المقالات الأخيرة

“لقاء مارس 02: تواشجات” دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

“لقاء مارس 02: تواشجات”

دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

فيما يشبه الالتزام الأخلاقي والجمالي، تبنى لقاء مارس السنوي، الذي تنظمه مؤسسة الشارقة للفنون، في دورته الجديدة التي انتهت أنشطتها قبل أيام، طيفًا واسعًا من القضايا والموضوعات والنقاشات وعروض الأداء، التي لئن اختلفت وتعددت وتنوعت، إلا أنها تذهب كلها إلى منطقة واحدة،...

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

حكومة ثانية

قبل أن يذهب سولجنيتسين لزيارة صديقه هاينريش بول في فبراير، عام 1974م، كان هذا الأخير قد تعرض في ألمانيا لانتقاداتٍ شديدة بأنه لم يفعل شيئًا لأصدقائه وزملائه الكتَّاب في الاتحاد السوفييتي، لدرجة أنه كان من الممكن أن يقوم سولجنيتسين بدلًا من زيارته بزيارة الصحفي الألماني المحافظ غيرهارد لوفنتال؛ ذلك المعارض للشيوعية والليبرالية معًا، ولكنه قرر أخيرًا النزول في منزل هاينريش بول لينام فيه ليلتين، قبل أن يغادر إلى سويسرا وتكون تلك الزيارة آخر مرة يلتقي فيها الصديقان الحائزان على نوبل الآداب.

في العام ذاته الذي تمت فيه الزيارة كان سولجنيتسين قد أصدر، من باريس، روايته الأشهر على الإطلاق «أرخبيل غولاغ»، وسُئل حينها هاينريش بول عما إذا كانت هذه الرواية قد غيرت بالفعل من البنية الفكرية للعالم وعما إذا كان قد أُصيب بالذهول من الفظائع التي وردت فيها، فكتب إجابته في صحيفة فرانكفورت ألغماين FAZ قائلًا: «نعم، نعم ومرة أخرى نعم». أعلن هاينريش بول غضبه من المدافعين الغربيين عن الشيوعية بعدما أظهر وفضح سولجنيتسين سجون التعذيب ومعسكرات الاعتقال السوفييتية في روايته التي غدت وثيقة مؤسسة للعقلية الغربية ولفلسفة التاريخ المعادية للماركسية، ولا سيما الفلاسفة الجدد في فرنسا مثل الفيلسوف أندريه غلوكسمان الذي عدّ «الأيديولوجيات ذريعة وحجة للكراهية لكنها ليست السبب في ذلك»؛ ذلك أن سولجنيتسين قد أكد أن الإرهاب الستاليني سمة أساسية للأيديولوجية الماركسية.

نُظر لأدب سولجنيتسين كتاريخٍ موازٍ ومضاد لتاريخ العهد السوفييتي، فكتب ذات مرة:

«الكاتب الكبير أشبه بحكومة ثانية».

وكلاهما، سولجنيتسين وهاينريش بول، كانا بالفعل أشبه بحكومة ثانية، أصر الأول على أن يبقى متناغمًا مع قوله: «لا تعش مع الكذبة» ليغدو مشجعًا لبذور الأمل في أوربا الشرقية، وأصبح الثاني أشبه بضمير ألمانيا الحي، يسلط الضوء على موضوعات أخلاقية خلافية بشكلٍ لم يسبقه إليه أحد، وبخاصة ما يتعلق بأحداث الحرب العالمية الثانية وسلوكيات دول الحلفاء المريبة. فهو كان قد أُصيب بالذعر حين زار مدينة (هايدلبرغ)، المدينة التي ينحدر منها معظم قادة الحزب النازي، ليجدها سليمة من دون دمار وكأنها لم تعش حربًا كحال مدينته المدمرة (كولونيا)، أو كحال مدينة دريسدن التي دُمرت عن بكرة أبيها ولم تُستثن من ذلك حتى الكنائس نفسها، وأفرغ البريطانيون فيها كل حقدهم في الأيام الأخيرة للحرب، عادًّا أن مجرد سلامة هذه المدينة (هايدلبرغ) لا يليق بها، بل إن في ذلك كارثة أخلاقية جمالية.

كان هاينريش بول نفسه جنديًّا في الجيش الألماني الذي خاض الحرب العالمية الثانية، وعاد من الحرب مهزومًا ليجد أحدهم وقد استولى على منزله، ليكتشف حجم الخدعة التي سِيقَ بسببها إلى الحرب، ومن تلك الخدعة انطلقت فتوحاته الأدبية وصولًا لحصوله على نوبل الآداب عام 1972م، أي بعد عامين من حصول سولجنيتسين عليها.

زيارة سولجنيتسين لهاينريش بول في منزله شكلت لحظة تاريخية عالمية، فالمنزل حينها حاصره الصحفيون العاملون في كُبْرَيات الصحف العالمية لتغطية المؤتمر الصحفي الذي عقده الكاتبان أمام المنزل. هذه الزيارة التاريخية والإقامة القصيرة لسولجنيتسين في ذلك المنزل، تتم إعادة إحياء ذكراها، مع هذا المقال المترجم، من باب الوفاء لهاينريش بول ودوره في دعم الكتاب الروس الذين انشقوا عن الاتحاد السوفييتي.

فيكتور يايروفييف في مواجهة التاريخ الروسي

كاتب المقال هو الكاتب الروسي فيكتور يايروفييف من مواليد موسكو 1947م. كان والده مترجمًا للغة الفرنسية لدى ستالين. كتب أطروحة عن فيودور دوستويفسكي والوجودية الفرنسية، وفي عام 1979م طُرِدَ من اتحاد الكُتّاب بجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق؛ بسبب مشاركته مع كل من الكاتب الروسي فاسيلي أكسيونوف والكاتب أندريه جورجيفيتش في تأليف التقويم الأدبي المعروف بالروسية باسم Метрополь (альманах) وبالألمانية Literaturalmanach Metropol الذي ضم نصوصًا لكُتّابٍ معترفٍ بهم من السلطة السوفييتية وكُتَّاب غير معترف بهم ضمن مدينة موسكو التي أخذ التقويم اسمه منها، وعُوقب الجميع بمنع نشر أعمالهم إلى أن أتت البيريسترويكا، ليُعفى عنهم. فيكتور يايروفييف اشتهر بعد البيريسترويكا التي قادها غورباتشوف، ولا سيما في عام 1989م مع ظهور روايته الأولى «الجمال الموسكوفي Die Moskauer Schönheit» التي تحمل بالروسية عنوان «Русская красавица»، وتُرجمت لأكثر من 27 لغة منها الألمانية.

كان فيكتور يايروفييف من كبار منتقدي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فوصفه بقوله: إن «بوتين تلقى دفعة قوية من ثقة الغرب وإيمانه به، لكنه لا يؤمن بالقيم الغربية».

يرسم يايروفييف صورة عن بوتين، ليبني عليها موقفه الرافض لبوتين وسياساته في روسيا، قائلًا: «ليس لدى بوتين أساسٌ أيديولوجي، كما كان عليه الحال في ظل الشيوعية أو كما هو الحال في أوربا، حيث يوجد هذا الأساس الليبرالي والديمقراطي. بوتين ليس ديمقراطيًّا، بوتين ليس ليبراليًّا، وفي الوقت ذاته ليس شيوعيًّا. إنه الرئيس الكبير ولكنه بلا أيديولوجيا. إنه ينأى بنفسه عن القيم الأوربية ويسعى جاهدًا ليوتوبيا جديدة: حضارة أرثوذكسية، الاتحاد بين الدولة والكنيسة، وأنا أرفض هذا تمامًا».

دعم يايروفييف الثورة الأوكرانية المناوئة للروس، محذرًا في عام 2015م: «سيتركز اهتمام بوتين على منع أي تطور إيجابي، ولن يترك أوكرانيا تهنأ بالهدوء».

من كتبه الأخرى رواية «ستالين الجيد» وهي رواية سيرة ذاتية عن الأيام الأخيرة لستالين وحكمه. أما روايته «موسوعة الروح الروسية»، فهي رواية تتناول خصوصية العقل الروسي وأين تقف روسيا بين الشرق والغرب، وكذلك القيم الروسية وأسلوب الحياة والروح الروسية، عبر مزيج من الإثارة والجريمة والفلسفة والسخرية والكوميديا، وتعالج سؤالًا مهمًّا هو: «ما الذي يجب القيام به لتعود روسيا وتصبح قوة عظمى؟».

يذهب يايروفييف في الرواية إلى أنه على الجيش والمخابرات العثور على «رعب أسطوري»، وينضم إليهم مثقف روسي غارق في المغامرات والرعب، وفي النهاية هنالك فانتازيا وأوهام موت الرعب، حتى ينال الشك من بطل الرواية في استحالة العيش حياة طبيعية بروسيا، فكل شيء يُثير لديه السخط سواء الكرملين أو الشعب أو الأوليغارشية أو أميركا، والعالم والفضاء الروسي يُثير لديه الضحك لكنه يدخل في حالة اكتئاب، بينما يحلم في الوقت ذاته بميتافيزيقا جديدة لصالح البشرية جمعاء وهو ما يمنعه من مغادرة روسيا.

يصف يايروفييف كتابه الأخير هذا عن الروح الروسية قائلًا: «لقد مزق هذا الكتاب مؤلفه، ولذلك فهو غير معتادٍ من وجهة نظرٍ رسمية: مُقطع كفسيفساء مبعثرة، يبدو بلا شكل جزئيًّا، لكنه خامة مخادعة. في الحقيقة إن شكل الكتاب يعكس تمرد الكاتب على أوهامه».

يقول بطل الرواية الذي جعله بلا اسم: «أنا عدو للشعب، ليس لدي إحساسٌ جميل وليس من مبررٍ يدعو للتفاخر، مشاعر الازدراء تنطوي على كبرياءٍ أقل من اليأس».

ويصف الروس في هذه الرواية: «يجب أن تضرب الروس بهراوة، وعليك أن تُطلق النار على الروس، وعليك أن تدق الروس بالحائط دقًّا، وإلا فلن يكونوا روسًا».

يعتقد يايروفييف أن ستالين لا يزال جاثمًا في رؤوس الروس، بل إنه في روايته الأخيرة المترجمة إلى الألمانية «Die Akimuden» التي تبحث في مصير روسيا ومستقبلها وحاضرها، يعتقد أن هنالك ثورة يقودها الموتى، يستولون فيها على السلطة في موسكو، ويهتفون: «روسيا للموتى». ويذهب أبعد من ذلك، ليقول: «روسيا بلدٌ يغضب فيه الموتى من الأحياء؛ ذلك أن كثيرًا من الأبرياء قد قُتلوا ومات فيها كثيرون بسبب سوء الأحوال المعيشية».

أما ستالين، فهو وفقًا للرواية: «ستالين هو طريقة، هو وسيلة للاستيلاء على السلطة والاحتفاظ بها…». و«Die Akimuden» هو اسمٌ فانتازي، واسم بلدٍ غامض يفتتح سفارة له في موسكو، ويُبحَثُ عبثًا عن هذا البلد على الخريط طويلًا، لكنه ليس موجودًا، فهو ليس إلا بوابة وجولة على أنقاض الاتحاد السوفييتي، أي أنها إحدى تقنيات الكتابة الروائية التي تجعله يلتقي ليس ستالين فقط بل حتى كليوباترا.

هذه الرواية التي وُضع لها عنوانٌ فرعي «روايةٌ غير بشرية» أترجمُ منها هذا المقطع القصير التالي: «في موسكو لا أحد يُصدق أي شيء، ولذلك، فغالبًا ما يتعلق الأمر باشتباكٍ بالأيادي؛ لذلك ها أنا أقف في طابور أمام بنك ادخار في منطقة Pljuschtschicha (منطقة بموسكو) القديمة ذات الظلال الحسنة، حيث تنمو أشجار التنوب التي تجاوزت المئة عام وحيث يزحف سكان موسكو العريقون، صعودًا وهبوطًا، كحلزوناتٍ تخرج من قوقعتها ثم تعود إليها. في البنك هنالك تدافعٌ كثيف كما كانت الحال في الحقبة السوفييتية، وأمامي رجلٌ في منتصف العمر، بسترةٍ بيج، يسأل موظف البنك الوسيم: ما هو تاريخ هذا اليوم الذي نحن فيه؟».

ومن هذا السؤال يبدو أن لا أحد يعرف تاريخًا دقيقًا دون شكوك ودون شوائب، حتى بطل الرواية نفسه كانت إجابته عن سؤال الرجل في منتصف العمر: «لا أعرف».

يصف يايروفييف نفسه الكتاب: «في هذا الكتاب نشاهد ثورة الموتى. يجب علينا أخيرًا أن نواجه تاريخنا، وهذا الكتاب مجرد خطوة في هذا الاتجاه».


في‭ ‬زيارة‭ ‬منزل‭ ‬هاينريش‭ ‬بول‭:‬

إحياء‭ ‬لذكرى‭ ‬هذا‭ ‬الأخلاقي‭ ‬الخالد‭ ‬وتضامنه‭ ‬مع‭ ‬المنشقين‭ ‬في‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي

يقع منزل هاينريش بول في محلةٍ خلابة من بلدية كرويزاو بالقرب من مدينة دورن(١)، وهو متواضع في حد ذاته، فهو حرفيًّا متشرب بالإخلاص كما لو كان كعكة مغموسة في شراب. من أين أتى هذا الإخلاص؟ المنزل لا يتحمل أية أسرار، فهو مخترقٌ بأصواتٍ مشبوهة، أنشئ حرفيًّا ليكون نُسْكًا للعدالة، مثل بول الذي كان أحد النُّسّاك. الأصوات المهيمنة على المنزل تنتمي إلى الألواح الأرضية القديمة، التي تصرخُ عميقًا من القلب.

في منزلٍ كهذا لا تُقام حفلات سكرٍ وعربدة، ويفكر المرء عشر مرات قبل أن يُمارس الحب مع زوجته، فهو منزلٌ لا يستسيغ الصراخ الجامح أو التأوهات الجنسية على السرير. قبل أن يكون ملكًا لبول الذي كتب رواية بعنوان «منزلٌ بلا حراس» كان ملكًا لكاهن، وهكذا بالضبط بقي كل شيء عفيفًا طاهرًا، وكأنما بقي فطريًّا بدائيًّا. حتى أدوات المائدة الرخيصة الثمن، السكاكين، الشوك والملاعق، كل منها مؤازرة للإخلاص. ومع أن بول قد انفصل عن الكنيسة الكاثوليكية، لكنه لم ينقطع عن نمط حياتها اليومية المعيشة. كل شيء في هذا المنزل يؤكد أن يكون حصيفًا منيعًا ضد الانبهار.

في غرفة المكتبة عُلقت صورةٌ لبول وسولجنيتسين(٢) وهي تلك الصداقة الممجدة بين اثنين من مشاهير الأدب، إذا صح القول. سولجنيتسين الشامخ الطويل، المتذمر أبدًا، الذي عانى لأجل وطنه الأم الرازح تحت نير الشيوعية، ذو ندبةٍ بارزة على جبينه، كان قد أتى إلى هنا قادمًا من الاتحاد السوفييتي بعد سحب جنسيته منه. كانت الساحة، آنذاك، مكتظة، بكاملها، بالصحفيين والميكروفونات وكاميرات التلفزة. يتدافعون فيما بينهم، وكل منهم يحاول أن يسبق الآخر للوصول إلى ضمير الأمة الروسية. إلى جانب سولجنيتسين بول الصغير إلى حد ما بوجهه المعبر تمامًا عن مهرج، ومن هنا كان عنوان كتابه الأكثر أهمية،
«تأملات مهرج».

لم يُفاجئني، أنه ورغم كل ذلك الحب الذي كان يكنّه سولجنيتسين لبول، فإنه لم يمكث في ذلك المنزل أكثر من ليلتين، كما قيل لي. في غرفة النوم الضيقة في الطابق الأول، على ذلك السرير الذي يُصدر صريرًا، لا يشخر المرء ولا يُصدر ريحًا، وهو ما سيُسمع في كل أنحاء المنزل، وسولجنيتسين وفقًا للأسلوب الروسي كان إنسانًا محتشمًا خجولًا. عدا ذلك، كان سقف الحمام منخفضًا جدًّا، وكان بإمكان بول أن ينتصب واقفًا في حوض الاستحمام، أما سولجنيتسين فعلى الأرجح كان يغتسل في وضعية جلسة القرفصاء. ومن الجدير بالذكر أن سولجنيتسين كان ثعلب معسكرٍ مخضرمًا بعد ثماني سنوات في غولاغ(٣)، يُزعجه الحمام بدرجة أقل، مقارنة بالأصوات المشبوهة للمنزل.

الميزة الكبيرة للمنزل هي موقعه المشمس على سفوح جبل آيفل(٤)، الحديقة مع شجرة الكرز العملاقة. حوض السباحة في الحديقة مغطى بإحكام، فكيف يمكن للمرء التجديف في المياه مع هذه البيئة الإنسانية المتقشفة؟ وعلى الجانب الآخر من سور الحديقة يوجد مرعى، حيث ترعى الأبقار القوية بقرونها الضخمة بينما تتعثر من حولها العجول الصغيرة الفاتنة في خطاها، وبنظرةٍ على هذا المشهد الذي يُدفئ القلب يرغبُ المرء أن يصبح نباتيًّا من فوره. منذ عهدٍ قريب، وفي أحد أيام شهر يونيو كانت الحديقة ممتلئة بالناس: الجيران يرتدون ملابس أنيقة تتناسب وهذه المناسبة، موظفو الدوائر الحكومية المحلية وبعض المحاضرين الجامعيين من مدينة آخن وأنا. وليمةٌ لبول، يوم الباب المفتوح في منزله. كانت الموسيقا الكلاسيكية حية حاضرة، وكعكة الجوز معدة لتُؤكل. قال لي أحد الجيران المثقفين من القرية على سبيل الفكاهة: «أنا آتي دومًا، إذا كانت هنالك قهوة بالمجان».

استخلصتُ من المحادثات أن بول لم يُقرأ هنا؛ إذ لا يزال هنالك حزنٌ وغضبٌ منه لأنه أدار ظهره للكنيسة، وفي المدرسة كتبه غير مدرجة ضمن المناهج المدرسية، ومن الواضح أن الجيل الشاب لا يهتم بتأملاته حول تجاوز النازية وأتباع النظام النازي ضمن الطبقة الوسطى الألمانية، بعد نهاية الحرب. لم ألتقِ أحدًا وهو على معرفة شخصية ببول، وفي هذا الصدد كنتُ شيئًا خاصًّا ومميزًا.

ثم إنني التقيتُ بول في موسكو، ويُفترضُ أن ذلك كان في عام 1979م، وآنذاك كان قد حضر إلى لقاءٍ واجتماعٍ مع كتاب فضيحة الإشهار الصارخ لتقويم كتاب النشر الذاتي في العاصمة Samisdat-Almanachs Metropol(٥) الذي كنتُ قد انخرطتُ فيه، وكانت الزيارة نوعًا من الدعم، ولذلك فأنا ممتن له حتى اليوم. كواحد من المشاهير أحاط به مشاهيرنا مستأثرين به ولا سيما من صديقه المنشق ذي اللحية ليڤ كوپيليڤ(٦). ككاتب شاب لم أستطع سوى مصافحته وتبادل بضع كلماتٍ معه. لقد فهم أنني مؤلف هذه القنبلة الأدبية وابتسم متوددًا لي.

سألتُ المحاضرين الجامعيين من آخن، كيف يكون ممكنًا هذا: دافع بول، من جهة، عن اليسار الألماني المتطرف بمن فيهم الإرهابيون، ومن جهة أخرى عن سولجنيتسين الذي يكره أمثال أولئك الإرهابيين. أجابني المحاضرون بكل بساطة بأن بول وقبل كل شيء كان مدافعًا عن ضحايا الدولة من دون أن يشاركهم أفكارهم بالضرورة. هذا التقليد مستمر مع «منزل هاينريش بول»، مع الصندوق الذي يحمل اسمه ويقدم منحًا دراسية للكتاب من مختلف البلدان، إلى اللاجئين، المعارضين، النشطاء من مختلف الأقليات. في يوم الباب المفتوح تحدث أحد زملائي، وهو كاتب ألماني من أصولٍ تركية، عن القبول الذي لا يزال غير كافٍ للمثلية الجنسية في الحياة اليومية الألمانية. أصغى له الجمهور بحسن نية، ولكن يمكن استشفاف بعض اللامبالاة، فالموضوع لم يعد يؤثر بشكلٍ صادم، عدا أنه لم يعد موضوعًا مثيرًا.

أحد الضيوف المحليين أبرز لي كتابًا مصورًا لافتًا لغوستاف دوريه، فنان الغرافيك الفرنسي العظيم في القرن التاسع عشر، ومؤلف مجموعةٍ قاسية من الرسومات عن تاريخ روسيا. ربما حُظِرَ هذا الألبوم، في ألمانيا، لاعتبارات دبلوماسية في وقتٍ ما، وفيه توجد صورٌ لجميع عمليات الإعدام المروعة التي غالبًا تحتوي عناصر جنسية في عهد كل من إيفان الرهيب وبطرس الأكبر. عدا ذلك يوجد في الألبوم رسمٌ لمركزٍ حدودي: يفر الروس عبره إلى أوربا مسرورين ثم يعودون إليه حزينين بائسين. لا تزال هذه هي الحال ولكن ليس مجددًا. نحن الروس وطنيون بالطبع، لكن لكل منا روسيا التي تخصه. أرض الإعدامات وفي الوقت ذاته بلاد بوشكين وتشيخوف وباسترناك، البلد الذي تُطبَع وتُقرَأ فيه حتى الآن، ورغم كل شيء، كُتُب الكاتب الأخلاقي الخالد النزيه هاينريش بول.


ترجمته عن الروسية بياتا راوش

نُشر المقال بالألمانية بتاريخ 7 أغسطس 2022م

المصدر: جريدة «Die Zeit الزمن» الألمانية


هوامش:

(١)  مدينة Düren تقع في مقاطعة شمال الراين-وستفاليا في غربي ألمانيا، بين مدينتي آخن وكولونيا.

(٢)  ألكسندر سولجنيتسين كاتب ومعارض سوفييتي روسي توفي عام 2008م. طُرد من الاتحاد السوفييتي السابق في عام 1974م وعاد بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتفككه ليمنحه الرئيس بوتين جائزة الدولة للغة الروسية. نال جائزة نوبل للأدب في عام 1970م. من أهم رواياته وأشهرها «أرخبيل غولاغ» وهي عن معسكرات الاعتقال السوفييتية.

(٣)  غولاغ Gulag هي معسكرات الاعتقال السوفييتية في سيبيريا، حيث فُرض العمل القسري فيها على السجناء. أُقيمت هذه المعسكرات منذ عهد لينين، ولكنها بلغت ذروة قسوتها مع وصول ستالين للحكم بعد وفاة لينين.

(٤)  إيفيل Eifel هي سلسلة جبال تقع في غربي ألمانيا وشرقي بلجيكا وتمتد إلى لوكسمبورغ. يبلغ أعلى ارتفاع فيها قرابة 7479 مترًا عن سطح البحر.

(٥)  ساميزدات Samisdat وبالروسية самизда́т تعني النشر الذاتي، حيث كانت الحكومة السوفييتية وطوال تاريخها تفرض رقابة أيديولوجية صارمة على كل أشكال المحتوى والمعلومات التي تُنشر، فكان النشر يقتصر على النشر الرسمي للحكومة السوفييتية وهو الوحيد الذي يُعَدّ شرعيًّا وفقًا لتوجيهات تلك الحكومة. لجأ الكتاب المنخرطون (ومنهم كاتب هذا المقال) في هذا التقويم إلى طباعة أعمالهم بعيدًا من أعين الحكومة ونشروها ووزعوها وهي تنتقل من يد إلى يد، ويُقصد بالمتروبول Metropol هنا العاصمة موسكو.

(٦)  ليڤ كوپيليڤ Lew Kopelew كاتب روسي ألماني مولود في كييف، توفي في عام 1997م. كان أيضًا أحد سجناء معسكر الاعتقال غولاغ حيث التقى فيه ألكسندر سولجنيتسين، وأُطلق سراحه بعد عام واحد من وفاة ستالين. عمل محاضرًا في تاريخ الصحافة وكذلك ناشرًا أدبيًّا في ألمانيا، وكتب سيرة ذاتية عن الكاتب الألماني والمسرحي برتولد بريخت Bertolt Brecht. دافع بقوة عن ربيع براغ، فعوقب بالطرد من الحزب الشيوعي السوفييتي ومن وظيفته في معهد تاريخ الفن. التقى في شقته في موسكو في عام 1960م الكاتبَ الألماني هاينريش بول، وكوّن صداقة حميمية معه أثرت في باقي حياته بشكلٍ كبير.

المنشورات ذات الصلة

لم يتم العثور على نتائج

لم يمكن العثور على الصفحة التي طلبتها. حاول صقل بحثك، أو استعمل شريط التصفح أعلاه للعثور على المقال.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *