المقالات الأخيرة

الإبــداع أمام أســئلة مُـحرجة

الإبــداع أمام أســئلة مُـحرجة

في خضـمّ التحولات المتتابعة، الحاملة لأوضاعٍ تحاصِـُر وتخلخل موروث الحضارة الإنسانية من المنجزات والـقيَـم، تـبرزُ أسـئلة محرجة تـتصل بالإبداع في أشكاله المـتـباينة ورهــاناته الآنـية والمُستـقبلية؛ ذلك أن الشـطط في التعامل مع الطبيعة وما آلـتْ إليهِ البيئة من تدهوُر...

اتجاهات دراسات الأدب العربي منذ تأسيس الصين الجديدة

اتجاهات دراسات الأدب العربي منذ تأسيس الصين الجديدة

بسبب «المركزية الغربية» التي أثرت في دراسات الأدب في الصين، عانت دراسة الأدب الشرقي التهميشَ من ناحية العدد والنوعية. فعلى الرغم من أن الصين كانت قد بدأت في القرن التاسع عشر، الترجمة من اللغة العربية إلى الصينية، فإن ذلك لم يتجاوز ترجمة بعض سور القرآن الكريم وقصيدة...

ثورة المسلمين الأفارقة في البرازيل سنة 1835م

ثورة المسلمين الأفارقة في البرازيل سنة 1835م

في أوائل القرن التاسع عشر، كانت البرازيل تحت حكم الإمبراطورية البرتغالية، ثم حققت درجة من الحكم الذاتي مع إنشاء ما سمي حينها بـ «المملكة المتحدة للبرتغال والبرازيل والغرب» في عام 1815م. ولم تعلن البرازيل استقلالها إلا في عام 1822م، حين تشكلت إمبراطورية البرازيل. على...

إميل بنفينيست مُتلفِّظًا راهنية مشروعه وملاءمته

إميل بنفينيست مُتلفِّظًا راهنية مشروعه وملاءمته

في حديث مع الأستاذ مصطفى غلفان في أحد مطاعم الرباط منذ أشهر أشدت بالمنجز العلمي لإميل بنفينيست في مجال اللسانيات العامة بالنظر إلى دوره في إحداث الطفرة من الإبدال البنيوي إلى الإبدال ما بعد البنيوي. وهي ثورة لا تقل أهمية وشأنًا عن الثورة الكوبرنيكيَّة التي أحدثها...

في مديح القراءات القصيرة… أثر قراءة الكتب القصيرة في عصر السرعة

في مديح القراءات القصيرة… أثر قراءة الكتب القصيرة في عصر السرعة

القراءة هواية عزيزة على قلوب كثير من الناس، فهي تفتح لهم بوابة إلى عوالم وأفكار وتجارب جديدة، لكن للأسف أدت العولمة وثورة تقنية المعلومات إلى تغيير أسلوب حياتنا التقليدي بشكل دراماتيكي في شتى مناحي الحياة. والواقع أن هذا أدى بدوره إلى إثقال كاهل العديد من الناس...

لغة الدين تحاول تصوير ما لا صورة له

بواسطة | مايو 1, 2025 | مقالات

«لغة الدين» مصطلحٌ غيرُ معروف في الدراسات الدينية والفلسفية والألسنية العربية على نطاق واسع، على الرغم من أنه أحدُ أهمّ الموضوعاتِ والأركان المحورية لفلسفة الدين الحديثة، وأن توطينَها في دراساتنا الدينية يوفر لنا مرآةً نرى فيها النصوصَ الدينية من زاويةٍ مختلفة عن النظر المكرر إليها من الزاوية ذاتها، ويفتح لنا نافذةً أخرى على فهمٍ للدين ونصوصه يتخطى النظرةَ السطحية، من خلال تحديدِ ماهيةِ نصوصِه، وهل هي نصوصٌ تخضع لمنطقِ فهمِ اللغة العرفية، أم إنها لغةٌ أخرى تمتلك منطقَها الداخلي الخاص، وتتحدّث عن معانيها بطريقتها الخاصة، وإن كانت كلماتُها مشتركةً مع اللغة العرفية.

لغة العلم ولغة الدين

لغة الكتب السماوية ليست رمزيةً في كلِّ شيء تتحدث عنه، باستثناء الحقائق الغيبية. اللغةُ المستعمَلة في الكتب السماوية والنصوص الدينية تارةً تكون رمزية، وهي اللغة الدالة على حقائق غيبية، وتارةً أخرى تخضع في دلالاتها لما وُضعت له ألفاظُها من معانٍ يتداولها أهلُ اللغة في التفاهم بينهم، كما في موارد تتحدث فيها الكتب السماوية والنصوص الدينية عن الطبيعة، وما يعيش فيها من كائنات حية، وما يسودها من تضاريس، وأنهار وبحار ومحيطات، وغيرها، والطبيعةِ الإنسانية وهشاشتِها، ومواطنِ قوتها وتكريمِ الله لها، وإناطةِ مسؤولية الاستخلاف بها، أو تتحدث عن أحوالِ الأنفس والقلوب والأرواح، أو القيمِ الكونية المشتركة، أو العلاقاتِ داخل العائلة والمجتمع، أو المعاملاتِ المتنوعة في حياة الإنسان، أو العبادات، لا تخرج اللغةُ المستعمَلة في تلك الموارد وأمثالها عن معانيها الموضوعة لها.

نتحدث عن لغةِ الدين الحاكية عن الحقائق الغيبية خاصة، وهذه لغةٌ تحاول تصوير ما لا صورةَ له، لغةٌ تعتمد على التلميحِ والإشارةِ والكنايةِ والمجاز والتمثيل والتشبيه والترميز. لغةُ الدين الحاكية عن الحقائق الغيبية غيرُ لغة العلم، لغةُ العلم مهمّتُها الكشفُ والتفسيرُ والتوصيفُ بأجلى العبارات وأوضحها، وأصرحِ الكلمات، وأبسطِ الجمل، تبتعد عن التلميحِ والإشارةِ والكنايةِ والمجاز والتمثيل والتشبيه والترميز، تبوح بمعانيها وتحكيها بشكل صريح، تحذر مما هو مُضمَر ومبهَم، تنفر من الكنايات والمجازات والإشارات والتلميحات، تسعى لأن تتسعَ فيها الألفاظُ للمفاهيم بنحوٍ لا تقبل الانصرافَ فيه قدر الإمكان لمفهوم بديل. لغةُ العلم تنشد التطابقَ، ما أمكنها ذلك، بين الدالّ والمدلول، بين اللفظ والمعنى. لغةُ العلم مباشِرةٌ في التعبير عن مراميها، واضِحةٌ في بيان قوانينِها ومعادلاتِها وحساباتِها وأرقامِها، لفرط وضوحها يوازي تصورُها وفهمُها التصديقَ بها، ويعود التصديقُ إلى أن موضوعاتِها ليست مفارِقةً للمادةِ وعوالمِها، كما هو متداول في الفيزياء والكيمياء والأحياء وغيرها من العلوم الطبيعية.

لغةُ الدين المختصة بالغيب حكايةٌ عن عوالم الغيب، إنها تخاطب روحَ الإنسان وقلبَه وتوقظ حواسَّه الباطنية، لا تتحدث عن الأشاء الخارجية الملموسة والمحسوسة إلا عندما تحاول رسم صورة مجسدة للمجردات عبر محاكاتها بمحسوسات لتقريب المعنى المجرد بالمحسوس، كما في آية النور: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ  ۖ  الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ  ۖ  الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ  ۚ  نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ  ۗ  يَهْدِي
اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ  ۚ  وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ  ۗ  وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾، [ النور: 35].

رؤية ما لا يُرى

مدلولاتُ كلِّ كلمةٍ تتحدث عن الغيب تشي بحقائق مفارقةً للمادة، خارج فضاء الحسّ، إنها تنشد تمثّلَ المطلق في النسبي، وتحاول ترجمةَ المحدود للامحدود، وتجليَ الإلهي في البشري، وحضورَ عالم الغيب في عالم الشهادة، وتجسيدَ اللامرئي في المرئي، واستيعابَ اللامحسوس في المحسوس، وما هو مادي لما هو لا مادي، ومحاولةَ تصوير ما لا صورةَ له، ورسمَ ملامحه في فضاء الصور الحسية، واستكناهَ ما لا يُكتنه، ورؤيةَ ما لا يُرى، ومعرفةَ الحواس بما لا يمكن التعرّفُ عليه بها. إنها رؤيا عابرةٌ لرؤيةِ العين البصرية، ومعرفةٌ ذوقيةٌ عابرةٌ للعقلِ وطرائقِه ومحاججاتِه، وضربٌ من الصلةِ الأنطولوجيةِ التي يتجلى فيها الغيبُ بشكلٍ يستطيع معها أن يتذوقه من يؤمن به؛ إذ يتمكّن من خلال هذه اللغة أن يحقّق شكلًا من الاتصالِ المباشر وشهود العوالم اللامرئية للغيب.

لغةُ الدين المختصّة بالغيب تتكشّف فيها مراتبُ أعمق من الوجود لا تتكشّف للإنسان باللغة العادية. وتشير إلى معانٍ متعاليةٍ على الواقع المادي وحدوده الضيقة، معانٍ تختنق فيها اللغةُ العادية. لغةُ الدين هي اللغةُ الوحيدةُ القادرةُ على التعبير عن حقائقِ العالم الأخرى اللامرئية بنحوٍ تعجز فيه كلُّ أشكالِ اللغة الأخرى عن التعبير عنها. لا لغة كلغة الغيب تبوح بأسرار الوجود المطلق، وتتكشف فيها تجلياته.

لا تنشد لغةُ الدين المختصة بالغيب التطابقَ بين الدالِّ والمدلول، وبين اللفظِ والمعنى، لضيقِ الدالّ وقصورِه؛ إذ يفتقر اللفظُ لأن يتسعَ لما لا يمكنه استيعابُه، ويستوعبَ ما لا يمكنه استيعابُه، وتمثّل ما لا يمكنه تمثّله، ويفشلُ في نقلِ ما يضيق به ظرفُه، واحتواء ما لا يتسع له وعاؤه. لغةُ الدين المختصّة بالغيب يتنزَّل بها المعنى من نشأةٍ أعلى إلى نشأةٍ أدنى؛ ذلك أن اللغةَ البشريةَ من شؤونِ العالم المادي، وليست من شؤونِ عوالمِ الغيب، وظرفُها لا يتسع لمعاني تلك العوالم، وإن السعةَ الوجوديةَ للغيب يضيقُ بها كلُّ ما ينتمي للعالم المادي، أي أن هذه اللغةَ لا يتجلّى فيها المعنى إلا بكيفيةٍ تماثل حقيقتَها البشرية، وهو نحوُ تنزّلٍ على شاكلتها.

لغةُ الدين المختصّة بالغيب ضربٌ من الترجمةِ لإشاراتِ الغيبِ ورموزِه، ومحاولةُ رسمِ صورةٍ عنه في قوالب لغة الإنسان، وتجلٍّ لكلمةِ الله من خلال كلماتِ خلقه. الترجمةُ لا تطابق الأصل، ولا تعكس صورتَه كما هي، ولا تكشف كلَّ ملامحِه، إنها تومئ إليه وتشيرُ إلى شيءٍ من ملامحِه. يظل فهم الغيب في الكتب المقدسة نسبيًّا، ‏المفسّر الذي يمتلك أدوات التفسير تفسيره ليس نهائيًّا، يخضع ‏المفسّر في تفسيره لمشروطيات الذات والزمان والواقع والظروف والعوامل والمعطيات المختلفة المؤثرة في حياته كفرد وحياته في المجتمع الذي يعيش فيه، وليس بوسعه الإفلات من تأثير هذه العوامل المتنوعة في فهمه، مهما حاول أن يكون حياديًّا.

يحضر الاسمُ «الله» وأسماؤه الحسنى وصفاتُه ‏وما يتصل بالغيب بكثافة في آيات القرآن، إلا أن اللغةَ الدينية المتداولة المشبعة بدلالات كلامية وفقهية حجبت الدلاتِ الرمزية لهذه الأسماء والصفات في الآيات.

تسيّدت الحياةَ الدينية في الإسلام لغةٌ دينية في العصور التالية لعصر البعثة الشريفة، بكلِّ تجلياتها، لغةٌ مشتقةٌ من رؤية علم الكلام، وأحكام الفقه الذي ابتنى على الرؤية الكلامية؛ لذلك تحضرُ الذهنَ غالبًا في عملية التفكير الديني الكلماتُ المشبَعة بدلالات كلامية وفقهية، وهكذا تحضرُ هذه الكلماتُ بكثافةٍ في التعليم الديني. في أحاديث خطباء الجمعة والمحاضرات على منابر المساجد ووسائل التواصل، عندما يتداول المتحدثون أيَّ شأنٍ ديني، لا يخرج المتكلمُ عن المعجم الكلامي والفقهي إلا في حالات محدودة، ولا يتبادرُ إلى ذهن المتلقي إلا المعنى الراسخُ في هذا المعجم. في الحياة اليومية للمسلم، حينَ يتحدثُ عن أيِّ شأن يتصلُ بالدين، تتكررُ في أحاديثه ما تحيلُ إليه هذه الكلماتُ من مفاهيم كلامية وفقهية، وعندما يتناول أيُّ كاتبٍ موضوعاتٍ تتصلُ بالدين يستقي من هذا المعجم. أكثرُ مفسِّري القرآن الكريم لا يرون معنى لآياته خارج فضاء لغة الكلام والفقه، وقلّما تُستعمَل كلمةٌ أو مصطلحٌ في الحياة الدينية خارج أُفق رؤية المتكلمين وأحكام الفقهاء للعالَم.

اللغةُ ليست محايدةً أو قوالبَ فارغة، ولا يصحّ توصيفها بوعاءٍ يمكن أن يُملأ بأيّ معنى. اللغةُ ترسمُ خارطةً للذهن، وتحدِّدُ مساحةَ التفكير ومدياته وكيفيته. يقول لودفيغ فيتغنشتاين: «إنّ حدودَ لغتي حدودُ عالمي». اللغةُ هي بوصلةُ توجيه الفهم والمولِّدة لوجهة عملية التفكير. ما دام مضمونُ لغة الدين في الإسلام لا يتجاوز علمَ الكلام والفقه، فحدودُ تعريف الدين ومفهومه وأدوات تفسير القرآن والسُّنة قلّما تتجاوز رؤيةَ المتكلم والفقيه، وتتسع لاستيعاب الدلالات الرمزية في آيات القرآن.

قصور اللغة عن استيعاب ما هو إلهي

كلمةُ الله حين تتجسّد في لغةٍ بشرية تلتبس بما هو بشري، فلا تحكي هذه اللغةُ كلمةَ الله كما هي، بل تشير إليها بما يتناسب مع وعاءِ اللغة وخصائِصِها البشرية. كلمةُ الله للبشر لا يمكن أن تتسعَ لها لغتُهم ما لم تتنزّل إلى عالمِهم المحسوس، أي أن معانيَ كلمةِ الله تتشكّل بهيئةٍ يمكن أن تؤشرَ إليها اللغةُ البشرية، بإشاراتٍ تتناسب وطبيعتَها، إن كانت تعجز عن أن تبوح بمعانيها. الضيقُ يعود إلى عجزِ ظرفِ كلمات اللغةِ البشريةِ وقصورِ وعائها المحدود عن استيعابِ ما هو إلهي لا محدود. كأننا هنا أمام أستاذِ فيزياءٍ يشرح نظرية أينشتاين لتلميذٍ في الصف الأول الابتدائي، أو يحاول أن يشرح له أعقدَ المسائل الرياضية. في حالةٍ كهذه لا بدّ أن يتحدّث الأستاذُ بلغةٍ تحاكي استعدادَ ذهنِ ذلك الطفل وإمكاناتِه في الفهم، فيلجأ للتعبير بكلماتٍ مبسّطة تعبّر عن رؤيةِ الطفل المحدودةِ للعالَم من حوله؛ كي تكون هذه الكلماتُ قادرةً على إنتاجِ معنى يتناسب ووعاءَ فهمِ الطفل.

الرمزُ يتكفل بتزويد الإنسان بمعانٍ تضيقُ بها اللغةُ، الرمزُ يغذّي المتخيل ويتغذّى منه. الرمزُ لغةُ الأديانِ والآداب والفنون؛ لذلك صارت من أثرى منابع توليد المعنى في حياة الإنسان. الحقائق الغيبية أسرار الوجود، الأسرار تعلن عن ذاتها بالرموز. الله لا يعلن عن نفسه الا بالرموز؛ لأنه «غيب الغيوب». تصورات الإنسان عن الله لا حصر لها، تتنوع وتتعدد هذه التصورات بتعدد وتنوع المجتمعات والأديان والفرق والثقافات والعصور، وهذه التصورات، وإن كانت مخلوقة للإنسان؛ لكنها تشير إلى الله: «عباراتنا شتى وحسنك واحد وكل إلى ذاك الجمال يشير»، وهي بالتأكيد غير الله، الله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، [الشورى 11]. وهذا هو الأصل للقول بالتعددية الدينية.

لغةُ الدين المختصة بالغيب تخاطب القلبَ قبل العقل، وتوقظ الروح، وتلامس المشاعر، وتبعث الضمير. تشي بالإشارة عندما تعجز العبارة، والتلميحِ عندما يتعذّر التصريح، وهي في كلِّ ذلك تتوسّل بالرمزِ والمجازِ والكنايةِ والاستعارةِ والإيحاء. إنها لغةٌ رؤيويةٌ تسعى للقبضِ على معنى لا محسوس ولا تاريخي ولا زماني ولا مكاني ولا مرئي ولا محدود، وإيداعِه في قالبٍ محسوسٍ ومرئي وضيّق ومحدود. مثلُ هذه اللغة تتعدّد مراتبُها، وتنشد تلبيةَ مستوياتٍ متنوعٍة من الفهم، ومراعاةَ درجات مختلفة للتذوق. هذه اللغةُ يتخطّى نداؤها العقل، إنها نداءٌ يتّجه لإيقادِ طاقاتِ الروح، وإيقاظِ الضمير، وإحياءِ القلب، وشحذِ المشاعر، وإثارةِ الأحاسيس.

لكلٍّ من العلم والفن والغيب حقيقةٌ على شاكلته، يمكن التعرّفُ إلى هذه الحقيقة في فضائها الخاص. للغيبِ حقيقتُه ومظاهرُه وفضاؤه اللامحدود، مثلما للعلم حقيقتُه وفضاؤه وقوانينه، وهكذا للفن حقيقتُه وفضاؤه. التعرّفُ إلى الغيبِ في القرآن الكريم إنما يكونُ من خلال ما تتحدّث به آياتُه، وهكذا في الكتب السماوية التي تتحدث عن الغيب. الحياةُ الروحية هي الأفقُ الأجلى الذي تظهر فيه آثارُ الغيب في حياة الإنسان، وهذا الأفقُ لا يتطابق مع الأفقِ المادي الذي تنكشفُ فيه قوانينُ الطبيعة. لا يخضع الغيبُ في اكتشافِ حقيقته ومعرفةِ كيفيته للعلمِ ومناهجِ البحث العلمي، وإن كانت العلومُ هي الأداة الأساسية في التعرّف إلى تأثيرِ الغيب في الواقع، ودراسةِ تعبيراته في الحياة الفردية والمجتمعية.

يتصور الإنسان الغيب حسب صورته

يمكن اعتمادُ مناهج البحث العلمي في دراسة كلِّ شيء ينتمي للطبيعةِ في القرآن الكريم وغيره من الكتب السماوية، ومن العبثِ تطبيقُها في اكتشاف الحقائق غير المادية وما هو خارج الطبيعة. عوالم الغيب حقائقُ تنتمي إلى ما وراء الطبيعة؛ لذلك لا يصحّ تطبيقُ مناهجِ وأدوات علمِ النفس وغيرِه من العلوم في الكشفِ عن الغيب وتحليلِ مضمونه ومعرفةِ حقيقته. عندما تحاول نظرياتُ علم النفس وغيره من العلوم الإنسانية أن تفسِّر الغيبَ فإن أولَ ما تبدأ به هو نزعُ مضمونه الغيبي، والنظرُ إليه في أفق الطبيعة والمادة. أخفقت محاولاتُ اكتشاف الغيب بوسائل العلوم المعروفة، وأدخلت الإنسانَ في متاهات تبدأ بالإنكار وتنتهي بالإنكار، كمَن يحاول معرفةَ ذاتِ الله وحقيقتَه وكنهَه بأدوات العلوم ومناهجها المعروفة.

يمكن التعّرفُ إلى شيءٍ من ملامحِ الغيب وصفاتِه ومظاهرِه وتجلياتِه بما تتحدّث به آياتُ القرآن والكتب السماوية. الآياتُ تتحدّث عن الغيبيات بلغةٍ رمزية، تستعين أحيانًا بالمحسوسات، بغيةَ تقريب ما لا صورةَ له بصورة المادي والمحسوس وخصائصه وصفاته. الصورُ المحسوسة يدركها الإنسانُ بالحواس، إلا أنه لا يعرف حقائقَ الغيبيات وذواتها لأنها لا صورةَ لها، وإن كان يمكن تقريبُها للذهن بالتمثيل بالأشياء المادية وتشبيهها وتقريب فهمها بالمحسوسات.

إثر عجز الإنسان عن تمثّل الغيب والحقيقة الإلهية كما هي، كانت لغةُ الدين المختصة بالغيب رمزية. الرموز لا تبوح بالمعنى، بل تؤشر إلى شيءٍ مما يتذوقه العارفُ لحظة انغماسِه في أحواله، وغيابِه عن أقواله، وكأن ما يحدث رؤيةُ لمعان غيثٍ عبر البرق في ليلة حالكة الظلام. لغةُ الإشارات لغة رمزية، يتذوقها مَن يتسامى إلى الحالات، إنها لغةٌ مشبَعة بالمعنى تبهج الإنسانَ المسكون بالأنوار.

لغة الدين المختصة بالغيب تعجز عن التعبير عن حقيقة الغيب، وهذا العجزُ يعود إلى عجز الإنسان عن تصور الحقيقة غير المحسوسة كما هي. الإنسان يتصور الغيبَ والحقائق الغيبية على شاكلته هو لا على شاكلة الغيب؛ لأن إدراكه لا يتسع لحقيقة الغيب، الإنسان يتمثّل الغيب بكيفيته كإنسان لا بالكيفية التي عليها الغيب. يحتاج الإنسانُ بصيرةً تتذوق ما تشي به اللغةُ الرمزية من الدلالات العميقة؛ كي يرى ما وراء ظاهر آيات القرآن الكريم والنصوص الدينية الحاكية عن الغيب. وهذا ضربٌ من الرؤية الصافية لا يشوهها إلا تشبّعُ اللغة الشائعة في الحياة الدينية بتسيّد رؤية علم الكلام والفقه ومعانيهما في فهم آيات القرآن والنصوص الدينية، وإن كانت الآيات والنصوص تتحدث عن الحقائق الغيبية.

اللغة العربية تصلح للشعر والسرد والتصوف والميثولوجيا وما ينتجه المتخيل، وهي تتناغم مع عالم الغيب أكثر من لغات أخرى. الكلام عن مثل هذه الموضوعات يحتاج إلى كنايات ومجازات واستعارات وتشبيهات، ومترادفات، ومعجم لفظي هائل، وقدرة لغوية استثنائية على الاشتقاق وتوالد الكلمات، ومعجمها اللفظي واسع جدًّا، وذلك ما تتميز به وتستجيب بغزارة اللغة العربية لا نراها في لغات أخرى. وإن كانت العربية طالما تلتبس فيها صياغة القوانين والتشريعات الحياتية، لذلك تحتاج إلى مفسّرين مختصين بتفسير التشريعات والقوانين. تشبع اللغة العربية الدينية مشبعة بأحكام فقهية ومقولات كلامية يجعلها أقل حيادًا. ‏اللغة الإنجليزية تستجيب للإيقاع السريع للعلم والتقنية، وتمتلك إمكانية أكثر على صياغة القوانين والتشريعات بوضوح. استعمال الإنجليزية بشكل واسع في العلوم ومعطيات التقنية حيّد هذه اللغة إلى حد مناسب وجعلها أقل تحيزًا.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *