حقيقة العالم تكمن في العالم، لا في الكتب التي تخبر عن العالم

حقيقة العالم تكمن في العالم، لا في الكتب التي تخبر عن العالم

كنا نترقب مواجهة محتدمة بين ممارستين وتصورين متعارضين للسعادة تمام التعارض؛ من جهة، النزعة الاستمتاعية الشمسية عند ميشيل أونفري، الذي لم يتوقف منذ ما يزيد على ربع قرن عن قدح جذوة «رغبة كل واحد منا في أن يصير بركانًا»، وحثِّ وجودنا على التخلي عن ثقافة الشعور بالذنب الموروثة من الحضارة اليهودية- النصرانية لتعاطي كل ملذات الحواس وقطف ثمار كل يوم؛ من جهة ثانية، النداء الذي أطلقه بيير رابحي مفكر الزراعة الإيكولوجية، منذ أن غادر باريس بداية الستينيات للانزواء في ضيعة بمنطقة الآرديش، تاركًا كل الملذات المزيَّفة للحضارة الصناعية، ورعاية زهد جديد عماده «الاتزان المرِح» واحترام الطبيعة الأم.

كنا نتوقع «صدامًا» بكل ما في الكلمة من معنى، صدامًا جذريًّا وعميقًا. ولم نوفر جهدًا لجعله ممكنًا؛ لأنه لم يكن في وسع ضيفينا، هذين المبشِّرين بالسعادة، اللقاء في التوقيت نفسه، لا في الآرديش ولا في نورماندي، وإنما في إيطاليا، في مدينة تورينو، حيث نُظِّم لقاء نهاية أسبوع حول مسار بيير رابحي من جانب مهرجان «دروب وريش طيور»، حملنا معنا ميشيل أونفري، الذي كان متحمسًا لهذه الفرصة، من مدينة أرجونتون في منطقة الأُورْم، حتى تورينو، عبر باريس وميلانو، في قطار، ثم طائرة، وسيارة مستأجرة، لمرافقته عند مُناظرِه.

بعد جولة في أزقة تورينو بحثًا عن ساحة كارلو ألبرتو، حيث سقط نيتشه ذات يوم من أيام عام 1889م، للغذاء في شرفة مشمسة والحديث في السياسة، وها هنا، كانت المواجهة أخيرًا. لكن بدل الخوض في سجال قوامه الحجج الفلسفية، أخذا… يحكيان حياتهما بعضًا لبعض. وكأن ذلك كان هو السبيل الوحيد للتعرف حقًّا بعضهما إلى بعض. وفي أثناء ذلك اكتشاف قواسم مشتركة عدة. صورة الأب المثالي المُجير، الذي وجب استعادة حياته المسحوقة، الشعور نفسه بأن الفورة الحالية هي ما يهدد سلامتنا النفسية، البحث المشترك في جمال الكون عن علاقة مسالمة بالوجود.

ومثلما أسررت لميشيل أونفري بذلك في أثناء رحلة العودة في الطائرة: إذا كانت المواجهة التي توقعتها لم تحدث، فإن هذا الحوار، بفضل السخاء الذي أبان عنه، كشف لي أن النزعة الاستمتاعية الشمسية التي لم أعُدّها حتى تلك اللحظة سوى عبارة جوفاء، كانت في حقيقة الأمر كناية عن لزوم، لزوم حضورنا المستعاد في الآخرين وفي العالم.

منافٍ ثقافية وجذور

بيير رابحي: ولدتُ عام 1938م في واحة صغيرة بالجنوب الجزائري. كان أبي حدّاد القرية وعازفها. لم نكن نملك الشيء الكثير، لكن كنت سعيدًا، أركض في أزقة واحتنا المشمسة، فخورًا بمرافقة والدي إلى الأعراس ومشاهدته وهو ينشر الفرح من حوله بالعزف على عوده أو كمانه فحسب. ثم توالت علينا المصايب: تُوفّيت أمي وأنا ابن أربعة أعوام، وحلَّ الفرنسيون بيننا لاستغلال الفحم الذي اكتُشِف أخيرًا، واضطُرّ والدي للنزول إلى عمق المنجم. كان ذلك انقلابًا في البنيات الاجتماعية الذي أعاد النظر في تاريخنا كله وفي طريقة عيشنا. لم يكن في وسعنا التغلب على أحداث من ذلك القبيل، بل كنا نخضع لها، إلا أن المرء يجد نفسه مكرهًا على طرح السؤال الآتي: الحضارة المستجدة التي نوعد بها، بفضل الكدّ في العمل والتقنية، هل هي حقًّا مصدر للسعادة؟

تخلى أبي عن مصيره كحداد ليصبح عاملًا في منجم. نزل عليه ذلك القدر لأنه لم يجد لغيره سبيلًا، لم يعد يكسب قوت يومه. لكنه اختار أن يهبني لأسرة فرنسية قصد التبني؛ لأنه أراد أن أكتشف سرّ الأوربيين وقواعد لعب ذلك العالم الجديد. حينذاك أُلقيَ بي في مصير عجيب؛ انتقلت من الإسلام إلى المسيحية، من التقاليد إلى الحداثة. في تقاليدي المسلمة، كان لحم الخنزير محرَّمًا؛ وفي تقاليدي الجديدة، كان الناس يتلذذون بطعم النقانق. في تقاليدي، الله متعالٍ ولم يُولَد، لا علاقة له بالتاريخ. في الجديدة، قُدِّم لي يسوع بصفته ابن الرب الذي جاء لخلاصنا. كدت أجنّ من هذه المتناقضات. كنت أعيش في تمزق دائم، خاضعًا للوضع. لو كان الأمر بيدي، لفضلت البقاء على تقاليدي الأولى. هناك كنت سعيدًا، لكن ما أن يُقتَلع المرء من جذوره، يحتاج إلى معرفة مَكمن الحقيقة؛ لذلك قمت قليلًا بالتردد على كتب الفلاسفة.

ميشيل أونفري: أي فلاسفة؟

ب. ر: الإغريق بالدرجة الأولى. لكني لم أفقه من فكرهم إلا القليل.

م. أ: لا يسوء أنك لم تفهمهم، المهم أن تعرف إن كانوا قد ساعدوك.

ب. ر: ليس تمامًا. كنت قابعًا فيما يشبه الغربة النفسية، في استحالة الانخراط في أي شيء. غريب منفي من ثقافتَيِ الاثنتين، مرغم على كسب قوت عيشي، هاجرتُ إلى باريس. سعيتُ للحصول على شغل. حينما كنت أتقدم إلى وظيفة، كان يوجه إليّ سؤال: «ماذا تجيد صنعه؟». كنت أرد: «أجيد بعض الفلسفة». كنت أتحدث عن سقراط. وقد منحني ذلك منصب عامل متخصص. «متخصص»، ذلك من باب الترضية؛ إذ في حقيقة الأمر من هو غير متخصص في أي شيء هو الذي يُعطَى هذه الصفة. إنه مرؤوسُ مرؤوسِ المرؤوس. هنا تجلَّت لي فكرة الاستعباد، شكل من العبودية المقنَّعَة: تُعطَى أجرة، وفي المقابل، تُعطِي حياتك. وهذه مؤسسة ليست طبيعية بتاتًا. أذكر رد فعل رفاقي الذين قدموا من الجزائر مثلي، كانوا يحصلون على أجرتهم، وبما أنهم كانوا يقضون أكثر من شهر في إنفاقها، فإنهم كانوا لا يرجعون إلى المعمل إلا شهرين أو ثلاثة أشهر فيما بعد، وقد استغربوا أن في غيابهم مشكلة. وها هنا تدَخّل بالنسبة إليَّ مفهوم القضاء والقدر الشهير.

حتى تلك اللحظة كنت محكومًا بالقدر. لكن في المعمل، في ذلك الهرم حيث كنا أقل من لا شيء نرتعد في حضرة رب العمل الذي كان كإله في الأرض، لم يعد لي طاقة على تحمّل الأمر. لم أرد الانضواء في هذا المنطق. طوحت كل ذلك، مجازفًا بتحمل العواقب، ومع رفيقتي ميشيل، سعيًا منا للتحرر، ذهبنا إلى البادية للعودة إلى الأرض؛ بغية البحث عن سعادة مغايرة لتلك التي كانت تعد بها الحداثة الصناعية. كل هذا للقول: إن القدرة على الحسم من أجل السعادة يستغرق وقتًا في التشكل. هكذا على الأقل جرت الأمور بالنسبة إليّ. لكن، أنت، لعلك تجاوزت بالتأكيد الكثير من العقبات في الحياة؟

م. أ: كان والدي عاملًا زراعيًّا، وأمي خادمة بيوت. وجدت في البؤس والمهانة اللذين عاشا في كنفها أسبابًا لتمرّدي. حينما يُحدّث المرء نفسه في نهاية الشهر بأنه أنفق المال كله في ملابس الأولاد وفي الطعام فحسب؛ حينما يعجز عن أداء تكاليف الطبيب إذا مرض الأطفال، وعندما لا يستطيع التمرد ضد ظروف الشغل وإلا تعرّض للطرد… لقد تفوقتَ في التعبير عن ذلك. القضاء والقدر أثر من آثار البقاء على قيد الحياة.

وتحين لحظة يسرّ فيها المرء إلى نفسه: إما أنْ أستسلمَ وأُسحَق، وإما أن أبقى على قيد الحياة، ومن ثم يجب عليّ أن أتحكم في زمام مصيري؛ إذ ها هنا «يخلق المرء نفسه على صورة الحرية»، إن شئنا التعبير عن ذلك مثل نيتشه. من البَدَهِيّ أنْ ليس لنا حرية اختيار عيشنا، لكن لأن المرء ينشئ قدره فإنه يستطيع ذات يوم إذن أن يقول: لا، لا أرغب في هذه العيشة، أريد عيشة غيرها.

ب. ر: العودة إلى الأرض، بالنسبة إليَّ، كانت وسيلتي للحاق بملاذ المقاومة. الملاذ المادي وأيضًا النفسي. ذلك مكلف جدًّا، وبخاصة حينما لا يكون المرء من أهل البلد. من حسن الحظ، كانت لديَّ رفيقة شجاعة سايرتني في هذه المغامرة. لم يكن لدي فلس واحد، تقدمت إلى بنك القرض الفلاحي بشهادتي، شهادة العامل الزراعي لشراء قطعة أرض صغيرة وجدتها في منطقة الأرديش، شهد مطلع ستينيات القرن الماضي هجرة قروية قوية. بهرني المكان؛ لم يكن هناك كهرباء، الماء المحصل من الخزانات حيث تستنقع مياه المطر، والأرض ذات حجارة، والطريق إليها غير سالك حينما تمطر. كانت أقصى ما نتمناه، لكن ربما ليس لإنشاء مزرعة. «لا يمكن أن نقرضك المال إذ لا نريد أن نعينك على الانتحار»، كان هذا جواب المصرفي. وما لا يظهر في ميزانية هو ما حسم اختيارنا: جمال المكان، الصمت، الهواء النقي،… إلخ. إن مصادرة تلك القيم بواسطة المنتوج الداخلي الخام والمنتوج الوطني الخام هي إحدى أكبر الانتهاكات التي تقترفها الحداثة ضد الإنسانية.

منذ البداية، كنا نعلم أننا لا نريد «التوسع»، بل تذوق طعم الحياة: لقد حصرنا الحد في ثلاثين نعجة حتى نبقى على علاقة ألفة ببهائمنا، وألا نجعل منها آلات لصنع الحليب؛ كنا نبيع بأنفسنا ما نصنعه من جبن، لأن غايتنا كانت ربط وشائج مودة مع الزبائن الذين صاروا أصدقاء. إن تلك المطالبة بحياة «مكثفة»، بعلاقة عاطفية مع الأشياء ومع الأمكنة، سمحت لنا بالصمود. وجاء خمسة أطفال في هذا الوسط المفعم بالجمال والسكينة. كل مستلزماتي كانت تنضوي في العصيان، وكان الاسترداد شاملًا. ألا تميل أحيانًا، أنت كذلك، إلى هجر كل شيء وعيش حياة جديدة في مكان آخر؟

م. أ: أنا مقيم في أرجونتون، التي تضم 14000 نسمة، واشتريت بيتًا في مسقط رأسي بقرية تسكنها 500 نسمة، ولدت هناك، حيث استوطن آل أونفري النورماندي منذ عشرة قرون، وأقطن هناك فيما يشبه المقاومة للمدينة. عرض عليّ القدوم إلى باريس، لكن رفضت. ولهذا السبب اكتشفتك أيضًا. أعرفك منذ خمس عشرة سنة، لكن لم يكن لديَّ التعاطف نفسه مع عملك. مع مرور الوقت، لم أعد على يقين تام بأن يكون المرء معتدلًا في علاقته بالعالم وصرت أُومِنُ بالقطيعة. وقفُ كل شيء: اللقاءات التلفزيونية، منع قنوات الإذاعة، عقد المؤتمرات… إيجاد مكان مشمس، تحُفّه الطبيعة وكتب معدودة، ليس الكثير منها، فأن نقرأ لا يعني ذلك أننا نتأمل.

بخلاف ذلك، الكتابة لا أستطيع التخلي عنها. سوف أرسل مخطوطاتي وليحدث ما يحدث… إما أن ذلك موجود أو هو غير موجود، فتلك ليست مشكلتي، يستهويني نمط الوجود هذا. وقد صار هذا الميل مألوفًا عندي منذ أن فقدت والدي. باستلهام حكمته القروية، أقول: إن السعادة لا تستند فحسب إلى العلاقة التي نقيمها مع ذواتنا، ولكن أيضًا إلى تلك التي نقيمها بين الذات والطبيعة، الذات والكوسموس.

رهاب التقنية وخدعة الحداثة

ب. ر: إن التصعيد الدائم الذي يفرضه «الزمن- المال» يجعل من الحياة ضوضاء وليست تلك السيمفونية التي نصبو إليها، عن وعي أو عن غير وعي. «الأسرع دومًا» من أجل «المبهم دومًا». المسمى نمو اقتصادي يجعل من الوجود آلية غريبة، ما يشبه الإنبيق الكوني الذي يقطر أرباحًا. إنه الخراب. إن الفورة التي استبدّت بنا تجعل السعي إلى التوازن محالًا. ومن وجهة نظري، الحداثة خدعة: لقد قيل للناس: لا تتصرفوا، ولا تعملوا ولا تعيشوا مثلما تفعلون! لأن كلًّا من الاحتراق الداخلي، والدينامية الحرارية سوف يخلّصكم من أعباء الحياة. بيد أن هذه التقنية انقلبت ضد أولئك المفروض فيها أن تخلصهم. إن التعميم المعياري من خلال التقنية أدى إلى مسخ طبيعة كل شيء، إلى سحب كل هوية عن الأشخاص للحصول على كائن بشري خاضع للمعيار، مكيَّف تمامًا مع منطق النظام. الإنسانية التابعة لاختراعاتها ليست من إنشاء الذهن، ويمكن لأي كان التحقق من ذلك.

م. أ: فيما يخصني، لا أعاني رهابَ التقنية، بل أنا محبٌّ لها. بالنظر إلى الحقبة التي كان فيها والدي يحرث حقله بحصان لمدة ثلاث عشرة ساعة في اليوم، فإن حلول الجرار لم يكن بالأمر السيئ، حقًّا. إنما يكمن الأسوأ في استعمال الجرار لغايات إنتاج تجارية.

ب. ر: أنا أيضًا لا أعاني رهابَ التقنية، لكن أشعر بالأسى من العجز عن ضبط التقنية. ليست التقنية أداة محايِدة. أن يتصبب المرء عرقًا لاقتلاع شجرة مدة يوم، واستعمال منشار لقطعها في غضون ساعة، هناك فرق بيِّنٌ. بصفة عامة، حان وقت قوة الاعتدال. عندما يستهلك خُمُس البشرية أربعة أخماس موارد الأرض، وحده اختيار الرزانة ما يستطيع حل هذه المعضلة. هل من العادي أن يُقْبِل كائن بشري كل يوم على التخلص من مدة بقائه الشخصية للحصول على لحظات للتزلج على الجليد أو في البحر… في هذا السياق، أظن أن الرزانة وحدها ما يستطيع إرضاءنا حقًّا. لكن لعلك غير متفق معي، أنت الذي ينتقد نزعة الزهد ويُعلي من شأن النزعة الاستمتاعية…

الطريق إلى السعادة

م. أ: إنه لمن سوء الفهم الكبير الظن أن الاستمتاعية التي أدافع عنها تتم عبر النزعة الاستهلاكية والامتلاك. أن أثني على الزهد الأبيقوري، بالمعنى الشائع. أن يكون المرء محبًّا للأكل وللشرب، مدخنًا للسيجار، وجامعًا للسيارات الرياضية، ليس هذا ما يهمني. بصفتي من تلامذة أبيقور، أنا أثني على نوع من الزهد يتمثل في الخضوع للأشياء الأولية. عندما يكون للمرء بيت يؤويه، وطعام يكفيه وحطب يدفئه، هل يحتاج إلى المزيد؟ ما أنتقد في الزهد، هو الزهد اليهودي المسيحي أو الإسلامي الذي يرى في الحرمان والألم مصدرًا للمتعة. هذا ما أنتقده باسم زهد مغاير، زهد الكينونة، الروحاني والفلسفي.

لماذا نحن غير سعداء أكثر مما نحن عليه؟ لأننا لا نريد ذلك. من البيّن أن هناك أوضاعًا موضوعية تجعل من الصعب أن يكون المرء سعيدًا؛ حين يعيش وسط البؤس والألم أو المرض. لكن هذه الأوضاع تحسّنَت كثيرًا، ومع ذلك فإننا لسنا أكثر سعادة من الأجيال السابقة؛ ذلك أن السعادة، في النهاية، ليست مقترنة بتلك الأوضاع الموضوعية. بصفة مطلقة، أظن أنه حتى تكون هناك سعادة، يجب أن تكون ثمة إرادة للسعادة. بيد أن قلة من الناس من يعرف ما قد تكون سعادتهم. يظنون أن السعادة ليست في كينونتهم بل فيما لهم، في المِلكية. ومن ثم، يغلقون على أنفسهم في الألم لأنه بئر لا قرار لها؛ حينما نملك شيئًا، لا نشبع أبدًا منه، وبهذا المعنى، لا يستطيع المرء أن يكون سعيدًا إذا استثمر فيما له. وفي المقابل، إذا استثمر في الكينونة، كلما حصل على تقدم في الكينونة، فإنه يتقدم حقًّا. أظن أن المرء إذا لم يكن سعيدًا؛ فذلك لأن عددًا كثيرًا من الناس، أولًا، لا يريدون ذلك، ثانيًا، لا يعرفون السبيل للوصول إلى ذلك، ثالثًا، لا يتخيلون ما يمكن أن تكون عليه أوجه السعادة.

ب. ر: لا ريب في أن السعادة موصولة بالإرادة، هناك نصيب من حياتنا يفلت منّا. هذا بيّنٌ في حالتي: لم أرغب في أن أولد هناك حيث وُلِدْتُ ولا في عيش ما عشته. لكن يبدو لي أن ذلك يظهر أيضًا في سرد حياتك. حينما تتحدث عن موت والدك، تقوم بذلك وكأنه حدث سمح لك، بغض النظر عن الوجع، بعقد صلة مغايرة مع الأشياء…

م. أ: ذلك مؤكد. لقد أحببتُ والدي. كان صموتًا، مقترًا في الكلام، كان رجلًا يحب أرضه، قضى حياته حريصًا على ألا يأتي للعالم بسوء. لم يحدث يومًا أن كان شريرًا، عدائيًّا أو فظًّا. كان لديه شغله ولا يريد أكثر من ذلك. بيت صغير جدًّا، سبعة عشر مترًا مربعًا، ضرب اثنين. هو من كان يحيا الحقيقة. لا أُومِنُ بالبقاء على قيد العيش؛ لأني ملحد متطرّف، ومن ثم، فإن الطريقة الوحيدة لتكريمه، هي بلوغ استقامته، ما حييت. ما تبقى لي من حياة، أريد أن أقوّي استقامتي. وقد صار ذلك بيّنًا جدًّا منذ أن غادَرنا. لقد مات بين ذراعيّ، كنا خارجين من بيتي، نظرنا إلى السماء – كان يشرح لي السماء حين كنت طفلًا، وكانت لنا حكاية مع النجم القطبي… قلت له: إننا لن نراه هذا المساء، قال لي: «كلا، هذا المساء، السماء غائمة»، ثم مات واقفًا، مثل سنديان أصابته صاعقة ولم يسقط. أنا الذي حملته وسجّيته. في تلك اللحظة، تم الميراث. وبغية إحياء ذكراه، وجب أن تصير خصاله الفاضلة خصالي، زيادة وحسنًا.

ب. ر: ما تقوله يؤثر فيَّ لأني أحس بالشيء نفسه. لقد شاهدتُ والدي في هوانه، عائدًا من المنجم مسودًّا من سخام الفحم. وتبعًا لذلك، أحدث نفسي أن خلافي مع الحداثة مرتبط بذلك أيضًا. دخوله في العبودية، المنجم، الفحم المسؤول عن التلوث اليوم، تلك الأمور وقد تجمّعت على رأس واحد ومصير واحد، لا بد أن ذلك رجح كثيرًا كفة ميزان عصياني. لكن ما يثيرني أيضًا فيما تقول، هو الصلة التي تعقدها بين السعادة والنهائية والكوسموس. في مغامرتي الخاصة، لا ينفصل نقض الاستلاب عن استرداد الجَمال. حين تقيم في مكان به سبعة عشر جرسًا من أجراس الكنائس، يحفه الصمت، وتزين النجوم سماءه، ويتنفس فيه الهواء النقي، والبهجة التي تمنحها لنا الطبيعة والتي لا نبالي بها حتى. بالنسبة لي، نقض الاستلاب، هو استرداد الحق في الجمال.

لكن هذا لا يظهر في ميزانية، خمس مئة يورو من الهواء النقي… الاستلاب هو هذا بدايةً، ألا يتوافر للمرء وقت للاستمتاع بالجمال. وهذه واحدة من نقائص علم البيئة السياسية الغارقة في أسئلة فعلية ولا تدمج هذا البعد أبدًا. بينما يتعلق الأمر بالنفاذ إلى ما يسرنا، وليس فحسب إلى ما يغذّينا. إن المواطن لا يطالب كفاية بحقه في الجمال.

م. أ: أن أجد نفسي بمكان يطيب لي فيه مشاهدة الأشجار وهي تنمو، وسماع النحل يطير؟ ذلك أمر يستهوي القلب. منذ أعوام، أنعطف على ذلك من خلال الكتب، أقرأ، أضع حواشي على مؤلفين، لأمد طويل ظننت أن حقيقة العالم كانت تكمن في الكتب التي تخبر عن العالم. لكن حقيقة العالم تكمن في العالم، ويجب تجنب الكتب التي تخبر عن العالم، أو ألا نقرأ سوى الكتب التي تدعونا للعودة مباشرة إلى العالم. وكتبك تدخل في هذا الباب. إن الفورة التي تكلمتَ عنها كلمة تعجبني؛ لأني أراها ويا للأسف، بين فينة وأخرى، أعيشها. أقول مع نفسي حينها: يجب بذل جهد إضافي للإفلات من الفورة!

ب. ر: أشعر أن الحداثة، وتحالف التقنية والعلم وقوانين السوق هي منازعة لكل ما سبق. لا أريد تعظيم العالم القروي، لكنه يحمل حكمة منسية. القروي هو الذي تتشبث به القرية ويتشبث بالقرية، الذي يعانق واقعًا. أنا معالج من الأرض. وحين أخرج من هنا، فأنا ذاك العربي الذي أتى من حيث لا ندري، أو الشخص الذي صار نصرانيًّا… اليوم، العالم كما يسير، أو لا يسير، غيّر إدراكي. لقد تحررت من كل هوية حتى أكون، بقدر يزيد، مجرد كائن إنساني. إن المصداقية والثقة التي أشرف بها تقيدني أخلاقيًّا بالاستمرار في العمل من أجل الصالح العام.

م. أ: لا أظن أن في الوسع استعادة ماضٍ وقيمٍ لم تعد موجودة. مآل الحضارات المنغلقة الاندثار لصالح حضارة كونية. ربما هناك زمن ثالث في الوجود، بعد زمن التكوين وزمن الحركة، الذي هو زمن الحكمة ويتمثل في القيام بأقل الأشياء، ولقاء عدد أقل من الناس، وكتابة أشياء أكثر صوابًا قد تكون نافعة. أكتب لأنفع الناس، وليس لأجل من حرفتهم الفلسفة. تصلني رسائل من أشخاص يقولون: إنهم أنصتوا إليَّ، سمعوني، قرؤوني، وإني غيّرتُ حياتهم. هذا هو الأهم بالنسبة إليَّ. لكن مع التقدم في العمر، نكتشف أيضًا المشارّة، الغيرة، الحسد، وقد يستهويني الابتعاد من بني البشر والاقتراب من الطبيعة.

المرء منهمك دومًا في مراقبة الساعة، في الإسراع. إنه لا ينظر أبدًا إلى درب التّبّانة، ألوان الصبح أو الغروب، ويحدث نفسه بأن الحياة قصيرة… كم مرة جلست على الأرض في انتظار شروق الشمس؟ ومع ذلك أشهد ما يشبه سعادة تسمح لي بالوجود. هنا أيضًا، أنت محق عند ذكر الفورة، تروقني الكلمة. لا أدري كيف سيكون المستقبل، لكن هناك لحظات أحدث فيها نفسي بأني سوف أسلك طريقًا أكثر حكمة وتفكرًا وتأملًا. لا أدري إن كان يجب استعماله أو عرضه على الجمهور، لكنه مشروع وجودي شخصي.

ب. ر: نحن أقرب إلى بعض أكثر مما كنت أظن. لكن ربما إن ما يفصلنا، هو علاقتنا بالتعالي. اليوم، تحررت من كل انتماء ديني. لكن خلف الجمال، هناك ما هو إلهي بالنسبة لي. الإحساس أن شيئًا ما معقولًا يحكم كل هذا. حين أمسك حبة قمح، أعرف أني بمضاعفته، نستطيع إطعام البشرية، لكن سر هذه العملية الحيوية يظل ملغزًا بالكامل. لديَّ مشكل مع المصادفة والضرورة، مع عالم لا أصل له، ولا عقل بدائي. أمام هذه الأسئلة، وحده الصمت يعد جوابًا.

م. أ: هل تقصد أنك من أتباع وحدة الوجود؟

ب. ر: بمعنى؟

م. أ: أن الألوهية تكمن في الشمولية، في العالم؟ وهل تظن أن هناك بقاء بعد الموت؟

ب. ر: بقاء بعد الموت؟ لا علم لي بذلك، هذا يدخل في باب المعتقد. مشكلتي هي معرفة إذا كانت حياة ما موجودة قبل الموت. في الأصل، ما معنى أن يحيا المرء؟ أليست تلك مسألة أولى بالأهمية؟ أن يكون المرء حاضرًا مؤقتًا في الواقع، وأن يتلاءم بطرائق متعددة وفق مخطط ثقافي خاص، هل تلك حياة؟ حين أرى كل تلك الفرص التي تقدمها لنا الحياة بأن نكون في رغد من العيش والتي نصر على إفسادها، فذلك أمر يشكل عليّ. النهائية هي مأساة البشرية. إنها ما يكدر على نحو بالغ سعينا إلى السعادة.

نحن موجودون مؤقتًا على هذه الأرض. وسوف يريحني كثيرًا الظن أن عندما يلقى بيير رابحي حتفه، أن يكون ثمة ما سوف يدوم رغم كل شيء. لكن لا أدخل في هذه الفرضيات إذ في حقيقة الأمر، من شدة ما نوغل فيها، نغفل أن نحيا. نمضي وقتنا في التخوف من المستقبل، بينما لدينا الحياة، ولا نحياها. هنا أتفق معك. يجب أن تكون الحياة في الحاضر- هنا أقبض عليها، وأنا مسرور بأن نكون معًا، تلك حقيقة واقعة؛ لذا فأنا موزَّع بين الطرفين قليلًا، لا أريد تصور أن يتوقف كل شيء، لكن أريد أولًا تقوية الحاضر. في الحاضر هناك أبدية، إننا نبحث في مكان آخر عن أبدية هي بين أيدينا، في حياتنا التي لا ندركها.

م. أ: أتفق معك تمامًا، ما خلا فيما يخص الألوهية والسر، والحاصل أنه كثير على الرغم من كل شيء. المعتنق لوحدة الوجود هو من لا يتفق مع التعالي لكنه يعتقد أن المقدس موجود في الهنا وفي الآن. قال نيتشه: «يكفيك العالم الملعون». أعتقد أن ذلك يقسم البشرية اثنين: هناك من يكتفي به، وهناك من يعتقد في وجود عالم ثانٍ.

ب. ر: أشعر أني متصالح مع نفسي، لديَّ التزام أَختطُّه لنفسي باسم الحياة، أجل، يمكن لي القول إني سعيد، وهذا لا يقصي الحزن الذي لا نهاية له، الناجم عن العذاب، عذاب الأطفال، مثلًا، الذين يولدون في العالم كيما يموتوا من المجاعة. تلك المآسي تخلخل يقيني. لذا، لا يبقى لي سوى قراءة بيبي فريكوتان، وقصص عجائبية، أو فِلْم ويسترن حسن. كل شيء نسبي… وأنت، هل أنت سعيد؟

م. أ: كلا؛ لأن رفيقتي مريضة منذ أعوام، ولأن المرء لا يمكنه أن يكون سعيدًا حينما لا يكون من يحبهم سعداء.


هوامش : L’ascète et l’hédoniste: Pierre Rabhi/Michel Onfray.

أشرف على المحاورة: مارتان لوغرو.

المصدر : Philosophie Magazine، n°71،Eté 2013.