ذات مساء صيفي، توقفت سيدة عجوز من القرية أمام باب جارتها، العالمة بالأعراق البشرية. كانت تنشد العون لتتذكر حكاية من طفولتها. تذكرت حيوانات صغيرة كان عليها إنقاذ أميرة صغيرة سجينة، إلا أنها نسيت التتمة. أيام طفولتها، كانوا يروون حكايات، لكنها «حكايات حقيقية، ذات مضمون، ليست كحال حكايات اليوم!». ليلة وفاة أمها، تذكرت أن والدها كان قد جمع الاثني عشر طفلًا عند رأس سريرها ليسهروا معًا. كانوا قلقين. وأمضى الوالد الليل كله يحكي لهم حكايات، حول سرير المحتضرة. وعند الفجر، غادرتهم أمها.
كانت السيدة العجوز قد حفظت من الحكاية جوهرها. وإذ تعلمتها وتشاركتها مع ذوي أرحامها طوال طفولتها، فقد كانت على بينة من أنها رفيق طريق، قائد زورق عبور. حفظت أن والدها قد استعان بالحكاية كي يصمد، أمام تعذر تصور الموت. إن تصورية الحكاية الممكنة في الشاهد الذي أوردناه هي في مواجهة ما يتعذر تصوره. يمكن للقصة أن تعمل مجازًا يعِين على اجتياز الزمن: هنا، زمن نهايةِ حياةٍ؛ إن في القصة عزاء.
مادة القصة الأولية
بقيت الحكايات تروى عند حلول الليل لقرون طويلة. ومع رقاد أطيار النهار كلها على الأشجار، بعد الكف عن التغريد، يُسمَع صوت الراوي. ذاك هو وقت اجتماع الرجال والنساء معًا. كانوا قديمًا يروون الحكايات، بعضهم لبعض، خصوصًا عند لزوم العمل ليلًا، في المنازل أو في الأهراء، بل أيضًا خلال السهرات، تمضية للوقت.
في الحكايات شيء يوقظنا، وينتزعنا من هذا الموت الظاهر. تحمل الحكاية على الاعتقاد بذلك حين تتمثل في حسناوات نائمات، مثل «بياض الثلج»، و«حسناء الغابة النائمة»، حسناوات يوقظهن «حب النوم السحري». وشهير هو الإخراج الخيالي، حين يدب الأمير الأسطوري الحياة في الأميرة الغافية، بقبلة منه؛ أو أيضًا أداء «إيروس» الوسيم النائم ذي الأقراط الذهبية، الذي توقظه «بسيخيه» وتنظر إليه تحت ضوء الشمعة.
من المؤكد أننا نقع في الحكاية المنتقلة شفويًّا على صور أقل ذيوعًا، لكنها لا تقل أهمية؛ صور متواترة تؤجج القصة. وإن كان الكلام يشكل مادة القصة الأوليةَ، فإنه غير وافٍ أبدًا، بالنسبة للراوية أم بالنسبة للحضور. من أجل الدخول في القصة، يجب التمكن من اقتباس تعبير الصور، والتقاط موحيات الاستعارة التي تمهد الدرب إلى فضاء مضمونها الكامن؛ مضمونٍ نفسيّ المكونات.

ألم توجد الأسطورة والحكاية، في كل زمن؛ كي نعيد في اللازمنية تنظيم الحيز لكلام نحتاجه من أجل أن ننام، وكي نستيقظ أيضًا، في هذا العالم وفي أحد العوالم الخيالية الأخرى؟
وبينما يمكن أن يشير المجال الدلالي لكلمة «أسطورة»، باللغة اليونانية الحديثة، وفي الوقت نفسه، إلى الأسطورة، والقصة، والكلام، فإن كلمة «paramythe»، التي تعني حكاية، بقيت ثابتة نوعًا ما؛ وتدل على أسطورة صغيرة، إلى جوار الكبيرة، وأسطورة موازية، وأيضًا قصة كاذبة. وللحكاية في اللغة الشائعة اسم ثانٍ، «أكذوبة». ويذكر أيضًا أن هذه الكلمة تنطوي على فكرة السلوان، حيث إن «paramythia» تدل على السلو في اليونانية القديمة. وقد أتتنا هذه الكلمة من الثقافة العالمة، ولا شك في أن الراوين الشعبيين يجهلون ذلك، إلا أن فكرة التعزي بالحكاية شائعة جدًّا ودائمة. فضلًا عن ذلك، هذه الكلمة موجودة في الكراسات المدرسية والجامعية كلها للدلالة على الحكاية الشعبية، وكذلك في مجلات المأثورات الشعبية؛ وجميعها تعرف الحكاية على أنها قصة تعزي. ولكن، أي عزاء نعني؟
السلوان الذي تولده الحكاية مرتبط على وجه الخصوص بالتعبير الممسرح لأفكارها المتخفية في صور. نحن هنا إزاء تصورات يمكن أن يتشاركها الجميع، غير أنها فردية بالقدر نفسه بالنسبة لكل واحد. بذلك، تساهم الحكاية في قص ما لا يعقل وما لا يمكن تصوره، وهو ما ينطوي من ناحية المبدأ على وظيفة تهدئة. ينقل الراوي مضمون القصة الواضح سالكًا درب المجاز، الكاشف عن خيالات غابرة تظهر في لحظات عبور حيوية بالنسبة للكائن البشري: الولادة، والموت، والحب.
أصل الحكاية
حين ترتحل الحكاية من بلد إلى آخر، تتحور، وتتعدل. وحينها، نواجه مسألة «الاقتباسات»: اقتباسات إما مواضيع خاصة، وإما سياقات متتالية، أو واقعات كاملة تعود في انتمائها إلى قصص أخرى؛ بل حتى اندماجٌ لحكايات بكاملها معروفة من جانب آخر على أنها مستقلة، تترابط أو تتأثر.
تنتهي هذه التحويرات إلى تطويرات خاصة، في مواضع إقليمية متباينة. ويمكن عندئذ أن تكون لدينا روايات شديدة الاختلاف عن الحكايات- النماذج، يعرفها الاختصاصيون على المستوى الدولي: صنعات خاصة صعبة الارتباط أحيانًا بالحبكة نفسها أو بالشكل الأسطوري ذاته. ونصطدم في هذه الروايات حتى بحدود مفهوم الحكاية- النموذج. لنتصور مثلًا «عُقلة الإصبع» الذي يكبر ويتزوج الأميرة، في اليونان وفي قبرص، أو «القبعة الحمراء الصغيرة» التي هي صبي في بعض المناطق؛ وسنتبين عندئذ أن مدى الحكاية السردي، بما في ذلك معناها العميق، ذو شكل مختلف تمامًا، إن لم يكن حتى مغايرًا شكلًا ومعنًى، ضمن حدود مجال ثقافي معين.
تحدث اقتباسات المواضيع، والواقعات أو الحكايات الكاملة في حوض تقاليد شعبية مشترك، ضمن حيز محدد بحواجز جغرافية أو تاريخية. مثال ذلك «الألب»، هذه السلسلة الجبلية التي يتوقف عندها الانتقال الشفهي للحكايات الشرقية والبلقانية باستمرار. تشكل هذه الجبال، الحاجزُ الجغرافي والتاريخي أمام الذاكرة الجمعية، تخمَ أوربا الغربية الثقافي الرئيسي. وحالما نغدو في الجانب الآخر من جبال الألب، يتغير مشهد الحكاية الشعبية: تتغير موضوعات أسطورية شرقية عدة، وتختفي سياقات حكايات متوالية بل حكايات كاملة.
«الحكايات الخرافية جديرة بالتسمية القديمة، حكايات أسطورية، لم تعد تستخدم اليوم». كان اختصاصي المأثورات الشعبية، الروسي «فلاديمير بروب» قد كتب أن «كل مجموعة من مجموعات الأساطير القديمة جدًّا تكشف عن بنية متشابهة [… ] ومن المؤكد أنه ينبغي إرجاع الحكاية إلى هذه القصص». كان «بروب» قد درس مجتمعات اختفت معتقداتها الدينية اليوم منذ زمن بعيد جدًّا، وأهملت أساطيرها. وهكذا، حسب رأيه، أصبح ما بقي منها حكايةً شعبيةً. وحول هذه النقطة، يجب أن نتذكر معارضة «ليفي شتراوس»، الذي يتحرز من هذا التأويل، كعالم إثنيات معزز بخبرته في الجغرافيا الإثنية؛ «لأن الأساطير والحكايات موجودة في الزمن الحاضر جنبًا إلى جنب: لا يمكن إذًا النظر إلى هذا الجنس على أنه أثر من الآخر […]؛ الأمر بخلاف ذلك تمامًا؛ إذ يتبين أن القصص التي تتسم بطابع الحكاية في مجتمع ما هي أساطير في مجتمع آخر، والعكس بالعكس».
ما بين سطور الحكايات
انطباعنا الأول هو أن الحكاية اليونانية الشعبية حكاية شرقيةٌ في أوربا قبل كل شيء. هنالك العديد من القصص الهلينية المتقاسمة مع البلدان المجاورة، تركيا وبلدان الشرق الأوسط؛ وهي تتخذ الأشكال السردية لبدائل حكايات شرقية معروفة جيدًا من جانب آخر في الغرب. لنأخذ مثلًا حكاية «السلحفاة» و«رحلة إلى العالم الآخر»، فالحكايتان تبرزان اشتهاء الأب لزوجة ابنه، وتنتهيان كلتاهما بمقتل الأب. هذه القصص شعبية جدًّا في اليونان، وروسيا وبلدان الشرق الأوسط، لكنها معدومة كليًّا في أوربا الغربية، والوسطى والجنوبية. والحكاية ذات الحبكة الأقرب لهذه القصص في فرنسا هي حكاية «مدام دولوني» المعنونة بـ«القطة البيضاء»، التي تتطرق إلى تأنسن الخطيبة الحيوانية، ولكن ضمن إخراج مختلف كثيرًا.

نيكول بلمون
يدهشنا في الوقت نفسه، حين دراسة الحكاية الإغريقية، عدد نسخ الحكايات المحلية المختلفة، المفهرسة، والتشابهات التي تنطوي عليها القصص الإغريقية مع القصص الألبانية، والبلغارية، والرومانية، والصربية، والتركية، والصقلية، والعربية- البربرية (مثلًا، حكايات مناطق القبائل الجزائرية). وبالتالي، فقد تساءلنا لنعرف إن كانت هناك فائدة- خارج اللغة- من دراسة الحكاية اليونانية دراسة منهجية.
نلمس في الوقت الحالي نهضة على مستوى الحكاية في أوربا كلها تقريبًا. ونشهد ظهور رواة جدد، وازدهار منشورات الإبداعات المجمعة، والدراسات والمقابلات. ينظر إلى الحكاية الشفوية على أنها تكوين تقليدي متقد، بعيد الجذور زمانًا ومكانًا، تنطق باللغة اليونانية -كما هو الحال مع لهجات أخرى- لتوصل رسالتها.
أما فيما يتعلق بالعناصر المنحدرة من الأساطير الإغريقية القديمة (موضوعات، وواقعات أو أشكال سردية كاملة)، فهي موجودة، غير أنها مستترة، ومعكوسة، أو تظهر ما بين السطور في حكايات اليونان الحديثة الشعبية. ساد هناك، خلال قرون، ما يشبه الكبت، الحظر المفروض على القصص الوثنية، حيث حاربتها الكنيسة المسيحية. عانت الأساطيرُ الإغريقية إذًا رقابةً شديدةً عوّقَتْ انتقالها. وإن كانت قد بقيت حية، فإن ثمن ذلك كان تحولها إلى قصص، غير مؤذية من حيث الظاهر، كما هو حال الحكايات، تروى للتسلية. وكي نتعرف في الحكايات الشعبية إلى الأشكال الأسطورية المعروفة من العصر القديم، ينبغي الكشف عن خباياها، فهي غالبًا ما تكون معكوسة (في مرآة الحكاية الخرافية)، وفقًا لعبارة عالمة البشريات الفرنسية «نيكول بلمون» الجميلة.
المرجع:
Contes de la nuit grecque, Anna Angelopoulos, Éditions Corti, 2013, ISBN 978-2-7143-1121-4, Pages 337 – 350.
0 تعليق