المقالات الأخيرة

“لقاء مارس 02: تواشجات” دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

“لقاء مارس 02: تواشجات”

دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

فيما يشبه الالتزام الأخلاقي والجمالي، تبنى لقاء مارس السنوي، الذي تنظمه مؤسسة الشارقة للفنون، في دورته الجديدة التي انتهت أنشطتها قبل أيام، طيفًا واسعًا من القضايا والموضوعات والنقاشات وعروض الأداء، التي لئن اختلفت وتعددت وتنوعت، إلا أنها تذهب كلها إلى منطقة واحدة،...

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

محاورة بين مارغريت دوراس وجان لوك غودار

الكلمة «العنيفة» في مواجهة الصورة «المهدئة»

بواسطة | يوليو 1, 2021 | محاورة

«محاورات دوراس – غودار» هي عبارة عن تدوين لثلاث مناظرات تليفزيونية بين الأديبة الفرنسية الشهيرة مارغريت دوراس، والمخرج السينمائي الذي لا يقل شهرة جان لوك غودار، جرت بين سنتي 1979 و1987م. صوَّرها جان دانيال فيرهاغي وأخرجتها صابرينا كوروغلي وغايتان فاسار.

في كل حوار يحلل الاثنان العلاقة بين الصورة والكلمة، والمرجعيات الأدبية والسينمائية في أعمال كل منهما. في 2 ديسمبر 1987م، زار جان لوك غودار مارغريت دوراس في منزلها الباريسي. في هذا اللقاء تولّد حوار حول الإبداع الفني من خلال الكتابة والإخراج السينمائي.

كان غودار متوجسًا من إجراء مقابلة تليفزيونية من دون محاور أو منشط تليفزيوني.

كان لقاءً تاريخيًّا بين رجل الصور المسحور بالكتاب، والمرأة الأديبة العاشقة للسينما. يبرز من خلال هذه المحاورات إعجاب متبادل بين دوراس وغودار، من دون أن يلغي مع ذلك وجود اختلاف في وجهات النظر.

يعلم الجميع أن جان لوك غودار يحب أن يُطَعِّم أفلامه باقتباسات من الكتب. وداهمته دوراس بقوة: «أنت لا تقرأ هذه الكتب». يقرّ: «أتصفحها. إنها مثل الأفلام: لم أشاهدها بالكامل». حتى إنه اعترف بعد ذلك بقليل أنه لم يقرأ «نائب القنصل» لمارغريت دوراس! تتابع هي: «هناك شيء في الكتابة يزعجك. أنت لا تصمد أمام الكتابة».

وفيما يأتي مقتطفات من هذه المحاورات.

غودار: لكن هل يمكننا اليوم إنتاج نص لا يكون بالضرورة خطابًا عامًّا؟ أنا لا أظن…

دوراس: يمكن أن نجرّب.

غودار: يمكن أن نجرب لكن هذا يبدو لي أمرًا عبثيًّا. ولهذا كتبتِ «الشاحنة» و«إنديان سونغ» و«لولا فالري شتاين»، ومعك حق أيضًا أنك كتبت «فيرا باكستر». إن وجود دلفين سيريغ ليس كعدمه. في زمن «سد الباسفيك»، كان الأمر مختلفًا، ولهذا حدثت الشرارة الأولى فيما يتعلق بقلق الكتابة… يبدو لي أن الصورة تعرضت للشطب.

دوراس: عمّ تتكلم؟ عن «سد الباسفيك»؟

غودار: إن ما أكرهه وأمقته -ولهذا توقفت قليلًا مكتفيًا بالحد الأدنى- هو أن يُمنع الإنسان من إنجاز فِلْمه بهدوء ومتعة. يُفرَض علينا جو من القلق، بينما القلق، على ما أعتقد، يأتي من الكتابة إن آجلًا أم عاجلًا، وربما ليس من «الكتّاب الحقيقيين»… إن صح هذا التعبير. النبي موسى لم يصرخ عندما رأى الصور، بل صرخ بعد ذلك.

