذه الثمار الدلالية الناضجة أساسها هُنا هو الاستعمال المجازي للغة، واعتماد التصوير الشعري في مقابل الاستعمال العادي للكتابة.

في مشهد شعري آخر من هذا الديوان، يصف الكاتب أمين صالح بشعرية فاتنة تعتمد على الرؤية البصرية السينمائية رجلًا وهو يراقب امرأة وهي تطل من النافذة، إنه ينقل للمتلقي هذا المشهد الشعري بهذه الطريقة التصويرية السينمائية. يقول: «من بعيد يُراقب المرأة الواقفة خلف النافذة/ مأسورًا بوجهها الملائكي الذي لا يشوّه الحزن نقاوته/ مأخوذًا بدموعها المهرولة بخفة في الفضاء، مثل رذاذ كوني./ من بعيد يراقب الحضور اللامرئي/ لامرأةٍ تبكي خلف النافذة».

الشاعر هُنا يُراقب هذه المرأة التي توجد خلف النافذة، وهي صُورة تبدو معكوسة إذ افترضنا أن في الأصل كان على المرأة أن تُراقب هي الأخرى الرجل، بما أن النافذة هي مشرعة على الخارج، وهي بذلك تسمح بالرؤية الخارجية والإطلالة على الأشياء ومعرفة العالم في امتداده، لكن الشاعر وهو يفعل ذلك، كان في عملية التخييل الشعري، وكأنه يراقب حضورًا غير مرئي، يتجاوز الرؤية البصرية المنفتحة على العالم الخارجي ليربطها بشكل لا شعوري بالرؤية البصرية الداخلية، حيث يتحول اللامرئي إلى مرئي، كما أن المرئي قد يتحول بنفس هذا المنطق التخييلي المضاعف إلى لا مرئي في عملية كيميائية لغوية مذهلة. الشعر، في هذه التجربة الإبداعية المتميزة للكاتب، الشاعر أمين صالح، يتحول إلى «محاولة الشاعر أن يدرك ما يتعذر إدراكه وانهماكه الأساس، إذن ليس في أن يصور الواقع أو ينقله، وإنما هو في أن يبقي اللغة متوفزة، مُرتبطة بحيوية الحدس كأنها التموج الذي لا يهدأ».

إن الكاتب البحريني الألمعي أمين صالح، وهو يحلق في هذه الكتابة الشعرية المميزة بخصوبة التصوير الشعري فيها، يمتلك عينًا سينمائية مدهشة تُركز على الحقل المرئي داخليًّا وخارجيًّا، فيبدو المشهد الشعري وكأنه قطعة سينمائية مأخوذة من فِلْم سينمائي سوريالي عميق. طبعًا على اعتبار أن السوريالية الشعرية هنا، هي «ظاهرة ديناميكية لا سكونية ولا مُستقرة. وهي وسيلة تحرر شامل للفكر، للعقل، من خلال سبر اللاوعي، واللامرئي، تسعى السوريالية إلى تحرير القوى اللاشعورية المكبوتة أو المجهولة في الإنسان، وتعمل على توسيع حدود الوعي والمعرفة».

شعرية الكتابة والمحكي الشعري

أبعد من هذا التصوير الشعري وبموازاة معه، نجد أن الكاتب/ الشاعر أمين صالح يقوم بالمزج في كتابته الشعرية بين الأجناس الأدبية داخله، بحيث يحضر الشعر الشذري بجانب الحكي الشعري، ويشكلان معًا تنوعًا شعريًّا عميقًا داخل هذا الديوان الجميل. ففي مقطع شعري آخر، نجد هذا الحضور للمحكي الشعري بشكل قوي. يقول فيه ما يلي، أو بالأحرى يحكي فيها ما يأتي: «الأرض تمتد أمام عينيها، ساعة الغسق، مثل بساط رمادي يشطر المدى جهتين. نهار في جهة، وليل في جهة. يلتقيان في حدقة صافية كالنبع. وعلى ضفاف الحقول، هناك، تركض الأرواح الضالة باحثة عن مأوى. صيفًا بعد صيف، في مثل هذا الوقت، تمكث العجوز أمام بابها المفتوح، ترقب الطريق، وتُرضع الأفق كي يبشرها بقدوم الأبناء ما إن يشم شذى خطواتهم صيفًا بعد صيف، تزركش شعرها الأبيض بالورد لئلا يمر الأبناء ولا يطرقوا باب نومها الطويل».

في هذا المقطع الشعري المذهل الذي يُشكل قصيدة نثر بامتياز، يحضر المحكي الشعري بطريقة جميلة، حيث القصة موجودة، وحيث الشخصيات حاضرة، وحيث التعبير الشعري يعتمد على لعبة الانزياحات التركيبية والدلالية، وحيث المعاني تتفوق على ذواتها بشكل مسترسل. هنا نجد وصفًا للمكان، ونجد وصفًا للزمان، وتحديدًا دقيقًا لشخصية المرأة العجوز، وكأننا أمام مشهد سينمائي شعري عميق. الأمر نفسه نجده في مقطع شعري آخر من نفس هذا الديوان الشعري العميق. يقول الشاعر فيه ما يأتي:

«أشخاص كثيرون جاؤوا وذهبوا/ أحلام كثيرة جاءت وذهبت/ والبيت القديم لا يزال يستضيف الغبار،/ وفي غرفه الواسعة يتنزّه اللبلاب./ ها هنا، فوق الرخام، شظايا كلام

على العتبات بقايا روائح القهوة والبخور/ وفي وسط الفناء شجرة تفاح واقفة منذ الأزل،/

تحرس احتضارها الطويل».

هنا يحضر الوصف الشعري الدقيق، وتمتد الصور الشعرية التي تكاد من قوة التصوير الشعري لها ترى بالعين. كما أن هذا الحضور القوي لهذا التتابع التركيبي الذي يقدم عناصر هذا النص الشعري ويربط بينها رغم نوعية اختلافها بين الأحياء وبين التمثلات الفكرية، بشكل وظيفي قوي، يجعل من هذا النص الشعري يؤثر في المتلقي ويدفع به إلى منطقة التخييل المرئي الجميل الذي يجمع بين المرئي واللامرئي في بوتقة شعرية متكاملة. بوتقة شعرية تتجاوز الواقعي لتعبر عن السوريالي المبثوث في عمق الأشياء وفي الصور الضمنية المحيطة بها. وفي مشهد شعري آخر، تحضرُ الصورة الشعرية في كثافة دلالية قوية، تُحولها إلى صورة فاتنة، ناقلة إلى المتلقي لذة/ متعة نصية، ومُدخلة إياه إلى بابل متخيلة سعيدة وعميقة، بتعبير الكاتب الفرنسي رولان بارت في كتابه الشهير «لذة النص». يقول الكاتب/ الشاعر أمين صالح ما يأتي:

«العاشقة الجالسة عند النبع/ تمشط شعرها/ وحين تغادر/ يبقى وجهها رهين الماء».

إن بقاء الأثر هنا، أي «الوجه» وهو «رهين الماء» هو ما يشكل شعرية هذا النص الشعري القصير الفاتن. العشق الذي يدل عليه هذا البقاء، هو عشق بين «الوجه» بصفته سمة إنسانية وبين «الماء» بصفته سمة للحياة. مشهد سوريالي يحيل في خفاء إلى أسطورة نرسيس في لمحة شعرية موغلة في الغرابة. العشق هنا بين المرأة/ الوجه وبين المرآة/ الماء هو إعلان واضح؛ ذلك أن «العشق، في الجوهر، جُعل ليكون مرئيًّا: ينبغي أن يُرى المخبوء. اعلموا أنني بصدد إخفاء شيء ما عنكم، وهذه هي المفارقة الفعالة التي عليَّ أن أجد لها حلًّا: على هذا أن يخفى ولا يخفى في آن معًا». من هنا، تُشكل عملية الخفاء والتجلي، عملية شعرية بامتياز. إنها هي سر الشعر وجوهره المشعّ والمليء بالاستعارات المتعددة، تلك الاستعارات التي نحيا بها ونحن نقرأ الشعر ونغوص في ثنايا الكتابات
الشعرية العميقة.

على سبيل الختام

هكذا نجد أن هذا الانفتاح النصي الذي يؤسسه الكاتب والشاعر البحريني الألمعي أمين صالح في نصوصه الشعرية سواء في هذا الديوان الشعري، أو في غيره من الدواوين الشعرية الأخرى، إضافة إلى الاعتماد على الرؤية البصرية في تصوير المشاهد الشعرية، يجعل من كتابته الشعرية تُشكل انزياحًا حداثيًّا عميقًا في تربة الأدب العربي بصفة عامة، وفي مجال الشعر العربي الحداثي بصفة خاصة، وهو ما أهّله ويؤهّله باستمرار في أن يكون أحد صناع الكتابة العربية الجديدة والمتجددة على الدوام، وذلك بالتعبير البارتي للكلمة، وفي عملية الحضور الرمزي والامتداد الفاعل لمختلف كتاباته في المجال الثقافي العربي، التي ما هي في الأصل سوى منارات ثقافية كبرى مشعّة بالوهج الشعري القوي وبالألق الفكري الغني.


إستراتيجية‭ ‬في‭ ‬الكتابة
تجعله‭ ‬يقيم‭ ‬على‭ ‬تخوم‭ ‬الأنواع

فخري‭ ‬صالح ‬ناقد‭ ‬أردني

يسعى الكاتب البحريني أمين صالح، منذ صدور مجموعته الأولى، إلى الاقتراب، في خصائص كتابته القصصية، من تخوم الكتابة الشعرية، ليصل إلى ما يسميه الكاتب والروائي المصري إدوار الخراط «كتابة عبر نوعية». ويمكن أن نلاحظ، منذ البدايات، أن الاهتمام بتوليد فضاء شعري هو العنصر المهيمن في كتابته القصصية، وهو ما يضفي سحرًا وغموضًا على شخصياته وعوالمه الشديدة الالتصاق بفئات العمال والصيادين والمطاردين السياسيين والمثقفين الهامشيين، والأشخاص المهمشين، والحالمين بالتغيير. وتدلّ عناوين كتبه («هنا الورد.. هنا نرقص»، «الفراشات»، «الصيد الملكي»، «الطرائد»، «ندماء الريح ندماء المرفأ»، «العناصر»، «ترنيمة للحجرة الكونية»، إلخ) على الفضاء الشعري الذي يهيمن على قصصه، وعوالمه، وبؤرة اهتماماته.

في «الفراشات» (1977م) تبني معظم القصص أحلام اليقظة، أو عوالم خيالية تتخلل المشهد الذي يؤطر هذه العوالم، أو أنها تستحضر شخصيات تاريخية لتضيء، من خلالها، التجربة المعاصرة. لكن الخَصِيصة الأساسية التي تتمتع بها قصص هذه المجموعة تتمثل في غلبة لغة الاستعارة، أو الفضاء الشعري، على بنائها السردي. وهذه الإستراتيجية في الكتابة هي التي تحكم عالم أمين صالح القصصي، حيث تتوالى سلسلة من التداعيات والمشاهد التي تولدها ذاكرة شعرية في الأساس، ذاكرة مولعة بتوليد علاقات شعرية بين أشياء هذا العالم. ثمَّة خَصِيصة أخرى، في قصص صالح، تتصل بالاستفادة من الأنواع الفنية التصويرية الأخرى؛ من السينما والمسرح، والفن التشكيلي، كذلك. وهو ما سيطوره الكاتب في مجموعاته اللاحقة.

في المجموعة التالية «الصيد الملكي» (1982م) نلاحظ أن العناصر السردية بدأت تغلب على النصوص، مفسحةً حيزًا ضيقًا للتأملات الشعرية وتقنيات الكتابة الشعرية، ومبقيةً فقط على الصور والاستعارات التي ترد في وصف الراوي للأمكنة والشخصيات. إن إستراتيجية الكتابة الشعرية تتوارى لتحل محلها إستراتيجية السرد وعناصره من بناء الشخصية، ووصف الأمكنة، وتوليد الأحداث، وتوسيع فضاء السرد. والقصة الأولى في هذه المجموعة هي حاصل جمع عدد من الحكايات تؤطرها مقدمة، يوقِّعها القاص، ويصف فيها مشهدًا فِرْدَوْسِيًّا للمخلوقات الصاعدة في أرض الأبدية والسلام والطمأنينة، حيث تتآلف الحيوانات والنباتات مع البشر، وتمارس الخليقة ما تصبو إليه، من دون رقيب أو حسيب، وتعيش كرنفالًا بهيجًا من المتعة والتخفف من أثقال الظلم الأرضي. ويعرض الكاتب في هذه المجموعة، المركزية في عمله، عالمين متقابلين: عالمًا أرضيًّا عامرًا بالتسلط والقهر والعنف والاستغلال والقتل، وعالمًا فِرْدَوْسِيًّا بديلًا يتآخى فيه الإنسان والحيوان.

لعبة التصيد الخيالي

ولعل لعبة التصعيد الخيالي التي تمارسها الشخصيات المقموعة في القصص هي البديل الوحيد المتاح لها في إطار هذه البنية القصصية، التي يؤدي فيها الوصف الشعري للأحداث والشخصيات دورًا تصعيديًّا يرفع المقموعين من العالم الأرضي، المغمَّس بالقهر والقمع، إلى عالم الخيال الذي تذوب فيه المتناقضات وتَمّحي الفوارق، وتقترب المسافات، ويعاد فيه خلق الأشياء وتنظيم العلاقات. في هذا السياق، يبدو الشعر كوةً مفتوحة على الخلاص من عذابات الواقع وأحزانه، وهو ما يدل على أن لجوء القاص إلى شَعْرَنة اللغة السردية يتصل اتصالًا وثيقًا بالمعنى الذي يسعى إلى توليده، والرسالة التي يقصد إيصالها إلى القارئ. لكن أمين صالح، على الرغم من انضواء عمله في إطار تيار من الكتابة القصصية العربية يميل إلى شعرنة اللغة السردية، فإنه يميل في مجموعاته القصصية إلى كتابة صور مكثفة مختزلة تغيب عنها الحبكة، ويمثل وصف اللحظة المحورية، في حياة الشخصية أو الشخصيات، بؤرتها.

في «الطرائد» (1983م) يكرس القاص العمل كله لهذا النوع من الكتابة القصصية المكثفة، التي تدور في مجملها حول المطاردين والملاحقين سياسيًّا، والمهمشين والمنبوذين في المجتمع، أولئك الذين يتخلصون من الملاحقة، أو الوقوع تحت وطأة كابوسها، عبر اللجوء إلى الانتحار والتخلص من الحياة، أو الموت رعبًا، أو كمدًا، أو جوعًا. ويأخذ شكل الكتابة في هذه المجموعة طابعًا تصويريًّا برقيًّا شديد الكثافة؛ لأن القاص يريد أن يحدث انطباعًا شبيهًا بالانطباع الذي تحدثه اللقطة السينمائية السريعة، أو الانطباع الذي تثيره لوحة تشكيلية. وقد صادفنا في عمل القاص، من قبل، ميلًا للاستفادة من لغة السينما، وكذلك اقترابًا من لغة الرسم. وضرباتُ الفرشاة في «الطرائد» لا تخطئها العين.

«ندماء المرفأ، ندماء الريح» (1987م) أكثر قربًا من روح النص المفتوح على الأنواع، أو أنها، بتعبير إدوار الخراط، «كتابة عبر نوعية». ثمة عناصر شعرية في القصص، وخرقٌ للقوانين الطبيعية، وواقعية سحرية، وابتهالات وأدعية، وصوفية أرضية، وارتفاع بالجسد، والتواصل الجسدي، إلى مرتبة المقدس. هنا، الشخصيات غائمة الملامح، والحبكة غائبة، والكلمات تنسج شبكة من العلاقات اللغوية التي تولد فضاء شعريًّا بالأساس، وتنتهك بنية النوع القصصي، وتحذف منه عناصره الأساسية المتواضع عليها.

إنها كتابة على حافة الشعر، لا يقصيها عن مملكة النوع الشعري سوى حضور الشخصيات، وإن كانت غائمة الملامح. ليس ثمة قصص، بل تصويرٌ شعري لشخصيات وأحداث غريبة تتجاوز الطبيعي والممكن والمألوف في قدرتها وحضورها. وما يجعلنا نقرأ هذه النصوص بوصفها «نصوصًا قصصية» هو سلسلة النصوص التي أنتجها الكاتب من قبل، ووضع على أغلفتها لافتات تشير إلى كونها قصصًا. إن قصد المؤلف وإعلانه عن نفسه موجِّهٌ أساسي للقارئ. ولو أننا انتزعنا اسم أمين صالح عن غلاف «ندماء المرفأ، ندماء الريح»، فلربما كنا قرأنا هذه النصوص بوصفها نصوصًا شعرية. لكنّ للتصنيف النوعي المتداول الخاص بالكتاب قوةً قهرية تغلِّب نوعًا أدبيًّا على آخر في إنتاج كاتب بعينه.

المنظور وعلاقته بالشخصية

في «العناصر» (1989م) سنجد أن تحولًا قد طرأ على عمل صالح القصصي، وهو تحول يطول زاوية النظر وبؤرة العمل. صحيحٌ أن شاعرية اللغة، التي يحرص القاص على بروزها في المجموعات السابقة، تستمر في حضورها الواضح في هذه المجموعة، لكن العنصر الأكثر أهمية هنا هو المنظور وعلاقته بالشخصية. إن الكاتب يعدُّ هذه النصوص عملًا متصلًا، وذلك من خلال فهرس المحتويات الذي يصنع من عناوين القصص جملًا متصلة تنتج نصًّا فيه من الشاعرية ما يكشف عن المعنى الكامن لهذه المتوالية القصصية. «ذاكرة الظهيرة.. خفافًا تمشي وتضيء.. قنديل العرافات/ في المدى سرير يشتعل وشجرة تنتحل هجرة الينابيع/ إنها الوليمة.. تقول الحدآت. هناك، هناك اخضرار المذبحة، وهنا إثم، وفزاعات تنتحر». (ص: 4)

تقوم هذه الجملة المتصلة التي تبدو غامضة شاعرية، في حالِ لم نربطها بالنصوص التي تضمها المجموعة، بلحم النصوص وتحويلها من متوالية قصصية إلى نص روائي قصير، تتغير فيه الشخوص، ويقوم فيه المكان والأشياء بدور البطولة. إن بؤرة العمل مقيمة في هذا العالم الخيالي الذي يحول المرأة إلى شجرة تراقب وتتعاطف مع شخصيات العالم الأرضي التي تسعى في المكان. ويُولِّد القاص الشخصيات من جسد المرأة – الشجرة، مطلقًا هذه الشخصيات في فضاء التجربة الحياتية المُرَّة. فبائع البالونات يندلق من السرة ويهرول إلى ساحة عامة تزدحم بالتلاميذ، ويموت برصاصات حارس بنك، عندما يتسلق سور البلدية، ليخلص بالونًا عالقًا، ليعطيه لطفلة صغيرة. وهناك فتاة صغيرة تنحدر من الخاصرة، وتتعرض للاغتصاب في عالم لا يفهم براءتها. أما اليمامة فتنسلُّ من الثدي، ليباغتها الصياد، ثم يتركها بعد أن قررت الوقوع في شباكه. هناك أيضًا حاوٍ يتدحرج من الجبين ويغير قوانين الطبيعة، فتخاطب الأشجار البشر، وتفتح العصافير أقفاصها وتطير، وشجرة هائلة تطفر من المقلة، وتراقب ما يحدث في بيتين متقابلين، وتخلع نفسها من الجذور، بعد حدوث جريمة قتل، إلخ. إن القاص يولِّد الشخصيات من الرحم الأولى، من جسد المرأة – الشجرة، ويبقى الأصلُ، جذرُ الولادة، شاهدًا على ما يحدث للمخلوقات التي انسلَّت من أعضاء المرأة – الشجرة.

والقارئ يتحصَّل على معرفته بما يحدث من خلال عين مراقبة تنقل له ما تشاهده من أحداث الولادة والموت. المهم في هذا النص هو قدرة القاص على جعل القارئ يتتبع عناصر الحكاية من خلال عين الشجرة التي ترصد الشخصيات وفضاء المكان بالقدر الذي تتيحه لها عين الكاميرا. وهذا ما يجعل النص عملًا بارعًا حقًّا، حيث تروي المتوالية القصصية الحكاية الرمزية لرحلة الكائن الإنساني. وعلى الرغم من تعدد المنظورات، أو زوايا النظر، في القصص، فإن ما يهم القاص هو تقديم صورة مواربة لتجربة الكائن، صورة كابوسية، جهنمية، مزلزلة وعاصفة، لينتهي به أخيرًا إلى أرض الموت.

في مقابل المجموعات السابقة، فإن كتاب أمين صالح «ترنيمة للحجرة الكونية» (1994م) ليس كتابًا قصصيًّا بالمعنى النوعي. إن فيه بعض عناصر القص، ولكن التأمل الشعري، وخطاب البوح والدعاء، ومحاولة تلمّس معنى لتجربة البشر على هذه الأرض، هي العناصر الأساسية التي تشكل لحمة هذه النصوص. وإذا كان عدد من هذه النصوص يشتمل على بعض العناصر السردية، كوجود صوت يروي، وإيراد نُتفٍ من الحكايات، وملامح غائمة للشخصيات، فإن لغة البوح والتساؤل والتذكر الأسيان تقترب بها من عالم الكتابة الشعرية. لكن هيمنة عناصر التعبير الشعري لا تنفي وجود علاقة بين هذه النصوص وقصص الكاتب السابقة، خصوصًا أنه يعتمد في عمله إستراتيجية في الكتابة تجعل نصه يقيم على تخوم الأنواع، على الجسر الواصل بين القصة والشعر.

ولعل «ترنيمة للحجرة الكونية» يكتسب شرعية وجوده بين نصوص الكاتب القصصية من تجانس عوالمه، واشتمال نصوصه كلها على المزج بين العناصر البنيوية لكل من السرد والشعر. وهو الأمر الذي يقترب بكتابته من سلسلة غير متجانسة من النصوص القصصية والشعرية التي أنجزها كتاب عرب، بدءًا من زكريا تامر، ويحيى الطاهر عبدالله، وإدوار الخراط، وصولًا إلى سليم بركات، وقاسم حداد.


في‭ ‬مواجهة‭ ‬ماضٍ‭ ‬لم‭ ‬يمت‭ ‬بما‭ ‬يكفي

قاسم‭ ‬حداد ‬شاعر‭ ‬بحريني

(1)

يكتب لأنه يتنفس. الحياة عنده هي الكتابة بالدرجة الأولى. فلم أصادف منه عناية بشيء في حياته مثل اهتمامه بالكتابة. تعلمت من أمين صالح اكتشاف الماضي، وتأمل الحاضر، وصداقة المستقبل. لم أعرف عنه اكتراثًا سلبيًّا بالآخرين، حين لا يصير الآخر قانونًا له وقت الكتابة، لا أحد يكترث مثله بمشاعر الآخرين ودلالاتهم الإنسانية.

(2)

على الرغم من اتفاقنا على ما لا يقاس ولا يحصى من أمور، فإننا نظل على طرفين مختلفين من النقائض الفعالة، وظني أن في بعض هذه النقائض اختلافًا يجعلنا نخطو في سعي دؤوب نحو تحقيق التكامل الذي لا يتكامل. فمن الخطأ اعتبارنا نسخة واحدة في شخصين. فربما اكتمالنا ينشأ من تلك النقائض
والاختلافات الحيوية.

(3)

كلانا قليل الكلام في الأصل، وكلما تقدم بنا العمر تناقصت حاجتنا للكلام، وصار الصمت كلامًا أكثر بلاغة بيننا. ربما لأننا سئمنا من الكلام، فقد تكلمنا كثيرًا، ويبدو لي أننا تكلمنا أكثر من اللازم، والحق أننا تعبنا من ذلك. ثمة إحساس ينتابنا، مع الوقت واختزال الحركة الإيجابية في الحياة، وتقريبًا انعدام التقدم، يتولد إحساسٌ بلا جدوى الكلام، ليس لعدم وجود من يسمع، ولكن لعدم السماح لمن يسمع أن يفعل شيئًا؛ لذا كلما تحدثنا معًا استذكرنا مستقبلًا لا يأتي، لأن الماضي لم يمت بما فيه الكفاية.

(4)

لكي نفهم أمين صالح علينا وضع الفن السينمائي عدسة لقراءتنا. فلهذا الفن دورٌ مكوّن في بنية مفهوم الكتابة عند أمين. الحاسة السينمائية لم تطرأ على ثقافة الكاتب في أمين صالح، إنما هي عنصر مؤسس في بنيته الثقافية، وهو الأمر الذي أغنى تجربته بجماليات تخترق رتابة الثقافة العربية، حيث الحاسة البصرية من الحواس المكبوتة عندنا منذ التراث؛ لذلك عمل أمين صالح على الاستعانة بالحساسية الفنية في تفجير أكثر الجماليات كمونًا في فنون الكتابة. فمن يسعى إلى تنشيط حريات المخيلة لن يستغني عن فن السينما بوصفه أكثر الفنون البصرية قوةً وثورية.

(5)

عندما اشتركت معه في كتابة «الجواشن» اكتسبت الدرس الحاسم في تجربتي الأدبية. لقد تعلمت منه طرائق التنشيط الفعال لمخيلة الكاتب؛ لذا سوف أعدّ تجربة «الجواشن» من بين أغنى تجاربي في الكتابة والفن. وإذا جاز لي القول: إنني ما زلتُ أغترف من تلك التجربة فيما أكتب حتى الآن. وبما أننا لم نذهب إلى تلك التجربة بقرار وإدراك واعيين، فمن العبث الكلام عن إمكانية تكرار تلك التجربة من دون ارتكاب حماقة ما. فتلك التجربة نسيج وحدها، نحب عدم محاولة اجترارها. فهي لا تزال حية في كتابتنا.

(6)

«رُبَّ أخٍ لم تلده أمك»، أعتقد أن هذا القول الشهير قد صيغ ليعبر عن علاقتنا، أمين وأنا. فلديّ شقيقان وأصدقاء لا يحصون، لكن صداقتي مع أمين صالح وحدها التي تجعل الحياة ممكنة، بل إنني سأندم كثيرًا إذا مت قبله.

(7)

أمين صالح ليس صديقًا عابرًا، إنه صديق عائلتي كلها، ولدينا حياة مشتركة طوال الوقت، ويندر أن يكون هناك مشروع عائلي لا يدخل أمين صالح في صلبه.

وعندما كنت في الاعتقال، كان أمين صالح البلسم الإلهي لعائلتي. حتى إنك ستتمنى جراحًا كثيرة من أجل الفوز ببلسم مثل أمين صالح.

(8)

لكل امرئ من اسمه نصيب. صديقي الأمين الصالح.


مخيّلةٌ‭ ‬تمرح‭..‬‭ ‬حلمٌ‭ ‬يتنزّه

عبدالله‭ ‬السفر ‬ناقد‭ ‬سعودي

«أغنية أ. ص. الأولى» هي المصافحة الأولى لي مع إبداع أمين صالح. قرأتُ الرواية في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، ولا أزال أذكر تلك القراءة والظرف والمناخ المصاحبين لها؛ وهو ما جعل الرواية أشد نفاذًا وأبلغ، وأبقى في الذاكرة جماليًّا وإنسانيًّا. وقتذاك كانت حرب حركة أمل على المخيمات الفلسطينية في لبنان، وأمام العين تحضر مسرحية «خيوط من فضة» للمخرج جواد الأسدي. واقعة دموية فائرة وحدث إبداعي فلسطيني «عربي» بأنفاس عراقية ترافَقَا ليكونا ماثليْنِ ومحيطيْنِ بي أثناء إبحاري مع أمين صالح لأول مرّة متدافِعَ الأنفاس مبهورَها.

تدفّقٌ إخباري موجع من بيروت، و«خيوط من فضة» ـ رغم الأسى.. والجحيم ـ تحلّق بي في متعةٍ نادرة لم أختبرْها، قبلًا، تصدر عن عمل مسرحي شاهدته. هذا المتعة وذلك الوجع أجدهما قبالتي أيضًا من نافذة أمين صالح الجديدةِ عليَّ وعيًا ووجدانًا وأسلوبًا وطريقة في الكتابة.. تنتمي إلى الواقع في تعقيده الاجتماعي والسياسي؛ الواقع المرهون بيد سلطة متغوّلة تثخن في (الإنسان.. «أ. ص. ونسخه الوطنية») قمعًا ونهبًا، وتفرض عليه الانحناء ثم الانحناء لجبروتِها ولأدواتِها التنفيذية (المختار، المحقّق، الملكة،…). هذا الواقع بإنسانه المقهور والمهدور -والتعبير للدكتور مصطفى حجازي- الذي يَئِنّ تحت حافر العسف والتنكيل والتغييب؛ يجري تناوله تعبيريًّا بصيغة جمالية لافتة غير معهودة سرديًّا في الكتابة العربية في حدود تجربتي القرائية؛ ذلك أنّ أمين صالح بسحر اللغة وطلاقة المخيّلة قادرٌ على خلخلة -هذا الواقع- ونقله إلى مدارٍ حلميٍّ يعبق بكلِّ ما هو غريب ومدهش.

ثمّة تنافذ وامتزاج إلى درجة الدمج بين الوقائعي واليومي -بما هو صلب وثابت وراسخ- وبين ما تفيءُ به المخيّلة من تحوّلاتٍ وكائنات لها طابعُ الخفّة والانسيابية، والقابلية للتركيب ثم إعادة التركيب في بناءٍ توالديٍّ أقرب ما يكون إلى رحلة استكشاف تضرب في المجهول، أو على وجه التحديد، تبحث عن هذا المجهول.. تسعى إليه؛ كنزًا يغري بالإدلاج فيه؛ وَعْدًا بأبوابٍ ومغاراتٍ لا تُستنفَد. تلك الغلالةُ الحلمية بذخائر المخيّلة التي لا تُحصى ـ وفي طيّاتها الواقعُ، أبدًا تظلّ فراشةَ أمين صالح المستحيلة منذ أغنيته الأولى حتى «المياه وظلالها».

لعل من المناسب هنا أن أستعين بأحد نصوصه القصيرة جدًّا، الواردة في «موت طفيف»، الذي يحلو لي أن أعدّه دليلًا على مسار السرد عند كاتبنا في انفتاحه وتمدّده، القائم على التجدّد يعقبه التجدّد وعلى الانتظار يتلوه انتظار.. القائم على الانسراح مع ضباب الحلم ودوّاماته التي تتوسّع واحدةً بعد أخرى. مسارٌ من السرد لذّتُهُ ومتعتُه كلّها في المؤجَّل بلا نهايةٍ ودون قُفلٍ محكم، وكأنما بنيلوبي تخامِرُ روحَ الكاتب وتسري في حركة أصابعه: (العجوز تنسجُ الخرافة في أحداق أحفادٍ/ يدخلونَ الحكايةَ بوجلِ من يدخلُ المتاهة/ وقبل أن تصلَ الحكايةُ إلى عتبةِ النهاية/ يمسُّ النعاسُ أجفانَهم بأجنحتِهِ المبلّلة بالحلم).


أمين‭ ‬وهو‭ ‬يرانا‭ ‬الآن

فوزية‭ ‬السندي ‬شاعرة‭ ‬بحرينية

(1)

منذ «هنا الوردة» وهو يرانا في حديقة روحه، أرواح متلهفة بقلوبها حوله، تتأمل إتقان موهبته وينبوع عطر روحه، تراه يتأمل ما يراه بهدوء وردة تتسامى في هواء الله، قدير يحيا وحده وكتبه وأقلامه وأوراقه في وقت يكتشف مداه. عرفت «أمين» عندما احتميت بالحرف ولُذتُ ببياض لم أعهده من قبل، صديق للقلب، هادئ كما الغيمة وهي تمضي بنقاوة المطر في سماء ملهمة، دومًا يكتشف ذاته وما ينحت الروح، مـتأهبًا ببصيرته لحياة تقترب منه.

حذر «أمين» وانحيازه لعزلة مهيبة تجاه ما حوله، علمه أن يتقن صمته، دومًا كنت مفتونة بصمت «أمين» أمام غلو ضجيج يتسابق في تصاعد أزلي، تلهف نحو المنصات وحمى النياشين، حبور برنين أياد تحتد، تدافع حثيث نحو وهم المجد، نحو مزاد أجوف لا يمس الإبداع بِصِلة. ذاك الذي لم يكن يراه «أمين» وهو يمضي لصقل ذاكرة رعاياه بنقاوة قلبه ومهارة موهبته، مليك زاهد ومقتدر يزين مملكته بحكمة بالغة نرتويها على مَهل. عرفته فيما بعد بذهول أعمق عندما بدأت أقرأ هداياه التي أحتضنها بحب، وأتجمل بإهداءات عميقة كقلبه.

صمت أمين كان دومًا يذكرني بكلمات الشاعرة إيميلي ديكنسون، التي لم تكن بحاجة إلى المجد: «المجد هو ذلك الشيء البراق الأسى/ الذي يعني السيطرة لحظة ما/ فيدفئ اسمًا مغمورًا لم يعرف حرارة الشمس/ لينقله بعد ذلك/ برفق/ نحو العدم».

(2)

كتبت منذ وقت مضى وأنا أدون ما مسني من «ندماء المرفأ ندماء الريح»: لست هنا لاقتراف فعل النقد الذي يقسو ليغتبط بذاته، أو الذي يتأهب بعدة السفك ويسوق ما يفترض أنه جثة لبرد الطاولة، ويفاجأ حين يغرز مخرزه لتشريح ما استعصى من أعضاء النص، يفاجأ بصرخة ترديه منذهلًا لما يرى، ويعتقد فيما بعد صعوبة الدخول إلى هذا النص الذي ينزف دمًا لن ينساه من لا يحترز، من لا يترفق بعبء أمين المتخلق جسدًا أكثر رهاوة مما نجزم، فليكسر من أراد أن يتوغل معوله.

آن لنا أن نلتذّ بهذا الهواء، إنه الهواء ولا شيء سواه ذلك الذي يحرضنا ونحن نقرأ أن ننسى ما نقرأ وننداح في سلال المتعة التي لا تضاهى، بدخول هذه المغامرة التي تجرجرنا من ردن الصخب الذي يعترينا. ومن لا يفعل لن يغفر ليديه ما التهت به من شأن آخر عندما تتبرأ منه ذاكرة تعرضت لكل هذا الانتهاك الجميل.

عندما ينتزع أمين صالح جسده المضمخ بكلام فاضح ويهبهُ ببذخ في العراء ويقول: هذا نداء ندمائي، فماذا ترون؟ لا نرى غير ما نراه أو ما يراه؛ لأننا في كل قراءة (محاذاة) لنصه نكتشف تبدل رؤيتنا للمشهد ولما توقعناه أن يكون، ونبدأ ننسف بأنفسنا وبوعي أكثر اتقادًا ما كنا نراه. ماذا ترون؟ هكذا لا يكف عن مشاغبة أدوارنا فيما لا ندرى؛ لأنه النص الذي يبوح ولا يستباح ولا نجرؤ على تخيل هذا الفعل، لا بابَ للانتظار، كل ما هناك نوافذ للفتح.

(3)

هذا هو «أمين» وموهبته المتقدة في رحلة الحياة التي سامر فيها كل تجليات روحه الإبداعية من القصص والروايات والسينما والمسرح والشعر الذي تناهض في ينابيع نصوصه، والكتابة فيما تراه الروح، وكل شيء أمعن في عين القلب ليرى ما يراه وليرانا نُسارّ بياضه الأليف بالتوق لجموح حرفه. يا له وهو يتكئ في ليله الوحيد وينبض بهدوئه المعتاد ويحتضن قلمه الأول ويكتب ما يراه.

لا أبالغ إذ بحت بصراحة قلبي عن ندرة قلبه وعمق صداقته بملائكية يجسدها «أمين» بين قلبه وقلوبنا طيلة حياته، مبدع مثله يجتاز الحياة برفقة نقاوة ظله وبراءة قلبه الذي لم يتأخر عن الحب قط. من عرف أمين تعلم معنى الحب المصقول بصدق لا مثيل له، هو من يغدقنا الآن بالحب، بكرمه وتكريمه في آن، كذلك قلبي ممتن لرفقة «الفيصل» على دعوتي لتنوير حديقة قلبي بكلمات قليلة أودعها قلب «أمين».


ناقد‭ ‬سينمائي‭ ‬وفيلسوف‭ ‬متفرد

خالد‭ ‬ربيع‭ ‬السيد ‬ناقد‭ ‬سينمائي

ما إن تقع يدك على كتاب للكاتب أمين صالح، الذي أختصرُ وصفه هنا بكلمة «الكاتب» لتشمل عدة صفات تأسى بها وتمثلها فهو الناقد، السيناريست، والروائي، والمترجم، والشاعر والأديب. القاص والمسرحي والدرامي التلفزيوني والباحث والصحفي.. إذن ما إن تقرأ أيًّا من كتبه سواء المترجمة أو المؤلفة في مجال النقد والتحليل والتذوق السينمائي، حتى يبهرك أسلوبه الكتابي الذي ينقشه كما تنقش الزخارف على جدران القصور الفاخرة.

لا مبالغة إذا قلنا: إن أسلوبه متفرد لم تعرف العربية مثله في مجال النقد السينمائي. شكل من الكتابة الآسرة ذات الإيقاع المُراوِح بين البوح الوجداني والشعر والنثر المعاصرين، دفق روحي عذب يقطر بكلمات وجمل وصياغات لا يتقنها إلا أديب عاقر الكتابة والأدب ردحًا طويلًا من الزمن، إنه أسلوب عصي عن أية مقارنة، بل إن القارئ لا تخامره لحظة واحدة بأنه يقرأ كتابًا أو مادة مترجمة؛ لأن براعة الترجمة تنهل من ثراء لغته الأدبية، وليس كما يحدث مع عشرات المؤلفين والمترجمين العرب الذين تشعر وأنت تقرأ لهم بأن ثمة نبرة توحي بالعجمة بشكل طاغي؛ وأن «خواجة» يحاول أن يكتب بالعربية.

إذا تجاوزنا عن الأسلوب الأدبي البديع الذي يكتب به، وحاولنا أن نتداخل قليلًا، في هذه العجالة، مع الموضوعات التي يختارها ليترجمها أو يكتب عنها؛ فإننا نلمس بعدًا معرفيًّا آخر، ينصب أولًا في النظرة إلى الإضافة للقارئ العربي، ثم إلى فهم السينما بمنظار الفيلسوف المغرم والحكيم المتبتل والجراح الحاذق الذي يعمل بمبضعه ليستجلي أغوارًا سحيقة في فن السينما، منطلقًا من أساليب ورؤى وأفكار المخرجين؛ ثم طرق أداء الممثلين وأفكار وقصص المؤلفين للأفلام التي يتحدث عنها.

لذا؛ ثمة شعور غامر ستلمسه عند قراءة كتبه عن المخرجين العالميين المتميزين، وهو شعور غامر بالحب يبثه معلمنا عن هذا المخرج أو ذاك الممثل، فهذا الحب سر جمالية كتاباته. نعم، لقد لفت أستاذنا أمين صالح انتباهنا لأفكار ومعارف وقضايا ومفاهيم واتجاهات لم تكن مطروحة من قبل، وبذلك لولا كتاباته لما عرفناها قط، بل إن كتبه أوجدت معرفة كانت غائبة عن المكتبة العربية، ومن ثَمّ عن السينمائيين المتذوقين وصناع الأفلام والنقاد والجماهير.

كتابه المترجَم عن المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي، على سبيل المثال، «النحت في الزمن» يعد درسًا ممتعًا وثريًّا لكل من يقرؤه، كما هو الحال مع كتابه المترجم عن أ. سكوت فوغل «السينما التدميرية» الذي يخامر قارئه، كما أعتقد، سؤال مفاده: كيف التقط أمين صالح هذا الكتاب ليترجمه؟

ناهيك عن كتبه (مترجماته) «عباس كيارستمي: سينما مطرزة بالبراءة»، و«الوجه والظل في التمثيل السينمائي»، و«حوار مع فدريكو فلليني»، و«عالم ثيو أنجيلوبولوس السينمائي»، و«الكتابة بالضوء»، «دي نيرو المتعدّد والمتحوّل»، وغيرها من الكتب التي لم أطلع عليها بسبب نفادها من فور صدورها، ولكن من دون مبالغة أثق في أنه يمكن عدّ هذه الكتب مناهج علمية وفنية وثقافية جديرة بالدرس على المستوى الأكاديمي؛ بل ينبغي اعتمادها ضمن مقررات معاهد ومدارس السينما العربية والعالمية.

إننا إذا تأملنا كتبه «المترجمة» فإننا سنطلق عليها كتب أمين صالح وربما ننسى كاتبها الأصلي؛ لأن روح أمين وعذوبه قلمه طاغية فيها، ولأن موضوعاتها لم تكن لِتُطرَقَ لولا أنه فعل. فهي كتب أمين صالح أولًا وأخيرًا.

لكن بكل تأكيد، إن جُلّ مقالاته، تحمل قيمًا معرفية لا تضاهى، وسأكرر ما كتبته قبل سطور؛ أنها لم تُطرَقْ من قبلُ، وأنها أسست لفهم معانٍ كانت غائبة عن الحياض المعرفي العربي، مثلًا، على سبيل المثال، مقالته المترجمة «سينما الطريق – البحث عن أفق»، جعلتنا نفهم فِلْم الطريق، وبناءً عليه ظهرت أفلام تنتهج ما وصفه وحدده.

ثم إن آراءه التي يبوح بها في اللقاءات الصحفية حتى في الحوارات والنقاشات تنمّ عن ذائقة عميقة وفذة وحقيقية غير مجاملة أو متأثرة بثقافة القطيع من النقاد أو الصحفيين، وهي ثرية برؤاه الفلسفية التي يطرحها بعفويته وحكمته الصادقة، ففي لقاء صحفي قرأته له، اندهشت لرأيه الصائب والصادم؛ الذي لفت انتباهي إلى مكون مهم عند أي مخرج، وهو: رؤية المخرج.. يقول في الحوار: قلة من المخرجين العرب لديهم رؤية متماسكة أو لديهم معالم واضحة. يجب أن تكون رؤية المخرج متضحة منذ بداياته. لا يوجد لدينا مخرج عربي يُراكم تجربة بشكل متصاعد، قد يقدم عملًا ممتازًا، ثم نراه يقدم عملًا عاديًّا جدًّا. السينما العربية تفتقر إلى الرؤية والعمق الفكري.

واستوقفني قوله: المثقفون العرب -في الغالب- يتباهون بأنهم لا يذهبون إلى السينما، دعك من قراءة الكتب السينمائية. كما لو أن مشاهدة فِلْم فعل مخجل أو مشين أو لا يليق بمثقف، كأنها مضيعة وقت. هناك فقر شديد في الوعي بأهمية السينما وقيمتها وجدواها وسحرها. الكاتب أمين صالح قيمة معرفية كبيرة لم تنهل منه الأجيال الناهضة بعد؛ ومهمتنا أن نقدم طروحاته ورؤاه لهم.


شجرة‭ ‬بأوراق‭ ‬كثيرة

سيد‭ ‬محمود ‬صحفي‭ ‬وكاتب‭ ‬مصري

كنا في عام 1989م، لم نصل بعد إلى عامنا العشرين، نقرأ كل ما يصل إلينا، نريد أن نكون شعراء ولا شيء آخر. كان الوصول إلى منشورات «توبقال» المغربية في هذا الوقت المبكر من أعمارنا بمنزلة العثور على «كنز»، أو بلوغ مغارة «علي بابا»، غمرتنا الدار بفيضها، وجرت معها مياه الاكتشافات. منذ أن قرأنا ديوان «الحياة قرب الأكروبول» للشاعر العراقي سركون بولص، صرنا بعدها نثق في كل ما تنشر، ونعتقد في جودته، وأصبح كل كتاب يؤدي إلى مكتبة. ولا يزال شعار الدار حاضرًا في رأسي: «تختار لك كتبًا أنت بحاجة إليها». كانت هذه الثقة صحيحة إلى حد كبير، فلم أقرأ كتابًا من «توبقال» وخذلني قط. هز ما قرأناه كل أفكارنا عن الكتابة، وأخذها إلى منطقة أخرى من الإدراك لوعودها، وقت أن كانت أرواحنا مؤهلة، وقلوبنا بيضاء، وعقولنا تنتظر من يملؤها بالشك.

لا أعرف إلى الآن كيف وصل إلينا كتاب «الجواشن» لقاسم حداد وأمين صالح بغلافه الذي يقع بين الأبيض والرمادي، وعنوانه المكتوب باللون الأحمر، وبـ«فنط» أقرب لأشكال الخطوط المغربية التقليدية و«موتيف» أسود عرفت أنه تفصيل من لوحة للفنان رشيد القريشي، ما أذكره أنني أخذت الكتاب من بيت صديقي أحمد يماني، وكان هذا هو أول لقاء مع أمين صالح وقاسم حداد وأول لقاء أعرفه مع اقتراحات إنتاج (النص المفتوح)، لفتنا آنذاك وجود نص واحد يحمل اسم اثنين، كانت التجربة ولا تزال غريبة؛ لأن الكتابة الإبداعية فعل فردي، وبفضل هذا الاعتقاد ظلت تجارب عبدالرحمن منيف مع جبرا إبراهيم جبرا وتجربة طه حسين مع توفيق الحكيم مجرد استثناءات لم ترسخ لتقليد أو تساهم في إشاعة الفكرة التي تنزع عن المبدع أنانيته.

حين أتيح لي بعد خمسة عشر عامًا من اللقاء الأول أن أحظى بصحبة قاسم حداد وصداقته، كنت أرافقه إلى لقاءات متكررة مع أمين ولم أسألهما قط عن الدافع وراء كتابة نص واحد، ربما لأني رأيت الإجابة متجسدة أمامي: «صديقان حميمان يمزجان الضوء والعتمة». (نص العاصمة الأولى – الجواشن).

* * *

في اللقاءات التي جمعتني معهما طوال 18 شهرًا عشتها في البحرين، كنت أراقب صداقتهما النادرة وأتأملها، اطلعت على نصوص أخرى من إنتاجهما المشترك مثل «موت الكورس»، و«الدم الهاطل»، وتأكدت عندي فكرة «محترف الكتابة» التي تولد في خضم الصداقة اليومية، وتنمو بفضل توالد الأفكار التي لا يتعطل عملها أبدًا، صداقة بلغت عامها الخمسين دون أن تشيخ، لا أعرف إن كانت في مقام المعجزة، أو راسية مثل سفينة فوق ضفاف الهبة.

أستطيع القول: إنها علاقة تقوم على نوع من «الصمت» أجمل من كل الكلام. لا يغادر أمين بيته إلا مرات نادرة، تتلخص كلها في اللقاء مع قاسم؛ لأن بينهما ضحكة صاخبة (يستعصي على الآخرين تأويلها) كما يقول أمين. كان قاسم يصحبني في العادة إلى مقهى أو مطعم اختاره للقاء مع (أمين)، كانت اللقاءات في أغلبها صباحية وفي الطريق يخبرني أنه أعد كل شيء. ومهما طالت الجلسة فإن أمين لا يتكلم أبدًا! وإذا حدث فهو يكتفي بالتعليق، ومن النادر أن يبادر؛ لأنه كما كتب صديقه: «لا يروي، لكنه يرى». وطوال حياتي لم أعرف صداقة مثل ما بينهما من صداقة، تشمل خدمات الرعاية الفائقة.

في أسفار مشتركة رأيت قاسم يبحث عن الأشياء التي يحتاجها أمين، أو تلك التي يعتقد أنها تسعده، يحمل إليه الكتب من بلاد كثيرة، وحين يسافر يحمل مؤلفاته إلى الأصدقاء. وعبر عشرين عامًا لا أذكر أن أمينًا وهبني كتابًا من كتبه وأجدها عندي؛ لأن قاسم تولّى عنه مسؤولية حملها كـ«القرابين» يهبها للمحبين الذين يمجدون هذه الصداقة. يصف أمين نفسه بأنه «خجول ومتردد، لا يحسن التصرف أبدًا»؛ لذلك هو بحاجة لمن يهيئ له أشياء كثيرة وربما من ينوب عنه، وقد هيأ قاسم نفسه لهذه المهمة وأداها بنجاح.

حين جلست لأكتب ما أكتبه الآن فكرت في تقصي الجذر الأول في هذه الشجرة المباركة، عدت لما كتبه أمين صالح في مقدمة كتاب «ما أجملك أيها الذئب» الذي نشره قاسم حداد في عام 2006م (المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، ووجدت أمينًا يؤرخ لهذه الصداقة، ويكشف قانونها، صداقة اقترنت فيها الروح بالروح، وصار أحدهما للآخر ذاتًا أخرى.

يعود صالح إلى نص «الجواشن» ويضع يده على الالتباس الذي مس المؤلفين، فـ«لم نعد نعرف من منهما كتب هذا أو ذاك، ومن نصب الفخاخ لجذور المساء، أو صاغ لكائنات الغيب لغتها ومأزقها ومصائرها.. كأنّ ذاتًا واحدة كتبت ذلك النص»، في حين ينبهني قاسم إلى أنهما كانا يمشيان في حلم ويتبادلان «أنخاب الكتابة».

كتب قاسم حداد الكثير عن (البلسم المسمى أمين صالح)، ونظر إليه من شرفة الحلم أكثر من مرة، وتوقف أمام شاعريته وقرأ سرده بعين الشاعر، ودلّنا على المسافة التي ينبغي أن نقطعها من الشخص إلى النص، ووضع أرواحنا في مهب هذا التماهي.

يلمح قارئ سرديات أمين صالح ببساطة هذا الحضور الباذخ للشعر في نصوصه، لكن من أين يأتي أمين بالشعر وهو السارد الفذ؟ حين طرحت على نفسي هذا السؤال اكتشفت أن ما كتبته حول إنتاج أمين صالح انصب بالكامل على جهده مترجمًا، وهو جهد يؤسس لخارطة طريق تصل بين محطات كثيرة في تجربته الإبداعية التي تنطوي على ولع واضح بالسوريالية، سواء على صعيد التقنية أو سبل إنتاج المعنى.

ومن يعود لترجمته لكتاب «السوريالية في عيون المرايا» سيجد الكثير الذي يعين على هذا الفهم، وبخاصة «الجواشن»، و«رهائن الغيب»، وفي ترجمته البديعة لكتاب أندريه تاركوفسكي يمكن الوقوف على أسباب أخرى للولع بخيار (النص المفتوح)، فالكتاب كله تحريض على فكرة التجاور الإبداعي، وتأكيد لمزاياها. وهو في ترجماته التي توالت مؤخرًا لمقالات لوتريامون على سبيل المثال يهيئ للقارئ فرصة العثور على ذائقة جديدة تأخذه إلى الضفاف البعيدة، وتحرره من الحدود المرسومة سلفًا.

وفي أحدث ترجماته التي وصلت لي وصدرت بعنوان: «جيوبي مليئة بالفصول أيتها الينابيع»، يسهل إدراك حرصه وفهمه للسوريالية، وافتتانه بالشعر بداية من العنوان. وعبر صفحات الكتاب المهدى إلى قاسم حداد أيضًا، تتأكد فكرة أن أمين صالح شاعر حتى بعد أن توقف مختارًا عن كتابة الشعر، وأدرك -كما يقول الكتاب- أن المجد تخلى عن الشعر ليتمتع به العلم والفلسفة. وربما آثر أن يترك الشعر لصديقه قاسم حداد، ويؤسس لصداقة تشبه القصيدة، فقد أرادها شجرة بأوراق كثيرة، واحتمى بظلها كما احتمى بالصمت طوال الوقت.


المختلف‭ ‬إبداعًا‭ ‬وسردًا

فهد‭ ‬حسين ‬ناقد‭ ‬بحريني

حين تقف عند عتبة أمين صالح طالبًا الدخول إلى عالمه القصصي، فإن الدهشـة لا تذهب منك، بل قد لا تعرف المصدر الرئيس لهذه الدهشة، هل في بناء النص؟ الذي تراه في كل بناء سردي يُشيّده، هل في لغة النص؟ هل في السردية التي اتبعهـا في القصة، أم في طريقة عرض الموضوع، أم في التخييل؟ وهذا ما يؤكده مع هبوب الشائعات الأولى لفجر مأخوذ ببهائه، تستيقظ الشجرة وتصغي إلى صدى نداءات النهـار الذي يقتفي بأجـراس من ضوء، فلـول الليـل، وتلك البلابل التي التهبت مناقيرها تنتفض لتزيح الحيرة عن ريشهـا، وتأخذ في الصبـاح مغتبطة، إذ لا شيء يضاهي حضور المعجزة – العناصر، قصة «وشجرة تنتحل هجرة الينابيع». أم في هذا كله؟ إنك تعجز وأنت تحاور النص وتناقشه، حيث بين الموضوع والواقع المعيش والتخييل خيط رفيع جدًّا جدًّا، هكذا صاغ القاص قصته «الحاجز» عبر طرح أكثر من قضية متشابكة في موضوع واحد، بين العلاقة الأسرية داخل البيت، وعنفوان الشباب والتطلع الدائم لمواجهة من يعكر صفو العيش والحياة الاجتماعية والسياسية والوجدانية، ويذهب الكاتب إلى زمن الانتداب البريطاني على البحرين، والدور الذي كان يقوم به الشباب آنذاك وإن لم يكشف تصريحًا، فإن حضور الحجاج بن يوسف الثقفي، ودوره الفاعل في السلطة السياسية ببغداد أيام الدولة الأموية، وما فعله يعطي القارئ مساحة من التأويل والإيحاء تجاه الدول المستعمرة.

التجريب المستمر

إن تجربة أمين صالح القصصية أو حتى الروائية قائمة على التجريب المستمر، في الشكل والموضوع، وفي بناء جسد العمل ومعماره، وفي اللغة التي يرتكز عليها في كل أعماله، حيث اللغة عنده تقنية ومرتكز رئيس، وليست مكونًا عاديًّا من مكونات الكتابة السردية، وهنا يقول الكاتب في إحدى قصص مجموعة «الطرائد»: «سادة البلدة هنا. يتحدثون عن الأسهم حتى في عطلتهم الأسبوعية، حتى في نومهم. سيدات البلدة كذلك يتقن الثرثرة عن صالونات التجميل. الأبناء المدللون يلهون في الجداول التي تسقي الأحجار، وأحيانًا يتراشقون بالطوب. أما خارج سور الحديقة فحيّز يمكن أن يسع أبناء الفقراء، وهم بالتحديد أفراد أو بتعبير أدق، طبقة تعجز عن دفع رسوم الدخول». (الطرائد، قصة «في الحديقة الحجرية»)، وهذا ما يعكس طبيعة الرؤية لديه تجاه نصه، ونصوص الآخرين أيضًا، وقدرته الفنية والجمالية على فك قيود الكتابة من أسر سياجها، وإطلاق حرية النوع الكتابي الأدبي من أجل بناء نظام آخر يؤمن به، وإن لم يؤمن به الآخرون، نظام يصلح له دون غيره حيث البؤر التي ينطلق منها في الكتابة لا تأتي في شكلها الطبيعي، وإنما هي صيرورة دائمة ومتحركة الاتجاهات التي تمثل نهجًا وطريقًا في الكتابة الإبداعية لديه منذ الكتابات الأولى.

وإذا هناك من ملحوظات حول هذه المجموعة فإنها تكمن في تباين الأساليب السردية، وهذه حالة تؤكد الفردانية والذاتية الكاتبة التي تعتمد على الذات وليس على الآخر محاكاة أو تقليدًا، كما أن التفاوت في اللغة بين الأدبية والعادية كان واضحًا في النصوص التي جاءت معظمها على لسان الراوي أو السارد العليم العارف بكل تفاصيل الحكاية وأحداث النص من خلال المباشرة والوضـوح أو في الغموض والرمزية.

وبعض هذه النصوص اهتمت بمكوّن الحوار لاعتقادها أنه الأهم في وصول المضمون والهدف إلى القارئ. وفيما يخص الكتابة الروائية فأمين صالح منذ الكتابات الأولى وهو مستمر برؤية كانت ولا تزال باقية، بل تتطور وفق تحديات الكتابة الإبداعية عمومًا. تناولت روايته الأولى «أغنية أ. ص. الأولى» محنة الإنسان المعاصر الذي يعاني الإحباط والأزمات والفقر والقهر في ظل القضايا الاجتماعية والإنسانية؛ لذلك نجده يرتحل في سردياته إلى مستويات عليا في الرؤية تجاه الواقع المعيش، وكيفية تناول مشكلاته وقضاياه، وباللغة التي يراها هي الحافز الحقيقي تجاه هذا الواقع.

نص سردي وثقافي

أعتقد أن أمين صالح من الكتّاب المبدعين الذين يبذلون جهدًا كبيرًا في البحث عن موضوع النص، وفي كيفية استثمار تلك القراءات الثقافية والأدبية والسينمائية المعمقة لتصب كلها في النص الذي لم يعد عنده نصًّا سرديًّا فحسب، وإنما هو نص سردي وثقافي ومعرفي في آن واحد، ويذهب نصه إلى أبعد من هذا إذا عددنا نصه في محطة ما بعد الحداثة لما له من خصوصية تتمثل في تكسير القوالب الجاهزة، والابتعاد من الأنماط المألوفة في الكتابة، فهو يفرض نصه على القارئ لينظر إليه في أفق النظريات والقواعد المنهجية، ويحكم عليه بمسطرتها، بل يأخذه إلى أفق أبعد وأرحب بعيدًا من كل هذه القيود، وينطلق في تحليق ما يرغبه القارئ طالما يتشابك مع النص ومدلولاته ومقولاته وقضاياه.

في رواية «رهائن الغيب والذين هبطوا في صحن الدار بلا أجنحة» تأخذنا إلى الذاكرة الاجتماعية، وإلى الطفولة والصبا والشباب، إلى طبيعة التكوين الإنساني في ظل مجتمع تسوده العديد من الممارسات الاجتماعية والطبقية، حيث تدور الأحداث من خلال بعض الفتية (حميد – كريم الأعرج – زكريا – مفتاح – عزوز)، فكل واحد من هؤلاء وضع له الكاتب حكاية تخصه بمفرده، ولكنها ترتبط في جوانب أخرى بحكايات الأولاد الآخرين، هؤلاء يعيشون مرحلة عمرهم بكل براءة وشقاوة، وتنمو شخصياتهم بأحداث تتغير وتكبر مع نموهم الجسدي والعقلي، فها هو حميد الباحث عما ينقصه بحسب اعتقاده، فيتمنى أن يكون كسلطان صاحب الجسد القوي، والفتوة، والقادر على البطش والسيطرة، وزرع الخوف لمن في طريقه، ولكن في طور الشخصية يكتشف حميد أن شخصيته طموحة لتكون مثل شخصية أحمد صاحب المبادئ الثورية الملاحق من جانب السلطات الأمنية، وفي الوقت الذي أخذ من هذين الاثنين، فقد اتجه إلى عازف الساكسفون سنان منجذبًا إليه وإلى رغبة تعلم الموسيقا.

ويكشف الكاتب تطور الشخصيات عمريًّا ليعرف كل واحد منهم طبيعة جسده، وكيفية التعامل معه بشكل عام، وتلبية غرائز الجسد بشكل خاص… وكما طرحت الرواية هذه العناصر التي تلامس الشباب في ظل حرمان اجتماعي ونفسي واقتصادي، وقفت أيضًا على طبيعة المجتمع اقتصاديًّا وطبقيًّا، وعلاقة أبناء الفقراء بالأغنياء ونظرة الأغنياء للفقراء، كاشفة تعثر العلاقة بين حميد الفقير مع نبيل الغني، وهذا ما سحب أحداث الرواية في سياقات الطبقية إلى الحديث عن المطالبات والدفاع عن الحقوق، وحضور مفهوم القومية والحزبية وفلسطين، والاستعمار.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *