المقالات الأخيرة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

يصف موريس بلانشو الأدب كمنفى في الصحراء، حيث يصبح الكاتب ضعيفًا تسكنه المخاوف مثل تلك المخاوف التي سكنت بني إسرائيل عندما قادهم النبي موسى، امتثالًا لطلب «يهوه»، في رحلتهم عبر صحراء سيناء إلى أرض كنعان؛ فالصحراء فضاء هندسي مناسب لاحتواء مفاهيم من قبيل العزلة...

الجزيرة العربية في مرآة الحاضر

بواسطة | يوليو 1, 2023 | الملف

الكتابات‭ ‬العربية‭ ‬القديمة وحضورها‭ ‬الثقافي

سليمان بن عبدالرحمن الذييب
باحث سعودي ومستشار ثقافي في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية

يرد بعض الباحثين التطور الإنساني والاجتماعي والمنجز الثقافي في شبه الجزيرة العربية إلى أمرين هما: الموقع والبيئة، وأهمها توافر المياه؛ لذلك يطلقون على مدنها وممالكها اصطلاح «الواحة/ الواحات»، مثل: تيماء، وددن في شمال غرب المملكة، والخرج، والأفلاج في وسطها، وأدوماتو (الجوف)، وجبة في شمالها، والفاو في جنوبها… إلخ.

وقد أغفل هؤلاء بحسن نية أو تعمد -من دون وجه حق- أهم عامل في هذه الإنجازات الثقافية والحضارية، وهو «الإنسان»؛ فلا شك أن من مقومات الاستقرار الدائم، أو حتى المؤقت، الموقع وبيئته المحيطة، التي تؤدي دورًا في إغراء الإنسان ودفعه إلى الاستقرار فيه، لكنه ليس العامل الأهم. ونرى أن إغفال دور الإنسان وتفاعله فيه إجحاف كبير يحتاج إلى وقفة قوية؛ لذلك علينا رد إعمار شبه الجزيرة العربية إلى إنسانها العربي الذي قطن وأسس وأنشأ ما أكد تفاعله مع بيئته وابتكاره الأساليب والمناهج الناجعة لتطويعها وتصالحه معها، وبما ابتكره من أساليب بهدف تطويع قسوتها لتكون في يده سهلة وسلسلة، فاستخدم مثل غيره حيواناتها وطيورها فيما انعكس على مصلحته فعرف دقائقها وأسرارها.

توظيف البيئة المحيطة

تبين لذلك الإنسان، مع دقة الملاحظة، قدرة القنفذ في قضائه على الدواب المضرة على مزارعه، فلم يتردد العربي في حائل الإشارة في نقشه الثمودي، العائد إلى منتصف الألف الأول قبل الميلاد، إلى اصطياد قنفذ للاستفادة من مميزاته في علاج عدد من الأمراض، أو العربي في تيماء الذي عَرَفَ أن بعض الأمراض لا علاج لها إلا «العزل» فكتب نقشه بالقلم الآرامي. إضافة إلى ما كشفه من تعامله مع بيئته (الحيوانية والنباتية) من منافع عدة لها، مثل: الجمال والثعابين، بما تقدمه من أمصال ناجعة لعلاج أمراض الإنسان والحيوان، وكذلك نبتاته الصحراوية والجبلية ودورها الغذائي والصحي (الطبي). كما أبدع العربي في مدينة الفاو في تصريف المياه الداخلية، وهو أسلوب سبق العربي غيره في هذه البقعة من العالم، وغيرها من الأمثلة الدالة على تفاعله مع بيئته ونجاحه في إنجازات لا يتسع المقام لطرحها.

ومن أهم ما يحسب لإنسان هذه الجزيرة الشامخة بقبائلها وقيمها استخدامه للكتابة بشكل لافت مقارنة بأقرانه داخل شبه الجزيرة العربية وخارجها. فما إنْ تَوصَّلَ إنسانُ بلادِ الرافدين ولاحقًا المصري القديم إلى اختراع الكتابة الذي فتح للبشرية أبوابًا واسعة، حتى شارك إنسانها في تطوير هذا الاختراع المذهل الذي غَيَّرَ وجه البشرية، فكان للقبائل الفينيقية المهاجرة من شرق شبه الجزيرة العربية إلى لبنان السبق في هذا التطوير المذهل باختراعه للأبجدية، فتخلى العالم عن مئات الرموز والعلامات التصويرية إلى: «كل حرف له صوت وكل صوت له حرف»؛ وإن كان العربي قد توصل إلى الأبجدية في غير بيئته، أي بعد هجرته، فإنه نجح في تطوير قلمه النبطي من القلم الآرامي في مدينة تيماء، واشتق الحرف العربي الحالي من النبطي في مدينة «ددن» العلا داخل بيئته وأرضه.

أمر لافت

ويعود استخدام العربي للقلم الثمودي -على الأقل- إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد، الذي يُعَدّ حتى اليوم أقدم خط عربي داخل شبه الجزيرة العربية. واللافت في هذه العجالة -مع أن قبائل شبه الجزيرة العربية ذات عرق واحد- أن كل قبيلة (قبائل) اختارت قلمًا مختلفًا لكتابة لهجتها؛ وهذا أمر لافت لنا، فما الذي دفع العربي الشمالي لاختيار أحرف مختلفة عن التي استخدمها أخوه العربي في وسط الجزيرة وجنوبها أو العكس؟ فهل هو دافع الهوية الإقليمية والاعتزاز القبلي؟ والأغرب أن القبائل الجنوبية التي لم تتحد تحت قيادة سياسية واحدة في تاريخها إلا مدة قصيرة- أصرت على استخدام لهجتها عند كتابة نقوشها.

وبعيدًا من أسباب هذا الإصرار الذي لم يقتصر على شبه الجزيرة العربية وشعوبها، بل نجده في العراق وبلاد الشام (سوريا الكبرى) فإنه يجب القول: إن العربي تميز مِن غيره ليس فقط في تعدد أقلامه، بل في العدد الكبير لنقوشه التذكارية على وجه الخصوص التي خطها العوام، على الضد من الشعوب الأخرى التي يغلب على كتاباتها إما الجنائزية أو السياسية. وأهمية هذا النوع من النقوش العربية تكمن في أن الكتابة لم تكن كما هي عند الشعوب الأخرى، حكرًا على فئة معينة من المجتمع، بل شائعة لدى أفراد المجتمع العربي كافة؛ لذلك وجدناها في الصحارى وعلى واجهات الجبال، وفي مناطق متباعدة، وتعكس لا شك معرفة العربي القديم وإتقانه للكتابة الناتج عن وجود مدارس تعليمية خاصة بهم. كما تعكس الحرية الاجتماعية والدينية التي عاشها العربي في جزيرته وجعلته محبًّا للحرية والانطلاق، لا الانكفاء والانعزال.

أقسام الكتابة

وكتابات شبه الجزيرة العربية -إذا استثنينا النقوش القادمة من خارجها، مثل: المسمارية الرافدية (تيماء) والهيروغليفية (تيماء) واللاتينية واليونانية (أماكن عدة) والعبرية (عسير والعلا)، والسريانية (نجران)، والتدمرية (الجوف)- تنقسم ثلاثة أقسام هي:

الأول- المسندية: أطلق هذا المصطلح من قبل عدد من المؤرخين المسلمين على نوع من الكتابة التي وجدت آنذاك في اليمن؛ لاستقامة حروفه فجاءت كأنها مستندة إلى دعائم، وقيل: لأن نصوصه تسند على ألواح حجرية أو معدنية. وكلمة م س ن د، تعني في اللغات العربية الجنوبية «نقش، لوح نذر عليه نقش، نص منقوش».

وفي الوقت الحاضر يطلق هذا المصطلح على أقلام عدد من اللغات أو اللهجات التي تطابقت وتشابهت في عدد من الظواهر اللغوية. وقد قسَّمها الدارسون ثلاثةَ أقسامٍ، هي:

أ- الشمالية: قلم نشأ في شمال شبه الجزيرة العربية، وانتشر بعضها في معظم مناطقها، وتمتاز بأن أغلبها نقوش اجتماعية نبعت من أفراد الشعب، عكست مشاعرهم واهتماماتهم. وأكثرها انتشارًا وعددًا هي النقوش المعروفة بالثمودية، نسبة إلى القبائل التي ذُكرت مرات عدة في النقوش الآشورية والسبئية والنبطية واليونانية وغيرها. وكان انتشارها واسعًا؛ فقد تعدى شبه الجزيرة إلى إيطاليا. ونظرًا لطول مدة استخدامه التي زادت على الألف والنصف (1500 عام) فقد قُسمت استنادًا إلى أشكال حروفه، واتجاه كتابة النقش، والاختلاف في المفردات إلى: الثمودي المبكر، والمتوسط (الانتقالي) والمتأخر. أما الدادانية التي تناولت معظم نقوشها الجانب الديني وتقديم الزكاوات عن ثرواتهم وممتلكاتهم الثابتة وغير الثابتة، فانتشرت فقط في منطقة العلا وشمالًا حتى تبوك. في حين امتازت الكتابات المعروفة تجاوزًا بالصفائية بذكرها النسب إلى الجد العاشر وأحيانًا إلى الحادي عشر، كما هو معروف عند العرب حتى يومنا هذا.

ب-  الجنوبية: قلم عدد من اللغات أو اللهجات عند بعضٍ -مصدره الأصلي جنوب شبه الجزيرة العربية؛ وقد استَخدَمه عددٌ من شعوب اليمن القديم وممالكه. وعندنا أن خط المسند الجنوبي اشتق من الثمودي، والأخير تطوّر من خط يُعرف باسم «الخط العربي، الخط الأم أو الخط العربي القديم» (Proto-Arabic) الذي تطوّر من الخط الكنعاني القديم (Proto-Canaanite)، في حدود القرن الرابع عشر/ الثالث عشر قبل الميلاد، بمعنى آخر أنه الخط الوسيط بين الخطين الكنعاني القديم والمسند الجنوبي؛ لذلك فإن المسند الجنوبي تطوّر من المسند الشمالي.

وقد انتشر استخدام المسند في العديد من المواقع داخل شبه الجزيرة العربية وخارجها. أمّا داخلها، فعُثر عليه -إضافة إلى موطنه الأصلي اليمن- في مواقع عدة في المملكة العربية السعودية، مثل: قرية الفاو (قُرية) الواقعة جنوب مدينة الرياض، والعلا في الشمال الغربي للمملكة، وكذلك بكميات متفاوتة في كثير من المواقع داخل السعودية من نجران جنوبًا إلى تبوك شمالًا والأحساء شرقًا. كما كان لهذه اللغات المسندية استخدام واضح في عدد من المواقع
في سلطنة عُمان.

أما خارج شبه الجزيرة العربية، فإنه على الرغم من قلة النقوش مقارنة بما وجد في شبه الجزيرة العربية، فقد تعددت أماكنه، فعلى سبيل المثال وجدت نقوش في موقعي «أور ونيبور» ببلاد الرافدين، وفي مصر وجارتها الشمالية الشرقية فلسطين وتحديدًا في موقع «تل خليفة» (إيلات)، حيث عُثر على جرة تعود إلى القرن الثامن أو السابع قبل الميلاد. ونظرًا للفروق والاختلافات فقد قَسم الدارسون المسند الجنوبي إلى خمس لغات/ لهجات استنادًا للمنطقة الجغرافية أو الكيان السياسي، وهي: السبئية، والمعينية، والحضرمية، والقتبانية، والأوسانية. وأكثرها انتشارًا خارج اليمن هو الخط المعيني الذي وُجِدَ حيثما استقر التاجر المعيني، الذي جاب الأرض للتجارة، مثل: جنوب نجد وشمال الحجاز ومصر.

الثاني- الغربية: هي الكتابات التي عُرفت في سوريا الكبرى، ومنها الأوجاريتية والفينيقية والإبلاوية، وهي كتابات أبجدية عكست القيمة الحضارية لهذه الشعوب ودورها الحضاري والثقافي في الجدار الحضاري. ويهمنا منها النقوش التي وجدت في شبه الجزيرة العربية، وأهمها: الآرامية بقسميها المبكر والدولي، الأول سُجل في العلا (ددن)، والآخر في تيماء والعلا والشارقة، وجبال كوكب في نجران:

الثالث- الشرقية: هي النقوش المعروفة بالحسائية، وقد انتشرت في منطقة الأحساء بقلم عربي جنوبي، وبلهجة شمالية. وهي نقوش وكتابات لم يبدأ فعليًّا في الاهتمام بها إلا في السبعينيات من القرن الماضي، عندما سمح الملك فيصل -رحمه الله- لبعثة «كندية- أميركية» إجراء مسح في شمال وشمال غرب المملكة. وقد قدمت كثيرًا عن إنسان هذه الجزيرة، وبينت دوره الفعّال فيما أسميه الجدار الحضاري، فساهم مثل غيره من شعوب العالم القديم في بناء هذا الجدار، وهذه الاكتشافات على الرغم من قصر مدة البدء فيها، فإنها أظهرت أن حضارة إنسان الجزيرة (العربي) لم تكن فقط ثقافة شفاهية، توارثت العادات والأفكار، بعكس كثير من الحضارات الأخرى، بل مادية أيضًا، فهذا المجتمع يعود إليه أقدم رسم للكلاب المستأنسة في العالم، وأقدم رسوم ثلاثية الأبعاد، وأقدم رسم لمخططات (خرائط) صيد الحيوانات، وكلها وجدت في منطقة الجوف، وتعود إلى الألف التاسع قبل الميلاد، وبها ثاني أقدم نحت للخيول في وادي الدواسر (يعود إلى الألف السابع). إضافة إلى المواقع الحجرية الموغلة في القِدَم، فبعضها يعود إلى مليون ونصف عام، وأحيانًا مليوني عام، في مناطق، مثل: الشويحطية في شمال المملكة، والدوادمي في وسطها، ووادي فاطمة في غربها، ونجران في جنوبها.

لذلك يمكنني القول: إننا ننظر اليوم بتفاؤل إلى مستقبل المملكة العربية السعودية، فهذا المجتمع قادر بمشيئة الله أن يعيد توازنه بالمشاركة الفعّالة في التقدم الحضاري والتقني المعاصر في ظل «رؤية 2030» التي تبنتها حكومة بلادنا الرشيدة؛ كيف لا وقد اختار الله سبحانه وتعالى أرض الجزيرة مكان بيته العتيق وكعبته المشرفة، واختار من قبائله نبيه المصطفى خير البشر.


صورة‭ ‬الممالك‭ ‬القديمة في‭ ‬المصادر‭ ‬الرومانية‭ ‬والإغريقية

حياة عمامو باحثة وأكاديمية تونسية

تناول العديد من الباحثين العرب والغربيين تاريخ شبه الجزيرة العربية وحضاراتها في حقبة ما قبل الإسلام؛ لذلك فإن ما سيرد في هذه الورقة عن هذا الموضوع لا يُعد من باب البحث العلمي الذي سيأتي بالجديد، بقدر ما يسعى إلى نشر معرفة تقطع مع ما ساد في الثقافة العامة التي تستهجن كل ما سبق الإسلام وتحط من قيمته. ويمكن تفسير هذا الفكر السائد الذي ينعت ما سبق الإسلام في الجزيرة العربية بـ«الجاهلية» أسوة بما ورد في القرآن، على أساس أنها كتلة مجالية واحدة، تسودها القيم الثقافية والاجتماعية نفسها القائمة على الحيف والقتل والفوضى، ويسيطر عليها النظام السياسي والاقتصادي نفسه المعتمد على الظلم والفساد والتمييز.

علمًا أن هذا الفكر السائد ليست له أية علاقة بواقع شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام إذا ما اعتمدنا على ما بينته الدراسات التاريخية والأنثروبولوجية العديدة التي استندت في البداية على المصادر الأدبية الإغريقية واللاتينية، لتعتمد بعد ذلك وانطلاقًا من سبعينيات القرن الماضي على نتائج الحفريات والاستكشافات التي أسفرت على العديد من المعطيات التاريخية المادية التي وردت في النقوش والخربشات والنقود والخزف، فضلًا عن مختلف أشكال الآثار الأخرى من معالم وبقايا بنايات وأوانٍ وأدوات… وقد طورت هذه المصادر كثيرًا معرفتنا عن شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، بالرغم من أن هذه المعرفة ظلت، في أغلب الأحيان حكرًا على علماء الغرب الملمين أكثر من غيرهم باللغات القديمة مثل: البابلية، والآشورية، والمصرية القديمة، والعبرية، والآرامية، والإغريقية واللاتينية.

تأثير متبادل

خلافًا لما يتبادر إلى أذهاننا، مثلت شبه الجزيرة العربية مجالًا ديناميكيًّا أثر وتأثر بالحضارات العالمية لذلك الزمن سواء كانت الشرقية منها (الهند- الصين- إيران…) أو الغربية، وأساسًا الحضارات المتوسطية وشرق إفريقيا… وقد نتج عن هذا التأثير المتبادل ظهور العديد من الممالك والمدن التي لم تطبع تاريخ الجزيرة القديم وحضارته فقط، وإنما أثرت أيضًا في الحضارات المجاورة والبعيدة وتأثرت بها.

نتج عن شُسُوع مساحة شبه الجزيرة العربية، وتنوع تضاريسها ومناخاتها، وتوسطها لفضاءات حضارية مختلفة، تنوع في الحضارات التي عرفتها منذ آلاف السنين. ولعل أقدم حضارات شبه جزيرة العرب هي تلك التي برزت على سواحل الخليج مثل: دلمون ومجان، وارتبطت مع حضارات نهر الهند وسومر بعلاقات تجارية قامت على اللؤلؤ الذي تنتجه المناطق الخليجية، وقد تأثرت هذه الحضارات كثيرًا بحضارات بلاد الرافدين، وبخاصة البابلية والآشورية منها. بالتوازي مع حضارات الخليج، شهدت العديد من المناطق في وسط الجزيرة وغربها، وبفضل مواردها المائية الباطنية، ونشأة العديد من الواحات ذوات الزراعات المتدرجة، بدءًا من النخيل فالأشجار المثمرة، ثم الحبوب والخضراوات. إلى جانب المياه الباطنية في الواحات، عرفت المنتوجات الزراعية بمختلف أنواعها، وبخاصة البخور واللبان والعطورات، بفضل تطور أساليب الري تطورًا كبيرًا في اليمن الذي كان يُطلق عليه الإغريق والرومان اسم العربية السعيدة. ساهمت الموارد التجارية والزراعية التي انتشرت في مناطق متعددة من الجزيرة العربية طيلة الألفية الأولى لما قبل الميلاد في ظهور العديد من المدن على طول طريق التجارة القوافلية، مثل: شبوة، مأرب، نجران، قريات، تيماء…

الممالك القديمة

وقد أدت الشبكة التجارية الممتدة انطلاقًا من اليمن إلى الهند شرقًا والحبشة جنوبًا عبر البحر، وعبر طرق القوافل البرية في اتجاه مصر وبيزنطة وبلاد فارس، إلى ظهور العديد من الممالك. ففي الجنوب ظهر العديد من الممالك في اليمن منذ القرن السابع قبل الميلاد، ومن أكثر هذه الممالك ذكرًا في المصادر بمختلف أنواعها:

مملكة سبأ: تعود نشأتها إلى منتصف القرن السابع قبل الميلاد، وتحتل موقعًا إستراتيجيًّا؛ لأنها تتوسط الطرق التجارية القوافلية التي تربط بين حضرموت شرقًا والمناطق القريبة من البحر المتوسط في الشمال الغربي، حيث يُحمل عن طريق الجمال العديد من المواد، مثل: العطور والبخور واللبان والمر، وهي مواد إستراتيجية في ممارسة الطقوس الدينية والأنشطة الاقتصادية والاجتماعية للدول المتوسطية والإفريقية وبخاصة المسيحية. إلى جانب ازدهار التجارة في مملكة سبأ بفضل موقعها الإستراتيجي الذي يربط بين الشرق الأقصى عن طريق البحر، والشمال الغربي عن طريق القوافل البرية. ازدهرت الزراعة بفضل الأراضي الخصبة والأمطار الموسمية التي خولت إقامة نظام ري محكم، ما زالت آثاره تشهد عليه إلى اليوم.

مملكة معين: نشأت في حضرموت شمال مملكة سبأ نحو سنة 500 قبل الميلاد، ومثل مملكة سبأ كانت مملكة معين مركزًا لمرور القوافل التجارية المحمّلة بالعطور والبخور والتوابل واللبان. توسعت تجارة هذه المملكة إلى خارج اليمن في اتجاه مصر ومناطق عدة محيطة بالبحر المتوسط، وكانت في هذا النشاط التجاري تتنافس مع مملكة سبأ حتى سقوطها الذي حدث في منتصف القرن الأول للميلاد. وتُعتبر مدينة براقش المزينة بالنقوش التاريخية من أشهر مدن مملكة معين.

مملكة حِمْيَر: قد يرجع تاريخ تأسيس هذه المملكة إلى نهاية القرن الثاني قبل الميلاد؛ إذ عثر الباحثون على بعضٍ من آثارها ومعالمها التي تعود إلى سنة 110 قبل الميلاد. وجاء قيام هذه المملكة نتيجة حشد القبائل في مناطق شاسعة من الجزيرة العربية من بينها اليمن وعُمان. وقد استند اقتصاد المملكة على التجارة والزراعة؛ إذ كان الحميريون يتاجرون بالبخور واللبان والصمغ مثلما تدل على ذلك كتاباتهم القديمة في النقوش، كما أقاموا عددًا من السدود الصغيرة ورمموا سد مأرب. وتمكن الحميريون من فرض سيطرتهم على اليمن في ظل الصراعات مع القبائل، ومع ذلك أمكنهم المحافظة على ملكهم قبل أن تزيد الأوضاع اضطرابًا مع تدخل الأحباش في حدود 533م للانتقام من ذي نواس الملك الحميري اليهودي الذي حفر أخدودًا لنصارى نجران، وأشعل فيهم النار بعد أن رفضوا الدخول إلى اليهودية. وللرد على غزو الأحباش لليمن، استنجد سيف بن ذي يزن الملك الحميري بالفرس الذين تدخلوا للسيطرة على اليمن وإنهاء سيطرة البيزنطيين عن طريق الأحباش. واستمرت السيطرة الفارسية على اليمن إلى أن خضع لسيطرة المسلمين قبل وفاة النبي.

مملكة كندة: هي مملكة قديمة نشأت منذ القرن الرابع قبل الميلاد، في نجد عاصمتها قرية كاهل (قرية الفاو حاليًّا). يبدو أن نشأة هذه المملكة تعود إلى السياسة التوسعية لمملكة سبأ من أجل حماية القوافل التجارية الخارجة من اليمن إلى العراق وفارس، وهي بمنزلة المحطة التجارية لاستراحة القوافل مثلما أثبتت ذلك النصوص السبئية والمعينية واللحيانية والنبطية الصادرة عن تجار مروا بمملكة كندة.

مملكة الأنباط: أسسها العرب البدو، في نهاية القرن الرابع قبل الميلاد، وعاصمتها البتراء المدينة الأثرية المشهورة. تقع هذه المملكة على مفترق طرق قوافل البخور القادمة من اليمن والمتوجهة إلى مناطق الهلال الخصيب (الشام ومصر) وإفريقيا. اهتم الأنباط بالزراعة عن طريق مد قنوات الري، واستغلوا الموارد الطبيعية الباطنية مثل النحاس والحديد، وضربوا النقود على الطريقة الشامية، وجمعوا ثروات ضخمة نتيجة الازدهار الاقتصادي لمملكتهم. كتب الأنباط بالآرامية، وهذا ما جعل بعض الباحثين ينكر انتماءهم إلى العرب. انتهى حكم الأنباط بعد هجوم الرومان عليهم في عهد الإمبراطور تراجان في بداية القرن الثاني بعد الميلاد.

مملكة المناذرة: وتُعرف أيضًا بمملكة اللخميين، ظهرت في القرن الثالث للميلاد وعاصمتها الحيرة الواقعة على الضفاف الغربية لنهر الفرات. يعود أصل سكان مملكة المناذرة إلى قبائل تنوخ ولخم اليمنيتين، ومن أبرز ملوكهم جذيمة الأبرش التنوخي وعمرو بن عدي اللخمي. وعلى الرغم من انتماء دولة المناذرة للعرب في مجال يمتد في الشمال الشرقي للجزيرة العربية، فإنها كانت موالية للفرس في حروبهم ضد البيزنطيين لذلك انهارت مباشرة بعد الهزيمة التي لحقت بالفرس سنة 623م.

مملكة الغساسنة: قامت هذه المملكة على تخوم بيزنطة بين 300 و628م، وعاصمتها بصرى. عرفت مملكة الغساسنة بولائها للبيزنطيين، ولذلك خاضت حروبًا عدةً ضد المناذرة حلفاء الفرس. انتهى حكم الغساسنة بعد انتشار الإسلام في الجزيرة العربية وابتداء حملاته على بادية الشام التي كان يستوطنها العرب، ولذلك عُدَّت امتدادًا لجزيرتهم.

المصادر الإغريقية والرومانية

خلافا لما يتبادر إلى الذهن، لم تكن شبه الجزيرة العربية بمعزل عما يدور في عالم الحضارات القديمة، وبخاصة الإغريقية والرومانية منها، بدليل ما ورد عنها في المصادر الإغريقية واللاتينية بدءًا بهوميروس الذي عاش على ما يبدو في بداية الألفية الأولى قبل الميلاد، والذي كانت معلوماته في أشعاره عن شبه الجزيرة تفتقد إلى الدقة وغير موثوق بها. وقد وردت معلومات أخرى يبدو أنها أكثر موثوقية عند هيرودوت (ت: 425 ق. م.)، غير أن أهم المصادر التي يمكن اعتمادها في معرفة تاريخ شبه الجزيرة العربية من بين المصادر الكلاسيكية هي كتاب «الجغرافيا» لسترابون (ت: 21م)، وكتاب «التاريخ الطبيعي» لبلين الأكبر (ت: 79م). أما سترابون فقد تناول في الجزء السادس عشر من كتابه، بالدرس شبه الجزيرة العربية والعرب والأنباط وغيرهم من الشعوب المحيطة بالعرب وجزيرتهم. ولم يعتمد سترابون في كتابته عن هذه المواضيع إلا على الكتاب اليونانيين، وأغفل الرومان؛ ولم يعتمد إلا نادرًا على التقارير الحربية للرومان على الرغم من مشاركته في بعضها، فضلًا على اعتماده على هوميروس غير الموثوق واستبعاده لهيرودوت الأكثر مصداقية، ومع ذلك يبقى كتابه موسوعة جغرافية مهمة في معرفة العالم القديم بما في ذلك جزيرة العرب. وفيما يتعلق ببلين الأكبر فقد خص شبه الجزيرة العربية بقسمين من كتابه، تعرض في الأول على نحو موسوعي إلى كل ما يختص بها بشريًّا وجغرافيًّا، ومدنا في الثاني بتحقيق علمي عن طيوب الجزيرة وتوابلها وأنواعها وطرق استخراجها وإنتاجها وأشجارها واحتكار بعض الأسر لتجارة أصناف منها، والأماكن التي تشتهر بكل نوع، وأثمانها وبعض الشعائر الدينية المرافقة لمعالجة الطيوب، وهو أمر لم يسبقه إليه أحد.

وعلى الرغم مما وفرته المصادر الكلاسيكية من معلومات عن واقع شبه الجزيرة العربية في حقبة ما قبل الإسلام، فإن الدراسات التاريخية والأنثروبولوجية لم تعرف منعرجًا إلا مع عمليات التنقيب والمسوحات الأثرية التي بدأت مع منتصف القرن الماضي، وعرفت بعد ذلك كثيرًا من التطورات التي أدت إلى العديد من الاكتشافات المهمة، وبخاصة النقوش والنقود والخزف وبقايا المعالم التي أثرت كثيرًا في تدقيق المعرفة حول تاريخ الجزيرة القديم وأهمية دورها في عالم ذلك الزمن؛ فبعثت نتيجة هذه الاكتشافات برامج عديدة لتجديد معرفتنا عنها، التي كانت أبعد ما يكون عن «الجاهلية» مثلما رسخ في وعينا الجماعي.


التواصل‭ ‬الحضاري‭ ‬للجزيرة‭ ‬العربية مع‭ ‬مصر‭ ‬في‭ ‬الألف‭ ‬الأول‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد

علاء الدين شاهين باحث وأكاديمي مصري

شهدت بدايات الألف الأول قبل الميلاد تغييرًا ملموسًا في المسرح السياسي الدولي باختفاء المراكز الحضارية الدولية الرئيسة في وادي النيل، بلاد الرافدين (ميزويوتاميا) والحضارة الحيثية في مرحلتها الأخيرة في بلاد الأناضول والمينوية بحوض شرق البحر المتوسط. وترتب على ذلك تاليًا ظهور العديد من دويلات المدن في بلاد الشام (شرق حوض البحر المتوسط) وبخاصة ما عرف باسم مملكة آرام دمشق، ممالك شرق نهر الأردن: الحضارة العمونية والمؤابية والأدومية، وبدون شك العديد من دويلات/ ممالك جنوب غرب شبه الجزيرة العربية (اليمن)، وعلى طول خط التواصل البري التجاري لها عبر شرق البحر الأحمر في غرب وشمال غرب شبه الجزيرة العربية ضمن الحدود السياسية الحالية للمملكة العربية السعودية.

التأثيرات المصرية

عكست بعض المكتشفات الأثرية من بعض مراكز حضارات شمال غرب وجنوب غرب شبه الجزيرة العربية، وعلى امتداد خط التجارة البري الرئيس الواصل بين بلاد الشام واليمن، تأثيرات حضارية مرجحة لمصر القديمة بصفة رئيسة -في العصر الفرعوني، ومن بعد في العصر البطلمي/ الروماني- على المكان، وبخاصة في مجال اللغة والعقيدة والعمارة والفخاريات والتماثيل بصفة رئيسة. وتمثلت مظاهر الاشتراك بين اللغة المصرية القديمة واللغة العربية الجنوبية خاصة في وجود حَرف العين بين حروفها، وشيوع المصدر الثلاثي بين أفعالها، وغلبة الفعل المعتل الآخر فيها، وإضافة تاء التأنيث في نهاية بعض أسمائها وصفاتها المؤنثة، وفي المحافظة على الخصائص العامة للكتابة البروتوسينائية، ومنها الاتجاه الرأسي للكتابة ووجود العلامات المزدوجة والاتجاه من اليمين إلى اليسار ومن اليسار إلى اليمين.

في مجال العقيدة يلحظ التشابه أيضًا في استخدام الرموز الدينية: الهلال الأفقي للدلالة على القمر، وقرص الشمس المشع للدلالة على إله الشمس، والنجمة للدلالة على الزهرة في الارتباط للمعبودات المصرية واليمنية القديمة خاصة، وفي الإشارة إلى أصول مشتركة مرجحة لبعض المعبودات المصرية مع تلك الجنوبية، وبخاصة ما ارتبط بالإله حور (الصقر) Hr، وترجيح ارتباط أصله اللغوي باللغة العربية الجنوبية والإله مين Min المرجح تشابهه مع الإله الموقة السبئي وربما أيضًا الإله بس، وإن رجحت أغلبية آراء الباحثين فيما يرتبط بالإله بس أصولًا إفريقية له.

يرجح أيضًا وجود شكل آخر من أشكال التأثير المصري الحضاري المتبادل مع حضارات جنوب غرب شبه الجزيرة العربية، في ضوء ما أبانت عنه بعض أعمال الكشف الأثري في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين. حيث وجدت «دفنات» جنائزية بهيئة قبور صخرية وأضرحة حجرية، وبخاصة تلك المجموعة من القبور في شبام (الغراس) التي اشتملت على ودائع مهمة محنطة، محفوظة حاليًّا في متحف جامعة صنعاء، ومؤرخة تقريبًا من النصف الثاني من الألف الأول قبل الميلاد، حسبما يذهب إلى ذلك جان كلود رو. وربما تتشابه في طريقة التنفيذ جزئيًّا مع مثيلاتها من الحضارة الفرعونية، وإن لم يتضح لنا من خلال النصوص اليمنية القديمة في القرن الثالث قبل الميلاد مدى وجود مفهوم «البعث والخلود»، المعروف عن العقيدة المصرية القديمة، بين أهل المكان آنذاك، في ارتباطه بنهجهم للحفاظ على الجسد للمتوفى. كما أن ما كشفت عنه أعمال التنقيب الأثري في صرواح، العاصمة السبئية، من وجود «حوض للمياه» قائم الزوايا ومحاط بأعمدة، بعضها مثمن وبعضها ذو ستة عشر ضلعًا، داخل حرم المعبد للإله القمري بالمكان ما قد يرجح وجود تشابه مع الحضارة المصرية، على الرغم من ندرة وجود مثل ذلك النمط في المعابد المصرية، فيما عدا ما رجحه عبدالمنعم عبدالحليم سيد من العثور على مثل ذلك النمط أمام مدخل معبد أبي صير من الأسرة الخامسة الفرعونية.

إضافة إلى ذلك عثر على شكل مقلد لنمط موائد القربان المصرية بهيئة مربعة الشكل من الحجر، وبها رسوم محفورة لأنواع الأطعمة وأواني الشرب، وفي وسطها تجويف يبرز من أحد جوانبها على شكل مجرى لتصريف السوائل، وقد عثر عليها في مأرب والسوداء (الجوف) وتعود لنهاية القرن الثامن ق.م، وهي من المرمر، ويبلغ ارتفاعها 18 سم وطولها 47 سم (متحف صنعاء)، وما استُخرِج من موقع العلا ومن الفاو (مملكة كندة) من المملكة العربية السعودية.

وعثر بين أنقاض تمنة، نحو 15 ميلًا شمال خليج العقبة، على أنماط فخارية من الطراز الميديناتي، المنتمي إلى حضارة مدين، التي كان لها -استنادًا إلى الآثار والنصوص- علاقات مع مصر الفرعونية في العصر البرونزي المتأخر (عصر الرعامسة) وهو ما يتشابه مع مثيله من الأنماط الفخارية لمصر الفرعونية. وبفحص البقايا للأنماط الفخارية المنشورة من مواقع شبه الجزيرة العربية يتضح لنا غلبة الأنماط المحلية عليها في الصنعة والأشكال، وندرة التقليد لأنماط أجنبية الأصل، اللهم إلا التأثيرات العبيدية المبكرة من بلاد ما بين النهرين، والسندية من حضارة موهنجدارو وهارابا، في الألفين الرابع والثالث قبل الميلاد، ثم من بعد الأنماط الكاشية والبارثيانية في الألفين الثاني والأول قبل الميلاد، في مراكز الساحل الغربي من الخليج العربي، ثم في الداخل وبعض مناطق شمال غرب وجنوب غرب شبه الجزيرة العربية، لأنماط ميسينية (مينوية) الأصل من النمط المعروف باسم زمزمية الحاج Pilgrim flask، مثلما عثر عليه بين أنقاض قرية الفاو بصفة أساسية، والمرجح تأريخها من القرن الثالث قبل الميلاد وما تلى ذلك.

وهناك تشابه أيضًا بين بعض أنماط الزخارف للفخار النبطي مع مثيلاتها على الفخار المكتشف من هجر بن حميد اليمني، أو الامتداد الجغرافي الحضاري للحضارة النبطية ذاتها إلى ما يقرب من حائل ومدائن صالح (الحجر) في شمال غرب شبه الجزيرة العربية. مع الأخذ في الحسبان أن فخار الحضارة النبطية لم يعرف إلا منذ نحو القرن الأول قبل الميلاد. ويرجح عدم العثور على أنماط مصرية من الفخار بمواقع شبه الجزيرة العربية؛ ربما لانعدام المواد الخام المرجح اشتمالها عليها، والمصدرة من وادي النيل إليها، على نقيض ما نعرف عن العديد من الأنماط الفخارية السورية الطابع (شرق حوض البحر المتوسط) من مواقع الحضارة الفرعونية، التي احتوت حين تصديرها إلى مصر الفرعونية على الزيوت والنبيذ المرغوب فيه من مصر بصفة رئيسة.

التأثير الهيلينستي

تتناقض تلك الصورة في العصر الهيلينستي حسبما أبانت عنه البقايا الأثرية التي كشف عنها التنقيب الأثري للبعثة اليمنية السوفييتية المشتركة في موقع ميناء قنا (بير علي أو حصن أبو غراب الحالي) من الحضارة الحضرمية في القرن الأول ق.م، وبخاصة تلك الجرار الفخارية المعروفة بنمط الأمفورا، وبالمثل الأواني الزجاجية الهيلينستية الطابع، والمرغوب فيها من مراكز حضارات العالم القديم آنذاك والمصدرة من الإسكندرية، مركز الحضارة البطلمية. وتظل هناك احتمالية ضعيفة أو مرجحة لتأثير حضاري مصري مع اليمن في طريقة تنفيذه لشكل مقبض إناء بهيئة الوعل، مشابه لمثيله المصري من منطقة تل بسطة بشرق الدلتا، ولكن بشكل ماعز يقفز برجليه الأماميتين.

وفي مجال فنون النحت، وبخاصة ما يتعلق بالتماثيل بهيئة بشرية، فإنه من اللافت للنظر أن معظم النماذج الفنية للتماثيل، التي عُثر عليها من مواقع حضارات شمال غرب وجنوب غرب شبه الجزيرة العربية، تعود زمنيًّا بصفة رئيسة إلى العصر الهيلينستي في القرن الثالث قبل الميلاد وما أعقبه من مراحل حضارية. ويمثل ذلك تلك المجموعة الممتازة لأسدي تمنع وتمثال مريم (مريام) وغيرها، عاكسة تأثرًا واضحًا بفنون النحت الهيلينستي من مدينة الإسكندرية، حاضرة مصر البطلمية، وكنتيجة تالية لتزايد الاتصالات البحرية والتجارية نتيجة لحسن الاستغلال الأمثل للاتصالات البحرية عبر قناة سيزوستريس (دارا/نيكاو)، التي حُفِرَت منتصف الألف الأول ق.م، وهو ما أدى إلى ربط البحرين المتوسط والأحمر عبرها، عبر أفرع نهر النيل السبعة آنذاك بصفة أساسية.

أبانت كثير من المكتشفات الأثرية من المواقع في شبه الجزيرة العربية، وبخاصة جنوبها الغربي (اليمن) وشمالها الغربي (الحجاز)، العديد من التماثيل بملامح حضارية محلية وتأثيرات أجنبية مثل تلك المجموعة التي عكست تأثيرات في الوجه وتزجيج العيون وتسريحات الشعر وأوضاع اليدين والقدمين. كما أن تلك المجموعة من التماثيل التي عثر عليها بين أنقاض المواقع الأثرية في شمال غرب شبه الجزيرة العربية من مملكة لحيان، المستعمرة النبطية آنذاك تعود زمنيًّا إلى مرحلة متأخرة من الألف الأول ق.م.

ولعل ندرة ما عُثِر عليه من حقبة زمنية سابقة على حقبة الوجود الهيلينستي بين أنقاض المواقع الأثرية من حضارات جنوب غرب شبه الجزيرة العربية بصفة أساسية، ومن مواقع شمال غرب شبه الجزيرة العربية بصفة فرعية، لا يتيح لنا الكشف عن مظاهر التأثر الحضاري المتبادل المحتمل بين شبه الجزيرة العربية ومصر الفرعونية، في الحقبة الزمنية العائدة إلى القرن الثالث قبل الميلاد، وإن ظلت ملامح التأثر للمدرسة الهيلينستية لفنون النحت بالقواعد النمطية لفنون النحت من مصر الفرعونية واضحة في طريقة التنفيذ، وبخاصة ما يعرف بتزجيج العيون، وإظهار الفتوة والشباب بالمبالغة في محيط الصدر والرشاقة في الخصر، وفي استقامة اليدين بجوار الجسد، أو في تقدم أحدهما قابضة على علامات شرفية، أو في تقدم القدم اليسرى عن اليمنى.

ويعكس تمثالُ معدي كرب -الذي عُثر عليه بين أنقاض معبد أوام، مأرب، المؤرخ نحو القرن الرابع ق.م ضمن أعمال حفريات البعثة الأميركية في بدايات الخمسينيات من القرن العشرين الميلادي والمصنوع من البرونز البالغ ارتفاعه 93 سم، والمحفوظ حاليًّا في متحف صنعاء الوطني- بعضَ تلك القواعد الفنية المراعاة في فنون النحت اليمني القديم في التأثر بالمدرسة المصرية، وبخاصة ما تعلق بإبراز محيط الصدر ونحافة الخصر وتقدم اليد، ربما للقبض على علامة الشرف، وتقديم القدم اليسرى للأمام عن اليمنى، وفي ارتدائه جلد حيوان، ربما الفهد أو الأسد، يغطي ظهر التمثال؛ وهو ما يذكرنا بما كان يرتديه بعض الكهنة المصريين، وبخاصة طائفة كهنة «سم» المكلفين بأداء طقوس جنائزية أمام جثة المتوفى، أو مشابه في رأي آخر لزينة الإله الفينيقي بعل ملقار في القرن السابع ق.م أو الإله الإغريقي هيراكليس من القرن السادس قبل الميلاد.

وبناءً على هذا، فإن المراكز الحضارية المنتشرة في شبه الجزيرة العربية من جنوبها الغربي وشمالها الغربي خاصة، أظهرت بعض المكتشفات الأثرية ملامح لتأثيرات حضارية متبادلة مع المراكز الحضارية من الشرق الأدنى القديم، وبخاصة مع الحضارة المصرية القديمة وما تلى إلى العصر اليوناني بها.


طريق‭ ‬القوافل‭ ‬وممالكه‭ ‬القديمة

محمد مرقطن باحث وأكاديمي فلسطيني

يعود أقدم نشاط بشري في شبه الجزيرة العربية إلى نحو مليون عام من الآن، أما النشاط البشري ذو السمات المتطورة فإنه في العصر الحجري الحديث، أي منذ نحو ثمانية آلاف عام قبل الميلاد، وقد كُشِفَ عن بقايا بحيرات وأنهار، في الربع الخالي، تعود إلى عشرات الآلاف من السنين. ويعد أهم مصدر لدراسة الإنسان الأول هو الرسوم الصخرية، والجزيرة العربية تكاد تكون متحفًا مفتوحًا للرسوم المنقوشة على الصخر في أنحائها كافة.

وإذا أردنا الحديث عن الممالك في الجزيرة العربية، فهناك العديد من المستقرات البشرية التي تعود إلى العصر الحجري الحديث، كانت موجودة في أنحاء الجزيرة العربية كافة. فالقفزة الحضارية المهمة كانت قبل الميلاد بنحو ألف عام، على الرغم من أن الألف الثاني قبل الميلاد كانت به مستقرات أساسية مثل تيماء في شمال غرب المملكة العربية السعودية الآن، وهي قريبة من مدائن صالح، وكانت في الألف الثاني قبل الميلاد. لكن القفزة الأساسية جاءت في الألف الأول قبل الميلاد، وفيها ممالك اعتمدت على أنظمة الري التي لعبت فيها دورًا أساسيًّا، وبخاصة في اليمن حيث ظهرت ممالك سبأ وقتبان ومعين وحضرموت. وقد منح الطريق التجاري هذه الممالك دفعة قوية بداية من الألف الأولى قبل الميلاد، وهو الطريق الذي كانت ترتاده القوافل التجارية التي تحمل اللبان أو البخور، ولدينا نقوش ومصادر عديدة تتحدث عنه.

ممالك القوافل

ارتبط ازدهار الممالك العربية بتدجين الجمل، فمن دونه ما كان للطريق التجاري العابر للجزيرة العربية أن يكون لنحو ألفي كيلو متر، بدءًا من عمان إلى غزة، ومنها إلى مصر، هذا الطريق كان له دور أساسي في تطور الحضارة في الجزيرة العربية. ففي الجنوب ظهرت الممالك التي يسميها بعضٌ ممالك القوافل، لكنها لم تكن تعتمد على التجارة بالدرجة الأولى؛ إذ إنها ارتبطت بالزراعة. لكن ممالك القوافل التي ارتبطت به كانت في خور «روري» في عمان، ومن هناك كانت القوافل تتجه إلى «شبوة» عاصمة مملكة حضرموت، ثم «تمنع» حاضرة مملكة قتبان، ثم «مأرب» عاصمة سبأ، ثم «قرناو» عاصمة مملكة معين شرق صنعاء الآن، ومنها إلى «نجران»، حيث كانت تتفرع إما إلى الشرق حيث الفاو أو «الدواسر»، ومنها إلى مملكة «هجر» في شرق المملكة العربية السعودية اليوم، وإما تجاه الحجاز في الغرب، حيث «مدائن صالح»، ثم «البتراء» عاصمة مملكة الأنباط، ثم تذهب إما إلى غزة ومنها إلى مصر، أو إلى تدمر بالقرب من حمص في سوريا الآن، ومنها إلى بلاد الرومان أو الفرس.

ليس طريقًا بل جسرًا ثقافيًّا

يمرّ طريق القوافل عبر وادي السرحان في السعودية، وهناك فروع عدة لهذا الطريق التجاري الذي لعب دورًا أساسيًّا في حضارة شبه الجزيرة العربية. وقد حدثت تقلبات أدت إلى توقف الطريق البري في القرون الأولى الميلادية، حيث تحولت التجارة إلى الطريق البحري، لكن في نحو خمس مئة ميلادية عادت القوافل إلى الطريق البري من جديد. هذا الطريق لم يكن طريقًا تجاريًّا فقط، ولكن كان جسرًا ثقافيًّا يربط بين بلاد الشام ومصر واليونان، وهناك نقش في محافظة الجيزة بمصر، من القرن الثالث قبل الميلاد، لتاجر من مملكة معين اسمه زيد إيل. وعمل مشرفًا على توريد اللبان وأنواع البخور كافة والمر للمعابد المصرية، هذا التاجر عندما مات دفن على الطريقة المصرية في تابوت، لكنه نقش على التابوت بلغة وطنه الأصلي «معين» الكثير من المعلومات عن عمله وبلده. ولدينا كثير من النقوش، بعضها من العهد القديم، تمدنا بمعلومات قيمة عن هذا الطريق التجاري.

وقد كان العلماء في خمسينيات وستينيات القرن الماضي يتحدثون عن وجود موجات هجرة خرجت من الجزيرة العربية نحو الشام والعراق، وبالفعل كانت هناك تحركات بشرية، لكنها ليست موجات ضخمة، ولعل بني هلال وبني سليم كانوا آخر هذه التحركات، لكن المعلومات الموجودة في المصادر العربية كثير منها غير دقيق؛ لأن النقوش لا تدعم ذلك. ومن بين نظريات الهجرة ما يقول: إن الساميين هاجروا من الجزيرة العربية، في حين تذهب فرضيات أخرى إلى أنهم هاجروا من أرمينيا، وبعضها يقول: من «فزان» في ليبيا، لكننا لا نستطيع أن نجزم بأي منها. وكل ما يمكن القول به: إن هناك حركات أو تحركات بشرية في داخل شبه الجزيرة العربية، وشبه الجزيرة العربية ليس لها حدود سياسية في ذلك الوقت، ومن ثم فهي تمتد من اليمن جنوبًا إلى جبال طوروس شمالًا، والتحركات فيها تشمل كل ما بين جنوب الجزيرة والشام وصولًا إلى مصر، حيث الدلتا والصحراء الشرقية تلك التي كان يقال إنها عربية لأن بها هجرات عربية، لكن هذه التحركات لم تكن هجرات ضخمة، وكانت تعتمد على نوعية البشر، فالبدو وأشباه البدو هم الذين كانوا يتحركون هربًا من القحط وبحثًا عن مصادر الرزق، أما الحضر فإنهم مستقرون في أماكنهم، ومستقبلًا سوف تكشف لنا النقوش والحفائر المزيد عن تاريخ الحضارة في شبه الجزيرة العربية.


عصور‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬التاريخ في‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية

خزعل الماجدي باحث عراقي

كانت شبه جزيرة العرب جزءًا من القارة الإفريقية قبل العصر الجيولوجي السحيق المسمّى بـ(ما قبل الكامبري). لم يكن البحر الأحمر قد تكوّن بعد، وعند تكوّن ما يُعرف بالـ(خسف الإفريقي العربي) تكوّن البحر الأحمر وتكونت معه جبال البحر الأحمر على جانبيه، التي كانت من الصخور الجرانتية. ومع بداية العصر الكامبري، وخلال دهر الحياة القديمة والوسطى والحديثة تراكم التراب الرسوبي في حوض عميق، وفي نهاية العصر الطباشيري بدأت بوادر الحركات التكتونية التي كونت جبال الجزيرة العربية، وفي أواخر العصر الثالث ظهرت صخور المقعرات الجيولوجية أو أحواض الترسيب وانفصلت جزيرة العرب عن إفريقيا. وخلال العصر الرابع كان المناخ فيها رطبًا وظهرت البحيرات القديمة.

العصور الحجرية

العصر الحجري القديم ( الباليوليت 1500000 – 10000 قبل الآن): أ. الباليوليت الأسفل:

كان المناخ متذبذبًا في درجات الحرارة، وهو ما أثر في الغطاء النباتي والحيواني للجزيرة العربية. ويبدو أن العصر الحجري القديم السفلي يمتد بعيدًا في الأطراف الغربية والشمالية الغربية من الربع الخالي الصحراء، وهو ما قد يشير إلى حدوث المزيد من الأطوار الرطبة الممتدة في وقت سابق من العصر الجليدي. الظروف البيئية القديمة في وقت مبكر من العصر الجليدي غير واضحة. والأدوات الحصوية التي تميز عصر الفجر الحجري تكونت من المفارم والمكاشط. ظهرت الأدوات الحجرية الأولداوية في جزيرة بريم، على الجانب الأيمن من باب المندب. وظهرت الأدوات الحجرية الآشولية في الدوادمي ووادي فاطمة وسط وغرب المملكة العربية السعودية. الأدوات الحجرية الآشولية المميزة هي: المفارم، الأدوات ثنائية الوجه، الفؤوس، المعاول.

ب. الباليوليت الأوسط: في العصر الحجري القديم الأوسط للجزيرة العربية ظهرت المواقع التي غالبًا ما توصف بأنها (موستيرية) في منطقة بئر حما، وهناك الأدوات (العتيرية) ذات الوجهين في موقع «شيبات ديا 1»، وغيره في وادي سردود في غرب اليمن وفي ظفار. وضمت الجزيرة العربية، من خلال فحص أدوات هذا العصر، تجمعات شبيهة بالإفريقية. أهم أنواع الأدوات الموستيرية هي: النوى المخروطية المزدوجة، المكاشط، المثاقب، الأنصال، السكاكين.

ج. الباليوليت الأعلى: ظهرت بعض الأدوات الخاصة بهذا العصر، من الطراز السولتيري في بعض مواقع الربع الخالي وفي جبل عنيزة، ومنها مناقش كبيرة الحجم، ذات شكل منشوري مشحوذة الأطراف، ومكاشط طرفية وذات أطراف حادة. وهناك ما يعرف بمجموعة (زيمرمان) من اللقى الحجرية، من منطقة الشوقان في الطرف الشمالي للربع الخالي.

العصر الحجري الانتقالي (إبيباليوليت 10000 – 6000 ق. م.)

ظهرت الأدوات المايكروليثية (الدقيقة) بشكلها البرعمي المثلث وحوافها القاطعة كالمسننات، رؤوس السهام، المجارف، المكاشط، الأنصال المنشورية. وفي هذا العصر ظهرت الثقافات المميزة للجزيرة العربية وهي: أ. الثقافة الوعالية: شكّلت الأدوات الحجرية الصوانية المكتشفة في منطقة جبل (أم وعال) مجموعة نادرة وفريدة اضطرت الآثاريين لإطلاق تسمية الثقافة الوعالية على مجمل النشاط التقني والثقافي الذي رافق هذه الثقافة. وكان أهم هذه الأدوات هي الأدوات الحجرية على شكل الحرف الإنجليزي (T)، وتُراوِح ألوانها بين الأصفر والبرتقالي والرمادي المرقّش، وهناك أصناف كثيرة لهذه الأدوات كالمناقش والمكاشط والمثاقب.

ب. ثقافة كَلْوا (ثقافة المقلع): اكتُشفت ثقافة كلوا في شرق جبال (أشات بيرج)، وتمتاز أدواتها الصوانية بكبر حجمها التي قد تصل إلى نصف متر طولًا وربع متر عرضًا، وراوَحَتْ أنواعها بين الفؤوس اليدوية والأدوات البيضوية والورقية الشكل. وترتبط هذه الثقافة بمناطق مقالع الأحجار التي توفر المواد الخام لصناعتها الحجرية؛ ولذلك يطلق بعضٌ عليها اسم (ثقافة المقلع).

العصر الحجري الحديث (نيوليت 6000 – 3000 ق. م.)

ظهرت بواكير الزراعة في هذا العصر، ومعه تبدلت صناعة الأحجار فكانت هناك الأنصال مسطحة القفا ومشحوذة، والقوادم، الأدوات المسننة، مطارق، مناقش، أزاميل، مجارف. وظهرت الأدوات الزراعية المرتبطة بأعمال الزراعة ومعها الأدوات الفخارية. ولعل من أهم الظواهر الحضارية هو ظهور مستوطنات ثقافة العُبيد التي نشأت في وادي الرافدين وانتشرت في المنطقة كلها، في جميع الاتجاهات. ففي الألف الخامس قبل الميلاد ظهرت في جزيرة العرب، وكانت مستقرة تقريبًا، وتتناثر على نحو واسع في المنطقة الشرقية مع امتداد الخط الساحلي. وكان موقع دوسرية هو أكبر مستوطنات ثقافة العبيد في جزيرة العرب. وربما ظهرت بمرافقة حضارة العبيد في السواحل الشرقية صناعات الفخار المميزة. ومن ملامح عصر النيوليت العمرانية ظهور المساكن كأماكن دائمة للحياة المستقرة الفلاحية. وظهرت الهياكل الحجرية والسياجات الحجرية وركامات القبور. وظهرت بدايات رسومات الصخور، وكان رسم الحيوانات مادتها الأساسية.

العصر الحجري النحاسي (كالكوليت 3000 – 2000 ق. م.)

على الرغم من ظهور استعمال النحاس في صناعة الأدوات، لكن الأدوات الحجرية، في عصر الكالكوليت، استمرت مثل الأنصال، والمكاشط، والمخارز وغيرها. تمثل هذا العصر الجماعات القروية شبه المستقرة، ومن ملامحه ظهور المدافن والمعابد البدائية والاستقلال الاقتصادي للواحات، وظهور مصادر ومناطق التعدين، وطرق التجارة مع بلاد الشام ومصر. أما الأماكن المهمة لهذا العصر فهي وادي سرحان وتيماء وغوريا. استمرت معالم البيوت السكنية وظهرت معها الأبنية السهمية الشكل، والمصايد والمنصات والأعمدة ومقابر تلال الكهوف.

تطورت رسومات الصخور وظهرت مشاهد الصيد وحيواناتها، واتضحت ملامح الغرض البعيد من وراء هذه الرسومات حيث هدفت لإقامة نظامٍ للاتصالات بين مختلف التجمعات البشرية في شبه جزيرة العرب. وقد تمتعت هذه الرسومات بمستوى فني متميز.

وفي نهاية العصر الحجري النحاسي ظهرت البدايات الأولى لثلاث ثقافات مهمة في شرق جزيرة العرب، وكانت ثمارها واضحة في العصر البرونزي، وهي:

ثقافة دلمون: امتدت ثقافة دلمون على طول الساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربية ابتداءً من الكويت عند جزيرة فيلكا وجزر البحرين وجزيرة تاروت، إلى مجان في سلطنة عمان. وكانت مصادرها الثقافية الأولى قد قدمت من وادي الرافدين والسند، وقد مثلت. ضمت مقبرة دلمون الواسعة جدًّا تراثًا هائلًا من الأختام وبقايا المواد المدفونة مع الموتى. وكانت حلقة وصل بين حضارات وادي الرافدين والسند (ثقافة ملوخا) وحضارة مصر القديمة. وقد تجلت مظاهر ثقافة دلمون في بناء المعابد، وخصوصًا فوق التلال مثل معبد باربار، وكذلك بناء المقابر، كتلال حجرية، واهتمت بالتجارة والأختام المسطحة والأسطوانية والرسم على الفخار والجدران. وفي هذه المرحلة ظهر فخار متميز جدًّا يسمى بفخار (دلمون– باربار).

ثقافة أم النار: ظهرت في إمارة أبوظبي، وانتشرت في المناطق التي حولها، وكانت أم النار جزيرة صغيرة ومستوطنة لها دور نشِط في التجارة الإقليمية، فقد عُثِرَ على بقاياها في المقابر والبيوت. ويشمل تراثها أدوات الزينة الشخصية والأسلحة النحاسية والأدوات الفخارية الحمراء المستوردة، وأدوات الصيد من صنارات الصيد وشِباك الغطاسين. وهناك مقابر فوق الأرض، كانت فيها القبور دائرية الشكل يُراوِح قطرُها من 6 أمتار إلى 12 مترًا، ويبلغ ارتفاعها أمتارًا عدة، وتنقسم إلى حُجرات يُوصَل إليها عبر مداخل صغيرة. وظهرت الرسومات الصخرية في جبل حفيت.

ثقافة مجان: اشتهرت ثقافة مجان بصناعة السفن وصهر النحاس، الذي كان يُصدّر إلى بلاد ما بين النهرين، وأوضحت الآثار ظهور تنظيم اجتماعي هرميّ، وتشهد البضائع التي عثر عليها في المقابر على ارتفاع مستويات الاقتصاد الاجتماعي والتغيرات الاجتماعية بسبب التجارة التي كانت تصل لمكانات بعيدة. وفي الوقت الذي لعبت فيه مجان دور التفاعل مع حضارتي وادي الرافدين والسند، كان لظفار دور مهم في تفاعلها مع الحضارة اليمنية.

العصر الحجري النحاسي (كالكوليت) في اليمن القديم (3500 – 2800 ق. م.)

كان هذا العصر مبكرًا أكثر من غيره من مناطق جزيرة العرب، وكانت له مظاهر ثقافية واضحة المعالم خصوصًا المباني الحجرية ذات الطابع الديني (الميغاليث والمدافن). امتاز مناخ اليمن، في تلك الحقبة، بالاعتدال، كما كان في عصر النيوليت. وكانت النباتات والحيوانات، بين مدجّنةٍ وبرّيّة، تملأ تضاريس اليمن، وانعكست وفرتها في الرسومات الصخرية التي نشطت في هذه المرحلة. أما المستوطنات البشرية فقد استمرت القرى الزراعية ولم تظهر المدن بعد. وظهرت المجتمعات الريفية التي كانت تستعمل الأدوات الزراعية والحجرية معًا. وتميزت ثقافة الكالكوليت في اليمن بظهور ثلاث ثقافات هي:

أولًا- الميغاليت والدولمن والمدافن: ظهرت في سهل تهامة الساحلي. وفي وادي حضرموت ظهرت أقدم نصب الميغاليت (الأنصاب الحجرية الضخمة)، وأشهر مواقع الميغاليت هي (حريب القراميش في صنعاء- جبل مصنعة ماريا في ذمار- وادي حريب في شبوه- نصب جبال جردان والروبق المعزولة وسط رملة السبعتين وصحراء الربع الخالي). وقد تحرّت البعثات الآثارية سهل تهامة الساحلي على البحر الأحمر وكشفت عن سبعة مواقع ذات هياكل ميغاليتية تعود إلى نهاية الألفية الثالثة قبل الميلاد وبداية الألف الثاني قبل الميلاد، التي كانت كعمارات مقدسة أو كشواهد قبور. وتحرى البحث عن بعض شواهد الدولمن، أما المدافن فقد تنوعت واخترنا منها المدافن الركامية والدائرية.

ثانيًا- هياكل الصيد القديمة: على شكل الطائرات الورقية، وهي أفخاخ لصيد الحيوانات، وتتكون من غرفة صغيرة في الأرض على شكل رأس طائرة ورقية كالسهم، وهي خنادق لإطلاق سهام الصيادين أو فخاخ يسقط فيها الحيوان الذي يُراد اصطياده. وقد ظهرت في اليمن بين محافظتي صنعاء ومأرب وبأشكال مختلفة، وتضم ممرات طويلة تتوسع ليلتقي بعضها ببعض في ساحة كبيرة مغلقة.

ثالثًا- فن الصخور الذي كان متميزًا ومتفردًا حيث شهد ظهور رسوم الحيوانات المنقرضة كالجاموس والثور الوحشي والسنوريات الكبرى والأسد والنمر أو الفهد، وظهرت أساليب مختلفة لنقش الرسومات والمخربشات.

وفي عصر الكالكوليت ظهرت العلاقات التجارية الحضارية لشبه جزيرة العرب من الحضارات والثقافات التي تحيطها، مثل حضارات وادي الرافدين والسند ومصر وبلاد الشام وعيلام وشرق إفريقيا والحبشة. وسينتج عن هذا التفاعل الحضاري نقلة واسعة تؤدي للعصر البرونزي الذي يعد بداية العصور التاريخية في جزيرة العرب.


مصادر‭ ‬دراسة‭ ‬تاريخ‭ ‬جنوب‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭ ‬وآثارها‭ ‬قبل‭ ‬الإسلام

زيدان عبدالكافي كفافي باحث وأكاديمي أردني

الهدف من أي دراسة هو تقديم المعلومة الصحيحة حول موضوع البحث الذي ينوي الباحث القيام به. وتعتمد مصداقية المعلومات الواردة في البحث على المصادر التي استقى منها الباحث معلوماته، وهي في رأيي الأسس التي تقوم عليها الدراسة. وموضوعنا هذا يقدم بعجالة المصادر التي يجب الاتكاء عليها في تقديم صورة واضحة حول تاريخ جنوب الجزيرة العربية قبل الإسلام بجميع أشكاله الاقتصادية والاجتماعية والدينية وأنظمتها السياسية وعلاقاتها الخارجية.

يا للأسف اعتاد الناس على تقديم صورة نمطية حول الجزيرة العربية وسكانها في الحقبة السابقة للإسلام وأطلقوا عليها اسم «الجاهلية»، وكأن مجتمعات الجزيرة العربية في ذلك الوقت كانت متخلفة حضاريًّا، ويغلب عليها طابع البداوة، وأن الناس كانوا أميين، ولا يفلُّ بينهم إلا حد السيف. وللأسف إن كثيرًا من تقارير المستكشفين والرحّالين الأجانب الذين زاروا الجزيرة العربية عامةً قد رسّخوا هذه الصورة في أذهان الغرب. إلا أن هذه الصورة آخذة تدريجيًّا في التغير نتيجة للجهود التي يقوم بها بعض البعثات الأجنبية، والمحلية والباحثين العرب في الوقت الحاضر.

منذ سنوات طويلة أجرت بعثات أجنبية ومحلية عدة في اليمن وعُمان العديدَ من التنقيبات والمسوحات الأثرية، وكشفت النقاب عن معلومات جديدة أضافت الكثير حول حضارة جنوب الجزيرة العربية. فقد كشفت الحفريات الأثرية التي أجرتها الحكومة اليمنية بالتعاون مع «المؤسسة الأميركية لدراسة الإنسان» في معبد أوام؛ عن عدد كبير من النصوص المكتوبة والمنقوشة التي زودتنا بمعلومات جديدة حول حضارة اليمن. ويقوم على دراسة هذه النقوش الآن عضو بعثة «المؤسسة الأميركية لدراسة الإنسان» محمد المرقطن، الباحث والمتخصص في دراسات شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام. كذلك الأمر في عُمان حيث أجرى قسمُ الآثار بجامعة السلطان قابوس بإشراف ناصر الجهوري وأعضاء القسم العديدَ من التنقيبات الأثرية في عدد من المواقع العُمانية، وبخاصة في منطقة سهول الباطنة، حيث زودتنا نتائج هذه الحفريات بمزيد من المعلومات حول حضارة «أم النار» في عُمان والمؤرخة للنصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد. وتعدُّ نتائج الحفريات التي توصل إليها فريق من قسم الآثار والمتاحف بجامعة الملك سعود في المملكة العربية السعودية في موقع «الفاو» عاصمة مملكة «كندة» على أطراف الربع الخالي، التي نشرت حديثًا في ستة مجلدات، من أهم المصادر التي يجب الاعتماد عليها عند كتابة تاريخ الجزيرة العربية عامةً، والمملكة العربية السعودية خاصةً.

الدراسات العلمية

إضافة للحفريات والمسوحات الأثرية، فإننا نعدّ كثيرًا من الدراسات العلمية الرصينة التي نشرها عدد من الباحثين العرب والأجانب حول الحِقَب السابقة للإسلام من أمثال عبدالرحمن الأنصاري، وسليمان الذييب، وعبدالله الشارخ، ويوسف محمد عبدالله، ومحمد بافقيه، ومحمد المرقطن، ومنير عربش، وناصر الجهوري، وحمد بن صراي، وجواد علي، مصادر مهمة للحصول على معلومات تفيدنا بأحوال جنوبي الجزيرة العربية قبل الإسلام. وإذا كانت هذه المصادر قد كتبت اعتمادًا على نتائج أعمال ميدانية أثرية، فإن تقارير الرحّالين والمستكشفين والجغرافيين والمؤرخين اليونان والروم، أمثال: هيرودوتس، وديودور الصقلي، وسترابو، وبليني، تعدُّ عونًا لنا للتعرف إلى أحوال المناطق التي زاروها وأحوال الناس فيها في العصور اليونانية والرومية والبيزنطية. لكن على الرغم من أصالة المعلومات الواردة في تقاريرهم، فإنها تبقى تمثل وجهة نظر غربية متحيزة ومحصورة في المنطقة التي زاروها، وبخاصة عند حديثهم حول الناس وطبيعة الأحوال الاجتماعية. هذا لا يعني استبعادها في دراساتنا لتاريخ شبه الجزيرة العربية وآثارها قبل الإسلام، بل نؤكد ضرورةَ دراستها وتمحيصها قبل الأخذ بكل ما فيها.

على أي حال، تشمل مصادر دراسة جنوب الجزيرة العربية قبل الإسلام النقوش، والكتابات، والآثار، والمصادر الدينية، والشعر الجاهلي، وكتابات المؤرخين الكلاسيكيين، وتقارير الرحّالين والمستكشفين. ويرى كثير من الباحثين أن النقوش والكتابات والآثار هي أهم المصادر وأصدقها عند كتابة تاريخ أية منطقة في العالم؛ إذ إنها شاهد حي وناطق على الحدث في زمانه أو حين وقوعه. والنقوش والكتابات هي نصوص نقشت على الصخر، أو العسيب، أو الجدران، أو المسلات، وعلى شواهد القبور، والألواح الحجرية والطينية (الرقم)، والورق، والجلد وغيرها من المواد. وتدل كتابة النقوش والكتابات بلغات أو لهجات معينة على انتشار الناس في المنطقة التي وجدت فيها هذه الوثائق المكتوبة. وإذا عثر في الموقع الواحد على نقوش أو كتابات متعددة اللغات أو الخطوط أو اللهجات، مثل موقع الفاو، فيدل هذا على أن الموقع كان يمثل نقطة التقاء مجموعة من الأجناس في المكان نفسه، وربما يكون ذا أهمية دينية أو تجارية. وكُتبت النقوش والكتابات في شبه الجزيرة العربية عامة بخطوط متعددة، منها: المسند، والآرامي، والنبطي، واللحياني، والداداني، والثمودي والصفوي. ويعدُّ الخط المسند أو ما يعرف باسم العربي الجنوبي، هو القلم الرئيس لكتابات ونقوش جنوبي شبه الجزيرة العربية، ويتكون من 29 (تسعة وعشرين) حرفًا أبجديًّا.

وتضمنت هذه النصوص معلومات حول النواحي العامة في اليمن القديم، وأخرى تذكارية، وحمل بعضها أسماء المكربين، ومنها ما يحمل تاريخًا. ويرى كثير من الباحثين أن النقوش العربية الجنوبية تفيد كثيرًا في دراسة النواحي اللغوية والدينية والاجتماعية أكثر منها في التعرف إلى النواحي السياسية. ونستردف بالقول: إن الكتابات والنقوش العربية التي عثر عليها في اليمن أفادتنا بأسماء ملوك الممالك التي نشأت هناك، كما أنها أشارت إلى الصراعات العسكرية التي حصلت هناك. ومن أفضل الأمثلة على ما ذكر، نقش «ماسل» السبئي الذي يؤرخ لعام 516م، وعثر عليه في وادي ماسل إلى الجنوب الشرقي من مدينة الدوادمي في المنطقة الوسطى من المملكة العربية السعودية، ويتحدث عن حملة الملك «معد يكرب يعفر» ملك سبأ ضد الملك «المنذر الثالث» ملك الحيرة.

كما وثقت السجلات الآشورية العلاقة التي سادت بين اليمن وآشور، فهناك نص يعود تاريخه لعام 714 قبل الميلاد، يذكر أن الملك الآشوري سرجون الثاني تلقى هدايا من الملك السبئي «أتي وتر»، وتكرر الحال في نص آخر من عام 685 قبل الميلاد، ويذكر أن الملك الآشوري «سنحاريب» تلقى هدايا من «كريبي إيلو» ملك سبأ. كما اكتشفت البعثة الألمانية في عام 2005م نقشًا يؤرخ لعام 715 قبل الميلاد يخص الملك السبئي «يتع أمر وتر بن يكرب ملك»، إلى جانب نقش آخر يؤرخ لعام 685 قبل الميلاد ويخص الملك السبئي «كرب إل وتر»، واسما هذين الملِكيْنِ مذكوران في المصادر الآشورية.

تعدُّ الآثار سواء المنقولة أو غير المنقولة المرآة الحضارية للشعوب؛ وذلك لأنها تعكس فكرها الثقافي. وتشير الدلائل الأثرية المكتشفة في شبه الجزيرة العربية أن الناس سكنوها منذ عصور ما قبل التاريخ حتى الحاضر من دون انقطاع، وتركوا لنا آثارًا تعدُّ مصادر أصلية لكتابة تاريخها. ولا يتسع لنا المجال في هذه المقالة أن نتحدث عنها بالتفصيل، لكن يمكن للقارئ العودة للكتب والأبحاث المنشورة حول نتائج التنقيبات الأثرية في المواقع المهمة في جنوبي شبه الجزيرة العربية، مثل: مأرب، وشبوة، وصرواح في اليمن، ومواقع في ظفار وسهول باطنة وجبل الحجر في عُمان، للاطلاع على طبيعة وتاريخ الآثار المكتشفة في هذه المواقع في جنوبي شبه الجزيرة العربية.

الرحالون والمؤرخون

تعدُّ كتابات المؤرخين والجغرافيين الكلاسيكيين من المصادر المهمة في كتابة تاريخ شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام. ونذكر من هؤلاء أخيلوس (525 – 456 قبل الميلاد)، وهيرودتس الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، وبليني، وسترابون، وغيرهم كثيرون. وتتضمن كتاباتهم معلومات تاريخية وجغرافية مهمة حول جغرافية شبه الجزيرة العربية وسكانها في الحقبة السابقة للإسلام. وقد استقى هؤلاء معلوماتهم إما عن طريق زياراتهم الشخصية، أو من الجنود الذين شاركوا في الحملات العسكرية على الجزيرة العربية، أو عن طريق التجار الذين جاؤوا لليمن للحصول على البخور واللبان.

وبطبيعة الحال سواء أكان الوصفُ على نحو مباشر عند الزيارات الشخصية أو غير مباشر عن طريق الجنود والتجار، فقد وصفَ هؤلاء الأمورَ من خلال رؤاهم هم وبعقليتهم وأفكارهم. فمثلًا نادرًا ما وصف هؤلاء المجتمعات العربية المسيحية في شبه الجزيرة العربية. كذلك لا نعلم كيف تواصل هؤلاء مع أبناء القبائل العربية إن لم يتقنوا أو يحسنوا فهم اللغة العربية حتى يتمكنوا من التواصل مع الناس وفهم ما يقولون. على أي حال تبقى هذه التقارير ذات قيمة؛ لأنها كانت معاصرة للأحداث عند كتابتها. لكننا نودّ الإشارة إلى أن ما أورده المؤرخ هيرودتس في كتاباته، فيه موضوعية قريبة من القضايا العامة. لكن تقارير قادة الإسكندر المقدوني (بطليموس وأرستوبولوس) والأخير متخصص في الجغرافيا والتاريخ الطبيعي، جاءت تتركز حول مساحة شبه الجزيرة العربية وحدودها. كما نود الإشارة إلى دراسة أمين مكتبة الإسكندرية (إيراتو سثينيس 275- 194 قبل الميلاد) التي تطرق فيها للأقوام اليمنية محددًا حدود منطقة نفوذ كل منها، وعواصمهم، وطبيعة الحياة السياسية فيها.

أما تقارير الرحالين والمكتشفين الأوربيين فقد بدأ هؤلاء بالقدوم إلى اليمن في المدة بين 1500-1505م، وذلك عندما زار الإيطالي لودفيكو دي فارتما مدن عدن وذمار وصنعاء؛ تبعه رحّالون آخرون من أمثال: الدنماركي «كارستن نيبور» الذي وصلت بعثته إلى اليمن عام 1762م، وكتب وصفًا لشبه الجزيرة العربية، وبخاصة جغرافية اليمن وتاريخها. كما زار الألماني «أولريش يسبر ستزن» في عام 1810م عددًا من المواقع الأثرية اليمنية، وأوصل إلى أوربا أول نقش يمني قديم اكتُشف في ظفار. كما زار اليمن عدد من الرحالِين الغربيين والعرب والمصريين في القرنين التاسع عشر وبداية العشرين، ونسخوا عددًا من النقوش العربية الجنوبية المكتوبة بخط المسند.

ختامًا؛ نستطيع القول: إن مصادر دراسة شبه الجزيرة العربية عامة، وجنوب شبه الجزيرة العربية خاصةً، هي مصادر أصلية ومتعددة، فهناك النقوش والكتابات والآثار التي تعدُّ الأصل في كتابة تاريخ أي منطقة. نستطيع القول: إن شبه الجزيرة العربية بجميع مناطقها الجغرافية كانت ولا تزال مركزًا ومستودعًا حضاريًّا عالميًّا متميزًا لم يكتشف منه إلا القليل.


الاتجاهات‭ ‬الفكرية‭ ‬والدينية في‭ ‬جنوب‭ ‬شبه‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭ ‬قديمًا

حسين أبو بكر العيدروس باحث وأكاديمي يمني

ظهر ما يُعرف بالإنسان الأول في جنوب شبه الجزيرة العربية منذ ما يقرب من مليوني عام، فيما يصطلح على تسميته بحقبة البلايستوسين، بعدما انتقل في ظروف مناخية مناسبة من إفريقيا (الجنوبية الشرقية) أو (إثيوبيا والحبشة) عبر مضيق باب المندب، ومنها انتشر وجوده في الجزيرة، ثم ارتحل شمالًا وشرقًا إلى بقية أنحاء العالم. تميز هذا الإنسان المسمى (الهوموإيريكتس) بقدرته على التفكير طويل المدى، كما أن قدراته الجسمانية لا تختلف كثيرًا عن إنسان الوقت الحاضر من حيث الاستقامة أو انتصاب العمود الفقري الذي يجعله يمشي بالقدمين، إضافة إلى حجم المخ الذي يصل إلى 1400 جرام، عدا القليل من الامتداد للفك الأسفل.

البدايات الأولى للتفكير

كانت الظواهر الطبيعية التي يشاهدها هذا الإنسان بشكل يومي في محيطه هي التي تشغل تفكيره، مثل: شروق الشمس وغروبها، وبزوغ القمر واضمحلاله، وتكون السحب الكثيفة وهطول الأمطار الغزيرة مع وجود الصواعق التي تسبب الحرائق في الغابات، إضافة إلى النشاطات البركانية التي قد توجد في بعض المناطق القريبة منه وما يصاحبها من هزات أرضية أو زلازل وما قد تسببه من فيضانات. كل ذلك بالتأكيد كان يجعل الإنسان في تلك المراحل يتأمل تلك الظواهر التي أضحت تؤرقه وتجعله يتوتر من الخوف والهلع؛ فهو لا يعلم من الذي يحركها، ولا مصدرها؟ لكنه كان يشعر بداخله بوجود محرك عظيم يقف وراءها.

لقد رسم لها في خياله صورة قدسية ممزوجة بالخوف والرهبة، فأراد أن يكسبها اتقاءً لغضبها وطمعًا في محبتها والقرب منها، وكل ذلك استدعى منه أن يُضحِّي بالنفيس والغالي لأجلها. كان يرى في شكل قرون الثور مثلًا شبهًا كبيرًا بالهلال في أطواره الأولى؛ لذلك أصبحت قرون الثور تمثل له صورة من صور القمر الذي اعتبره مصدرًا للنور، الذي يُرشد المسافرين في الصحراء. لذلك فهو شيء مُهم يبعث على الحياة، لكونه يظهر ويختفي، لكنه كان أكثر نفعًا من غيره، فأصبح أحد المعبودات لديه. وكان يرى في الشمس ذلك الشيء الكبير الذي يمد الأرض عبر خيوطه الذهبية الحارقة فسمَّاه (الحميم) الذي يُشرق كل يوم في الصباح، ليمد الأرض بالحياة، ويغادرها قرب المساء ليبدأ من جديد في اليوم التالي وهكذا.

عبادة الظواهر الطبيعية

تلك رحلة إلى الإله الشمس، وهو الذي أصبح رب الكون في خياله. كما أن صفحة السماء المزينة بالكواكب المضيئة، يبرز من بينها ذلك الكوكب الوضاء المسمى (الزهرة) في عنان السماء وهاجًا متلألئًا، فاعتقد أنه الابن الودود للشمس والقمر، فكان مدعاة لتسميته (عثر/ عشتار/ عشتروت) وهو إله الخصب، الذي من دونه لا توجد الكائنات ولا تتجدد حياتها، فكان أن رمز له برمز الوعل على الأرض، وهو رمز للخصب والحياة. كما رسم في ذهنه صورة خيالية واسعة لتجدد الحياة وخصوبتها، فالسماء العالية التي تحتضن السحب المحملة بالمياه لا تهطل على (الأرض) التي هي في ذهنه الأم الولود إلا بإذن من الأب (السماء) لينتج عن ذلك التلاقح والخصب، فتصل قطرات ذلك السحاب إلى الأرض الجافة المجدبة، فتجعلها خضراء مليئة بالحياة، وهؤلاء هم الذرِّية الذين أنجبتهم بعد تلاقح السماء بالأرض.

التحول الديني

إن التطورات الفكرية والدينية تأخذ وقتًا طويلًا في التحول من مرحلة إلى أخرى، فالخروج من فكرة إلى غيرها، يشوبها كثير من التعقيد ولا سيما في أشكال رموزها وصورها على الأرض، وقد تتشابه كثيرًا في أصولها وجذورها ناهيك عن أهدافها. لقد كانت مرحلة الوثنية طويلة إلى حد كبير ليس في جنوب الجزيرة العربية فحسب؛ بل في العالم أجمع، فقد كان الإنسان متصلًا بأرضه وبجذوره وبمحيطه، ويرى فيه الأصل الذي لا يمكن أن يتجاوزه إلى الآخر، لذلك كان وقع بعض الدعوات المسماة الدينية عليه يعتبره شيئًا منافيًا لقيمه، وعليه ألا يتنازل عنها.

لقد كان على الإنسان أن يخصص مكانًا يختلي فيه ويناجي ربه بالطريقة التي يرى أنها مناسبة؛ ليشكي كل قضاياه إلى الخالق المتحكم في الكون، ولذلك برزت فكرة المعابد كمكان مقدس لتلك المهمة، وكانت بداياته في العراء، ثم أخذ أشكالًا متعددة تبعًا لظروف كل منطقة، وتعددت فيه المواضع وتطورت مع الزمن ليتسع لكل الطقوس التي كانت هي الأخرى تتطور وتصبح طقوسًا جماعية تتجلى فيها مظاهر التقرب من الإله والانقياد إلى تعاليمه، وأصبح هناك تخصصات لعدد من الناس الذين سخروا أنفسهم لمهمه خدمة الإله والوساطة بينه وبين البشر، وأضحى المعبد مركزًا مهمًّا تحيط به بقية المنشآت المعمارية الأخرى. وتخبرنا النقوش القديمة عن الاعتذار الذي يبديه بعض الناس للتعدي على الحرمات في الأماكن المقدسة، وسميت تلك النقوش بـ(نقوش الاعتراف)؛ لأن المخطئ يعترف فيها بذنبه بكل وضوح ويرتجي الغفران والتوبة.

وفي جزيرة العرب برزت أعداد هائلة من المعابد منذ عصور ما قبل التاريخ (عصر الوثنية) واستمرت حتى جاءت اليهودية والمسيحية، ثم تحولت إلى مساجد في العصر الإسلامي. وكان (محرم بلقيس) أو ما يعرف بـ(معبد أوام) في العاصمة السبئية (مأرب) أعظم تلك المعابد في الجزيرة العربية، فكان يعتبر محجًّا لكل الناس القادمين من الجزيرة، وحوله يمكن الحصول على كل الخدمات التي يحتاجها الحجيج والمسافرون، وما زالت أطلاله الضخمة شاهدة حتى وقتنا الحاضر، ولم يكن ذلك المعبد الوحيد في جنوب الجزيرة، فهناك معابد أخرى في كل منطقة تقوم بوظائفها، وتعبد فيها ما تسمى بالآلهة التي تختلف تسمياتها وطقوسها ورموزها الدينية. وهكذا استمر الفكر متصلًا بالعقيدة في تطور مستمر لا ينفك أبدًا، باحثًا عن الحقيقة، وخلال مرحلة من القرن الرابع الميلادي، أي قبل الإسلام بنحو ثلاثة قرون ونيّف، تبرز في النقوش قضية مهمة تسمى مرحلة عبادة الرحمن (ر ح م ن ن)، بمعنى عبادة الإله الرحمن الواحد، الذي في السماء حتى إن بعض المعبودات سميت بـ(ذي سماوي). ونستطيع القول: إنها مرحلة الاهتداء لرب العزة، كما عُرف في وسط جزيرة العرب وجنوبها أيضًا، وبرز في النقوش من خلال كلمة (العزى/ العزة)، ولكن كانت البداية في أشكال وثنية.

ولم تفصح النقوش صراحة عن أسماء للرسل من الأنبياء الذين كانوا في الجزيرة العربية وجنوبها منذ إبراهيم حتى محمد عليهما السلام. وربما هناك دوافع دينية/ سياسية وراء اختفاء ذلك، وما زلنا نأمل أن تكشف الدراسات عن الروابط بين التاريخ والدين بشكل حقيقي وعادل لا يشوبه شائب من العنصريات والإقصاءات التي شوهت التاريخ الحضاري لجنوب الجزيرة العربية.


تاريخ‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭:‬ اكتشافات‭ ‬جديدة‭ ‬وبعثات‭ ‬تواصل‭ ‬حفرياتها

الاستيطان البشري في الجزيرة العربية

أحمد الزيلعي

هناك فرق بين الاستيطان البشري في الجزيرة العربية، والحضارات. فالاستيطان البشري تعود دلائله إلى أكثر من مليون سنة. أما الحضارات فهي مرتبطة بالكتابة، والاستقرار والزراعة، وتكوين المجمّعات السكانية من مدن وقرى ودارات، ونشوء الدول ونحو ذلك. وتعود مرحلة الحضارات إلى ما عُرف بعصر الممالك العربية سواء في شمال الجزيرة العربية أم في جنوبها، وهي مرحلة تسبق ما عُرف بالعصر الجاهلي، أي ذلك العصر الذي يسبق الإسلام بما لا يزيد على مئة وخمسين سنة.

صورة الجزيرة العربية كانت ضبابية، وأكثر من ضبابية في المصادر القديمة غير العربية، وإن زعم كثيرون بوضوح تلك الصورة فيما يُعرف بالمصادر الكلاسيكية. ولم تتضح صورة الجزيرة العربية للغرب مثلًا إلا مع نشاط الرحالين الغربيين إلى جزيرة العرب. ولعل خير من يصور جهل الغربيين بجزيرة العرب ذلك الكتاب العظيم الذي أَعَدَّتُه الباحثة الفرنسية جاكلين بيرين تحت عنوان: «اكتشاف جزيرة العرب»، وتكوين خريطة عنها للغرب، يتضح ذلك من عناوين فصول ذلك الكتاب، ومنها «العربية السعيدة»، و«العربية القفراء»، ولم تتكامل صورة الجزيرة العربية لدى الغرب الأوربي إلا بمدة وجيزة قبيل غزوها، واستعمار بعض أطرافها.

أما كون الجزيرة العربية مهد الإنسان الأول فذلك ما يتردد على ألسنة كثيرين دون أدلة مادية تدعم هذا الرأي؛ فالاستيطان البشري، الذي أشرت إليه في بداية الحديث، له ما يماثله في أقطار شتى من العالم خارج الجزيرة العربية. أما العثور على أدلة من عظام بشرية في جزيرة العرب فلا تتجاوز 90 ألف سنة من الآن، على أن هناك أدلة خارج جزيرة العرب تصل إلى 200 ألف سنة، ولكم أن تتصوروا الفارق.

الهجرات من الجزيرة العربية إلى خارجها كبيرة ومعروفة، وفي ظني أن أكبرها تلك المصاحبة للفتوحات الإسلامية، والاستقرار في البلاد المفتوحة، نعم تلتها هجرات أخرى جماعية، ومنها هجرة بني هلال، وبني سليم إلى الغرب، ولكنها ليست مثل الهجرات الأولى التي أشرت إليها آنفًا. أما الهجرات المعاكسة التي استهدفت جزيرة العرب من خارجها، واستوطنت فيها فلا أعلم هجرات ذات أثر واضح شبيهة بالأثر الذي تركته الهجرات من جزيرة العرب إلى خارجها إلا أن يكون الجيش الذي استعانت به قبيلة حِمْيَر من بلاد فارس ضد الأحباش، وبعد الانتهاء من مهمته استوطن اليمن، وتزوّج أفراده من نساء يمنيات، فأنجبوا منهن سلالة عُرفت بالأبناء، منهم بَاذَان الذي كان حاكمًا لصنعاء حين ظهور الإسلام، فأسلم، وأقرّه النبي -صلى الله عليه وسلم- على ولاية صنعاء حتى قُتل على يدي مدّعي النبوة عَبْهَلَة العَنْسِي. وهناك فئات من أصول إفريقية عرفوا في الجزيرة العربية منذ ما قبل الإسلام، وربما لا يكون ذلك مُتَرَتِّبًا على هجرة جماعية، وإنما هجرات فردية، أو مسترقّين جلبهم من استرقهم من إفريقيا إلى جزيرة العرب لبيعهم. وقد لحظنا أثر الحج في الحجاز بعد ظهور الإسلام، خصوصًا من إفريقيا، وآسيا، وشرق أوربا.

ليس هناك في جزيرة العرب ما هو مسكوت عنه حتى يتجاهله المؤرخون؛ لأن القرآن الكريم كشف كثيرًا من أحوالهم، وما هم عليه من الضلالة، وسوء العاقبة، والمؤرخون يكتبون عن كل ما يصل إلى أيديهم من معلومات عن عصور ما قبل الإسلام في جزيرة العرب وسكانها ما كان لهم وما كان عليهم. والتنقيب عن الآثار في المواقع القديمة كشف لنا الشيء الكثير عن أحوال شعوب الجزيرة العربية في العصور القديمة مما لا نجده في المصادر الأدبية التقليدية.

ليس عندي حصر دقيق عن كل جديد يُكتشف في جزيرة العرب في عصور ما قبل الإسلام، ولا بد أن أعترف بأنني قليل المتابعة لأخبار تلك المكتشفات في الآونة الأخيرة؛ لانشغالي بأمور أخرى كثيرة. ولكن إذا علمنا أن على تراب المملكة العربية السعودية الآن أكثر من 40 بعثةً أثريةً تنقب عن الآثار في طول البلاد وعرضها، بعضها سعودية بحتة، وبعضها سعودية بالتشارك مع بعثات أجنبية من مختلف أنحاء العالم، فإننا نقدّر أنها توافينا كل يوم بجديد، وأن معرفة ذلك الجديد على وجه الدقة واليقين يتجاوز قدرات أشد الناس متابعة؛ لذلك الجديد الذي يُكتشف على أرض المملكة مثلًا من مختلف العصور التاريخية، وما قبل التاريخية بفضل الله، ثم بفضل الجهود الكبيرة التي تبذلها وزارة الثقافة في المملكة العربية السعودية ممثلة في هيئة التراث بقيادة رئيسها التنفيذي الدكتور جاسر سليمان الحربش، والفريق العامل معه.

أكاديمي وباحث سعودي

كيف يمكن أن نقرأ تاريخ الحضارة العربية القديمة الآن؟

يعرب دحام العبد الله

تميزت شبه الجزيرة العربية بموقعها الذي يتوسط بلاد الشرق الأدنى القديم، ودورها البشري المؤثر في تكوين السلالات الأكثر عددًا بين سكانه القدماء. كما كان لها نصيب أيضًا من دور الوساطة والتأثير في بعض خطوط اتصالاته. وتدل الآثار الباقية أن شبه الجزيرة مرت بفترات متعاقبة، بداية بما خلفه الإنسان القديم في العصور الحجرية من أدوات حجرية صوانية ورسوم بدائية متفرقة. كما أنها تتضمن أساسًا ما تركته الجماعات العربية المتحضرة في عصورها التاريخية القديمة من أوابد عمرانية، كبقايا المعابد والأسوار والسدود والحصون والأبراج والمساكن والمقابر، وما عثر عليه من آثار متنوعة لأدوات الاستعمال اليومي وأدوات الزينة وفنون النحت والنقش، في مناطق عدة من أنحاء شبه الجزيرة العربية.

الاكتشافات تسطر التاريخ

أشارت الاكتشافات والمسوحات الأثرية التي قامت بها البعثات الأثرية ضمن الجزيرة العربية إلى وجود مجتمعات منظمة تحترف الزراعة والرعي والصيد حتى منتصف العصر الهولوسيني (9000-2500 ق.م). ولكن بسبب التغيرات المناخية العالمية في أواخر العصر الهولوسيني، التي ظهر أثرها في (4300 ق.م)، بدأت الأمطار تقلّ في الجزيرة العربية، وتجف الأنهار، فاتجه أهل الجزيرة العربية تدريجيًّا إلى الشمال، حيث الأنهار مثل دجلة والفرات. ويقول بعض العلماء: إن الجزيرة العربية قبل ذلك كانت أكثر إغراء للعيش فيها من العراق أو الشام. ويلحظ العلماء أن حقبة نهاية المستوطنات في الجزيرة العربية مثل مستوطنات «ثقافة العبيد» تترافق مع ظهور المستوطنات في بلاد ما بين النهرين، وذلك في أواخر عصر ما قبل التاريخ.

نلحظ وجود أقدم الحضارات التاريخية في منطقة نجران. ومن أقدم الحضارات المكتشفة في شبه الجزيرة حضارتا العبيد ودلمون اللتان ازدهرتا في منطقة الأحساء والخليج العربي، حيث اكتشفت أقدم آثار الحضارة الإنسانية. وقد جاء ذكر دلمون في الكتابات المسمارية القديمة التي تعود إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد التي وجدت في بلاد الرافدين وشمال سوريا.

حقب الاستيطان التاريخية

حقبة العُبَيد: كانت مناطق الخليج العربي وشرق الجزيرة العربية على تواصل مستمر مع مناطق جنوب العراق القديم، وظهرت آثار هذا التواصل في وجود آثار حضارة العُبَيد بمراحلها المختلفة. وتمثلت تلك البقايا العُبَيدية في النماذج الفخارية التي تحمل بصمات بلاد الرافدين، وانتشرت على طول خط ساحل الخليج العربي من الشمال إلى الجنوب. وقد انتشرت آثار حضارة العُبَيد في عدد كبير من مواقع الخليج العربي وشبه الجزيرة العربية، وأكثر هذه الآثار كانت شمالًا حيث القرب من مواقع العبيد، ثم تأخذ في الانحسار كلما اتجهنا جنوبًا؛ أهمها (عين قناص في الهفوف والدوسرية ورأس الزور وأبو خميس في الجبيل).

حقبة أم النار: اكتشفت في ستينيات القرن الماضي في جزيرة أم النار بإمارة أبو ظبي. وهي حضارة نشأت في الإمارات وشمال سلطنة عمان، وتعود للعصر البرونزي في المدة بين 2600- 2000ق.م.

حقبة دولمون: نشأت تلك الحضارة في المدة ما بين 2800 و323 قبل الميلاد، وتمتدّ بطول الساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربية من الكويت عند جزيرة فيلكا، حتى حدود حضارة مجان في سلطنة عمان وحضارة أم النار في إمارة أبو ظبي بدولة الإمارات، وكانت نقطة الوصل وحلقة الربط الرئيسة ما بين الطُّرق التجارية القديمة الشرقية والغربية.

ارتبطت أغلب الاكتشافات الأثرية في سواحل الخليج العربي وجزره، منتصف القرن الماضي، بجهود بعثة دنماركية لآثار ما قبل التاريخ، وتبعتها بعثات أجنبية وعربية ووطنية.

بعثرات أثرية في العلا

كثير من المكتشفات الأثرية تبلورت في الساحل الشرقي من المملكة، كما كُشِفَ عن مساكن قوم عاد التي كانت في الأحقاف في جنوب الربع الخالي. وحاليًّا تعمل العديد من البعثات الأثرية الفرنسية والأسترالية والأميركية في منطقة العلا التي كانت مهد حضارة قوم ثمود. ومن خلال المسوحات الأثرية التي تقوم بها البعثة الأثرية لجامعة غرب أستراليا اكتُشِفَ العديد من الأبنية التي كانت تُستعمَل كجبانات جنائزية، حيث ميّز علماء الآثار العاملين في السعودية، مستعينين بصور الأقمار الصناعية والتحقيقات الأثرية الميدانية، كثافةً غير عادية للصروح الجنائزية التي تعود إلى ما قبل التاريخ، والتي لا مثيل لها في أي مكان آخر. ففي منطقة خيبر وحدها استطاع الباحثون إحصاء نحو عشرة آلاف بنية جنائزية مشيدة بالحجارة المقامة بلا إسمنت، وكان معظمها قائمةً قرب مصادر مياه دائمة.

أجمعت كتب التاريخ القديم على أن أرض شبه الجزيرة العربية، تعد من أغنى دول العالم في نقوش الفنون الصخرية، تلك التي دلت تفاصيلها على وجود حضارات إنسانية قامت على أرضها خلال زمن ما قبل التاريخ، أي قبل اكتشاف الكتابة. وبرز بعضها في نقوش صخرية وجدت في «الحنكية» بمنطقة المدينة المنورة، و«الشويمس، وجبة» في منطقة حائل المدرجتين ضمن قائمة مواقع التراث العالمي بمنظمة «اليونسكو».

باحث وأكاديمي سوري

دلمون والعُبيد وبداية حضارات الشرق

سلطان الدويش

الاكتشافات الأثرية التي ظهرت في شبه الجزيرة العربية تأخرت كثيرًا عن مثيلاتها مصر والعراق بأكثر من مئة وخمسين عامًا تقريبًا؛ وذلك لأن الباحثين كانوا يعتقدون أن شبه الجزيرة العربية منطقة صحراوية ليس بها آثار. حتى حين ظهرت آثار لحضارة «دلمون» في العراق وبابل اعتقدوا أنها من حضارة الهند، ثم وصلت بعثة دنماركية إلى الكويت عام 1958م. واكتشفت «دلمون» التي تحدث عنها البابليون والسومريون، وعن أنها موجودة في جزر الخليج ومنطقة «تاروت» في المملكة العربية السعودية. البعثة نفسها عملت في كل من البحرين وقطر والإمارات وأثبتت هذه الاكتشافات في مدن «دلمون».

دلمون حضارة كبيرة في منطقة الخليج، كانت لها علاقة بالحضارة المصرية وبحضارة فارس، وحين تحدثت المصادر المصرية عن استيراد التوابل والبخور، لم يكن المقصود بلاد النوبة، كما اعتقد بعضٌ، بل الخليج؛ فالبخور والتوابل كانت تأتي إليها من الخليج لا من النوبة.

وقد سبقت دلمون حضارة أقدم، وهي حضارة «العُبيد» التي كانت بداية الحضارة التي نشأت في الشرق، وتعود إلى بدية تطور الإنسان من العصر الحجري إلى المدني. فقد وجدنا قرية في الكويت بها بداية مستوطنات، وهي بداية اتصال الحضارات، وهذه المستوطنات كانت من المحار وعظام الأسماك. لم يكن بها وجود للمعادن، فقد كانت قائمة على صيد السمك، واستخدمت الفخار والمحار والخرز. وتواصلت «العبيد» مع المراكز الحضارية الأخرى في العراق سواء بأور أو العبيد.

المراكز الحضارية الخمس في ذلك الوقت كانت في كل من مصر والهند وسوريا القديمة وبابل ودلمون. وقد علمنا باتصالها بالمراكز الحضارية الأخرى عن طريق الأختام؛ إذ وجدنا مئة ختم من بلاد الرافدين، و40 ختمًا من السند، و5 من الجعران المصري، فضلًا عن أختام الخليج. وكانت الكتابة لديهم عبارة عن نقوش على ألواح من الحجر الصابوني والنحاس، وكانت في جانب منها ترصد الحياة اليومية في دلمون، فهناك نقش يؤرخ فيه صاحبه لأنه جاء على سفينة كبيرة من مدينة أور.

الموقع الإستراتيجي

اكتشافات منطقة الخليج بدأت تظهر بقوة في المدة الأخيرة، وهناك دراسات كثيرة عنها، والعامل الرئيس في نشأة حضارات الجزيرة العربية هو الموقع الإستراتيجي؛ فدلمون تقع على الخليج، والموانئ في الساحل الغربي، أو العربي، للخليج؛ لأنه منبسط وسهل. أما الجانب الشرقي أو الإيراني منه فإن طبيعته الصخرية صعبة؛ لذا لا توجد عليها موانئ. ومن ثم فقد ظهرت مراكز حضارية في أم النار بالإمارات وغيرها. وأهمية الموقع الإستراتيجي تأتي من أنه كان طريقًا للتجارة بين الهند والغرب. لمدة قريبة لم يكن العالم يعرف طريقًا للتعامل التجاري بين الشرق والغرب سوى الخليج، فالبحر الأحمر يتمتع بطبيعة صعبة تغلب عليها الجبال والصخور، ومن ثم كان من الصعب أن يصبح طريقًا للانتقال من الصين والهند إلى الغرب. وقد صارت السفن كبيرة، ومحملة بكميات ضخمة من اللبان، وكانت تأتي من السند إلى ماجان (إقليم عمان) إلى دلمون، محملة بالبخور الذي كانت تحتاجه المعابد المصرية، ولم تكن تذهب إليها من اليمن، وإنما من الخليج مباشرة.

وقد وجد العلماء في «التيماء» نقشًا لرمسيس الثاني، وهو ما يدل على أن التجارة كانت تصل إلى الممالك العربية ثم تُنقَل إلى مصر، وهو ما يعني وجود اتصال لها بالحضارات الأخرى، وأن التقارب بينها وبين هذه الحضارات أدى إلى نمو الممالك العربية وتطورها. وهذا ما دونه السومريون عن دلمون، فقد ورد ذكرها في أسطورة جلجامش، وهي أرض الخلود حسبما كان السومريون يعتقدون، أو الأرض المقدسة. وقد ورد ذكر دلمون في المصادر اليونانية، فقد استعمر اليونان أجزاءً من ساحل الخليج، وأطلقوا على جزيرة فيلكا اسم إيكاروس تيمنًا باسم جزيرة إيكاروس في بحر إيجة لديهم، وأطلقوا على البحرين اسم تايلورس، وكل كُتَّاب الإسكندر (أرياتوس وبطليموس، إسترابون وأجاثار خيديس الكنيدي) كتبوا عن الجرها التي جاؤوا بعدها بنحو ألف وخمس مئة عام. فقد وصلوا إليها وكتبوا عن العرب التجار، وأنهم كانوا أغنياء، وكانوا يلعبون الدور نفسه الذي يقومون به الآن، كما كانوا يصكون عملات نحاسية، وهو ما يعني أنهم عرفوا النقود، وقد كتبوا أسماء ملوكهم بالخط العربي المسند.

ظواهر حضارية

وقد ذكرت دلمون في «ماري» بسوريا، ووجدت أختامها في حيدرآباد بالهند، والفاو في السعودية، وفي أم النار بالإمارات، وقد وردت كتابات عنها في كل من سومر وأكاد، وكذلك في ماري بالشام. وفي الحقبة اليونانية كتبوا عنها كثيرًا بالخط اليوناني القديم. وحضارة دلمون بها كثير من الظواهر الحضارية مثل الأختام، فقد اكتشف بها نحو 800 ختم، كل ختم يختلف عن الآخر. الختم يتكون من نقوش حيوانية، وبعضها حمل اسم الإله. وفي جزيرة «أجاروم» قبل ألفي عام من الميلاد، أي قبل نحو أربعة آلاف عام من الآن، كانوا يكتبون بالخط المسماري القديم، وكانت لديهم كثير من النقود وأدوات الزينة النسائية، وتركوا كثيرًا من المعابد والقصور والأفران والقبور الصخرية.

فقد وجدنا بالصبية أناسًا مدفونين على شكل الجنين، ووجدنا كثيرًا من الأشياء المدفونة معهم. وفي حضارة دلمون كانت الأختام عليها رسومات قوارب الصيد وغيرها من مظاهر حضاراتهم.

الهجرات البشرية بين حضارات الجزيرة العربية والمراكز الأخرى في منطقة الشرق القديم ساهمت في تشكيل معالم التكوين السياسي والحضاري والتعايش والاستقرار في المنطقة، وتركت بصمتها في المجال الاقتصادي وزيادة النشاط التجاري، وكذلك في المجالين الديني والفكري.

باحث وأكاديمي كويتي

الدين في جزيرة العرب بين التوحيد والوثنية

حيدر قاسم مَطَر التميمي

إنَّ قراءة متأنية في العقائد الدينية في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، تُعيد إلى الأذهان شكلًا مألوفًا من العبادة عرفته المنطقة العربية القديمة قبل آلاف السنين، وهو الشكل الذي يعلن وجود خالق وحيد للكون مع المستوى الإيماني الذي يُقيم شعائره وطقوسه متوجِّهًا إلى الأرباب، ممَّا يخلق مناخًا متوافقًا بين العُمق والطقس، وممَّا أدَّى كذلك إلى تناسخ هذا النمط من التوحيد وظهور الوثنية في شبه الجزيرة العربية. فعبادة الأرباب في الجاهلية كانت تخضع بشكلٍ أو بآخر إلى وجود مناخ مناسب يميزها من غيرها، مع فسحةٍ تسامحيةٍ في انتشار الأديان، وتعايش أنماطٍ ومذاهب مختلفة شديدة التنوع من العقائد التوحيدية مع العبادات الربوبية المعروفة. والمتتبع لتطور التوحيد الربوبي الجاهلي، سوف يرى أنَّه يظهر في دور الكهنوت القوي، الذي كان كأسلافهِ في المنطقة العربية قبل الميلاد، مسؤولًا بشكلٍ مباشر عن انهيار هذا النمط التوحيدي، وذلك بتسطيحهِ للعقيدة الأسرارية، واختصارها إلى طقوسٍ ربوبية في إطار السعي المحموم وراء الثروة التي تؤمِّنها هذه الطقوس، عن طريق النذور والقرابين والهبات إلى المعبد. كل ذلك في محيط ذهني شعبي.

التنوع الديني

كانت العبادة في شبه الجزيرة العربية لوحة متنوعة الألوان والأشكال، فمنهم من كان يعبد السماء، وهناك عبادة الرحمن التي كانت منتشرةً في الجنوب، وفي أعالي الحجاز، وذلك قبل أن يدعو إليها مُسيلمة الكذَّاب بأكثر من مئتي سنة، كما أشار إليها المؤرخون والشعراء بشعرهم وتأريخهم الشعري، حيث أوجدوا عبادةً لـ(إيل) التوحيدية في شبه الجزيرة العربية، تحت عنوان الديانة الإبراهيمية، التي ورد ذكرها في القرآن الكريم بوصفها ديانة توحيدية، تُنزِّه الله (I)، وتُقرُّ عبادته وحده.

وفي استكمال هذه اللوحة الفسيفسائية ولدت ظاهرة الحنفاء، ونحن إذ نراها ظاهرة وليدة تميُّزها عن محيطها التوحيدي الذي كان قائمًا، إذ كانت هناك عبادات عديدة قائمة ومعروفة منذ قرون في البقعة الجغرافية نفسها، تحمل المضمون الديني ذاته، مثل عبادة (إيل)، وعبادة (الرحمن)، ونحو ذلك. ممَّا يميِّز الحنفاء عن هذا المحيط، وأدى إلى ظهور تيار جديد آخر من التيارات التوحيدية التي تقول بوجوب عبادة الله وحده.

إن الفارق النوعي المهم بين ما ذُكر من المعتقدات والتيارات التوحيدية، وبين ظاهرة الحنفاء إنما يكمن في أن الأخيرة قد ولدت وهي تحمل مشروعًا سياسيًّا ودينيًّا على مستوى الجزيرة العربية كلها، هذا المشروع يستبدل التعددية العقائدية التي ذكرناها على المستوى الذهني، والتشرذم القبلي على المستوى السياسي، الذي يمر عبر إلغاء جميع أشكال العبادة المحلية التي تعكس وتُكرِّس التفتُّت الاجتماعي في صورة الحضور المتعدِّد للأرباب التي تتنوَّع بتنوع الجغرافية والانتماء القبلي. وسنحاول في هذا المقال المركَّز أن نسلط الضوء فقط على الديانات التوحيدية التي إمَّا كان منبعها وأصلها أرض شبه جزيرة العرب، أو أنها كانت وافدةً عليها من الثقافات والأُمم المجاورة لها.

الديانات التوحيدية

عند التفكير في الفكر الديني في شبه الجزيرة العربية في بداية القرن السادس الميلادي، لا بد من التساؤل عن تنوع العقائد الدينية في تلك الحقبة الزمنية، فقد ملأ الجاهليون فراغهم الروحي بالإيمان بآلهة الأوثان والأصنام، فضلًا عن إيمانهم بالله، فهناك الأديان السماوية التي تقدَّمت على الإسلام، وهي اليهودية والنصرانية اللتان كانتا تعمَّان الجزيرة العربية، ولكلٍّ من تلك الأديان مصادر فكرية تستقي منها تعاليمها، وتبني عليها معتقداتها، فصاغ منها أصحابها طقوسهم الدينية على اختلافها. وكل واحدٍ من أصحاب الديانتين كوَّن تيارًا دينيًّا بنى عليه معارفه من محيطهِ الغني بالمذاهب والعبادات التوحيدية، وصاغ مشروعه الفكري على هَدي سياسي ديني يقيم فيه النُّظُم السياسية والدينية تخلِّفها النُّظُم الاجتماعية؛ ولذلك نرى العقائد الدينية تؤدي دورًا مهمًّا في خلق التنظيم الاجتماعي والسياسي، وما يترتَّب عليهما من علاقاتٍ اقتصادية ومادية مهمة، فضلًا عن العلاقات الدينية والفكرية التي تقوم بين الإنسان وربِّهِ، وما يجسِّد هذا المعتقد من أقوالٍ وأعمال.

انتشرت اليهودية في شبه الجزيرة العربية في قبائل وبطون عربية كانت تعيش خارج مكَّة، منهم: بنو النضير، وبنو قريظة، وبنو ثعلبة، وبنو زريق، وبنو حارثة، فضلًا عن دخول بعض القبائل العربية في الديانة اليهودية، حيث تهوَّد قومٌ من الأوس. وهم أقوام جاؤوا إلى الجزيرة العربية للاتِّجار والربح، وقد أقاموا فيها لهذه الغاية، وهم قلَّة، وقد سبقوا الإسلام بمدة قصيرة من دون أن يكون هناك أي دليلٍ مادي على وجودهم في شبه الجزيرة العربية منذ القِدَم، وخاصةً في النقوش والتراث التاريخي الذي كان لغيرهم من الأديان الأخرى، وقد يحتمل مجيئهم من الحبشة أو من الشمال، حيث أقاموا في يثرب وأم القرى. وأقدم النقوش في الجزيرة العربية تعود إلى رجلٍ يُدعى (يحيى بن شمعون)، التي يعود تاريخها إلى سنة ٣٠٧ ميلادية، وهي كتابات شخصية لا تفصح بشيءٍ ذي بال عن عقيدة أصحابها، ولا عن تاريخهم في هذه الأرض.

وعلى الرغم من أن بعض العرب تهوَّدت قبل الإسلام من الأوس والخزرج لمجاورتهم يهود خيبر وبني قُريظة، وتهوُّد قوم من بني الحارث بن كعب، وقوم من عنان وجذام، إلَّا أن هذه الديانة لم تكن منتشرةً في الجزيرة العربية بشكلٍ واسع. ونتيجة للعنصرية التي امتاز بها يهود شبه الجزيرة العربية، فقد كانت شعوبًا منطوية منغلقة على ذاتها، همها جمع المال والعمل على الفائدة بالربا، وخلق الفتن بين القبائل كي تحافظ على وجودها، على الرغم من أنها استوطنت في أماكن مهمة في شبه الجزيرة العربية، وبخاصة منابع المياه ووديانها الخصبة، مع دفعهم الإتاوة لزعماء القبائل والعشائر العربية التي كانت تتحكَّم بالجزيرة العربية ومقدراتها.

ومن جانبٍ آخر، فقد انتقلت الديانة النصرانية إلى شبه الجزيرة العربية، حيث دخلتها عن طريق التجارة التي كان يقوم بها التجَّار العرب مع بلاد الشام والعراق، وكان يأتي بعض التجَّار المسيحيين إلى مدن الحجاز واليمن والبحرين. وكانت هناك أديرة على تلك الطرقات يأوي إليها العرب للراحة والتزود بالماء والكلأ. ومن ثمَّ يتعرَّفون إلى هذه الديانات في كنائس تلقى الدعم والإعانات من كنائس العراق وبلاد الشام، حتى تمكَّنت من الانتشار بين كثيرٍ من القبائل العربية، وأمام هذا الانتشار الديني دخلت قبائل عدَّة في النصرانية في شبه الجزيرة العربية، ودان لها كثيرون، منهم: بنو تغلب، وبنو امرئ القيس، وطيئ، ومذحج، وبهراء، وسليم، وتنوخ، وغسَّان، ولخم. ولم تقف النصرانية عند هذا الحد من الانتشار، بل تَعَدَّتْه إلى أن دخلت مكَّة وتنصَّر بعض رجالاتها، ومنهم: عثمان بن الحويرث، وورقة بن نوفل. كما وُجِدَ في مكَّة بعض النصارى ممَّن كانوا من الغرباء والرقيق والنازحين والعبيد.

وما كان واقع هاتين الديانتين في أرض شبه جزيرة العرب إلَّا متناقضًا إلى حدٍّ كبير من حيث التطبيق العقائدي والفكري للدين. فكما أشرنا إلى سِمَة العنصرية والتزمُّت التي اتصف بها اليهود جاعلين من أنفسهم «شعب الله المختار»، وأنَّ إلَهَهُمْ خاصٌّ بهم وحدهم. في حين اختلفت النصرانية عنهم جذريًّا، لتعتقد أنَّ دين البشرية جمعاء، وأنَّ الإله هو للجميع، حتى تسود المحبة والتسامح.

وفي الختام، نود الإشارة هنا إلى ملاحظة جديرة بالاهتمام والعناية من قبل الباحثين المختصين في التاريخ الفكري والحضاري لجزيرة العرب، ألا وهي دور الشعر والشعراء في توثيق وتأصيل كثيرٍ من الحالات الاجتماعية والدينية عبر العصور. إذ عكس الشعر الجاهلي ديانة العرب الوثنية منها والتوحيدية على حدٍّ سواء، ممَّا يؤكِّد انتشارَها بينهم، بدايتها تعودُ إلى زمنٍ بعيد جدًّا عن الإسلام. وقد رأيت أن الديانات الوثنية قد تطورت مِنْ عبادة أحجارٍ لا شكل لها، كانت تُؤخذُ مِنْ حَرم مكَّة، إلى عبادة أصنامٍ وأوثانٍ منحوتة. وقد رجَّحت أنَّ هذا التطور في الشكلِ أتاها من البلدان المجاورة لشمال الجزيرة العربيَّة وشرقها؛ ذلك أنَّ أشهَر الأصنام التي كانت تُعْبَدُ عند العرب، لها ما يماثلها عند الأقوام الأخرى.

باحث وأكاديمي عراقي


نايف‭ ‬بن‭ ‬ثنيان‭ ‬آل‭ ‬سعود‭:‬ مركز‭ ‬الملك‭ ‬سلمان‭ ‬لدراسات‭ ‬تاريخ‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية يسعى‭ ‬إلى‭ ‬إثراء‭ ‬المكتبة‭ ‬بالدراسات‭ ‬المتطورة

الفيصل

يعدّ مركز الملك سلمان لدراسات تاريخ الجزيرة العربية وحضارتها المركز الوحيد المتخصص في هذا المجال في الجامعات السعودية. تأسس المركز في عام 1431هـ. وهو منصة مهمة لدعم البحوث الأكاديمية وتعزيز البحث العلمي في مجال تاريخ الجزيرة العربية وحضارتها. ويضم فريقًا من الباحثين والأكاديميين المميزين في هذا المجال، ويقدم دورات تدريبية وورش عمل ومؤتمرات دولية للمساهمة في نشر المعرفة والوعي بتاريخ المنطقة وثقافتها.

بحسب المشرف العام على مركز الملك سلمان لدراسات تاريخ الجزيرة العربية وحضارتها، الأمير الأستاذ الدكتور نايف بن ثنيان آل سعود، فإن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود رحب بفكرة تأسيس مركز يحمل اسمه ويختص بتاريخ الجزيرة العربية وحضارتها، مشيرًا إلى أن هذا الترحيب جاء تقديرًا منه «لأهمية الدراسات التاريخية والحضارية المتعلقة بالمملكة العربية السعودية خاصةً والجزيرة العربية عامةً؛ وذلك لما عُرِفَ عنه من اهتمام بالغ بالتاريخ وشجونه واطلاعه الواسع وقراءاته النقدية والتحليلية، ولا سيما فيما يتعلق بتاريخ الوطن، فلم تَحُلْ مسؤوليات الملك سلمان المتعددة بينه وبين عشقه المتأصل للتاريخ بصفته سجلًّا خالدًا للأمة ومرآة لتطورها وتوثيقًا لأحداثها، فكان دائمًا حفيًّا بالتاريخ والمؤرخين، ومشاركًا ومصححًا لما يُثَار من موضوعات ومداخلات وآراء. من هنا جاء ترحيب الملك سلمان بفكرة إنشاء مركز يحمل اسمه في رحاب جامعة الملك سعود في سنة 1431هـ، مُكرّسًا للدراسات التاريخية والحضارية للجزيرة العربية، حافزًا على حركة البحث التاريخي وتشجيعها؛ لاستجلاء القيم العظيمة في تاريخ المملكة العربية السعودية خاصة، والجزيرة العربية عامة».

مستهدفات ثمينة

حول أهم مستهدفات المركز للارتقاء بهذا المجال البحثي المهم، ذكر الأمير نايف أن للمركز مجموعة من المستهدفات؛ أبرزها: «إجراء الدراسات والبحوث المتعمقة التي تتناول تاريخ الجزيرة العربية وحضارتها، وتدعيم حركة النشر العلمي، ولا سيما في الدوريات المتخصصة ذات السمعة العالمية، والمشاركة في الإنتاج البحثي الوطني والعالمي والإلمام بالتقنيات الحديثة، وتحقيق أرضية مساندة لبرامج التنمية الوطنية، وعقد ندوات ومؤتمرات عامة ومغلقة تبحث في تاريخ الجزيرة العربية عامة، وتاريخ المملكة العربية السعودية خاصة، وعلاقاتها مع جيرانها ومع الدول والتجمعات الإقليمية الأخرى، وتقديم الاستشارات العلمية في كل ما يتعلق بالجزيرة العربية، سواء من حيث النشر والتأليف أو في وضع المناهج التاريخية لكل المراحل الدراسية، وتأسيس قاعدة بيانات معلوماتية تاريخية في كل ما يتعلق بتاريخ الجزيرة العربية وحضارتها، ومساعدة الباحثين في حقل تاريخ الجزيرة العربية وحضارتها». وأضاف أنه من بين المستهدفات الأخرى: «تأسيس العلاقات مع المراكز المتماثلة وتوثيقها، وكذلك مع الأفراد المهتمين بتاريخ الجزيرة العربية وحضارتها، ودعوة الأساتذة الزائرين وتنظيم برامجهم العلمية في أثناء مدة إقامتهم، والمتابعة المستمرة لكل ما يُنشَر عن تاريخ الجزيرة العربية وحضارتها باللغات العالمية، والاستفادة من وسائل التقنية الحديثة للتعريف بتاريخ الجزيرة العربية وحضارتها عبر العصور».

جهود بحثية متميزة

وفيما يخص أبرز الجهود البحثية للمركز أوضح الأمير نايف قائلًا: «للمركز مجموعة من الجهود تتمثل أبرزها في احتضانه عددًا من الفعاليات والمناشط المهمة المتخصصة في مجال دراسات تاريخ الجزيرة العربية وحضارتها؛ لعل من أهمها: نشره للمؤلفات والدراسات والبحوث المتخصصة في تاريخ الجزيرة العربية وحضارتها، التي بلغت حتى الآن أكثر من ثلاثين كتابًا علميًّا محكمًا تتناول موضوعاتها مختلف جوانب تاريخ الجزيرة العربية، قديمًا ووسيطًا وحديثًا، إلى جانب احتضانه جائزة الملك سلمان العالمية للدراسات العليا في تاريخ الجزيرة العربية وحضارتها، وهي جائزة سخية أهداها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان لأبنائه الطلاب في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، وعُقد منها حتى الآن دورتان، والمركز بصدد الإعلان عن الدورة الثالثة منها بصفتها جائزة عالمية؛ لكي يشارك فيها الطلاب من جميع أنحاء العالم لإثراء مجال تاريخ الجزيرة العربية وحضارتها بآراء ومناهج جديدة ومبتكرة».

وأشار الأمير نايف إلى أنه من بين جهود المركز أيضًا: «احتضانه الندوة العالمية لدراسات تاريخ الجزيرة العربية التي تحظى بسمعة علمية فائقة في الأوساط البحثية والأكاديمية والعلمية منذ إنشائها قبل نحو خمسة عقود؛ إذ استوعبت خلال مسيرتها الطويلة من الأبحاث والعلماء من المملكة وخارجها، وهو ما يجعلها في طليعة الندوات التاريخية المتخصصة في تاريخ الجزيرة العربية على مستوى العالم، وإصداره مجلة علمية محكمة نصف سنوية عن تاريخ الجزيرة العربية وحضارتها، وهي المجلة الوحيدة المتخصصة في هذا المجال في الجامعات السعودية، إضافة إلى تقديم عشرات المحاضرات العلمية والدورات وورش العمل على مدار العام الدراسي لطلاب الدراسات العليا والباحثين المتخصصين في تاريخ الجزيرة العربية».

وتطرق الأمير نايف إلى أن المركز عمل على إنشاء قاعة بحثية وثائقية تشتمل على أهم الوثائق والمخطوطات والصور النادرة المتعلقة بتاريخ الجزيرة العربية وحضارتها؛ لإتاحتها للباحثين وطلاب الدراسات العليا، كما أنشأ موقعًا إلكترونيًّا ثريًّا، يتيح للجميع الاطلاع بسهولة ويسر على المناشط والمشروعات البحثية للمركز، والتعرف إلى أبرز الأخبار، فضلًا عن منصات التواصل الاجتماعي النشطة والمفعلة على نحو دائم ومستمر.

واقع البحث الراهن

لا شك أن مجال دراسة تاريخ الجزيرة العربية وحضارتها مجال ضخم وشاسع؛ إذ يشمل دراسة جميع مناطق وأقاليم الجزيرة العربية في جميع العصور التاريخية، وهو ما قد يجعل واقع البحث والدراسة في تاريخ الجزيرة العربية وحضارتها من الأمور الصعوبة لكنها ليست مستحيلة، وقد أوضح الأمير نايف طبيعة هذا المجال في الوقت الراهن بقوله: «على الرغم من الصعوبات التي قد يواجهها الباحث في بعض الفترات التاريخية للجزيرة العربية من قلة المادة العلمية وشح المصادر، فإن المتخصصين في التاريخ عامة، وتاريخ الجزيرة العربية وحضارتها على خاصة، يعلمون أن معين تاريخ الجزيرة العربية لا ينضب أبدًا، وأنه على الرغم من حجم الدراسات والبحوث التي انتُجت، فإن تاريخ الجزيرة العربية ما زال ميدانًا خصبًا للبحث والدراسة، ولا سيما في الجوانب الحضارية والاقتصادية».

وأضاف: «من المعروف أن الجوانب السياسية والعسكرية في أي حقبة تاريخية دائمًا ما تحظى بالاهتمام والتركيز من جانب الباحثين المتخصصين أكثر من غيرها من جوانب الأخرى، وهذا لا شك نابع في الأساس من توافر المادة المصدرية في الأحوال السياسية؛ لكونها قد حظيت بالأولوية في التدوين من المؤلفين المعاصرين عما سواها من الأحوال الأخرى. ولكن هذا لا يعني أن الجوانب الأخرى فقيرة مصدريًّا، بل إن الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ميدان خصب وثري للباحث الجادّ، وبخاصة مع تطور أدوت البحث الحديثة، وظهور المصادر والمراجع الرقمية التي تسهل كثيرًا الحصول على المعلومات، فضلًا عن تنوع وثراء المصادر التاريخية التي يستند عليها الباحث التاريخي، فلم يعد محور اهتمامه المؤلفات التاريخية التقليدية، بل إن هناك مؤلفات أخرى لا تقل أهمية بل ربما تفوق مثيلاتها من المؤلفات التاريخية، وهي المؤلفات في الأدب والفقه والحسبة والجغرافيا وكتب الفنون العسكرية والعلوم التطبيقية والصحافة والوثائق على اختلاف أنواعها، والصور، إلى غير ذلك مما يمكن للباحث أن يستند عليه».

تطوير الدراسات التاريخية

ويطمح المركز في المرحلة القادمة إلى تطوير مجال الدراسات التاريخية والحضارية للجزيرة العربية عبر جهود مستمرة لا تتوقف، فأشار الأمير نايف إلى أن «المركز يسعى إلى إثراء مكتبة تاريخ الجزيرة العربية وحضارتها بدراسات متطورة ومبتكرة وجديدة، وذلك عبر تبنّيه نشر هذه الدراسات بعد عرضها على التحكيم العلمي الدقيق، كما يطمح في المرحلة القادمة إلى وضع آلية معينة تكون وسيلة ربط بين الأقسام الأكاديمية داخل الجامعات والطلاب لدفعهم ناحية الاهتمام بتاريخ الجزيرة العربية وحضارتها».


المرأة‭ ‬في‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭ ‬قبل‭ ‬الإسلام
دراسة‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬السياسي

يسلّط كتاب «الملكات العربيات قبل الإسلام- دراسة في التاريخ السياسي» الضوء على دور المرأة العربية قبل الإسلام. وتتناول مؤلِّفتُه، الدكتورة هند محمد التركي، قصص الملكات والقائدات العربيات اللواتي حكمن في ذلك الوقت ولعبن أدوارًا سياسية وعسكرية كبيرة. كما تركز على دور المرأة في الشعر والأدب في عصر ما قبل الإسلام. ويُعد الكتاب الصادر عن مؤسسة عبدالرحمن السديري الخيرية مصدرًا قيِّمًا عن تاريخ المرأة العربية قبيل ظهور الإسلام.

من خلال دراسة أكاديمية موثّقة يستعرض الكتاب الأنظمة السياسية في الجزيرة العربية، والمكانة التي كانت تحظى بها المرأة العربية في النظم الحاكمة آنذاك. وقد بينت المؤلفة أن المرأة العربية قبل الإسلام كان لها شأن كبير في المجتمع. كانت كاهنة وعالمة بأمور الطب والتعاويذ، إلى جانب دورها الطبيعي في رعاية أسرتها وأولادها.

يتألف الكتاب من تمهيد وأربعة فصول. وبداية تتحدث المؤلفة عن الإطار الجغرافي والحضاري للمنطقة الشرقية الأدنى القديمة ومكانة المرأة في الجزيرة العربية وما جاورها من مناطق مثل: إيران ومصر والشام وبلاد الرافدين والأناضول. ولفتت التركي إلى أن أقدم الأدلة حول النظام السياسي في الجزيرة العربية وطبيعته تعود إلى مصدرين رئيسين: كتاب العهد القديم والمصادر الآشورية. وتؤكد تلك المصادر أن العرب قد عرفوا أنظمة الحكم وأنها كانت نتاج تطور فكري سياسي.

ويقدم الكتاب عرضًا للنظام السياسي في الجزيرة العربية قبل الإسلام، مع توضيح للألقاب السياسية التي كانت تستخدم في ممالك جنوبي الجزيرة وشمالها، ولفت الكتاب إلى أن العرب عرفوا ثلاثة أنماط من أنظمة الحكم:

نظام المشيخة القبلية: وفيه كانت القبيلة هي أساس التنظيم السياسي، والعمود الفقري لحياة البادية. ثم تحول هذا النظام تدريجيًّا إلى نظام الملكية، وهو ما أدى لنشوء دويلات وممالك مستقرة في جنوبي الجزيرة ووسطها وشماليها.

نظام المكربين: ظهر هذا النظام مع ارتقاء الوضع السياسي للقبائل إلى تنظيم الدويلة المستقرة. ويتمثل في تحالف بين عدد من القبائل ذات المصالح المشتركة ويجمعها الجوار. وكان لها زعيم يحكمها تحول لقبه من شيخ إلى مكرب. وهو لقب شاع استعماله في ممالك سبأ وأوسان وقتبان وحضرموت. وقد اختلف الباحثون في تفسير معنى مكرب، فأشار بعضهم إلى أن معناه المُوحّد. وقد ظهر هذا النظام الوراثي في جنوبي الجزيرة العربية فقط، ولا يوجد شاهد تاريخي يدل على أن المرأة قد حكمت في ظل النظام المكربي.

النظام الملكي: مع تطور النظم السياسية في الجزيرة العربية تحولت مناطقها إلى وضع أكثر استقرارًا، وقد وردت لفظة «ملك» في النقوش التي خلّفتها الممالك العربية القديمة، منها نقش النصر الذي يعدّ من أقدم نقوش المسند. حيث يشير إلى أن (كرب إل وتر) اتخذ لقب ملك وتمكن من إقامة دولة مركزية قوية. وقد تتبع الكتاب ظهور هذا النظام في ممالك الجزيرة العربية مع ذكر أمثلة لملوكها الأوائل. وقد ظهرت المرأة الملكة في هذا النظام، فنجد ملكة سبأ، وملكة تدمر التي نافست الإمبراطورية الرومانية.

وتطرقت المؤلفة إلى الألقاب السياسية التي شاعت في تلك الممالك؛ مثل «قين» بمعنى وزير أو نائب، و«كبير» التي تساوي أميرًا أو واليًا، و«قيل» التي توازي زعيمًا أو شيخًا أو مسؤولًا حاكمًا، و«العاقب» وهو موظف يُختار من أسرة ذات نفوذ ليتولى حكم منطقة ما ضمن المملكة، و«المقتوي» وهو القائد العسكري الذي يتولى قيادة قوات مختلفة ولا سيما في مملك جنوب الجزيرة العربية. أما في شمالها فقد انتشر لقب موازٍ آخر وهو «هفركا»، وهي كلمة يونانية الأصل تعني القائد. ومع تزايد أطماع الممالك المجاورة في ممالك الجزيرة العربية القديمة انتهى بها الأمر إلى زوالها، وظهرت على أنقاضها ما تسمى بالدويلات أو الممالك العربية.

نقوش وآثار

تتوقف المؤلفة عند الملكات العربيات من خلال النقوش والآثار العربية القديمة مثل: النقوش الآشورية والسبئية والنبطية والتدمرية والمصادر الرومانية. ويتضمن الكتاب صورًا للعديد من العملات البرونزية والفضية التي تصوّر تلك الملكات، فقد حرص الآشوريون منذ عهودهم الباكرة على تسجيل أسماء ملوكهم وسنوات حكمهم وما حققوه من إنجازات عمرانية.

خلافًا للنقوش الآشورية، فإن النقوش السبئية لم تتضمن أي نقش يشير إلى أي ملكة تولت الحكم، سوى نقش واحد أشار إلى ملكة حضرمية، لم تشارك في قيادة أو حكم، لكنها كانت زوجة الملك، وهي «ملك حلك»، وهي أيضًا ابنة الملك «علهان نهفان»، ملك سبأ وذي ريدان، وأخت الملك «شعر أوتر». وعلى الرغم من كثرة النقوش النبطية، فإنها لم تشر إلى أي ملكات نبطيات، لكن كان اسم زوجة الملك أو والدته يوضع معه على العملة تكريمًا لها، وكان الملك عبادة الثاني أول ملك يُظهر صورة زوجته الملكة على العملة. ومن أبرز الملكات النبطيات اللواتي ذكرت أسماؤهن على العملات: الملكة خلدو، والملكة شقيلة زوجة حارثة الرابع، والملكة شقيلة زوجة مالك الثاني، والملكة شقيلة أم الملك رب إل الثاني، والملكة جميلة أم الملك رب إل الثاني.

أدوار سياسية مهمة

وتحدثت المؤلفة عن الملكات العربيات في المصادر الدينية والموروث العربي. فذكرت قصة ملكة سبأ مع النبي سليمان، وبينت اللبس عند بعض المؤرخين العرب بين الملكة زنوبيا، ملكة تدمر، وملكة أخرى أطلقوا عليها اسم «الزباء». كما تطرقت إلى الملكات العربيات وزوجات الملوك المؤثرات، ملكات شمالي الجزيرة العربية وعلاقتهن بدولة آشور. ومن الملكات التي تطرق لهن الكتاب، الملكة يافا التي تشير الآثار الباقية إلى أنها كانت تحكم منطقة اليمامة، وقُتِلَت على يد الملك الآشوري أسرحدون، بعد صراع عسكري للدفاع عن مصالح مملكتها. يُذكر أن الملكة باسلو قُتِلَت أيضًا ضمن الملوك الذين قتلهم الملك الآشوري أسرحدون. أما الملكة الكاهنة تعلخونو فقد هزمها الملك الآشوري سنحاريب، ووقعت في الأسر، ونُقِلَت إلى عاصمة الآشوريين (نينوى)، ونُقِلَت معها غنائم كثيرة وتماثيل آلهة أدوماتو. أما الملكة تبوأة فقد دخلت في مهادنة جديدة مع الآشوريين في عهد أسرحدون، وكانت علاقته به تقوم على الولاء والتبعية وتقديم الإتاوات.

أما ملكة سبأ فقد اختلفت المصادر في تحديد سبب زيارة الملك سليمان. في الإنجيل والتوراة ذُكِرَ أن السبب هو الوقوف على حكمة سليمان والتأكد منها، أما القرآن فقد حدد سبب الزيارة بالدعوة إلى توحيد الله. ووفقًا للموروثات العربية فقد ترتب على زيارة ملكة سبأ النبيَّ سليمان علاقات دبلوماسية وتجارية.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *