المقالات الأخيرة

“لقاء مارس 02: تواشجات” دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

“لقاء مارس 02: تواشجات”

دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

فيما يشبه الالتزام الأخلاقي والجمالي، تبنى لقاء مارس السنوي، الذي تنظمه مؤسسة الشارقة للفنون، في دورته الجديدة التي انتهت أنشطتها قبل أيام، طيفًا واسعًا من القضايا والموضوعات والنقاشات وعروض الأداء، التي لئن اختلفت وتعددت وتنوعت، إلا أنها تذهب كلها إلى منطقة واحدة،...

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

‮«‬أُمّة‭ ‬على‭ ‬رِسْلِها‮»‬ أو‭ ‬في‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬الحضارة‭ ‬العربية

بواسطة | نوفمبر 1, 2023 | مقالات

عندما يقع كتاب «أُمّة على رِسْلِها» بين يديك يقودك الشغف إلى تصفّح مضمونه والتجوّل بين عناوينه المختارة بإتقان. يلفتك أمرٌ غير رائج إجمالًا في الكتابات التي تبحث في تاريخ الأفكار والحضارات، ألا وهو عدم الإطالة والتنقّل سريعًا بين مصطلح وآخر، وبين فكرة وأخرى، بعبارات رشيقة وأسلوب يبعد قدر المستطاع من التعقيد، من دون عرض النظريات المتلاحقة رغبةً في البرهنة على ثقافة الكاتب الواسعة، أو إرضاءً لبعض النقّاد.

هناك همٌّ واضح المعالم لدى المؤلّفة مها محمد الفيصل، نابعٌ من معاناةٍ عمرها قرونٌ من الزمن. يتلمّس القارئ القلق الرابض في وعيها، يؤرقه ويستنهضه، فتكرّس له جهدًا بحثيًّا ملحوظًا. نجدها ترفع بين دفّتي كتاب صرخةً مدوّيةً في وجه الإجحاف الذي تعانيه الحضارة العربية منذ قرون من الزمن. تقف بقوة رافضة كل سياسات التهميش والتحقير والاستخفاف بما قد أنتجته هذه الحضارة عبر التاريخ. نشرت كتابها لكي تجادل بالعقل من لم يعترف بعد من أبناء الأمة، كما الذين هم من خارجها، بالدور الذي لعبه العلماء والفلاسفة العرب، كما الأدباء والشعراء وعلماء الدين. تشير في أكثر من موضع في كتابها إلى عمليات طمس الحقائق والتلاعب بالوثائق بهدف تجميل صورة ما، أو تشويه أخرى، تحركها رغبةٌ واضحةٌ في قول شيءٍ جديد، وفي إثارة اهتمام القارئ العربي كما الأجنبي، من أجل فتح باب النقاش على مصراعيه حول أهمية ما سبق أن قامت به الحضارة العربية الإسلامية، وانتشالها من حال الإحباط والسكون القاتل؛ لأنه لا يمثّلها، ولا يليق بها.

الانشغال بالهم العربي

نجد في فهرس الكتاب اثني عشر تأمّلًا بأحجام متفاوتة، مع عناوين تعبّر عن الهم الحضاري الذي يؤرق المؤلفة. تظهر كلمة حضارة في خمسة عناوين، وكلمة ثقافة في عُنوانين، وهو ما يشير بقوة إلى مدى انشغال الكتاب بطرح قراءة محدّدة للحضارة العربية الإسلامية من خلال علاقتها بالحضارة الهلينية والحضارة الأوربية الغربية، على حد سواء. كذلك مما يُلفت نظر القارئ تردد كلمتَي عرب وعربية خمس مرات في العناوين الاثني عشر، وهو أمرٌ يشير أيضًا، منذ البداية، إلى ما ينتظر القارئ من انشغال بالهم العربي. واضحٌ أن هناك مفهومًا ما، أو أيديولوجيا ما تريد المؤلّفة إما دحضها أو إثباتها، وهي ستبذلُ كل الجهد المتاح في سبيل بلوغ هدفها. إنها تهدف إلى الدفاع بقوة الفكر وحجّة المعطى التاريخي عن الحضارة العربية الإسلامية، متصدّيةً لكل من شوّه صورتها، أو اعتدى على وقائع تاريخها، أو همّش حراكها الاجتماعي الذي شهدته مدُنها. وكأن المؤلفة في ميدان حرب تُشهر كلمتها وتُعلن موقفها في مواجهة العدوان السابق أو المرتقب. واضحٌ أيضًا، في حال أراد القارئ تصفح قائمة المراجع التي عادت إليها الكاتبة، (27 صفحة من الهوامش)، حجم الجهد الذي بذلته، وسعة اطلاعها، وحرصها على ذكر المصادر الأجنبية، ابتغاءً للدقة، وهو الأمر الذي يدل على سعيٍ دؤوبٍ من أجل الإحاطة بالموضوع المطروح، وعدم الوقوع في الأحكام المسبقة.

ما الإستراتيجية الدفاعية التي ستعتمدها المؤلفة في الدفاع عن الحضارة العربية؟ وهل تمكّنت فعلًا من إصابة الهدف؟

أشارت في بداية التأمل الأول إلى أن مفهوم «حضارة العرب» يعاني «من التباس وتراجع، بل قد يبدو مثل زعم أخرق، ليس له سندٌ من استحقاق. وهذا الانتقاص الفكري لذلك المفهوم يتجلّى على نحوٍ صادمٍ في محاولات دؤوبة لطمس ثقافي واسع، حتى إننا بتنا نشهد اليوم حواضر عربية كاملة تُهدَم وتُحال إلى ركامٍ من تراب، من دون أن تجد من يأسف على مصيرها». (ص17) إنها ترى مشهدية «الدمار الهائل» في أكثر من بلد عربي، وتبحث في الأسباب التي أدّت إليه. يمكن أن نحصي، من خلال ما قدّمته مها الفيصل، عددًا من الأمور التي أدّت، في رأيها، إلى هذا الدرك من الانهيار والدمار، نوجزها فيما يأتي:

التجاذبات السياسية والجيوسياسية الكبرى. التجريف الثقافي الذي أحدثته الأيديولوجيات الغربية أدى إلى هدم الحصانة الداخلية للمجتمعات العربية (مثل القبيلة الرشيدة والأسرة الممتدة). هدم أو تهميش المؤسسات التقليدية الحافظة للمكوّن الديني الأخلاقي، منعًا للبقاء في التخلف والرجعية. تبدّل مكانة الحكمة بوصفها الفضيلة العُلْيا في المجتمع لتحل مكانها سفسطائية نخبوية التطلّع لا تتحدّث إلا مع نفسها؛ بسبب غموض لغتها. التنافر الوجداني مع الدين والعُرف أَضَرّ بفكرة «المرجعية»، وضرب بذلك دور الأب والأم والأسرة، وهو الأمر الذي جعل عملية بناء أنساقٍ فكريةٍ تُسهم في تمكين الفرد من استيعاب مرجعياتٍ تراتبية خارجة عنه وعن أهوائه، أمرًا صعبًا.

واضحٌ مما تقدّم أن الغرق في المادية، والابتعاد من الدين والأعراف الاجتماعية، وفقدان المرجعيات، أمور أدّت إلى «الدمار الشامل» في نظر المؤلّفة، وهي تسعى من خلال كتابها أن تقدّم طرحًا نابعًا من بلاد العرب للخروج من هذه الحال، والتوجّه نحو ما هو أفضل للإنسان. إنها تتوقّف عند التبدّلات التي حصلت على صعيد المجتمعات الغربية؛ لكي تبرز مساوئ ما يحدث على الأصعدة الروحية، والإنسانية، والأخلاقية. تنتقد بقوة كلّ ما يشهده الغرب من انهيار في ركائز الأسرة، و«الميوعة في تحديد الجنس البشري»، واعتماد «مجموعة من القيم المختلّة»، وحلول «الفضائل الرخوة» مكان «الفضائل الصعبة»، و«التبدّل في فكرة النسب».

القبيلة تَفُوق التمدّن

ترى المؤلفة أن القبيلة هي صورة معافاة عن التجمّع البشري الفطري والبناء الاجتماعي عند العرب. نجدها تميّز بين القبيلة والبداوة منتقدة الخلط بينهما؛ إذ لا تعارض بالنسبة إليها بين القبيلة والتمدّن، كما هو شائع. تركّز على أهمية القبيلة بوصفها «تمثّل أحد أنجع حلول الاجتماع البشري». (ص23) وتشير إلى أن «القبيلة الرشيدة» تجسّد «منظومة من العلاقات الإنسانية والبيئية والسلطوية» المرنة، ذات طبيعة ليّنة، تأخذ في الحسبان التداخل بين الفرد والجماعة. كذلك، تشدّد المؤلّفة على المبادئ التي تقوم على أساسها القبيلة، ومن أهمها: الوحدة والأصل، مبرزة أهمية التوازن من داخل القبيلة بين «نسق أخلاقي موروث» هو العرف، والقانون الوضعي الذي تمليه الظروف الخارجية. وتشير في هذا السياق إلى أن التوازن «بين كل من العرف والقانون الوضعي» يحفز على التأمّل فيما يحدث عندما يطغى أحدهما على الآخر، وتضيف قائلة: «لا نعجب لو أتى يومٌ، في بعض المجتمعات التي تتبنّى المنظور المادي اللاديني لطبيعة الإنسان الذي ليس للعرف فيه مكانة معتبرة، أن يُرفع المنع القانوني لزنا المحارم، أو الزنا بالأطفال». (ص25)

تسعى المؤلفة إلى أن تثبت تفوّق القبيلة على المجتمع المتمدّن، وهي تقيم المقارنة بينهما مركّزة على إيجابيات القبيلة التي يمكن اختصارها بما يأتي: تُبنى القبيلة على أواصر حقيقية، ولها تاريخ كما أن لها جغرافيا. لها ذاكرة جمعية حقيقية مليئة بالحِكم والخبرات. تخدم تطلّعات واحتياجات إنسانية حقيقية، بعيدًا من ردود الأفعال المضطربة. بعيدة من العلاقات النفعية المصطنعة. بعيدة من التفتيت والتمييع وإلغاء الحدود، وبخاصة المحدّدات البيولوجية التي أوصلت المجتمعات المدنية إلى التحوّل الجنسي.

تشدّد في خلاصة المقارنة على أن غاية القبيلة لا تنحصر، كما في التجمّعات المؤدلجة، بالحصول على السلطة وجعل الفرد خادمًا للأحلام الأيديولوجية، إنما ببناء الإنسان ذاته، حيث للفرد مكانة عالية. إن أوّل ما تحاربه «الأيديولوجيات المادية فطرة الإنسان ذاته؛ لأنها تريد صياغة الإنسان الجديد. فالأسرة، وكذلك القبيلة عدو، بل والوطن، لذا، لا يُرادُ التعايش معها، بل أن تحلّ محلّها، كي تصبح هي المُشكّل الأوحد للإنسان، لا يشاطرها في ذلك لا دين، ولا أسرة، أو قبيلة، أو حتى واقع بيولوجي». (ص27).

يبرز بوضوح هنا حجم الخيبة من العولمة والمجتمعات الأوربية والحضارة الغربية، كما يبرز أيضًا النزوع نحو الأصل في المجتمع العربي، نحو القبيلة، كملاذ آمن يمكن البناء عليه، والعيش في ظلّه. يلحظ القارئ هنا أن التركيز يتمحور بقوة حول السلبيات التي وقعت فيها الحضارة الأوربية، فيجد نفسه يواجه تهميشًا في مقابل تهميش آخر. إن إيجابيات القبيلة التي يُرَكَّزُ عليها بقوة من دون سواها، يجري من خلالها تهميش إيجابيات يشهد لها التاريخ الحضاري الأوربي، ولسنا هنا في صدد تعدادها، ولا الدفاع عنها. لكن، أردنا الإشارة إلى سيطرة النظرة السلبية عند التوجّه نحو الغرب، مع تهميش الأمور السلبية التي عاناها المجتمع القبَلي العربي، قبل الإسلام وبعده، إذ لم يحظَ بالمقاربة النقدية عينها التي حظيت بها الحضارة الأوربية.

قوة الشعر والدين عند العرب

يلفت انتباه القارئ دفاع المؤلفة عن الشعر وعَدّه علاجًا لداء فقدان المعنى «المهلك للغة وللفكر» في آنٍ؛ «لأن الشعر فيه ضبط كبير بل وشغف لرصد معاني الكلمات، وهو مستوحى من أنساق ثقافية عتيقة محفوظة وحافظة». (ص46). كما نجدها تنتقد محاولات تهميش الشعر في الحياة الثقافية واستبدال الرواية به، عادّةً «أن الإعجاز عند العرب كان إعجازًا لغويًّا بامتياز؛ لأن ثقافتهم تتجلّى في عبقرية البناء اللغوي. تسكن أجسادهم في بيوت الشعر وأرواحهم في بيوت الشعر. ويمكن اعتبار الشعر عند العرب ضميرهم الثقافي». (ص47).

وما يميّز الحضارة العربية مِن الحضارة الأوربية أمر بالغ الأهمية بالنسبة إليها، وهو أن دين العرب خرج «من بلادهم، بل وبلغتهم، ونزل على فردٍ منهم»، وذلك خلافًا للممالك في الغرب التي قامت «على وحي دين غريب أتاها من الشرق». فموطن المسيحية الأصلي يكمن في المشرق وليس في أوربا، بينما العرب «هم الأصل والمنبع لثقافتهم عبر القرون»، وهم بحسب تعبيرها «النبع الرقراق الذي تُستقى منه الحضارة العربية الإسلامية الواسعة». (ص83).

في الدفاع عن الحضارة العربية

لكن على الرغم مما تتميّز به الحضارة العربية، وما صدّرته إلى الغرب من طب وعلوم نُقلت إلى اللاتينية، هناك من يجحد هذه الحضارة ولا يعترف بدورها ولا بقيمتها. هذا ما حاولت المؤلّفة التركيز عليه، واندفعت بقوة لإبراز المظلومية التي تعرّض لها العرب، وهي تسعى إلى الدفاع عنهم، وإعادة الثقة والاعتبار إلى حضارتهم. إنها بقدر ما تنتقد الغرب على تهميش العرب، توجّه اللوم إلى العرب أنفسهم طارحةً السؤال الآتي: «كيف وصل الأمر إلى أن بات كثيرٌ من الشعوب التي كان للعرب فضلٌ كبيرٌ عليها، تأنف اليوم من ذكر ذلك، على أقلّ اعتبار، من باب الأمانة العلمية، بل وتبنّى بعضٌ من الفرس والترك الذين انساقوا وراء هذه الأطروحات منهجَ الجحود الحضاري ذاته الذي انتهجه الأوربيون، مقلّدين بذلك الغرب، لربما طلبًا لعزّة وطنية؟». (ص105).

تتوقّف المؤلفة في سياق دفاعها عن أهمية الحضارة العربية وتفوّقها على الحضارة الأوربية، عند المقارنة بين مملكة شارلمان من جهة، والخلافتين الأموية والعباسية من جهة أخرى؛ إذ ترى أن «الراصد لتاريخ ما يُعرف بالإمبراطورية الرومانية المقدّسة في قمّة ازدهارها- أي في زمن شارلمان- يجد أنها، على الرغم من ميراث روما العظيم، لا يمكن مقارنتها بحال مع الإمبراطورية العربية الأموية، ناهيك عن العباسية وفي زمن هارون الرشيد»، فالمساحة أكبر، وهي توازي «عشرة أضعاف إمبراطورية شارلمان».(ص110) وتلحظ أن العرب أسّسوا وسائل مبتكرة للتواصل عبر أرجاء إمبراطوريتهم، وهو الأمر الذي لم يحصل في بلاد الغرب. كذلك، تلحظ بناء العرب نظامًا اقتصاديًّا متينًا، وتطويرهم المجال الزراعي وأساليب الريّ، وهو الأمر الذي وفّر لهم مكاسب اقتصادية إضافية. كما تشير، في سياق المقارنة مع مملكة شارلمان، إلى أن «الحراك الفكري كان متواضعًا جدًّا إذا ما قورن بحال دولة العرب؛ لا من حيث النتاج العلمي أو المعماري الهندسي، أو في أي من مواطن الإبداع الثقافي من موسيقا وأدب وصناعة الكتاب والترجمة وغيرها». (ص111).

نبقى في سياق المقارنة التي تعقدها المؤلّفة بين أوربا والعرب لكي نشير إلى ما تتوقّف عنده بخصوص التنافس السياسي الحاد بين السلطة البابوية وملوك أوربا الجرمان الذي ولّد شروخًا عميقة أدّت لاحقًا إلى ثورة الإصلاح الديني في وجه الكنيسة الرومانية. فالأمر كان مختلفًا عند العرب وهم كانوا أقرب إلى المسيحية المشرقية، منهم إلى الرومانية، وفق ما أشارت إليه المؤلّفة قائلة: «هذا لم يكن قدَر العرب لأنهم مثّلوا كلتا القوتين السياسية والدينية، بل والثقافية، يشبهون بذلك إمبراطور بيزنطية أكثر مما يشبهون ملوك أوربا الجرمان». (ص113)

تشدّد في كتابها على دحض «أسطورة وحدة الحضارة البشرية»، وهي ترى أن المسارين الحضاريين متوازيان ومختلفان بين ضفتَي المتوسط، وذلك على الرغم من التجاور الجغرافي والتقاطع الفكري بينهما. ترفض النظر إلى «الحضارة المادية الغربية الحديثة» باعتبارها جزءًا من التجربة الحضارية العربية «الفريدة» و«المتميّزة». تقول: «أما نحن -العرب- فأهل حضارة أصيلة جذرًا وفرعًا. ومن المؤسف أننا نتماهى معها وجدانيًّا (…)». (ص114)، كما تشدّد على أن المقارعة يجب أن تكون «فكرية أخلاقية، مع الاعتراف بالتراجع والضعف السياسي والعسكري والتقني. فمناط الإنسانية ليس في الآلة أو الغلبة المادية!». (ص116).

بين العرب واليونان

ترى المؤلفة أن العرب هم الورثة الحقيقيون للتراث الهليني، وتشير إلى أن حضارة اليونان «كانت الأقرب إلى المشرق، بالذات العربي، جغرافيًّا وحضاريًّا وذلك على مدى آلاف السنين، منها إلى بلاد الجرمان». (ص119). حاولت أن ترد على بعض المفكرين الذين نفوا دور الحضارة العربية، وعدُّوا أن الأوربيين هم الورثة الحقيقيون للفكر اليوناني. أشارت إلى أن عددًا كبيرًا من الدارسين الغربيين أنكروا دور الحضارة العربية، ورفضوا الإقرار بتأثر الفكر الأوربي بها. لكنها، في الوقت عينه، تشير إلى بعض الأصوات التي تعترف بالحضارة العربية وتتعاطى معها بإنصاف عندما تقول بـ«ضرورة إظهار هذا الدور الثقافي المهم والملهم للعرب». (ص121)، كما تلحظ ما يأتي: «بقدر ما هو أمر طبيعي أن يتأثر الغرب بالعالم العربي؛ إلا أن هناك صعوبة كبيرة لدى كثير من الباحثين في الغرب في الاعتراف بذلك».(ص121). كذلك تنتقد الهوس الأوربي في النظر إلى الحضارة الغربية وكيفية بنائها، وتعمل جاهدة على كسر هذا الاستعلاء في التعاطي مع الحضارة العربية.

تتوقّف في كتابها عند إبراز الفرق بين كيفية نشوء الفكر المسيحي في الغرب وبين نشوء الفكر العربي الإسلامي، فترى أن العرب لم يواجهوا حضارة واحدة قوية كالحضارة الرومانية الهيلينستية، كما فعل الفكر المسيحي بداية، «وإنما تغلّبوا على أقوى إمبراطوريتين: الفرس والروم. ثم إنهم وصلوا شرقًا إلى الهند والصين، والأهم أنهم وصلوا إليهما وهم أرباب ثقافة عربية غالبة لم تنكسر، حاملين معهم دينًا عالميًّا، ولم يعيشوا خاضعين مضطهدين تحت هيمنة دينية ثقافية سابقة لهم؛ بل ومتحكّمة بأقدارهم» (ص126). فالمقارنة تُبرز الفرق بين قوة العرب بوصفهم «علية القوم» لحظة التأسيس، في مقابل ضعف المسيحيين ومحاربتهم من قبل الرومان في القرون المسيحية الأولى.

تردّ المؤلفة في كتابها على ما يزعمه بعض المفكرين الغربيين من أن الفكر العربي لم يكن سوى ناقلٍ للفكر اليوناني، فترى أن في ذلك إجحافًا كبيرًا وإنكارًا للواقع. وتشير إلى أن «بلاد العرب كانت قبل دخول الإسلام تمثّل حواضن للفكر الإغريقي، وبعد الإسلام قدّمت الحضارة العربية قراءة منتقاة وعظيمة لإرث الإغريق أعادت إحياءه وصحّحت عليه، بعد طول سباته». (ص135)

في نقد النُّخَب المثقفة

لم تتردد المؤلفة في أن تتوجّه بالنقد نحو بعض النخب العربية التي انبهرت بالحضارة الحديثة وتنكّرت بشكل أو بآخر لأهمية الحضارة العربية ولما أنتجته عبر التاريخ، كما أنها تنتقد أيضًا من تصفهم بـ«المتأسلمين» الذين هم في رأيها «أرادوا الإسلام بدون العرب». تلحظ قائلة: «إن هؤلاء القوميين والإسلاميين مشربهم الأيديولوجي غربي بحت، في كل من حلّته القومية العنصرية ومشروعهم الاشتراكي التقدّمي، أو ذلك الإسلاموي في حلّته الثورية المؤدلجة. وهم، في الوقت ذاته، يصوّرون أنفسهم بأنهم البديل لتلك الهيمنة الغربية الإمبريالية، فهم المحرّرون للشعوب العربية أو الإسلامية من براثن الماضي العربي العتيق «المتخلّف الرجعي»، أو من تراث إسلامي تعاملوا معه على نحوٍ نفعي يقدّمون له تفسيرًا مؤدلجًا مبتورًا، (…)» (ص147).

كذلك نجدها تتابع نقدها للنخب التي برزت مؤخرًا وهم يروّجون لأيديولوجية جديدة يمكن تعريفها بـ«أيديولوجية المظلومية»، وهي تقوم على تصوير النخب لنفسها كضحية لقوى خارجية وداخلية على حدّ سواء، وهو الأمر الذي يجعلها -أي النخب- ترفع عن نفسها الشعور بالمسؤولية. «ومن هنا، يُفهم هجومهم الشديد على تقاليدهم وتراثهم، الذي يلومونه على ورطتهم الحالية. فالماضي قد أصبح عدوًّا مثله مثل الآخر» (ص148). من هنا تطرح مها الفيصل السؤال المعبّر عن خيبتها على النحو الآتي: «كيف لنا أن نتوقّع مسلكًا أفضل من الأمم والشعوب الأخرى، بينما أتى تعامُل كثيرٍ من النخب العربية مع ماضيها بنحوٍ بالغ السلبية أو بما يشبه علاقة الارتزاق؟». (ص151).

يلحظ القارئ أن معركة المؤلّفة ليست فقط مع الحضارة الغربية التي همّشت الحضارة العربية، ولا مع الحضارة الفارسية، أو التركية، إنما أيضًا مع كل النخب التي تتنكّر لماضيها، والتي فقدت ثقتها بلغتها وتراثها وبما أنتجه العلماء والمفكّرون العرب سابقًا. نجدها تنتقد هذه الاستقالة أو التقاعس الذي يمنع النخب الحالية من القيام بما يجب تجاه الفكر العربي. وقد يكون كتابها «أُمّة على رِسْلِها»، نوعًا من التعويض عن هذا النقص، أو قد يكون في نظرها، الجهد الذي كانت تأمل أن يقوم به معها كثيرون. وهي تعلن في كتابها أنها هنا تريد تقديم «سردية منصفة لا تغمط العرب حقهم كما هو حادث اليوم، وهم من كان لهم قصب السبق فيما أنعم الله عليهم من عزّة في الإسلام، (…)». (ص159).

الهدف من الكتاب

يتكشّف للقارئ مع تقدّمه في صفحات الكتاب أن الهدف الأساس من تأليفه هو إنصاف العرب، ورفع المظلومية التي لحقت بهم من الخارج أو الداخل. حاولت مها الفيصل جاهدة أن تبرهن على فرادة العرب، وتبرز أهمية ما أنتجوه في العلوم والأدب والفلسفة والعمارة والترجمة. تريد إعادة بناء الثقة بين العرب وتاريخهم، وبينهم وبين أعلامهم الثقافيين. عملت بجهد على رفع المظلومية التي لحقت بحضارتهم. وأعلنت بوضوح أنه «من المهم، بل ومن الواجب، القيام بدراسة تبيّن أوجه التوافق ومواطن الاختلاف، بين العرب، ورثة الإغريق، أو من أطلق عليهم العرب «يونانيين»، والدور الذي قامت به هاتان الأمتان في تشكيل العالم. والعجيب أننا نرى محوًا كاملًا لهذا الدور العربي واحتسابه مجرّد منحنى أو انعطافة في المسار الحضاري العالمي!». (ص176) هذا بعضٌ مما حاولت مها الفيصل إيصاله من خلال هذه الـ«تأمّلات من بلاد العرب».

في الختام، يبقى لنا أن نسأل، هل أصابت مها الفيصل الهدف؟ هل كل الجهد الذي بذلته المؤلّفة سوف يتلقّاه اليوم المعنيون ليُعيدوا الثقة بماضيهم ويجتمعوا على النهوض بحاضرهم لاستعادة الدور السابق، وإعادة الاعتبار إلى حضارةٍ مجدها بات مسلوبًا؟

هل أنصفت أهل الغرب عندما سلّطت الضوء أكثر على الانتهاكات اللاإنسانية التي قام بها بعضهم خلال الحروب؟ في المقابل، هل حياة العرب قبل الإسلام وبعده كانت فعلًا نموذجية إلى حدّ لم تشهد معه خروقات معلنة للأعراف والتقاليد والمبادئ الأخلاقية والدينية؟ هل، كما ورد في التأمّل الأخير وفي غيره، كان العرب في مجملهم منفتحين على الفكر اليوناني، وبالتحديد الفلسفي، واستقبلوه من دون اضطهاد أصحابه ولا تكفيرهم؟

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *