المقالات الأخيرة

“لقاء مارس 02: تواشجات” دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

“لقاء مارس 02: تواشجات”

دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

فيما يشبه الالتزام الأخلاقي والجمالي، تبنى لقاء مارس السنوي، الذي تنظمه مؤسسة الشارقة للفنون، في دورته الجديدة التي انتهت أنشطتها قبل أيام، طيفًا واسعًا من القضايا والموضوعات والنقاشات وعروض الأداء، التي لئن اختلفت وتعددت وتنوعت، إلا أنها تذهب كلها إلى منطقة واحدة،...

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

اقتفاء أثر المكان في الرواية الكويتية المعاصرة

بِمَ نفسر الضبابية المكانية لدى الروائي الكويتي؟

بواسطة | يناير 1, 2021 | مقاربات

في رواية «ناقة صالحة» لسعود السنعوسي تقول الراوية؛ صالحة في أحد مواضع رحلتها في تيه الصحراء على أمل أن تصل للكويت: «أتكون الكويت سحابةً تبشر بما لا يجيء؟ أم سرابًا يضنيه نأي أبدي؟ أم نجمةً ترشدنا إلى كل الدروب إلا دربًا لا يؤدي إليها».

وجدت في هذه العبارة توصيفًا قريبًا لما أشعر به تجاه غموض صورة الكويت في النصوص السردية الكويتية المعاصرة، وربما تصلح هذه الفقرة لأنْ تكون فقرة جوهرية لو أن هذه الورقة تهتم بصورة الكويت في النص السردي، ولكن الحقيقة أن هذا ليس همي هنا، وإن كان من مواضع اهتمامي، بقدر ما ينصبّ اهتمامي على تتبع فكرة المكان السردي في النص الكويتي، وأسباب انزياحه أو ترسخه في هذا النص أو ذاك، ودلالات ذلك فنيًّا وأدبيًّا، وأيضًا على مستوى تعبير ذلك عن الهوية الكويتية، وانعكاس هذا كله على مفهوم الزمن في السرد الكويتي المعاصر.

لا شك أن أي مجتمع يتأثر أساسًا بالمكان، الذي يأتي كجزء أساسي من البيئة ‏التي تؤثر في أهل المكان وسكانه، ولهذا يشيع مثلًا أن سكان المدن الساحلية يألفون الغرباء ‏والأجانب أكثر من غيرهم بسبب علاقتهم بالبحر، وأن سكان الصحراء يختلفون عن سكان ‏الجبال في العادات والتقاليد والسلوكيات. ‏وإن الرحالة من البدو في الصحاري مثلًا أو الغجر في مراعي أوربا وغيرها لهم سلوكيات مرتبطة بهذا اللون من الحياة التي لا تعرف استقرارًا في مكان واحد كما هو شأن أهل القرى أو المدن. وليس هذا فقط، بل يتأثر المكان بفكرة الزمن بسبب ارتباطهما بعلاقة جوهرها حركة المكان ‏في الكون الذي يصنع إحساسنا بالزمن.

في بحثي في الأمر لم أفتش عن كتب معروفة باحتفائها بالمكان، بل تناولت على نحو عشوائي تقريبًا نحو 30 عملًا روائيًّا من أعمال كتاب كويتيين من جيل الوسط والشباب، وبدأت أتأمل تناول هذه الأعمال للمكان. وبداية قد يصح القول: إن المكان في السرد هو بناء مبنيّ باللغة، ليعبر عن فضاء مكاني متخيّل يضم شخصيات محددة تقوم بسلوكيات تضيف إلى المكان، أو تتأثر به؛ أي أنها تتحرك وفق قيم معينة مرتبطة بالمكان وسكانه، ثم تؤثر فيه من جهة أخرى.

على سبيل المثال حين أسس محفوظ عالم الحرافيش، فقد اخترع حارة سردية، ربما يكون لها أصل في الواقع لكنها أخذت في النص بعدًا خياليًّا يخص العالم الروائي الذي تجسده شخصيات العمل ومصايرهم. وكذلك عبدالرحمن منيف، وماركيز وسواهم.

وعلى نحو شخصيّ، وهنا قد تتدخل خبرتي ككاتب روائي أعد المكان عنصرًا أساسًا من عناصر النص، وأن النص ينبغي أن يتضمن هذا الوعي بالمكان حتى لو قرر الكاتب إزاحته عن وعي، فكما يقول حسن بحراوي:‎ «‎إن الوضع المكاني في الرواية يمكنه أن يصبح محددًا أساسيًّا للمادة الحكائية ولتلاحق الأحداث ‏والحوافز، أي أنه سيتحول في النهاية إلى مكوّن روائي جوهري ويحدث قطيعة مع مفهومه كديكور». وهكذا يدخل المكان في الرواية عنصرًا فاعلًا، في تطورها، وبنائها، وفي طبيعة الشخصيات التي تتفاعل ‏معه، وفي علاقات بعضها ببعضها الآخر‎.‎

والسؤال الآن هو: كيف قدمت الرواية الكويتية المعاصرة فلسفتها الخاصة للمكان؟ حين نتأمل الرواية الكويتية التقليدية سنجد غالبًا مكانًا تقليديًّا بسيطًا، محدداته البحر والفريج أو الحارة. البحر كساحل يعيش الناس قريبًا منه، يرتاحون إلى وجوده ويرون فيه رمزًا للأمل وموارد الحياة التي تصل بها السفن من مياه الشرب ومواد الغذاء والبضائع، وهو من جهة أخرى، مصدر الرزق بوصفه موضع الغوص ومكمن ثروة اللؤلؤ الذي يتعيش عليه كثير من السكان، أو محل الرزق الناتج عن عمليات الصيد، ولهذا سنجد أن البحر مشترك في أغلب الروايات الكويتية، سواء أكانت الإشارة إليه مقتضبة أو تفصيلية، من الرواية الكلاسيكية حتى النصوص المعاصرة الحديثة التي يكتبها الشباب.

أما المكان الثاني الذي تدور فيه أحداث أغلب الروايات الكويتية فهو الفريج أو الحارة في الروايات التي تتناول كويت ما قبل الثروة النفطية، أو بعض الشوارع والمباني الحديثة في روايات تتناول كويت ما بعد الستينيات حتى اليوم. والمكان الثالث الذي يأخذ موضعًا رئيسًا أو هامشيًّا في النص حسب موضوعه هو الصحراء؛ لكونها الطريق إلى الكويت، أو موضع واحات القبائل المختلفة التي تنتمي للمناطق التي تحيط بها الصحراء.

ومن خبرتي المتواضعة في قراءة الأعمال الأدبية الكويتية التي أتيحت لي قراءتها سواء للرواد وجيل الوسط ثم الجيل الجديد، لم أجد إجابة عن سؤال افتراضي سألتُه نفسي من أجل هذه الورقة: هل هناك رواية مكان كويتية؟ ولا أظن أن هناك رواية كويتية يتوافر فيها هذا الشرط، أي أنها جعلت من المكان بطلًا مع استثناءات بسيطة، أما الأمر الثاني فهو بطبيعة الحال مراوحة التجارب؛ لأن هناك تجارب فيها تعدد وتراكم وتنوع لطبيعة المكان الذي تتناوله كفضاء أو كرمز مثل روايات إسماعيل فهد إسماعيل؛ لأنه استخدم المكان بأشكال عدة، واستخدم أيضًا أماكن فنية واقعية تعددت مواقعها الجغرافية على خارطة العالم العربي إضافة، طبعًا، إلى الكويت، وتجارب عدة تناولت البيئة المحلية وركزت في أغلبها على البيئة الكويتية قبل النفط وبعده، مثل تجربة ليلى العثمان.

في تجربة إسماعيل فهد إسماعيل هناك تنوع كبير في طبيعة المكان الروائي في النصوص، فهناك روايات اتخذت من القاهرة ملعبًا لأحداثها وأخرى من لبنان وسوريا والعراق ولندن، سواء تداخلت مع البيئة الكويتية أم لا، وهناك فضاءات رمزية مثل الطائرة في «مسك»، أو مبنى الملجأ في «الشياح» أو مقر الأسرى الكويتيين في جانب كبير من رواية «طيور التاجي»، وهنا يأتي المكان الضيق الخانق كسجن للفرد، لكنه ينطلق خارجه بالذكرى أو بالأمل أو بتداعي الذكريات. وهناك بعض التجارب التي قدمت أيضا المكان الكويتي كديكور، أو كمكان هندسي أكثر منه روائيًّا، كما سأوضح لاحقًا.

رواية اللامكان

ثمة روايات عدة يبدو موضوع المكان فيها رمزيًّا، تحتفي نصوصها بالشخصيات وحواراتها وحركاتها البسيطة التي غالبًا ما تدور في أماكن مغلقة، وهي تبدو جلية أنها تعبر عن الواقع الكويتي وبشخصيات كويتية، لكنها لا تنتبه للمكان على أي نحو. المكان بالنسبة لها محايد، لا تأثير له في الشخصيات. وهي نصوص يبدو المكان فيها موجودًا لكن لا يمكن تصوره بالتفصيل، بمعنى أنه نص لا يقدم لقارئه خصوصية ما للمكان، يكتفي بالرتوش التي تعطي الفضاء الذي تجري فيه الأحداث تحديدًا ولكن بلا تفاصيل، تبدو فيه الشخصيات مشغولة بذواتها تمامًا، وغارقة في مشكلاتها إلى حد عدم قدرتها على التقاط أية تفاصيل أخرى، سنجد ذلك في رواية مثل «الدرك الآخر» لخالد النصر الله، صحيح أن الأحداث تقع في شقة تقع في أحد الأبراج، وفي منطقة محددة هي بنيد القار، لكن لا يوجد تفاصيل أخرى لموقع هذه الأبراج وخصوصيتها للمدينة أو الشخصيات. تبدو أعمال خالد النصر الله عامةً غير مهتمة بتحديد المكان، هو فضاء عادة لأحداث ينشغل بها أبطال العمل.

هويته أيضًا في رواية «جليلة» لحمود الشايجي مثلًا سنجد أن فضاء الرواية يبدأ من الصحراء في نجد، ثم ينتقل إلى مناطق صحراوية أخرى، ويتوقف في إثيوبيا لنعرف تفاصيل لها علاقة بجذور البطلة التي أضحت عبدة لدى تاجر من الجزيرة سينتهي به المقام في جزيرة فيلكا الكويتية لاحقًا. وستتركز الأحداث تدريجيًّا في هذه الجزيرة الصغيرة ويغدو موضع بناء يشبه الفنارة سوف يراه بعضهم مقامًا هو مركز من مراكز الأحداث، مع ذلك سنلحظ أن صورته ضبابية لم يهتم الراوي بوضع تفاصيل دقيقة له؛ لأن المركز بالنسبة للنص هو الأحداث والشخصيات والحوارات الطويلة التي تأتي متكأً موازيًّا للسرد الوصفيّ في تقديم تطور الأحداث وما يتعرض له أبطال العمل. ولا أظن أيضًا رغم طول هذا العمل أن تتكون لدى القارئ صورة عن الكويت أو فيلكا. لا توجد مشهدية؛ لأن الطابع المسرحي الحواري تغلب على النص الذي تحيز للحكاية ووصف الطقوس التراثية على حساب المكان. أي أن المكان هنا رمزي في الأغلب.

في أغلب أعمال بثينة العيسى لن تجد ملامح الأماكن، هناك تركيز على مشاعر الشخصيات، الحب أو الغضب أو الغيرة، خصوصًا مثلًا في «عروس المطر»، على عكس ما تبنته أعمال أخرى مثل: «خرائط التيه»، أو «كل الأشياء»، كما سنرى لاحقًا.

ليلى العثمان

وقد لا نجد تفاصيل خاصة بالمكان في رواية مثل: «لا تقصص رؤياك» لعبدالوهاب الحمادي أيضًا، لكن يبدو في هذا النص أن تجاهل المكان هو نوع من رفض الأبطال أنفسهم للمكان، سواء بأن يرى فيه بعضٌ محلًّا للتكسب فقط، أو يرى فيه آخرون مكانًا يرفضون ما يجري فيه ويأتي تجاهل المكان هنا كما لو أنه متسق مع هذا الرفض. لكن مع ذلك سوف نجد بين فينة وأخرى إشارة دالة على مكان ما مثل منطقة المهبولة على لسان إحدى الشخصيات التي تشير إلى أنها منطقة عبارات متشابهة طرقها غير مرصوفة، أو نجد شخصية يوسف وهو يدور حول دوار يقع أمام أحد القصور ويحاول أن يقرأ المكتوب على باب القصر فلا يستطيع فيعاود الدوران أكثر من مرة حتى يتمكن من القراءة، وكذلك يصف بعض الأبنية الرسمية باقتضاب لكن له دلالات خاصة. مع الأخذ في الحسبان أيضًا أن جانبًا كبيرًا من سرد ينبني على ذهنية البطل الذي يكره الآخرين ويصاب بكوابيس يريد أن يجد من يفسرها، وبعض الأماكن في الحلم كابوسية أيضًا. مكان مراوغ مثل شخصيات الرواية. لكن الأمر يختلف في روايته الأحدث ولا غالب؛ لأنها تدور في جانب منها في غرناطة، ويغدو وصف المكان ضرورة، ليس فقط لأجل تقديم روح المكان المعاصر، بل في الماضي حيث يستخدم حيلة ذكية تشبه السفر في الزمن، عبر قبو سري في قصر الحمراء، وفي التنقل بين المكان الكويتي وبين المكان الأندلسي تتحرك أفكار الراوي حول الهوية وأسئلة الرواية.

ثمة روايات يبدو فيها المكان محدودًا مثل: «حكايات صفية» لليلى العثمان؛ حيث يبدو عالم صفية محدودًا لا يتجاوز غرف البيت، أو السطح الذي تطل منه على عالم الفتيان، ولكنها على الرغم من كل ما تمر به من مآسٍ ومغامرات، تقريبًا فإن عالمها كله محصور في هذه الزاوية، وحين خرجت منه فقد اتجهت إلى بيت الوناسة، ثم إلى السجن. فقد كان قدرها أن تعيش داخل جدران خانقة، لكنها كانت تحاول أن تعيش حياتها كما يفرض عليها جسدها داخل كل تلك الزنازين.

أيضًا سنجد أن بطلة رواية «ثؤلول» لميس العثمان لا تغادر حيز البيت الذي كان كل عالمها وعالم أغلبية الكويتيين في أثناء الغزو، والبطلة التي يحاصرها الغزو، ستظل حبيسة هزيمة جسدها، والعار الذي ألبسها إياه الغازي من جهة، وتواطؤ أهلها أيضًا، لا تغادر هذا الحيز إلا لمدة تغادر فيها إلى القاهرة من أجل مولد طفلها، ثم تعود لتواجه قدرها الجديد.

وهذا مثلًا على العكس من تناول المكان كديكور، أو باستخدام المكان كشكل هندسي من دون وجود دلالة محددة، وسنجد مثل ذلك مثلًا في رواية «سمر كلمات» لطالب الرفاعي، فأبطال العمل الذين يبدأ صوت كل منهم في فصل مختلف تقريبًا في التوقيت نفسه أو قريبًا منه أي الساعة 11، نجد كلًّا منهم يبدأ مونولوجه وهو يصف ما حوله. مثلًا نجد إحدى شخصيات الرواية تقول: على يميني مبنى مجلس الأمة ويساري الخليج، أو أن يسمي أسماء ثلاثة شوارع سيتخذ هو أوسطها، أو أن يقف عند إشارة ضوئية في بداية الشارع الفلاني، وهي جميعًا تقدم بلا وصف محدد، أو دلالة تؤثر في الأحداث، وأيضًا لا يمكن تفسيرها بولع شخصية ما من الشخصيات بأن تحصي مثلًا أعمدة إضاءة أو تقرأ اللافتات لأن البطلة وشقيقتها وصديقها وكل أبطال العمل لديهم السمة نفسها! سنجد في مواضع من القسم الخاص بالراوي الكاتب صديق البطلة وحبيبها، أحيانًا ارتباط المكان بذكريات الطفولة، ولكن من دون أوصاف مسهبة للمكان أو لبيت الطفولة؛ لذلك أعتقد أن هذا التناول للمكان هندسي ولا يدخل في إطار الوعي الفني بالمكان.

المكان بطلًا

لكن ثمة بعض الروايات التي أخذ المكان فيها حيزًا واسعًا؛ إما من خلال استخدام المكان لخدمة موضوع الرواية، أو بمنح المكان بعض السمات التي أسبغت إضافات فنية على النص. من بين هذه النصوص مثلًا رواية «فئران أمي حصة»، وهي رواية ديستوبيا، يأتي فيها المكان بداية كمجال لمقارنة ذكريات بطل العمل بين زمنين، ومقارنته بين المكان القديم وبين ما طرأ عليه، من شكل الأحياء إلى أسماء المدارس، مثلًا وتفاصيل سكان الحي قديمًا ومصايرهم، بحيث يشعر القارئ من مقارنة أو تتبع التغيرات التي طرأت على المكان، بالزمن، كما لو أن ملاحظة تغيرات المكان هي وصف لزمنين مختلفين أو متناقضين.

تتداعى الذكريات بأسماء مرتبطة بوقائع حدثت في أحياء بعينها، وتلوح السدرة أو النخلة رمزًا من رموز المكان. بل إننا سنرى في الجزء الديستوبي في الرواية وجود نهر اختلق في النص وليس له وجود في الواقع ولكنه يمتلئ بمياه كريهة الرائحة وراكدة. وسوف نلحظ غياب وجود البحر تمامًا في هذا النص، كأنها إشارة رمزية إلى أن المدينة المستقبلية التي تتعرض لكراهية المتناحرين من أبنائها بسبب الانغلاق وغياب مظاهر التسامح والانفتاح على الآخر، وهي السمة التي يعرف بها عادة أهل السواحل والمدن التي تقع على البحر، يغدو بديهيًّا ألا يلتفت فيها أحد إلى البحر أو الخليج. كما شأنه في زمن الغزو حين اسودت السماء أعلاه وأصبح موضعًا ملوثًا وقاتلًا للنوارس والطيور. وبشكل عام تمتلئ هذه الرواية بالتفاصيل التي تجعل من المكان بطلًا من أبطال العمل.

رواية الصهد

رواية «الصهد» لناصر الظفيري، من الروايات التي يحتلّ المكان فيها موضعًا واضحًا من بدايات العمل الذي يصف الصحراء وسكانها ويغزل من السطور الأولى علاقة مركبة بين تنقل هؤلاء السكان الرُّحَّل وطعامهم ومساكنهم المصنوعة من وبر الماعز الذي يرعونه، وهم في الوقت نفسه تنتقل سيرتهم، وسيرة كل حياة في الصحراء كما يبدو من خلال الريح.

يجعل الراوي من الرياح كائنًا حيًّا هي التي تنقل الحكايا، وهي التي تبقى صامتةً ما بقيت الصحراء خاليةً من البشر، فإن هم حلُّوا حلَّتْ قدرتها على صياغة الحكايات، ونقل التراث. فكأنما يسبغ النص هنا لونًا من ألوان أَنْسَنَة المكان؛ ليصبح برياحه كائنًا ينافس الراوي في نقل تاريخ المكان، وفي صياغة شائع ما يردده الناس عن كرم شخص أو شجاعة آخر. ولأن الرواية تتناول جانبًا آخر من حياة أجيال جديدة فإنها تنتقل إلى الكويت المعاصرة، وتحاول أن تنقل لنا شكلًا معاصرًا، للمدينة، للمقاهي، للشقق، ومبنى الجامعة، وتبدو رمزية المكان دائمًا موجودة في أغلب المشاهد، بين البطل وصديقته التي تشاركه همّ الجنسية المفقودة، أو حين يصف المغتربين في مقهى بأنهم يبدون كأنهم بلدان على خارطة الغربة، ووصولًا إلى كندا التي يقرر الراوي الهجرة إليها وتصحبه الفتاة ليالي التي تعاني حياةً قاسيةً ومشتتةً؛ بسبب غياب أبيها وحياتها مع زوج أم يدمر حياتها. تبدأ الرواية بالصحراء وتنتهي بالتلال، تبدأ بالحرارة وتنتهي بقلب بارد مثل برودة جليد الغربة.

ومن الروايات التي احتلّ فيها المكان مساحةً لافتةً أيضًا رواية «كل الأشياء» لبثينة العيسى التي تختار موضوع الحرية والمنفى، وتستخدم المكان في هذا الطرح، فما بين الوطن والمنفى الاختياري في لندن وبين جدران السجن، تدور الوقائع وتتداعى الذكريات، وتتداعى أيضًا رموز المكان: الزرقة للبحر المرادف للماضي، ورائحته عبقًا يذكر العاشق بحبيبته ومواضع التراث في السوق العتيق، رواية تستعيد تفاصيل المكان من أجل رثاء ماضٍ بقدر ما تحزن على فقدانه يحدوها أمل بأن يأتي بثوب جديد، ونرى الكنيسة محلًّا آمنًا للعاشقين أيضًا في لمحة رمزية كاشفة.

«لا موسيقا في الأحمدي» لمنى الشمري أيضًا من الروايات التي يمكن عدّها رواية مكان بامتياز، تحتفي بالمكان بشكل كبير، وتأثير المكان واضح في أبطال العمل الذين يعيشون في منطقة الأحمدي، وتتوزع حياتهم بين الجزء من الأحمدي المطلّ على البحر بكل ما يحيل إليه من تراث وسكينة وماضٍ، وبين مدينة سكن موظفي شركة النفط ذات الطابع الغربي، تدخل بنا الراوية للبيوت السكنية، ونرى كيف يمكن أن يجسد مكان موضعًا للحب رغم أنه بيت زوجة الأب، وبيتًا آخر يمثل موضعًا للضغينة رغم أنه بيت الأم، ونرى نموذجًا للانفتاح والتسامح في جانب، وتزمُّتًا في آخر، وبينهما ندخل إلى الحسينيات، ونرى الشوارع ونشمّ شذى شديد الخصوصية. وسنرى أيضًا حين ينتقل النص للصحراء أن جانب أَنْسَنَتِها موجود أيضًا.

أما نص «صندوق الأربعين» لميس العثمان، فيتشكل فيه المكان من شذرات كثيرة تتناثر على امتداد النص الذي يعدّ نصًّا سرديًّا حرًّا، يجمع السيرة بالتخييل، وتلعب الذاكرة فيه دور البطولة على مسارح عدة؛ كلّ منها يمثل موقعًا، من عدد أعمدة الإنارة أو الشبابيك في مبنى المدرسة أو مبنى حكومي، الحديقة السرية لعاشقين، سوق السالمية القديم، مشاهد من الأحمدي التي يشتبك استدعاؤها بوجوه وملامح. وصف البيت الخشبي القديم المبنيّ على الطراز الريفي الإنجليزي، ثم البيت الجديد في منطقة السرة، والمدرسة، وتفاصيل صغيرة ودقيقة ترتبط فيها الأماكن بملامح وملابس ولمحات مقتنصة من عمر بشر تجسد معًا لمحات مقتنصة من عمر وطن.

في «سلالم النهار» لفوزية شويش السالم يحضر مكان مختلف هو ما يمكن تسميته الشوارع الخلفية، فالرواية تتناول شخصية مهمشة وفقيرة ولديها معاناتها. البطلة فهدة تعلن من البداية تأثير المكان فيها مؤكدة أن حياة الأزقة والشوارع علمتها مواجهة الحياة بصفاقة وفجاجة وبرد الأذى بمثله، فتغدو الشوارع مخيفةً لغير أبنائها. أما لأهل الشارع فهي الأمن والأمان لأنها مختلطة بروائح ونكهات كل ما يكون نسيج الحياة فيها. مع تأكيد تناقض حياة البطلة في شوارع تعرفها لكنها لا تعترف بها كمواطنة.

الصحراء

من الأماكن ذات الخصوصية التي تَناوَلتْها نصوص كويتية الصحراء، وخصوصًا في رواية «طعم الذئب» لعبدالله البصيص؛ لأن البيئة الصحراوية التي توصف بمشهدية ودقة ملاحظة لا تبتغي الوصف قدر ما تنقل أيضًا مفارقة تحول شخص مسالم فرد يجد نفسه عرضة للعنف من جبهات عدة، وحين يقرر الفرار بعد أن عرضته المفارقات لأن يغدو قاتلًا، يجد نفسه في تيه الصحراء وحيدًا في مواجهة ذئب، حبيسًا في جحر، وينتهي الأمر به إلى الاستذئاب، كحلٍّ وحيد تطرحه الرواية في مواجهة ذئاب البشر والصحراء معًا. في «قطط إنستغرام» لباسمة العنزي، هناك طرح لمكان مختلف هو المكان الافتراضي، الذي يجمع هويات افتراضية تنعكس فيها ما تمور به الأماكن الواقعية، بخلق عالم استهلاكي أكبر وأكثر اتساعًا.

ما معنى هذه الضبابية المكانية في النهاية؟ أنا لا يمكنني الوصول الآن إلى تفسيرات إلا بعد المزيد من التدقيق والقراءة، ولكن يمكنني أن أضع أسئلة، ومنها مثلًا هل هذه الضبابية تعبير فنيّ عن عدم استقرار الشخصيات الروائية التي تعبر عنها الروايات التي ذُكِرَت، أم إنها تعبير عن إحساس الكاتب نفسه بالمكان؟ هل ظروف تكون المجتمع الكويتي كمكان حديث نسبيًّا له دور في ذلك بوصف أن مفردات البيئة البسيطة حالَتْ بين تقديم دور أكبر للمكان في الرواية؟

المنشورات ذات الصلة

لم يتم العثور على نتائج

لم يمكن العثور على الصفحة التي طلبتها. حاول صقل بحثك، أو استعمل شريط التصفح أعلاه للعثور على المقال.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *