المقالات الأخيرة

“لقاء مارس 02: تواشجات” دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

“لقاء مارس 02: تواشجات”

دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

فيما يشبه الالتزام الأخلاقي والجمالي، تبنى لقاء مارس السنوي، الذي تنظمه مؤسسة الشارقة للفنون، في دورته الجديدة التي انتهت أنشطتها قبل أيام، طيفًا واسعًا من القضايا والموضوعات والنقاشات وعروض الأداء، التي لئن اختلفت وتعددت وتنوعت، إلا أنها تذهب كلها إلى منطقة واحدة،...

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

«جودة الحياة».. النسبي والمطلق

بحث في المفاهيم والدلالات والتصوّرات والتجليّات

بواسطة | مايو 1, 2021 | الملف

مقدمة حوارية، قلت لمحاورتي:

* «ما الذي يعنيه العيش الجيد لك سيدتي؟ كيف تلوح لك صور جودة الحياة في الواقع؟».

** «ببساطة تلوح لي بدءًا على المستوى الشخصي. أن تكون كل حاجياتي ملباة ومشبعة، أو على الأقل هو شعور إنساني جميل يجتاحني كل لحظة كحالات متجددة بالرضى النسبي، ومؤملة أن تلبى بوتيرة زمنية أسرع لو لم تكن ملباة كاملةً. وأن أشعر بقدرٍ من السعادة أو بالرضى المتصاعد بتحقق إنسانيتي وغاياتها ورغباتها الصغيرة والكبيرة، تحققًا نسبيًّا في لحظةٍ ما.. أي بلغة أرسطو: «الشعور بالسعادة والأمل في الآن نفسه». وبلغة الشارع الدالة أن أعيش بعضًا من «البحبوحة» ضمن دائرتي الفردية، وإمكانياتي، وفي كل مناشطها ومظاهرها وتجلياتها على المستوى الجمعي.. وأن أشعر بالانتماء إلى محيطي ودائرة علاقاتي. كل ذلك يؤول في ذهني إلى معنى جودة الحياة».

* «تقصدين الرضى الذاتي وحده، لا الرضى الجمعي!».

** «أقصدهما كليهما.. وفيما أظن، الرضى الذاتي تراكمي في مستواه الأفقي من ذاتٍ إلى أخرى ليس إلا مكوّنًا للرضى الجمعي، وفي نهاية المطاف سيخرج البعد الذاتي للرضى والسعادة من قشرته الأنوية نحو أفقه الجمعي.. حيث لا ديمومة له في غياب فضائه الخارجي، كيف تنظر أنت للأمر؟».

«لا أبتعد كثيرًا من رؤيتك، لكن أجد لزامًا علينا هنا تحديد مفهوم ودلالات وتمظهرات العيش الجيد ماضيًا، وفي الزمان والمكان المعينين حاضرًا. هناك مشترك دلالي كوني لمفهوم جودة الحياة لا يُختلف عليه. لكني أيضًا أجد ما هو نسبي في مكان يتجلى مطلقًا في مكان آخر على هذا الكوكب، بمعنى ما هو نسبي عندك الآن قد يكون في حالة مطلقة لغيرك الآن.. وما كان مطلقًا في لحظة زمنية مضت، أصبح نسبيًّا في لحظة حاضرة، ناهيك عن تفاوت مفهوم الجودة من فردٍ لآخر ومن زمن لزمنٍ. جودة الحياة بالرغم من مشتركاتها العامة ليست ذات قوام واحد على امتداد الجغرافية الكونية.. وعلى امتداد الزمن الكوني، وعلى امتداد الجغرافية البشرية أيضًا، تختلف وتتباين بناء على المستويات الثقافية، وعمق المدى الأنثروبولوجي، وتعدد أطيافه، والأولويات المجتمعية.. والحاجات المتغيرة».

** «وما المشترك الكوني العام في نظرك عند تحديدنا للمفهوم والمعنى والتداعيات المنعكسة؟».

* «هذا ما سأحدده في بحثي هنا… كيف نصل إلى جودة ملموسة للحياة بدءًا من البنى الكبرى الموضوعية الواقعة في دائرة وعينا، نزولًا إلى انعكاساتها وتأثيراتها في البنى الصغرى، وأقصد البنى الذاتية البسيطة الفردية، وطموحاتها في تحقق معايير الرضى والاستمتاع بالحياة.. ونستطيع أن نؤكد في الوقت ذاته أن جودة الحياة ليست ذات مفهومٍ واحدٍ مجرد ومعلق في الفراغ بلا جذور.. لا شك له دوافع، وعوامل مادية اقتصادية مؤسسة وهي في تناسج وتفاعل خلاق مع العوامل النفسية والفكرية والروحية ومتناقضاتها.. أظنك توافقينني هذا الرأي؟».

** «ما تقوله يا صديقي يبدو لي مشجعًا للغاية، ومدخلًا مهمًّا للخوض عميقًا في تأريخية المفهوم والتجليات.. في الواقع والمؤمل.. في النسبي والمطلق.. في الذاتي والموضوعي وما يحقق الوحدة الكلية لهما.. وهذا في نظري، يمهد لمناقشة أعمق لتفكيك المفهوم وإعادة تركيبه في بيئته المعاصرة».

مفهوم جودة الحياة في المنظور الفلسفي

قاربت الفلسفة على مدى تاريخها العريق معنى «جودة الحياة» في معانٍ مختلفة لا تبتعد كثيرًا من جوهر المفهوم المعاصر وغاياته الإنسانية، لكنها كثيرًا ما كانت تشير إليه بمفاهيم مجردة من جذورها الواقعية: كالبهجة أو السعادة، أو كاللذة والرضى والمتعة. إذ بدأ تجلي مفهوم جودة الحياة في الكتابات الفلسفية قديمها وجديدها منذ أرسطو وأفلاطون حتى عصرنا الحالي، في عدم تركيزه على المصطلح ذاته بل ما يؤدي إليه في المعنى، فما زال المفهوم يمتُّ بمرجعيته إلى الحقل الاقتصادي والمادي على الرغم من محاولات تبيئته في حقل الدلالات النفسية والقيمية والاجتماعية.

إن الاشتغال المعمّق على تقليب مفاهيم السعادة والبهجة في التربة الفلسفية قديمها وجديدها، والمقاربات الفلسفية التي ارتكزت إلى مفاهيم الفضائل الأخلاقية والسعادة الفردية واللذة، إنما كان اللبنات الأولى المؤسسة لمعنى جودة الحياة، وليست إلا إنصاتًا لدبيب صيرورة الحياة وقلق المعنى الإنساني الراغب في الحياة المطلقة السعادة في السياقات الزمنية، امتدّ عميقًا وعميقًا جدًّا في التاريخ الفلسفي الكوني.

منذ أرسطو وأفلاطون مرورًا بفلسفات ونظريات الفلاسفة الإسلاميين مثل: الفارابي وابن مسكويه وابن خلدون، وصولًا إلى اشتغالات كانط وإسبينوزا وهيغل، تجلى مفهوم جودة الحياة ليس فيما هو كمصطلح خارج حدود الأنا-خارج حدود النسبي، بل فيما يؤدي إليه في المعنى والدلالة. وظل السؤال في بُعْده الفلسفي مُشرعًا في حدود تجريداته وملموسيته في الواقع حتى اللحظة، في فلسفات معاصرة وليس آخرها فلسفات ورؤى آلان باديو التجريدية.

حلمَ الفارابي بمدينته الفاضلة ومن قبله أَسَّسَ أفلاطون معالمَ جمهوريته، وكلاهما في تقديري حلمَا بجودة فُضْلَى للحياة، ومثالية للمدينة الفاضلة أو السعيدة. وعدّ الفارابي السعادةَ التي هي «أسمى الخيرات وأعظمها وأكملها»، هي ما يشيّد أركان هذه المدينة/ الحلم أو الجمهورية الفاضلة عند أفلاطون، والسعادة التي عناها كل منهما هي السعادة العقلية والروحية ولم يربطاها بمادة أو بشيء ما خارج حدود العقل والنفس، فالسعادة هي الخير المطلق.

وقد يبدو لنا أن تشييد هذه المدينة ليس إلا صرحًا في الهواء أو الخيال لكنه في الحقيقة هو مشروع سياسي أخلاقي، أسس لدولة تقوم فيها جودة الحياة التي هي جودة عقلية ونفسية (من الروح) ضمن حدودها المقترحة على «العمل الجاد، والتعاون والتدبير الحسن، والاحتكام إلى العقل والمنطق وحب الفلسفة والحكمة»، رئيسها فيلسوف فاضل، والفلاسفة هم أعظم أجزائها، ومن داخلها فقط تُمارَس الفضائل الأخلاقية التي هي وحدها مبدأ السعادة للإنسان، خلافًا للمدينة الجاهلية كما يسميها الفارابي التي في نظره مبدؤها الأساس وغايتها هي اللذة واليسر والإشباع حيث لا تراتبية لها.

في جمهورية أفلاطون (التي هي المصدر الفلسفي والسياسي التدبيري لمدينة الفارابي الفاضلة، فهي لا تبتعد في تأسيسها من سياسات مدنية عادلة للحكم في الجمهورية الفاضلة لها تراتبيتها في توزيع المهام نابعة من خصالها العقلية والبدنية، وهي التي تتحقق بها السعادة والتوازن في جمهوريته المثالية كما كان يأمل) الخصلة الرئيسة الأولى: «الحكمة» وهي التي تنتمي إليها طبقة الحكام، و«الشجاعة» وهي التي تنتمي إليها طبقة الحرّاس، و«التحكم في النفس» وهي التي ينتمي إليها الأخلاقيون الذين يضبطون السيطرة على الغرائز والشهوات، أما الخصلة الرابعة فهي «العدل».

ومعنى العدل عند أفلاطون التناغم بين طبقات الجمهورية، وأن كل طبقة تصنع ما هي مهيأة له. وفي استبعادِه طبقةَ الشعراء والفنانين والمبدعين ما يؤكد أن دولته دولة عقل سياسي فلسفي يميل للاستفراد، وسعادتها سعادة عقلية وخلقية تميل إلى الاستبداد العقلي والمعرفي، فالشعراء والفنانون أقرب إلى الخيال والأحاسيس والمشاعر العاطفية التي هي في نظر أفلاطون ذات تأثيرٍ سيئ لاتخاذ القرارات السليمة! هذه المثالية الفلسفية تقودنا إلى مثاليات أخرى في التاريخ الفلسفي المعاصر، تجاوزت كل المفاهيم السابقة والأنساق الفلسفية لكن في نظري لم تقطع معها تمامًا وإن تغيرت اللغة وتراكمت المعارف الوجودية، وتحدثت المجتمعات بنيويًّا.

آرتور شوبنهاور الفيلسوف الألماني الأكثر تشاؤمية كما يُعرَف عنه يبدو لنا في كتابه «فن العيش الحكيم» أنه «قدَّم وصفة دسمة عابرة للأزمنة والأمكنة لفن عيش ممكن»، على حد قول مترجم الكتاب، فكيف لاحت لنا مدينة العيش الحكيم الشوبنهاورية مشيّدة نظريًّا في كتابه هذا؟

إنها مدينة مؤسسة على الممكنات الذاتية وليس الموضوعية، فسعادة الإنسان تنبع من ذاتيته وكينونته لا مما يملكه من ثروات أو ممتلكات، أو ما يمثله في أذهان الآخرين من مكانة، «فالأبلهُ أبلهُ، والأخرقُ أخرقُ حتى النهاية، حتى لو أقاما في جَنّة النعيم تحيط بهما الحور». أما المُطلَق في السعادة، هو فيما نحن فيه من طبعٍ وخصال نفسية وسجايا وقدرات عقلية وبدنية، ومَلَكَات متّقدة. أما النسبية في السعادة، فهو ما يأتي من خارج من خيراتٍ، فالشرط الذاتي لا تغيره الشروط الموضوعية حسب تصوّره. فالسعادة تنبع من «الثراء الداخلي للإنسان، ثراء العقل والروح، الذي بقدر ما يرفع صاحبه ويسمو به بقدر ما يبعده من الملل»، وعدم إحساسه بجمال وجودة العيش من حوله، كما قال أرسطو: «السعادة من نصيب المكتفين بذواتهم».

لا يبتعد الفيلسوف الفرنسي المعاصر أندريه كونت سبونفيل من الفكرة السقراطية الأفلاطونية أو الفارابية، المُتمثّلة في أن الحكمة أي الفلسفة هي مصدر كل السعادات، والتفكير فيها جزء من تقاليدها، والفكرة ذاتها لا تحتمل أنها فكرة خاصة بالتفكير الفلسفي الغربي بل لها خصوصية كونية، أي بمعنى ما إن التقنية الحديثة بكل وسائلها، وهي صادرة من الغرب، تشكل وعدًا بالسعادة للإنسان وجودة لحياته، وحسب قوله: «إنه بات من الممكن أن نحمِل في جهاز الكمبيوتر الشخصي كل الموسيقا التي نحبّها، فهذا يعني أن التقنية قادرة بالفعل على إنتاج السعادة، ولكن لا تستطيع هذه السعادة أن تكون كافية»؛ لأنها راجعة في الأساس إلى الطبيعة البشرية، أي هي ذاتية قبل أن يصبح الموضوع منتجًا لها فمن هنا تبدو نسبيتها، «تساهم التقنية في السعادة ولكنها لا تكفيها»؛ لأنها غير مكتملة.

سعادة الإشباع

أما حسب الفيلسوف الفرنسي آلان باديو الأقرب إلى الألتوسرية (فلسفة لوي ألتوسير)، فالسعادة عنده لا وجود لها في عالمنا المعاصر، وحسب رؤيته القلقة فما هو موجود هو سعادة الإشباع، أي سعادة اللذات الحسية والمادية الفردية: سعادة الاستهلاك، أي أن العالم محكوم بشكل مطلق بسعادة (أيديولوجية الاستهلاك)، والسعادة التي تطرحها هذه الأيديولوجية ليست السعادة الحقيقية، فالسعادة كما هي في نظره قائمة في جوهرها على عدم الرضا الثابت وعدم القناعة بنظام العالم، وينفي التصور الرواقي للسعادة، وهو التصالح مع أقدارنا والرضا بما نحن فيه.

في تصوره النهائي: السعادة الحقيقية هي الرغبة المتأججة لتغيير العالم، وعنده اللقاء بحقيقة «حب» أو بحقيقة سياسية أو علمية أو فنية هي السعادة، والوصول إلى كل هذه الحقائق هو إبداع وظيفته ليس الإمتاع، بل تغيير العالم. ومع أنه في هذه التصورات البسيطة يعيد الاعتبار للتصور الماركسي الذي جعل من مهمة الفلسفة تغيير العالم، وهو ما حدث في روسيا والدول المحيطة، ولم تنل سعادتها المؤملة، يستدرك باديو ويقول: إن العالم ليس واحدًا، وعالمه هو «الواقع المستحيل».

في اعتقادي يدخلنا باديو برؤية الواقع المستحيل في متاهات مفهومية يضرب جوهرها التناقض، وتفتقد لمنطقها اللغوي ومنطقها الفعلي.. وهو لم يقدم إجابة شافية عن الطرق التي تقودنا إلى معنى السعادة الحقيقية التي هي تَجَلٍّ لمفهوم جودة الحياة. إنه في تصوري، ينقض كل الإمكانيات الجذرية للأفعال الملموسة والأفكار الماثلة والمتراكمة التي تحققت في السياق التاريخي الإنساني كله، فيدفع بنا باديو إلى المستحيل الميتافيزيقي على طريقته البروميثيوسية «واصل لا تتخلَّ»!

من أفضل وأمتع الكتب الفلسفية المعاصرة التي قرأتها والتي بثّت بطريقة خلاقة معنى الأمل المطلق والتي تناولت مسألة السعادة، بما تعنيه لنا هنا جودة العيش في طرقها ومسالكها وراهنيتها الفاعلة، هو كتاب الفيلسوف الفرنسي الشاب فريدريك لونوار «السعادة: رحلة فلسفية».. فهو يتفق مع شوبنهاور بأننا «بمرور الوقت نتعلم أن السعادة تنبع من داخلنا، وأن ما يسبب السعادة هو تجلي الذات وتناغمها المثالي الكامل». كيف يبدو ذلك؟ هل السعادة ممكنة؟ حسب قوله: «حتمية ممارسة السعادة في اللحظة الراهنة، تكون بالعودة إلى النفس، والبحث عن الملكة التي بها يواجه الإنسان ما يحدث له».

نعم هي ممكنة الحدوث حين توضع الطوباويات والأحلام التي وضعها الأفراد والفلاسفة موضع العمل والتنفيذ.

يقول الفيلسوف ديفيد هيوم: «النهاية الكبرى لكل نشاط مضنٍ للإنسان هو بوصولة للسعادة، ولهذه الغاية تُبتَكَرُ الفنون، وتُهَذَّب العلوم، ونُظِّمَت القوانين، وشُكّلت المجتمعات بالحكمة الأعمق من خلال الوطنيين والمشرّعين». السعادة الممكنة المستديمة ليست تلك الوقتية والقصيرة المدى، كأن يحصل طفل على لعبة ويسعد بها، أو يحصل عامل على زيادة في دخله، أو يفوز آخر بجائزة مالية ويشتري بها بيتًا أو سيارة، وكما يقول الفيلسوف الروماني لوكريتيوس فإن هذه السعادات الصغرى على أهميتها لا تنتهي، وهي تشبه التعطش للحياة الذي لا ينطفئ فينا.

واللافت إقرار عمانويل بأن السعادة هي دائمًا غير مستديمة ووقتية، وهي ليست إلا «إشباعًا لكل رغباتنا وكل آمالنا وكل ميولنا، سواء كانت ممتدة من حيث تنوعها أو مشتدّة من حيث درجتها، أم أيضًا مستمرة من حيث المدة». وأن السعادة المطلقة -منطقيًّا وميتافيزيقيًّا- غير متاحة على الأرض! إنها هناك ما وراء العالم على غرار الرؤية الأفلاطونية.

تجليات جودة الحياة في الواقع المعيش

بعد استعراضنا للمفهوم في الاشتغالات الفلسفية علينا الوقوف أمام مقاراباته في واقعنا المعاصر، كما يتخذه من مدلولات نظرية وعلمية وعملية. عندما نُخرج هنا المفهوم من قشرته الذاتية الفردية (السعادة والرضا واللذة والمتعة) إلى دائرته الكبرى يتجذّر معنى الجودة في محددات منظومية وأقاليم حياتية متعددة، تبدأ من وعي المنظومة السياسية وأفقها التجديدي إلى المنظومة التعليمية: حداثتها وإبداعيتها، والمنظومة الاقتصادية والإدارية: تماسها مع العمليات المالية العالمية وتلبيتها لحاجات الداخل، والمنظومة الثقافية: تعدديتها وتوسعها الاجتماعي، إلى تحققاتها في بقية المنظومات والتدابير المدنية.

إذًا في مقاربتنا لمعنى جودة الحياة في واقعٍ معين أو بيئة حضرية محددة يتجه بنا القول إلى الخروج من التجريدات الفلسفية النظرية، على أهميتها وثرائها العقلي والذهني، لنذهب مباشرةً إلى الملموس المجسد في الواقع العملي، لكي يصبح لمعنى جودة الحياة معنى حقيقي له استحقاقاته وضروراته الفعلية والعملية وحقوقه الذاتية والموضوعية معًا في غير انفصال. ولعلي أذكر هنا بعض القواعد والمرتكزات العملية، وذلك على سبيل التمثيل العملي وليس النظري، التي من دون تحققاتها وتجليها في الواقع المجتمعي لا يمكننا أن نقطف ثمارًا لمعنى جودة الحياة:

أولها- الحق في جودة العيش ويعني به السكن النظيف الملائم. الحق في جودة الدخل. الحق في جودة الرعاية الصحة. الحق في إبداعية التعليم وحداثته كالحق في الماء والهواء. الحق في جودة الثقافة.. والفنون البصرية والسمعية. الحق في تنوع وتوسّع الترفيه وحريته. الحق في تشجيع ودعم الخلق والابتكار. الحق في جودة البيئة وترطيب قسوتها الطبيعية. الحق في جودة المحيط وعلاقاته التبادلية (المحيط الاجتماعي وخلوه من الإكراهات العصبية والعقدية والقبلية، محيط خالٍ من الوصاية البطريركية، محيط يخضع بكل أفراده وشرائحه لقوة القانون والضوابط الرشيدة). وليس آخرها: الحق في جودة المشاركة السياسية البناءة.

قراءة في «رؤية 2030»

الرؤية والحلم

وقبل تقديم قراءة في رؤية 2030، لا بد من التوقف عند مبادرة سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الطموحة «السعودية الخضراء، والشرق الأوسط الأخضر»، التي تهدف إلى زراعة ٥٠ مليار شجرة؛ إذ تأتي هذه المبادرة اتساقًا مع «رؤية ٢٠٣٠» التي تهدف بدورها إلى تحسين جودة الحياة والبيئة المحيطة. وحلم سموه بتحويل المنطقة إلى شرق أوسط أوربي. لنتخيّل السعودية وما جاورها في ظلال هذه الأشجار. والاخضرار الممتد بعد سنوات قليلة. لنتخيّل الأشجار تزهر براعم الفرح.

وفي قراءة معمّقة لبرنامج جودة الحياة الذي أعدّته «رؤية ٢٠٣٠» الطموحة، ما يشير إلى الانتباه المرهف والذكي إلى معظم هذه المعايير والمرتكزات، التي تشكل المهاد الرئيس لمعنى ومبنى مفهوم جودة الحياة، والوعود بها. ويلاحظ أن هذا البرنامج التفصيلي والعلمي الدقيق لمفاهيم جودة العيش قد وعى أن السعادة الجمعية كما تشمل جانبها الروحي الإشباعي، تشمل جانبها المادي فهي فضيلة علمية وعملية في الآن ذاته. إن برنامج جودة الحياة «٢٠٣٠» أخذ على عاتقه تهيئة المهاد الأولي والضروري في المكان محددًا بجدول زمني قياسي، مشيرًا إلى كل شروط الجودة بشمائلها وخصائصها، بمظاهرها وتجلياتها، بعناصرها وكل ممكناتها الموضوعية، في كل أبعادها المادية والروحية، سواء أكانت اقتصادية أم إدارية أم فكرية وفنية. وهذا لا يعني التحقق المطلق للسعادة الفردية، بل يعني أن هذه البيئة الممهدة صارت مبذولة لكل منا، للأخذ منها بما يحقق نسبية السعادة في إقلاعها نحو التكامل والمطلق والأمل.

وفي تصوري لا يمكننا التمتع بجودة العيش من حولنا إلا بشروط صحية دماغية وقلبية سليمة، إضافة إلى عقلية متفتحة غير تجزيئية التصور، فالسعادة الفردية وحدها تجزيئية وواحدية ذات طابع أنوي، لا يمكنها أن تشعرنا بممكنات جودة الحياة المحققة للكل في المكان، كما يقول شوبنهاور: «إن الاشتغال على أفكارنا واعتقاداتنا عنصر جوهري لبناء حياة سعيدة». بمعنى علينا تحديث أفكارنا الساكنة ونبذ معتقداتنا الاجتماعية السلبية العتيقة. فالتحرر من القلق النفسي والأفكار المسبقة الجاهزة وعصرنة أفكارنا والشعور بالثقة والطمأنينة، فيما هو حولنا، يجعل إحساسنا بجودة الحياة أكثر إيجابية وامتلاء.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *