من التسلية الهزلية إلى الفكر والنقد توظيف الفلسفة في القصص المصورة

من التسلية الهزلية إلى الفكر والنقد

توظيف الفلسفة في القصص المصورة

انتبهت منذ مدة للتناول الفلسفي والأفكار التي تتضمنها القصص المصورة الحديثة في أثناء قراءة مجموعة مسلسلة صدرت في كتاب بعنوان «Injustice»، لتوم تايلور، في إطار نقاش لأحد نوادي القراءة المهتم بالقصص المصورة، تبينت قدرًا من الجدية في الطرح والقضايا التي ولدتها قصص الكتاب، وأظهرت لي جانبًا لم أكن منتبهًا له يتعلق بأن القصص المصورة الأميركية قادرة على طرح عدد من الأفكار المهمة والفلسفية أيضًا.

ثم اكتشفت أن هذه القصص بالفعل أنتجت حركة نقدية من بين مظاهرها كتاب بعنوان «باتمان والفلسفة»، شارك فيه عشرون أكاديميًّا وكاتبًا من المهتمين بعلوم الفلسفة، وهنا أدركت أن الأمر ليس مجرد كتاب، بل ظاهرة. الدهشة التي أصابتني جعلتني أحاول أن أتبين أسبابها، كان أبرزها الانطباعات العامة الشائعة في الثقافة العربية عن القصص المصورة التي تبدو في ثقافتنا بشكل عام مجرد رسوم ساخرة، أو قصص مصورة خرافية أو فكاهية، للأطفال، أو حتى فئات عمرية أكبر، لكنها كما نعلم جميعًا تدور في إطار واحد هو التسلية أو الوعظ، ولا يمكن القول: إن لدينا أساسًا صناعة كوميكس عربية حتى للأطفال؛ لأن أغلب ما ينشر عربيًّا إما مترجم عن لغات أخرى، أو مقتبس منها بشكل مباشر أو غير مباشر.

للأطفال فقط

من بين الظواهر الخاصة بالموضوع وإن بشكل غير مباشر، أن مفهوم القصص المصورة اقتصر منذ نشأته في العالم العربي بوصفه الفن الموجه للأطفال فقط، وانتشرت شخصيات كارتونية عدة منذ مجلة سندباد في مصر في أربعينيات القرن الماضي، مرورًا بمجلتين شهيرتين؛ «ميكي» التي اعتمدت على تعريب القصص المصورة المستلهمة من شخصيات والت ديزني الشهيرة، و«سمير» التي قدمت محاولة جيدة لتمصير القصص المصورة عبر ابتكار العديد من الشخصيات المرسومة المستوحاة من الشارع المصري آنذاك. كما ظهرت شخصيات فرانكفونية عبر قصص شهيرة في مجلة «تان تان»، و«أوستريكس» و«أوبليكس»، و«لاكي لوك»، ثم «ماجد» في الإمارات، بكل ما صاحبها من شخصيات من أمثال كسلان جدًّا، شمسة، دانة، موزة الحبوبة وغيرها، ثم شخصيات بعض المجلات التي ظهرت خلال العقدين الأخيرين؛ من بينها شخصية «علاء الدين» التي تتصدر مجلة تحمل الاسم نفسه، وتصدر عن الأهرام، وتتضمن أيضًا شخصية شهيرة لمتابعي المجلة هي «سوبر عبده» وزوجته سالي، ثم هناك أيضًا مجلة «وسام»، أيضًا «العربي الصغير» وهي واحدة من إصدارات «العربي»، وتقدم العديد من القصص لكبار الرسامين والكتاب العرب، وغيرها الكثير من المجلات.

ظهرت تجارب عربية محدودة خلال السنوات العشر الأخيرة، مثل رواية «مترو» لمجدي الجابري في مصر، وتجربة نايف المطوع في الكويت، وربما إصدارات أخرى محدودة، من بينها مشروع الكاتبة السعودية داليا التونسي في إنتاج كتب للصغار والكبار مصورة حول الأسئلة الفلسفية؛ منها «التساؤلات».

تاريخ مختلف

لكن فن الكوميكس في الغرب تطور بشكل مختلف، إذ إنه مر بتاريخ طويل؛ تشير المصادر المهتمة بتأريخه إلى أنه بدأ على يد الفنان السويسري رودلف توبفر، منذ عام 1827م، ونشر سبع روايات مصورة في 1837م، بعنوان «مغامرات أوباديا»، وكانت هذه القصص المصورة أول ما نشر من النوع نفسه في الولايات المتحدة الأميركية في عام 1842م، وفي عام 1852م نشر الفنان الألماني ويلهلم بوش، بعض القصص المصورة في صحيفة Fliegende Blatte الألمانية، وفي عام 1865م بدأ في إصدار مجموعة قصص مصورة بعنوان: «ماكس وموريتس».

بوب كين

بعض المؤرخين يعزون الريادة في فن القصص المصورة أو الكوميكس، كما يعرف في الغرب، إلى الفنان ريتشارد أوتكولت، الذي نشر قصة مسلسلة بعنوان: «فتى أصفر» في عام 1895م، وكانت الرسوم الأولى التي يصاحبها الحوار بين أبطال العمل مكتوبة في بالونات أعلى كادرات الرسوم، كما هو شائع اليوم. لكن العديد من الصحف الأميركية كانت قد نشرت القصص المصورة قبل هذا التاريخ. وهناك أربعة فنانين آخرون لهم دور الريادة في تحقيق جماهيرية هذا الفن؛ ويليام واندورف، جوزيف بولتزر، جيمس سونيرتون، ورودلف ديركس.

في العشرينيات بدأ الفن في الانتشار على أيدي مجموعة من الفنانين الذين اختاروا المغامرات الخيالية موضوعًا لأعمالهم، لكن منذ نهاية الثلاثينيات ومع ظهور موجة جديدة من المطابع الجديدة في أميركا رغب الناشرون في استثمار التقنية الجديدة في إنتاج كتب مصورة، فظهرت موجة من القصص المصورة أبطالها مجموعة من البشر الذين يتسمون بصفات خارقة؛ أمثال طرزان (رسمه الفنان بيرن هوجارت)، بات مان (ابتكره الفنان بوب كين)، وسوبرمان، والرجل العنكبوت، وسواهم.

وعلى إثر اندلاع الحرب العالمية الثانية في عام 1939م توجهت موضوعات «الكوميكس» إلى قضية واحدة هي السخرية من النازي، ومن شخص القائد الألماني هتلر، واستمرت الموجة حتى نهاية الحرب، ما كان له إرهاصات لاحقة من خلال كاتب أميركي يدعى آرت شبيغل، أنتج كتابًا مصورًا بعنوان: «ماوس»، يتناول قصة رمزية للنازي وما تعرض له اليهود؛ لأن والده أحد الناجين من المحرقة، ونشرت مسلسلة بين عامي 1980-1991م، ثم في كتاب عام 1992م كرواية مصورة، وحصلت على جائزة بوليتزر، وتقريبًا هذا الكتاب الوحيد من نوعه الذي حصل على الجائزة.

بعد الحرب انتعش الفن مرة أخرى، وبخاصة في الولايات المتحدة حيث بدأت موجة ابتكار شخصيات مستوحاة من عالم الحيوان، وبخاصة الفأر الشهير ميكي، وفرخ البط «دونالد»، أصبحت ظاهرة في العالم التي ابتكرها ديزني، وبالتالي نافست الشخصيات الأكثر رسوخًا مثل سوبرمان، وهو ما أسهم في انتشار القصص المصورة في أرجاء العالم، وابتكر البلجيكي هيرجيه شخصية «تان تان»، وظهرت في بريطانيا سلسلتا «البينو» و«داندي»، وانتشرت مرحلة من القصص المصورة التي بدأت تعتمد على الابتكار بدلًا من النقل في عدد من الثقافات وبخاصة في أميركا اللاتينية، ثم في مصر، وغيرها من دول المنطقة في وقت لاحق.

هل يصبح الحق قابلًا لأن يغدو شرًّا؟

أعود لكتاب Injustice، وفيه كان الشر المبذول بسخاء من الجوكر دافعًا ليجعل الظن مرجحًا أن موته سيكون بمنزلة ‏موت للشر، وقد قتله سوبرمان في سلسلة الكوميكس المعروفة باسم «لا عدالة»، التي صدرت بأجزائها الثلاثة عشر جميعًا في كتاب واحد قبل مدة. وكانت ‏السلسلة عرفت أيضًا بعنوان فرعي: «آلهة بيننا»، في إشارة إلى مجموعة الأبطال ‏الخارقين وأبرزهم سوبرمان وباتمان، في مرحلة جديدة يعيشها العالم، المتخيل الذي ‏تقدمه القصص والراهن الواقعي الذي نعيشه، ولا يمكن أن يفوتنا إحالاته في النص ‏المصور الذي كتبه توم تايلور، بمشاركة مجموعة ضخمة من الفنانين الذين رسموا ‏العمل ولوّنوه وأخرجوه فنيًّا، ومن بينهم جيرمي راباك ومايك ميللر. ‏تسبب الجوكر في هدم حلم سوبر مان بقتل حبيبته «لويس»، ومقتل ابن سوبر مان ‏الجنين في بطنها، وهو ما خلق في أعماقه حزنًا وحشيًّا تحول إلى غضب أعمى ‏تمكن من سوبرمان، البطل الخارق؛ ليجعل منه قاتلًا وحشيًّا، إذ تمكن من قتل الجوكر ‏بعد معركة دموية هائلة.

توم تايلور

تثير القصص المتضمنة في السلسلة مشاعر عنيفة وعديدة لدى القراء، ما بين الغضب، ‏والحزن، والأسى، والخوف والتعاطف، لكنها ليست سوى أغلفة للأفكار الرئيسة التي ‏يطرحها النص عن معنى العنف الذي أصبح شعارًا لافتًا للحياة، ‏وإن بدا خارجًا من بطن الجنون فإنه قد يتسبب لاحقًا في دفع العقلاء أيضًا ليصبحوا من مكونات كرة النار التي تلتهم كل شيء وتتضخم يومًا تلو آخر، حتى يبدو ‏العالم مهددًا فعلًا، ليس فقط من جنون الفاسدين وأصحاب المصالح ورموز الشر، بل أيضًا ممن كانوا رموزًا للبطولة الإنسانية الخارقة.

لكنّ تغيرًا عنيفًا حدث لسوبرمان، فبعد أن قتل الجوكر تبيّن له أن حزنه على «لويس» ‏وطفله الذي لم يرَ النور أكبر من أي انتقام، وهو ما جعله يرى أن اللاعدالة تتطلب أن يتغير العالم الظالم. اكتشف فجأة أن كل ما بذله من جهود في إنقاذ ‏العالم لم تنتهِ لشيء، وكان قراره التحول من إنقاذ العالم إلى محاولة السيطرة عليه، ‏لتشهد علاقة صداقته التاريخية مع صديقه الأقرب «فارس الظلام»، أو باتمان، خلافًا غير ‏مسبوق. اختلف الصديقان القديمان، وتعرضت منظومة الحق والخير التي آمنا بها كلاهما ‏دومًا من أجل إنقاذ البشرية لتغيرات قيمية، جعلت كل ما كان حقًّا يومًا قابلًا لأن يغدو شرًّا ‏والعكس.

تضمنت القصص المصورة أيضًا في النص نقدًا ذاتيًّا جليًّا للولايات المتحدة بسبب ‏إلحاحها على تصدير العنف للعالم، لكنه في الوقت نفسه ارتدّ إليها بشكل أو بآخر. ‏ولأول مرة يجد القارئ نفسه مترددًا بين بطلين ينحاز لهما باستمرار. ويغدو كل منهما ‏موضعًا للشكوك والارتياب، ولعلها المرة الأولى التي يظهر فيها البطلان أحدهما ضد ‏الآخر، وعلى الرغم من أنهما كليهما يستخدمان شعارات العدل والحق، فإن القارئ يجد نفسه ‏متشككًا، ففي ظل العنف ليس سهلًا أن يُرى الحق.‏

إنتاج شخصية مثل الجوكر

الحقيقة التي رحت أفكر فيها أنه على الرغم من وجود كل الأبطال الخارقين وقدراتهم الاستثنائية في القضاء على الجريمة فإنهم لم ينجحوا، وطبعًا جانب من النقد الذي توجهه القصة أن مدينة جوثام شاركت في أعمال عنف خارج أرضها، بدلًا من التركيز على جهودها لمكافحة الجرائم داخل حدودها، وفي إحدى القصص نرى بطلة من البطلات التي تذهب لمقديشيو لإنقاذ النساء هناك بعد أن أصبحن ضحايا حروب أهلية سببها وجود السلاح مع الرجال بلا رادع. تقول البطلة: إن عقدين من توزيع السلاح كفيلان بأن يؤدي إلى هذه النتيجة. بقول آخر يبدو أن تراكم إنتاج هذه المجموعات الخارقة كان لا بد أن ينتج عنه شخصية مثل الجوكر.

مع التراكم المستمر للإنتاج الهائل يعد اليوم بين أبرز ما أضافته هذه ‏الصناعة للثقافة في الغرب، أنها فتحت مجالًا نقديًّا مبتكرًا يخص نقد القصص المصورة ‏وتأمل المنتج فلسفيًّا وفكريًّا وأسلوبيًّا. كما هو الأمر في كتاب مثل: «باتمان ‏والفلسفة: الخوض في روح فارس الظلام»، وهو الاسم الرائج لشخصية باتمان. ‏ومن الجميل أن الكتاب صدرت له ترجمة عربية أخيرًا أنجزها المترجم ‏العراقي المجتبى الوائلي، عن دار نابو للنشر والتوزيع. ‏وينتمي للدراسات الثقافية ما بعد الحداثية، ويتضمن مشاركة عشرين باحثًا وناقدًا، ‏وحرره وأعده كل من مارك د. وايت، وروبرت آرب.

يقدم الكتاب محاولات متتابعة لتأمل حكايات وشخصيات أبرز القصص المصورة ‏التي تناولت شخصية باتمان، سواء كان فيها بطلًا أو بوجود الأبطال الخارقين الآخرين، خصوصًا سوبرمان، أو أي من مجموعات الخوارق. ‏ويتناول مؤلفو الكتاب، وهم جميعًا، وعددهم عشرون كاتبًا، أساتذة في الفلسفة وعلم ‏الأخلاق في جامعات أميركية مختلفة، المسائل الفلسفية والأخلاقية التي تفرضها الوقائع ‏أو المضامين التي تناولتها القصص المصورة التي شارك الرجل الوطواط في بطولتها.

أسئلة من قبيل الموقف الأخلاقي في حال منع الجوكر من تنفيذ جريمة قتل مثلًا، ‏والاكتفاء بعقابه في المصحة بدلًا من قتله. فهل هذا الموقف للرجل الوطواط أخلاقي؟ ‏هل اعتقال الجوكر سيمنع من هروبه مرة أخرى والعودة إلى الجرائم الشنيعة التي يقوم ‏بارتكابها؟

ثم على مستوى آخر، وفي فصل آخر يطرح السؤال حول طبيعة المسؤولية الأخلاقية ‏حول ما يقوم به الجوكر من أعمال لا يمكن وصفها إلا بالوحشية والتمثيل بضحاياه بدم ‏بارد، فهل يمكن عدّه مسؤولًا عنها أم إنه مجنون أو مختل عقليًّا وبالتالي فلا يتحمل ‏مسؤولية أفعاله كما هي نظرة المجتمع للمجنون؟ ما تفسير الضحك الذي يمارسه ‏الجوكر وهو يمارس جرائمه الوحشية؟ ما الرسالة التي يتبناها الفعل المستفز؟ ‏وللإجابة بطبيعة الحال يتنقل المؤلف حول نماذج من سلوكيات الجوكر وتحليلها نفسيًّا، ‏ثمة أيضًا إشارات إلى دراسات مهمة حول موضوع الجنون؛ من بينها الدراسات الشهيرة لفوكو ‏حول الموضوع. وثمة خلاصة ترى أن الضحك في التحليل النهائي دليل على أن ‏الجوكر فاقد تمامًا لإرادته الحرة، وبالتالي ليس مسؤولًا عن أفعاله. ‏هنا ينتقل سؤال المسؤولية الأخلاقية لطرفين؛ السلطة التي لا تستطيع وقف الجوكر ‏عند حده، وباتمان طبعًا بسبب الكيفية التي يتعامل بها مع الجوكر وموقفه الثابت بأن ‏كبحه ومنعه يتوقف عند إيداعه المصحة وليس قتله.

ثم نجد فصلًا يتأمل فعل الكراهية عند باتمان أو الرجل الوطواط، فإذا كان المفترض أنه ‏يلاحق المجرمين والأشرار، ويسعى ليخلص المدينة من الجريمة والشر، فما ‏مشاعره تجاه هؤلاء المجرمين؟ أهي الكراهية؟ فكيف يكون للكراهية محل في مشاعر ‏هذا المخلوق الخيِّر؟

أو مثلًا بالنسبة لعلاقة الرجل الوطواط بابنه روبن، هل يتمتع كأب بالقيم التربوية ‏الحقيقية التي تجعل منه أبًا نموذجيًّا؟ ما القيم التي نقلها للابن في ضوء الخلافات ‏على تقييم مواقفه من بعض الأخلاقيين؛ لأنه يمارس العنف أيضًا مع بعض ‏المجرمين؟ ‏وأساسًا في مدى أحقية أو صوابية أن يجعل من روبن شريكًا في مكافحة الجريمة وخوض مجال خطر كهذا؟

في كل مسألة مما سبق الإشارة إليه قدمت ملخصًا وجيزًا لفكرة تُتناوَل في فصل ‏من فصول الكتاب، الذي يقوم كاتبه بالتمثيل بنماذج من القصص المصورة أو الأفلام ‏المأخوذة منها. وتخضع لأفكار فلسفية مختلفة، ثم يتقدم الكتاب من فكرة ‏لأخرى: هل فارس الظلام دائمًا على حق؟ العدل والقانون، المسؤولية الأخلاقية، الدور ‏الاجتماعي للدولة، إدارة جوثام، ثم أزمة الهوية لدى باتمان نفسه، وطواط أم هو ‏المحقق برواس واين؟ أهو ضحية مقتل والديه في الطفولة أم إنه يشارك المجرمين ‏أحيانًا العنف من أجل التخلص من خصومه؟ ثم الصداقة أيضًا في علاقته بسوبرمان ‏كيف تناولتها القصص المصورة؟ كيف يمكن استخلاص مفهوم الصداقة من هذه ‏العلاقة؟

الفلسفة ونظامنا التعليمي

لماذا أعتقد أن الموضوع مهم، أي علاقة الفلسفة بالقصص المصورة؟ أولًا، لأني أرى أنه يجب أن يدفعنا لإعادة التفكير في إنتاج القصص المصورة لدينا، وتضافر الجهود من أجل إنعاش هذا الفن، خصوصًا في المرحلة الراهنة التي شب فيها جيل جديد يتلقى المعلومات والمعرفة والتسلية بالمادة الفِلْمية، بالصورة المتحركة، ما يفقدهم القدرة على التركيز في قراءة النصوص المكتوبة، بينما العلاقة بين الصورة والمادة المكتوبة سيكون لها دور مهم في اجتذاب ميولهم نحو القراءة، وهو بالمناسبة تقريبًا ما حدث نفسه لأغلب محبي القراءة من جيلي ومن بعدي بجيلين على الأقل. الأمر الثاني أنني منذ مدة مهتم جدًّا بفكرة أهمية تدريس مبادئ الفلسفة في مراحل التعليم المدرسي في عالمنا العربي، وهي فكرة طبقت في اليونان وعدد من دول أوربا من أجل تنمية الحس النقدي والعقلاني عند الطلبة، وعربيًّا أعلنت السعودية مؤخرًا أنها في الطريق لإضافة مواد فلسفية لسنوات التعليم الدراسية في المدارس.

أي أن القصص المصورة قد تكون وسيلة داعمة لمناهج تعليم الفلسفة من جهة، وأيضًا قد يؤدي هذا المنهج إلى خلق نوع من الحيوية التي تضخ في دماء القصص المصورة العربية، وهذا بلا شك سيكون له أثر كبير في القراءة والتعليم والفلسفة معًا.

اقتفاء أثر المكان في الرواية الكويتية المعاصرة بِمَ نفسر الضبابية المكانية لدى الروائي الكويتي؟

اقتفاء أثر المكان في الرواية الكويتية المعاصرة

بِمَ نفسر الضبابية المكانية لدى الروائي الكويتي؟

في رواية «ناقة صالحة» لسعود السنعوسي تقول الراوية؛ صالحة في أحد مواضع رحلتها في تيه الصحراء على أمل أن تصل للكويت: «أتكون الكويت سحابةً تبشر بما لا يجيء؟ أم سرابًا يضنيه نأي أبدي؟ أم نجمةً ترشدنا إلى كل الدروب إلا دربًا لا يؤدي إليها».

وجدت في هذه العبارة توصيفًا قريبًا لما أشعر به تجاه غموض صورة الكويت في النصوص السردية الكويتية المعاصرة، وربما تصلح هذه الفقرة لأنْ تكون فقرة جوهرية لو أن هذه الورقة تهتم بصورة الكويت في النص السردي، ولكن الحقيقة أن هذا ليس همي هنا، وإن كان من مواضع اهتمامي، بقدر ما ينصبّ اهتمامي على تتبع فكرة المكان السردي في النص الكويتي، وأسباب انزياحه أو ترسخه في هذا النص أو ذاك، ودلالات ذلك فنيًّا وأدبيًّا، وأيضًا على مستوى تعبير ذلك عن الهوية الكويتية، وانعكاس هذا كله على مفهوم الزمن في السرد الكويتي المعاصر.

لا شك أن أي مجتمع يتأثر أساسًا بالمكان، الذي يأتي كجزء أساسي من البيئة ‏التي تؤثر في أهل المكان وسكانه، ولهذا يشيع مثلًا أن سكان المدن الساحلية يألفون الغرباء ‏والأجانب أكثر من غيرهم بسبب علاقتهم بالبحر، وأن سكان الصحراء يختلفون عن سكان ‏الجبال في العادات والتقاليد والسلوكيات. ‏وإن الرحالة من البدو في الصحاري مثلًا أو الغجر في مراعي أوربا وغيرها لهم سلوكيات مرتبطة بهذا اللون من الحياة التي لا تعرف استقرارًا في مكان واحد كما هو شأن أهل القرى أو المدن. وليس هذا فقط، بل يتأثر المكان بفكرة الزمن بسبب ارتباطهما بعلاقة جوهرها حركة المكان ‏في الكون الذي يصنع إحساسنا بالزمن.

في بحثي في الأمر لم أفتش عن كتب معروفة باحتفائها بالمكان، بل تناولت على نحو عشوائي تقريبًا نحو 30 عملًا روائيًّا من أعمال كتاب كويتيين من جيل الوسط والشباب، وبدأت أتأمل تناول هذه الأعمال للمكان. وبداية قد يصح القول: إن المكان في السرد هو بناء مبنيّ باللغة، ليعبر عن فضاء مكاني متخيّل يضم شخصيات محددة تقوم بسلوكيات تضيف إلى المكان، أو تتأثر به؛ أي أنها تتحرك وفق قيم معينة مرتبطة بالمكان وسكانه، ثم تؤثر فيه من جهة أخرى.

على سبيل المثال حين أسس محفوظ عالم الحرافيش، فقد اخترع حارة سردية، ربما يكون لها أصل في الواقع لكنها أخذت في النص بعدًا خياليًّا يخص العالم الروائي الذي تجسده شخصيات العمل ومصايرهم. وكذلك عبدالرحمن منيف، وماركيز وسواهم.

وعلى نحو شخصيّ، وهنا قد تتدخل خبرتي ككاتب روائي أعد المكان عنصرًا أساسًا من عناصر النص، وأن النص ينبغي أن يتضمن هذا الوعي بالمكان حتى لو قرر الكاتب إزاحته عن وعي، فكما يقول حسن بحراوي:‎ «‎إن الوضع المكاني في الرواية يمكنه أن يصبح محددًا أساسيًّا للمادة الحكائية ولتلاحق الأحداث ‏والحوافز، أي أنه سيتحول في النهاية إلى مكوّن روائي جوهري ويحدث قطيعة مع مفهومه كديكور». وهكذا يدخل المكان في الرواية عنصرًا فاعلًا، في تطورها، وبنائها، وفي طبيعة الشخصيات التي تتفاعل ‏معه، وفي علاقات بعضها ببعضها الآخر‎.‎

والسؤال الآن هو: كيف قدمت الرواية الكويتية المعاصرة فلسفتها الخاصة للمكان؟ حين نتأمل الرواية الكويتية التقليدية سنجد غالبًا مكانًا تقليديًّا بسيطًا، محدداته البحر والفريج أو الحارة. البحر كساحل يعيش الناس قريبًا منه، يرتاحون إلى وجوده ويرون فيه رمزًا للأمل وموارد الحياة التي تصل بها السفن من مياه الشرب ومواد الغذاء والبضائع، وهو من جهة أخرى، مصدر الرزق بوصفه موضع الغوص ومكمن ثروة اللؤلؤ الذي يتعيش عليه كثير من السكان، أو محل الرزق الناتج عن عمليات الصيد، ولهذا سنجد أن البحر مشترك في أغلب الروايات الكويتية، سواء أكانت الإشارة إليه مقتضبة أو تفصيلية، من الرواية الكلاسيكية حتى النصوص المعاصرة الحديثة التي يكتبها الشباب.

أما المكان الثاني الذي تدور فيه أحداث أغلب الروايات الكويتية فهو الفريج أو الحارة في الروايات التي تتناول كويت ما قبل الثروة النفطية، أو بعض الشوارع والمباني الحديثة في روايات تتناول كويت ما بعد الستينيات حتى اليوم. والمكان الثالث الذي يأخذ موضعًا رئيسًا أو هامشيًّا في النص حسب موضوعه هو الصحراء؛ لكونها الطريق إلى الكويت، أو موضع واحات القبائل المختلفة التي تنتمي للمناطق التي تحيط بها الصحراء.

ومن خبرتي المتواضعة في قراءة الأعمال الأدبية الكويتية التي أتيحت لي قراءتها سواء للرواد وجيل الوسط ثم الجيل الجديد، لم أجد إجابة عن سؤال افتراضي سألتُه نفسي من أجل هذه الورقة: هل هناك رواية مكان كويتية؟ ولا أظن أن هناك رواية كويتية يتوافر فيها هذا الشرط، أي أنها جعلت من المكان بطلًا مع استثناءات بسيطة، أما الأمر الثاني فهو بطبيعة الحال مراوحة التجارب؛ لأن هناك تجارب فيها تعدد وتراكم وتنوع لطبيعة المكان الذي تتناوله كفضاء أو كرمز مثل روايات إسماعيل فهد إسماعيل؛ لأنه استخدم المكان بأشكال عدة، واستخدم أيضًا أماكن فنية واقعية تعددت مواقعها الجغرافية على خارطة العالم العربي إضافة، طبعًا، إلى الكويت، وتجارب عدة تناولت البيئة المحلية وركزت في أغلبها على البيئة الكويتية قبل النفط وبعده، مثل تجربة ليلى العثمان.

في تجربة إسماعيل فهد إسماعيل هناك تنوع كبير في طبيعة المكان الروائي في النصوص، فهناك روايات اتخذت من القاهرة ملعبًا لأحداثها وأخرى من لبنان وسوريا والعراق ولندن، سواء تداخلت مع البيئة الكويتية أم لا، وهناك فضاءات رمزية مثل الطائرة في «مسك»، أو مبنى الملجأ في «الشياح» أو مقر الأسرى الكويتيين في جانب كبير من رواية «طيور التاجي»، وهنا يأتي المكان الضيق الخانق كسجن للفرد، لكنه ينطلق خارجه بالذكرى أو بالأمل أو بتداعي الذكريات. وهناك بعض التجارب التي قدمت أيضا المكان الكويتي كديكور، أو كمكان هندسي أكثر منه روائيًّا، كما سأوضح لاحقًا.

رواية اللامكان

ثمة روايات عدة يبدو موضوع المكان فيها رمزيًّا، تحتفي نصوصها بالشخصيات وحواراتها وحركاتها البسيطة التي غالبًا ما تدور في أماكن مغلقة، وهي تبدو جلية أنها تعبر عن الواقع الكويتي وبشخصيات كويتية، لكنها لا تنتبه للمكان على أي نحو. المكان بالنسبة لها محايد، لا تأثير له في الشخصيات. وهي نصوص يبدو المكان فيها موجودًا لكن لا يمكن تصوره بالتفصيل، بمعنى أنه نص لا يقدم لقارئه خصوصية ما للمكان، يكتفي بالرتوش التي تعطي الفضاء الذي تجري فيه الأحداث تحديدًا ولكن بلا تفاصيل، تبدو فيه الشخصيات مشغولة بذواتها تمامًا، وغارقة في مشكلاتها إلى حد عدم قدرتها على التقاط أية تفاصيل أخرى، سنجد ذلك في رواية مثل «الدرك الآخر» لخالد النصر الله، صحيح أن الأحداث تقع في شقة تقع في أحد الأبراج، وفي منطقة محددة هي بنيد القار، لكن لا يوجد تفاصيل أخرى لموقع هذه الأبراج وخصوصيتها للمدينة أو الشخصيات. تبدو أعمال خالد النصر الله عامةً غير مهتمة بتحديد المكان، هو فضاء عادة لأحداث ينشغل بها أبطال العمل.

هويته أيضًا في رواية «جليلة» لحمود الشايجي مثلًا سنجد أن فضاء الرواية يبدأ من الصحراء في نجد، ثم ينتقل إلى مناطق صحراوية أخرى، ويتوقف في إثيوبيا لنعرف تفاصيل لها علاقة بجذور البطلة التي أضحت عبدة لدى تاجر من الجزيرة سينتهي به المقام في جزيرة فيلكا الكويتية لاحقًا. وستتركز الأحداث تدريجيًّا في هذه الجزيرة الصغيرة ويغدو موضع بناء يشبه الفنارة سوف يراه بعضهم مقامًا هو مركز من مراكز الأحداث، مع ذلك سنلحظ أن صورته ضبابية لم يهتم الراوي بوضع تفاصيل دقيقة له؛ لأن المركز بالنسبة للنص هو الأحداث والشخصيات والحوارات الطويلة التي تأتي متكأً موازيًّا للسرد الوصفيّ في تقديم تطور الأحداث وما يتعرض له أبطال العمل. ولا أظن أيضًا رغم طول هذا العمل أن تتكون لدى القارئ صورة عن الكويت أو فيلكا. لا توجد مشهدية؛ لأن الطابع المسرحي الحواري تغلب على النص الذي تحيز للحكاية ووصف الطقوس التراثية على حساب المكان. أي أن المكان هنا رمزي في الأغلب.

في أغلب أعمال بثينة العيسى لن تجد ملامح الأماكن، هناك تركيز على مشاعر الشخصيات، الحب أو الغضب أو الغيرة، خصوصًا مثلًا في «عروس المطر»، على عكس ما تبنته أعمال أخرى مثل: «خرائط التيه»، أو «كل الأشياء»، كما سنرى لاحقًا.

ليلى العثمان

وقد لا نجد تفاصيل خاصة بالمكان في رواية مثل: «لا تقصص رؤياك» لعبدالوهاب الحمادي أيضًا، لكن يبدو في هذا النص أن تجاهل المكان هو نوع من رفض الأبطال أنفسهم للمكان، سواء بأن يرى فيه بعضٌ محلًّا للتكسب فقط، أو يرى فيه آخرون مكانًا يرفضون ما يجري فيه ويأتي تجاهل المكان هنا كما لو أنه متسق مع هذا الرفض. لكن مع ذلك سوف نجد بين فينة وأخرى إشارة دالة على مكان ما مثل منطقة المهبولة على لسان إحدى الشخصيات التي تشير إلى أنها منطقة عبارات متشابهة طرقها غير مرصوفة، أو نجد شخصية يوسف وهو يدور حول دوار يقع أمام أحد القصور ويحاول أن يقرأ المكتوب على باب القصر فلا يستطيع فيعاود الدوران أكثر من مرة حتى يتمكن من القراءة، وكذلك يصف بعض الأبنية الرسمية باقتضاب لكن له دلالات خاصة. مع الأخذ في الحسبان أيضًا أن جانبًا كبيرًا من سرد ينبني على ذهنية البطل الذي يكره الآخرين ويصاب بكوابيس يريد أن يجد من يفسرها، وبعض الأماكن في الحلم كابوسية أيضًا. مكان مراوغ مثل شخصيات الرواية. لكن الأمر يختلف في روايته الأحدث ولا غالب؛ لأنها تدور في جانب منها في غرناطة، ويغدو وصف المكان ضرورة، ليس فقط لأجل تقديم روح المكان المعاصر، بل في الماضي حيث يستخدم حيلة ذكية تشبه السفر في الزمن، عبر قبو سري في قصر الحمراء، وفي التنقل بين المكان الكويتي وبين المكان الأندلسي تتحرك أفكار الراوي حول الهوية وأسئلة الرواية.

ثمة روايات يبدو فيها المكان محدودًا مثل: «حكايات صفية» لليلى العثمان؛ حيث يبدو عالم صفية محدودًا لا يتجاوز غرف البيت، أو السطح الذي تطل منه على عالم الفتيان، ولكنها على الرغم من كل ما تمر به من مآسٍ ومغامرات، تقريبًا فإن عالمها كله محصور في هذه الزاوية، وحين خرجت منه فقد اتجهت إلى بيت الوناسة، ثم إلى السجن. فقد كان قدرها أن تعيش داخل جدران خانقة، لكنها كانت تحاول أن تعيش حياتها كما يفرض عليها جسدها داخل كل تلك الزنازين.

أيضًا سنجد أن بطلة رواية «ثؤلول» لميس العثمان لا تغادر حيز البيت الذي كان كل عالمها وعالم أغلبية الكويتيين في أثناء الغزو، والبطلة التي يحاصرها الغزو، ستظل حبيسة هزيمة جسدها، والعار الذي ألبسها إياه الغازي من جهة، وتواطؤ أهلها أيضًا، لا تغادر هذا الحيز إلا لمدة تغادر فيها إلى القاهرة من أجل مولد طفلها، ثم تعود لتواجه قدرها الجديد.

وهذا مثلًا على العكس من تناول المكان كديكور، أو باستخدام المكان كشكل هندسي من دون وجود دلالة محددة، وسنجد مثل ذلك مثلًا في رواية «سمر كلمات» لطالب الرفاعي، فأبطال العمل الذين يبدأ صوت كل منهم في فصل مختلف تقريبًا في التوقيت نفسه أو قريبًا منه أي الساعة 11، نجد كلًّا منهم يبدأ مونولوجه وهو يصف ما حوله. مثلًا نجد إحدى شخصيات الرواية تقول: على يميني مبنى مجلس الأمة ويساري الخليج، أو أن يسمي أسماء ثلاثة شوارع سيتخذ هو أوسطها، أو أن يقف عند إشارة ضوئية في بداية الشارع الفلاني، وهي جميعًا تقدم بلا وصف محدد، أو دلالة تؤثر في الأحداث، وأيضًا لا يمكن تفسيرها بولع شخصية ما من الشخصيات بأن تحصي مثلًا أعمدة إضاءة أو تقرأ اللافتات لأن البطلة وشقيقتها وصديقها وكل أبطال العمل لديهم السمة نفسها! سنجد في مواضع من القسم الخاص بالراوي الكاتب صديق البطلة وحبيبها، أحيانًا ارتباط المكان بذكريات الطفولة، ولكن من دون أوصاف مسهبة للمكان أو لبيت الطفولة؛ لذلك أعتقد أن هذا التناول للمكان هندسي ولا يدخل في إطار الوعي الفني بالمكان.

المكان بطلًا

لكن ثمة بعض الروايات التي أخذ المكان فيها حيزًا واسعًا؛ إما من خلال استخدام المكان لخدمة موضوع الرواية، أو بمنح المكان بعض السمات التي أسبغت إضافات فنية على النص. من بين هذه النصوص مثلًا رواية «فئران أمي حصة»، وهي رواية ديستوبيا، يأتي فيها المكان بداية كمجال لمقارنة ذكريات بطل العمل بين زمنين، ومقارنته بين المكان القديم وبين ما طرأ عليه، من شكل الأحياء إلى أسماء المدارس، مثلًا وتفاصيل سكان الحي قديمًا ومصايرهم، بحيث يشعر القارئ من مقارنة أو تتبع التغيرات التي طرأت على المكان، بالزمن، كما لو أن ملاحظة تغيرات المكان هي وصف لزمنين مختلفين أو متناقضين.

تتداعى الذكريات بأسماء مرتبطة بوقائع حدثت في أحياء بعينها، وتلوح السدرة أو النخلة رمزًا من رموز المكان. بل إننا سنرى في الجزء الديستوبي في الرواية وجود نهر اختلق في النص وليس له وجود في الواقع ولكنه يمتلئ بمياه كريهة الرائحة وراكدة. وسوف نلحظ غياب وجود البحر تمامًا في هذا النص، كأنها إشارة رمزية إلى أن المدينة المستقبلية التي تتعرض لكراهية المتناحرين من أبنائها بسبب الانغلاق وغياب مظاهر التسامح والانفتاح على الآخر، وهي السمة التي يعرف بها عادة أهل السواحل والمدن التي تقع على البحر، يغدو بديهيًّا ألا يلتفت فيها أحد إلى البحر أو الخليج. كما شأنه في زمن الغزو حين اسودت السماء أعلاه وأصبح موضعًا ملوثًا وقاتلًا للنوارس والطيور. وبشكل عام تمتلئ هذه الرواية بالتفاصيل التي تجعل من المكان بطلًا من أبطال العمل.

رواية الصهد

رواية «الصهد» لناصر الظفيري، من الروايات التي يحتلّ المكان فيها موضعًا واضحًا من بدايات العمل الذي يصف الصحراء وسكانها ويغزل من السطور الأولى علاقة مركبة بين تنقل هؤلاء السكان الرُّحَّل وطعامهم ومساكنهم المصنوعة من وبر الماعز الذي يرعونه، وهم في الوقت نفسه تنتقل سيرتهم، وسيرة كل حياة في الصحراء كما يبدو من خلال الريح.

يجعل الراوي من الرياح كائنًا حيًّا هي التي تنقل الحكايا، وهي التي تبقى صامتةً ما بقيت الصحراء خاليةً من البشر، فإن هم حلُّوا حلَّتْ قدرتها على صياغة الحكايات، ونقل التراث. فكأنما يسبغ النص هنا لونًا من ألوان أَنْسَنَة المكان؛ ليصبح برياحه كائنًا ينافس الراوي في نقل تاريخ المكان، وفي صياغة شائع ما يردده الناس عن كرم شخص أو شجاعة آخر. ولأن الرواية تتناول جانبًا آخر من حياة أجيال جديدة فإنها تنتقل إلى الكويت المعاصرة، وتحاول أن تنقل لنا شكلًا معاصرًا، للمدينة، للمقاهي، للشقق، ومبنى الجامعة، وتبدو رمزية المكان دائمًا موجودة في أغلب المشاهد، بين البطل وصديقته التي تشاركه همّ الجنسية المفقودة، أو حين يصف المغتربين في مقهى بأنهم يبدون كأنهم بلدان على خارطة الغربة، ووصولًا إلى كندا التي يقرر الراوي الهجرة إليها وتصحبه الفتاة ليالي التي تعاني حياةً قاسيةً ومشتتةً؛ بسبب غياب أبيها وحياتها مع زوج أم يدمر حياتها. تبدأ الرواية بالصحراء وتنتهي بالتلال، تبدأ بالحرارة وتنتهي بقلب بارد مثل برودة جليد الغربة.

ومن الروايات التي احتلّ فيها المكان مساحةً لافتةً أيضًا رواية «كل الأشياء» لبثينة العيسى التي تختار موضوع الحرية والمنفى، وتستخدم المكان في هذا الطرح، فما بين الوطن والمنفى الاختياري في لندن وبين جدران السجن، تدور الوقائع وتتداعى الذكريات، وتتداعى أيضًا رموز المكان: الزرقة للبحر المرادف للماضي، ورائحته عبقًا يذكر العاشق بحبيبته ومواضع التراث في السوق العتيق، رواية تستعيد تفاصيل المكان من أجل رثاء ماضٍ بقدر ما تحزن على فقدانه يحدوها أمل بأن يأتي بثوب جديد، ونرى الكنيسة محلًّا آمنًا للعاشقين أيضًا في لمحة رمزية كاشفة.

«لا موسيقا في الأحمدي» لمنى الشمري أيضًا من الروايات التي يمكن عدّها رواية مكان بامتياز، تحتفي بالمكان بشكل كبير، وتأثير المكان واضح في أبطال العمل الذين يعيشون في منطقة الأحمدي، وتتوزع حياتهم بين الجزء من الأحمدي المطلّ على البحر بكل ما يحيل إليه من تراث وسكينة وماضٍ، وبين مدينة سكن موظفي شركة النفط ذات الطابع الغربي، تدخل بنا الراوية للبيوت السكنية، ونرى كيف يمكن أن يجسد مكان موضعًا للحب رغم أنه بيت زوجة الأب، وبيتًا آخر يمثل موضعًا للضغينة رغم أنه بيت الأم، ونرى نموذجًا للانفتاح والتسامح في جانب، وتزمُّتًا في آخر، وبينهما ندخل إلى الحسينيات، ونرى الشوارع ونشمّ شذى شديد الخصوصية. وسنرى أيضًا حين ينتقل النص للصحراء أن جانب أَنْسَنَتِها موجود أيضًا.

أما نص «صندوق الأربعين» لميس العثمان، فيتشكل فيه المكان من شذرات كثيرة تتناثر على امتداد النص الذي يعدّ نصًّا سرديًّا حرًّا، يجمع السيرة بالتخييل، وتلعب الذاكرة فيه دور البطولة على مسارح عدة؛ كلّ منها يمثل موقعًا، من عدد أعمدة الإنارة أو الشبابيك في مبنى المدرسة أو مبنى حكومي، الحديقة السرية لعاشقين، سوق السالمية القديم، مشاهد من الأحمدي التي يشتبك استدعاؤها بوجوه وملامح. وصف البيت الخشبي القديم المبنيّ على الطراز الريفي الإنجليزي، ثم البيت الجديد في منطقة السرة، والمدرسة، وتفاصيل صغيرة ودقيقة ترتبط فيها الأماكن بملامح وملابس ولمحات مقتنصة من عمر بشر تجسد معًا لمحات مقتنصة من عمر وطن.

في «سلالم النهار» لفوزية شويش السالم يحضر مكان مختلف هو ما يمكن تسميته الشوارع الخلفية، فالرواية تتناول شخصية مهمشة وفقيرة ولديها معاناتها. البطلة فهدة تعلن من البداية تأثير المكان فيها مؤكدة أن حياة الأزقة والشوارع علمتها مواجهة الحياة بصفاقة وفجاجة وبرد الأذى بمثله، فتغدو الشوارع مخيفةً لغير أبنائها. أما لأهل الشارع فهي الأمن والأمان لأنها مختلطة بروائح ونكهات كل ما يكون نسيج الحياة فيها. مع تأكيد تناقض حياة البطلة في شوارع تعرفها لكنها لا تعترف بها كمواطنة.

الصحراء

من الأماكن ذات الخصوصية التي تَناوَلتْها نصوص كويتية الصحراء، وخصوصًا في رواية «طعم الذئب» لعبدالله البصيص؛ لأن البيئة الصحراوية التي توصف بمشهدية ودقة ملاحظة لا تبتغي الوصف قدر ما تنقل أيضًا مفارقة تحول شخص مسالم فرد يجد نفسه عرضة للعنف من جبهات عدة، وحين يقرر الفرار بعد أن عرضته المفارقات لأن يغدو قاتلًا، يجد نفسه في تيه الصحراء وحيدًا في مواجهة ذئب، حبيسًا في جحر، وينتهي الأمر به إلى الاستذئاب، كحلٍّ وحيد تطرحه الرواية في مواجهة ذئاب البشر والصحراء معًا. في «قطط إنستغرام» لباسمة العنزي، هناك طرح لمكان مختلف هو المكان الافتراضي، الذي يجمع هويات افتراضية تنعكس فيها ما تمور به الأماكن الواقعية، بخلق عالم استهلاكي أكبر وأكثر اتساعًا.

ما معنى هذه الضبابية المكانية في النهاية؟ أنا لا يمكنني الوصول الآن إلى تفسيرات إلا بعد المزيد من التدقيق والقراءة، ولكن يمكنني أن أضع أسئلة، ومنها مثلًا هل هذه الضبابية تعبير فنيّ عن عدم استقرار الشخصيات الروائية التي تعبر عنها الروايات التي ذُكِرَت، أم إنها تعبير عن إحساس الكاتب نفسه بالمكان؟ هل ظروف تكون المجتمع الكويتي كمكان حديث نسبيًّا له دور في ذلك بوصف أن مفردات البيئة البسيطة حالَتْ بين تقديم دور أكبر للمكان في الرواية؟