دوراس: لكن الأسفار وأستير… كلها كلمة.

غودار: نعم هم ناس يمنعون الصورة. وقالوها دائمًا: «حرمت عليكم الصورة»، في حين أنهم لم يحرموا أنفسهم منها.

دوراس: كل العصور الوسطى الفرنسية والأوربية، ومعها الإسلام، حرّمت كذلك الصور. من الناحية التاريخية، كان لذلك معنى آخر…

غودار: نعم، لكن كان ذلك نادرًا. انظر قصة فان غوخ مثلًا. صحيح أنه كان من الرسامين القليلين الذين رسموا بغضب. لكن هذا ليس أكيدًا، لا أظن أنه غضب كأي غضب آخر. قد يبدو لنا الأمر كذلك، لكن في رأيي ليس هذا تمامًا. في حين أن الأدباء أو الموسيقيين يبدون لي مسكونين بحالة من الغضب. هم بحاجة لأن يصرخوا…

دوراس: أنا لا أتصور أدبًا سهلًا؛ لأن ذلك سيكون أشبه بأدب الأزمة… لا أظن أنه بمستطاع الصورة أن تحل محل ما سمّيته «الانتشار اللامحدود للأنا»…

غودار: لماذا تلغينها كلية؟

دوراس: تقصد لماذا ألغي الكلمة؟

غودار: لا… أقصد إلغاء «النظر دون القول».

دوراس: أنا لا ألغي شيئًا، بما أنني أنا موجودة في السينما. لكن منذ ثلاثة أفلام أو أربعة، ما ألغيته هو الممثلون. أخرجت خمسة أفلام من دون ممثلين. لا أدري إن كان في «إنديان سونغ» ممثلون.. هناك عروض، لكن لا أعرف إن كان الأمر يتعلق بممثلين بالمعنى الكامل للكلمة. على أي حال، هم لا يلعبون، بل يحاولون فقط محاكاة الشخصية في الفِلْم. لا أستطيع الدخول في فِلْم يتولى فيه الممثلون مهمة التمثيل. هي وساطة بين المؤلف وبيني لم أعد أحتملها. أنت الوحيد الذي يستخدم ممثلين من دون الاعتراف بوجودهم.

غودار: هل تؤمنين أنت بوجود الشيطان؟

دوراس: أنا؟ نعم أُومِن بوجود الشيطان؛ لأنني أومن بوجود الشر. وبما أنني أومن بالحب، أومن أيضًا بالشر.

تطهير السياسة

غودار: أمس، كنت تقولين: إنك تستغربين كوننا لم نتطرق لموضوع تطهير السياسة.

دوراس: تقصد النفور من السياسة.

غودار: نعم…

دوراس: تعمدتَ تبديل الكلمة. لا نريد تطهيرها؛ لأنها ستبقى مستشرية. الشاشات ملوثة تمامًا بهذه الكلمة التي تمثل التعبير المنحطّ والخطاب المنحطّ. وهو على النقيض من التعبير والكلمة الأصيلة. كل كبار رجال السياسة كتبوا، لكنهم لم يتكلموا. نحن بعيدون من الكلمة التي تحدثنا عنها قبل قليل، الكلمة المُعقّبة أو المفسّرة. الكلمة التي رفضتها في «ديني Digne». الخطاب السياسي للسلطة أقل شيء كتب. وأقصد بالسلطة طبعًا كل الأحزاب الرسمية؛ اليسارية واليمينية على حد سواء. أي كلمة المتاجرة السياسية والدعاية والمهرجين. ولا يوجد ما هو أكثر بعدًا من الكلمة الأصلية من هذا. ويجب أن نعترف بأن كلمة السينما، الكلمة السينماتوغرافية، شبيهة بها في معظم الأحيان. كلمة تباع، وتسوّق بضاعتها. في الحقيقة أنا جد أخلاقية (ضحك).

غودار: إذا ذهبنا إلى التليفزيون، عليك بالإدلاء بمثل هذا الحديث…

دوراس: إلى أي تليفزيون؟ صحيح أنك تريد أن تأتي معي إلى التليفزيون؟ كنت أظن أنك تطرح عليّ سؤالًا مبدئيًّا، هكذا…

غودار: نعم، هذا صحيح أيضًا. أفضل المرور في التليفزيون، لكن الأمر أصعب.

دوراس: تقصد التليفزيون الذي تنجزه أنت بنفسك؟

غودار: لا. تليفزيون نستطيع أن نشارك فيه بطريقة خاصة؛ لأننا نفضل هذا. قرأت ذات يوم حوارًا في مجلة «فورتيون» الأميركية أو في مجلة «بيزنس ويكلي» حديثًا مع مدير قناة «أي بي سي»؛ قال فيه: «يعتقد الناس أننا نصنع برامج، وأن هذا انشغالنا الوحيد، في حين أن صناعة البرامج هو انشغالنا الثاني، أما انشغالنا الأول هو صناعة المشاهدين…».

دوراس: لكنك عندما تقول: إنك تريد مساءلتي في التليفزيون، وإذا قلت: إنه إذا كان أنت أقبل، فهل ستفعل؟ أم إنك تريد أن تنجز فِلْما تليفزيونيًّا؟

غودار في هذه الحالة سأترك الأمر لإحدى الصديقات. تعودين بي إلى فِلْم «الشاحنة»؛ ذلك أنني عندما أرى شاحنة، فالأمر لا يتعدى ستًّا وثلاثين صورة، بل صورة واحدة فقط، مثلما هو جارٍ في الإشهار. عندما أرى شاحنة، تتبادر إلى ذهني: «امرأة تتكلم». هذا شيء رائع، كلمة «ماستدون».

دوراس: انظر، إن ما يعجبني كثيرًا في فِلْم «الشاحنة»، ما دمت تحدثت عنه، هي لحظات الصمت. عندما يقدّم لي جيراري ديبارديو فجأة سيجارة وأنا أعتذر وألتزم الصمت، تراه مستغربًا ومبهوتًا؛ لأنه لم يفهم شيئًا ولا يستطيع أن يفهم مغزى هذا الصمت. عندما تحدثتُ عن المحتشدات وبراعم أوشويتز، فإن لحظات الصمت تلك لا يمكن أن توجد إلا إذا كانت هناك كلمة قبلها أو إذا كانت محاطة بالكلمة. أي بالأحرى الصمت الحقيقي، أي الصمت المطبق، من دون موسيقا ومن دون شيء…

غودار: هذا جميل جدًّا لو أنك… هل أنتِ من أصول يهودية؟

دوراس: لا، أنا كريولية، ولدت في الهند الصينية.

غودار: آه، هذا جميل أن تتحدثي كريويلية عن أوشويتز.

دوراس: الفِلْمان الأخيران.

غودار: أتمنى حقًّا إنجاز فِلْم عن المحتشدات، لكن هذا يتطلب إمكانيات و…

دوراس: انتهيت من إنجاز فِلْمين عن اليهود. أوريليا ستينر. بالأحرى أنجزت فِلْما واحدًا، وسأنجز الآخر.

غودار: لكن يبقى «الشاحنة» شيئًا خارقًا؛ لأنه عنيد وغير مهادن…. هل لديك أطفال؟

دوراس: نعم، لديّ ولد. لكن عندما أقول لك: إن الصمت تحاصره الكلمة، أنت موافق؟ أعتقد أن الكلمتين، كلمة الرحلة على متن «الشاحنة»، وكلمة ما أسميه أنا «غرفة الكتابة»، الغرفة السوداء التي يعد فيها النص، هي كلمتان متناقصتان كل التناقض. ليستا الكلمة نفسها. ذلك أن كلمة «الشاحنة»، كلمة الهواء الطلق أقرب إليّ من كلمة غرفة الكتابة. استمتعت كثيرًا بإخراج «الشاحنة»، وقد استمر التصوير خمسة أيام.

إنجاز فِلْم شفوي

غودار: ولتأليف كتاب من نوع ذلك الموسوم بـ«الأماكن»…؟

دوراس: لم أؤلفه، وإنما جرى استجوابي مثلما يحدث الآن. بعد ذلك، أعيد نشره في كتاب. أظن أنه من الممكن إنجاز فِلْم شفوي كلية، من دون أي متحدث. ولن يكون أبدًا أسطوانة، ما دام أن الشريط لن يكون له أي مستقبل ولن يعاد بثه؛ لأنه سيُتلَفُ بمجرد إتمام الكتاب. أنا أفكر في الأمر منذ سنوات، والغريب أنني تلقيت مؤخرًا عرضين لتأليف كتب مقروءة، على أن تباع في أشرطة تسجيل [كاسيت] صغيرة. الخيانة… هي ما أنت بصدد القيام به [ضحك]…

غودار: تقصدين مشاهد السينما؟ الأمر يتطلب كثيرًا من الوقت، نعم كثيرًا من الوقت.

دوراس: لو يكون لدينا يوم كامل، سنقول أشياء كثيرة. عندما كنت في انتظارك هذا الصباح في فندق لوزان، كتبت كلمات عن مشاهد غودار ودوراس.

غودار: أعتقد أن المشاهدين أكثر حقيقة من الـ… أنا لم يساندوني يومًا، ولم يرحبوا بي إلا إذا حمّلت نفسي عناء الذهاب إليهم، وإلا لن يبالوا بي أبدًا.

دوراس: تشاطرني الرأي أن هناك طبقات غير متجانسة وغير متفاهمة فيما بينها؟

غودار: نعم.

دوراس: كنت أعتقد ذلك. ما أسميه «المشاهد الابتدائي»، هذا ما كتبت عنه هذا الصباح. المشاهد الأكثر صبيانية، القاصر الأبدي الذي يبحث عن عنف وصخب الطفولة والخوف من الطفولة، ولا شيء يزحزحه من مكانه. لهذا أرى من السذاجة الاعتقاد بأنه يمكن التأليف لكثير من الناس. قد يحدث ذلك، لكنها بصفة طارئة تتوقف بالجمهور.

غودار: تمام.

دوراس: في «هيروشيما» أعتقد أن المدينة والكارثة هي التي صنعت الجمهور.

غودار: صحيح.

دوراس: لأنه فِلْم صعب. وفي فِلْم «إنديان سونغ»، الذي عرف نجاحًا كبيرًا بما أنه تجاوز الآن 200 ألف، أظن أن ذلك أيضًا بسبب الهند. المناظر الساحرة لعبت دورًا، وكذلك الموسيقا، على حد سواء.

غودار: ما يزعجني في النص، مقارنة بالموسيقا، هو أنني لدي إحساس بأني مجبر… أو أنها هي كلمة السلطة، لكنني لا أستطيع فصلها عن الأخرى في بعض الأحيان.

دوراس: تقصد أي كلمة؟

غودار: تلك التي تدفعني لاتباع حركة، بدلًا من أن تتبعني تلك الحركة.

دوراس: أنت تتحدث عن الكلمة المتبوعة بالموسيقا أم عن الكلمة؟ تقول: إن هذا يزعجك، تقصد في «إنديان سونغ»؟

غودار: لا لا أبدًا… أتحدث عن توجسي من النص. أحس أنه مهما كان هذا النص، حتى لو كان نصك، لا أستطيع أن أستوعبه بشكل آخر، إلا بواسطة شيء دخيل عليه مثل الصورة. أتوصل إلى استيعاب نصك من خلال الصور. لكن نصك خاصةً لا أميزه من الفلاسفة الجدد والقدامى.

دوراس: تحدثت عن رواية «انخطاف لول ف. شتاين».

غودار: الكلمة تكفيني؛ لأنني أضع صورة، أضع شاحنة، أضع شيئًا آخر… ومن ثم يمكن أن يدوم ذلك يومًا بأكمله؛ لأنني أقوم بكل هذا العمل، بهذه المتعة.

دوراس: إذن أنت لديك قابلية للرفض التلقائي.

غودار: قليلًا… بالمناسبة، كنت أريد أن أسألك أنت خاصة؛ لأن لديك قابلية معاكسة.

دوراس: نعم.

غودار: أظن أن لديّ هذا الإحساس منذ زمن بعيد، نشأ عندي بشكل طبيعي جدًّا، ولم أقم سوى بإنمائه. وإن عملي في السينما زاد من تمتينه وتثبيته بشكل نهائي، كما لو أنني قلت في نفسي: «جميل، كنت على حق». الآن أرى وأعتقد أن الأمور عندك عكس ذلك، أي أنها تسير في طريق عكسي.

دوراس: المسألة تتعلق بتشبع الصورة بالنص. هذه الحركة العكسية مربكة عندك وتحيد عن الطريق. فيما أجد نفسي فيها ودائمًا. لكن مع ذلك يجب الحديث عن الخطاب المنحط الذي تمثله الكلمة في الفِلْم الناطق. أحيانًا أقول: إن أول فِلْم ناطق هو «هيروشيما يا حبيبتي»؛ لأن رينيه كان يقول لي: «أرجوك لا تقيمي أي فرق، ولهذا السبب اتصلت بك، بين ما تكتبه وما أطلبه منك». أعتقد أنه ربما كان الشخص الوحيد الذي يمكنه القبول بذلك، وأن أسأله. وأبدأ الفِلْم بأكبر كارثة في العالم بالقول: «لم ترَ شيئًا في هيروشيما». في حين أن العالم كله كان غارقًا بالصور. ومن وجهة النظر هذه، كان رينيه مدهشًا حقًّا. أعتقد أن كل ما كان يطلبه مني في ذلك الوقت بقي راسخًا بداخلي، من خلال جميع أفلامي. وهو التجرؤ. وأكيد أنني ما كنت سأنجح في إخراج أفلام لو كان عليّ أن أقوم بأفلام صور؛ لأنني ببساطة لا أعرف.

غودار: لكني أعتقد اليوم أن كلام الرجل يختلف عن كلام المرأة… وليس من قبيل المصادفة أن امرأة هي من قالت: «لم ترَ شيئًا في هيروشيما». في الحقيقة، ليس من قبيل المصادفة… لقد تمت الأمور هكذا.

فساد الشاشات

دوراس: لا، لا أعتقد ذلك. أي أننا نحن أقل اعتيادًا منك على القول، وأن نكون في موقف الشخص الذي يحكم على الناس، الوقوع بالمصادفة على كارثة من هذا العيار، هيروشيما. نحن أقل اعتيادًا على ذلك، فالرجال يحكمون طوال الوقت.

لن يوافق أي تليفزيون على الإطلاق على نقل حوارنا مباشرة. على الأقل بسبب ما تحدثنا عنه قبل قليل عن فساد الشاشات. أرأيت الكلمة السامة. ذات يوم تُدُووِلَتْ عريضة صغيرة داخل التليفزيون. طلبوا مني السماح لي بالتحدث بحرية؛ أنا وسارتر، لمدة ربع ساعة.

الكتابة والأفلام والمرأة

غودار: «لم ترَ شيئًا في هيروشيما» هي كلمة امرأة، وفي «الشاحنة» نرى أن كلمة المرأة لها وزن… بدأت النساء في الكتابة، لكن يجب أن يبدأن أيضًا في إنجاز أفلام.

دوراس: وعليهن الكف عن الكتابة عن أنفسهن، بشكل أساسي، هذا أشبه بسرقة أدبية من أعمال رجل. أنا لا أستجيب لأي ندوات يكون موضوعها متعلقًا بالمرأة؛ ككاتبة ومبدعة ومخرجة، أرفض كل شيء.

غودار: ماذا تقصدين؟

دوراس: لأن ذلك يشكل خطرًا كبيرًا جدًّا على المرأة اليوم. حاول فقط أن تنظّر حول ما تحدثت عنه قبل لحظة. مجرد تنظير. وبخاصة أن «لولا فالري شتاين» وأنا لسنا بأي حال من الأحوال برنارد هنري ليفي. [ضحك] لكن من الصحيح أن النساء اليوم في حركة متناقضة يحاولن الوصول إلى مستور الرجل في الخطاب النظري، أو في الممارسة النظرية. يمكننا التحدث عن ذلك لمدة طويلة أيضًا. أنا لا أتعامل مع ذلك في أفلامي.

غودار: ماذا تقصدين بقولك: «توقفن عن الكتابة عن أنفسكم»؟

دوراس: «عن أنفسنا»: أي عن المرأة. حتى يطبق المرء على نفسه نوعًا من الجدلية التي تعلمها من الرجل، أي التحليل الذاتي، ومن ثم التنظير. إذا كنت أحاول معرفة من أنا، فأنا مجبرة على إنجاز ذلك من خلال تحليل قُدِّمَ عدة مرات بالفعل، وهذا أمر مرهق جدًّا. أرى مستقبل المرأة في عدم التدخل في التنمية الحرة للمرأة. «لم ترَ أي شيء في هيروشيما» جاء من تلقاء نفسه. لم أقصد ذلك. مثل صراخ نواب القناصل في «إنديان سونغ»، جاء تلقائيًّا. سمحت لهم بالصراخ المدويّ. لم أقل في نفسي: «سيكون الصوت مرتفعًا جدًّا، وسيخرج الجمهور». تركت الأحداث تتوالد. إذا كان هناك مكان نسائي، إذا كان هناك -لست متأكدًا من ذلك- لا أعتقد أنه بعيد من هذا. إنه مكان للطفولة، في الواقع، يمثل الطفولة أكثر من كونه مكانًا للرجل. الرجل أكثر طفولية من المرأة.

غودار: وماذا عن طفلي أنا؟

دوراس: الطفل مجنون. في سن الخامسة يكون الأطفال مجانين. مجانين. معجزة. معجزة في الأرض. بعد ذلك كل شيء ينتهي. كل شيء ينتهي في سن الخامسة والسادسة.

غودار: ربما لا ينتهي. أقول في نفسي بسذاجة أن فِلْما أو كتابًا يؤكد تحديدًا أن «ربما لم ينته شيء»، كما لو كان بإمكاننا التراجع أو التقدم إلى الأمام على نحو أسرع، كما هو الحال في جهاز تسجيل.

دوراس: نعم، ولكن، من حيث المبدأ ليس للكتاب بداية ولا نهاية. لا أعرف كتابًا لم يبدأ قبل وقت طويل من تأليفه. كتاب يحوم في الهواء الذي تتنفسه وكان لكتّاب آخرين فكرة عنه، ويبدأ فجأة وبالمصادفة من الصفحة التي تكتبها. عمومًا، هي وجهة نظر…

مجرد كائن مطبوع

غودار: هل يمكن مقارنة الطفل بكتاب أو فِلْم؟

دوراس: مع الأزمة التي يمر بها مؤلف الكتاب، نعم. نعم.

غودار: مجرد كائن مطبوع…

دوراس: لا، كنت أتحدث عن كتاب ناشئ.

غودار: كائن مطبوع يعبّر عن نفسه…

دوراس: ترى صفحة بيضاء تُمْلَأ فجأة!

غودار: يمكن مقارنته بصفحة بيضاء تُمْلَأ.

دوراس: نعم. نعم.

غودار: في فِلْم تليفزيوني، سألت طفلًا كان يسحب ورقة على «جستيتنر»؛ إن كان يفكر في نفسه، إن كان يعتقد أنها ورقة طبعت عليها الحروف شيئًا فشيئًا. وقال لي: «لا، لا على الإطلاق» [ضحك.]

دوراس: لا بد أنه كان خائفًا، أليس كذلك؟

غودار: لا، أجابني بشكل طبيعي. أريته أشياء أخرى مرتين أو ثلاث مرات، وأدرك أنه يمكن رؤية أشياء على أي حال.

دوراس: هناك أيضًا خوف من الذات عند الطفل، ويشعر به فعلًا. عندما يخيف نفسه، يصبح مرتبكًا.

غودار: لكن أين تقول الأسطورة: إن إنجاب طفل حدث سعيد، في حين أن الصفحة البيضاء شيء مرعب؟

دوراس: الانقسامات أقل وضوحًا. إنه شيء مرعب ولا مفر منه. الصفحة البيضاء أمر لا مفر منه. مثل الطفل: حب الطفل أمر لا مفر منه. إنها علاقة بين الأشياء. نقول عن كتاب أنه موجود من اللحظة التي علينا أن نتجنب فيها تأليف كتاب.

غودار: هل تعتقدين أن النساء يذهبن إلى جبهة القتال وحدهن؟

دوراس: أعتقد ذلك.

غودار: رأيي أن الصورة مهدئة، والنص عنيف؛ لذلك عندما تحتاج إلى بعض الإيقاع، يمكنك أن تأخذهما كليهما، ولكن عندما تكون دائمًا الحرب ولا سلام، فأحيانًا ستقولين إن الأمر مبالغ فيه إلى حد ما.

دوراس: أفكر في الوضع الحالي للعالم، وأعتقد أن الحرب محتومة علينا ولا مفر منها. إنها ليست مسألة رجال ونساء. وطالما يمكننا القول: إنها محتومة ولا مفر منها، فإن الجميع سيخوضونها. لكن «الحرب الدائمة أو السلام الدائم»… في الأفلام؟ عندما تتحدث عن السلام، أين تراه؟

غودار: قلت كلمة «لا مفر منه»، لكن عن شيء آخر.

دوراس: لا أدري. نعم سمعتها. مرة بخصوص النص. عندما يصبح الأمر لا مفر منه، يكون قد تحول إلى شيء مكتوب. كنت أريد أن أحكي لك قصة عن ولدي. عن الأطفال الذين قلنا عنهم: إنهم مجانين وأبالسة. كان عمره ثلاث سنوات. جاء ذات يوم وقال لي: «يا أمي، أين مقصي الذي أقطّع به، مقصي. أين هو؟ أين هو؟ بكى، وكان حزينًا جدًّا»، ثم قلت له: «مقصك، ما عليك سوى البحث عنه!»، وأعاد الكرة من جديد: «أمي، مقصي!» ثم قلت له: «اسأل! فكر! أين تركته؟» وردّ علي قائلًا: «لا أستطيع التفكير!» قلت له: «لماذا لا تفكر؟» فكان جوابه: «لأنني إذا فكرت في الأمر، أعتقد أنني رميته من النافذة». [ضحك] كما ترى، كان يخاف من نفسه، أخفى خوفه عن نفسه.


هوامش:

(١) في النص الأصلي من الحوار تشابه مقصود نطقًا وكتابة بين الكلمتين: désinfection  (تطهير) وdésaffection  (نفور أو عزوف) ـ المترجم.


المصدر:

Marguerite Duras, Jean-Luc Godard Dialogues

منشورات Post-édition 2014م

المنشورات ذات الصلة

حقيقة العالم تكمن في العالم، لا في الكتب التي تخبر عن العالم

حقيقة العالم تكمن في العالم، لا في الكتب التي تخبر عن العالم

كنا نترقب مواجهة محتدمة بين ممارستين وتصورين متعارضين للسعادة تمام التعارض؛ من جهة، النزعة الاستمتاعية الشمسية عند...

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *