المقالات الأخيرة

“لقاء مارس 02: تواشجات” دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

“لقاء مارس 02: تواشجات”

دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

فيما يشبه الالتزام الأخلاقي والجمالي، تبنى لقاء مارس السنوي، الذي تنظمه مؤسسة الشارقة للفنون، في دورته الجديدة التي انتهت أنشطتها قبل أيام، طيفًا واسعًا من القضايا والموضوعات والنقاشات وعروض الأداء، التي لئن اختلفت وتعددت وتنوعت، إلا أنها تذهب كلها إلى منطقة واحدة،...

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

خليل علي حيدر: «تيار الصحوة» مأزوم وممزق من الداخل

وينبغي التمييز بين التنوع الطائفي الذي له فوائده وبين الطائفية

بواسطة | سبتمبر 1, 2022 | حوار

يُعد الكاتب والباحث الكويتي خليل عليّ حيدر أحد أبرز الكتّاب في الخليج العربي منذ أربعة عقود، على الأقلّ، بعد حصوله على الدرجة الجامعيّة في اختصاصين هما التاريخ والتربية، من جامعة رود آيلاند في الولايات المتحدة الأميركية سنة 1984م. ويأتي هذا البروز من جهة غزارة إنتاجه وكذلك انخراطه في مشاغل المنطقة العربيّة عمومًا والخليجيّة على وجه أخصّ، سواء ما ارتبط بالمشاغل الراهنة أو التاريخيّة وما يترتّب عليها اليوم، إضافة إلى سعيه الدائم نحو استشراف وقراءة الأحداث ومآلاتها في المستويات السياسيّة والاجتماعيّة والفكريّة والثقافيّة.

ولئن بدت اهتمامات خليل عليّ حيدر كثيرة ومتنوّعة فإنّ خيطًا ناظمًا يربطها وهو ما يمكن تبيّنه عند قراءة كتبه ومقالاته، فقد كتب في قضايا التنمية والديمقراطيّة ومدنيّة الدولة وقضايا المرأة وعلاقات الدول العربيّة بالدول الآسيويّة والغربيّة وقضيّة التحديث، وما سمّي بـ«الصحوة الدينيّة» والطائفيّة والإسلاميّة، وهي قضايا شديدة الارتباط، وكلّ محاولة لفصلها بالنسبة إليه يمثّل تجزيئًا غير مُجْدٍ.

ومن اللافت للنظر في كتاباته أيضًا اهتمامه العميق بالمسألة الثقافيّة التي تمثّل بالنسبة إليه محورًا شبه قارّ، وفي ذلك دلالة على الوعي بقيمة البعد الثقافي في معناه الواسع في العمليّة الإصلاحيّة، وأثرها في تجاوز الواقع المتردّي ومعالجة كلّ أشكال التخلّف والتعصّب والعنف والهيمنة. وممّا تتّسم به كتابات وتحليلات خليل حيدر هو عدم تفسير أيّ ظاهرة ببعد واحد ممّا يجعل الفهم قاصرًا ومنقوصًا؛ إذ كلّ ظاهرة هي بطبيعتها متعدّدة الأبعاد، وهذا الأمر خرج به من الركون إلى التفسير التآمري المستسلم إلى الإلحاح على مبدأ المسؤوليّة الذي ينبغي علينا الوعي به؛ فنحن أيضًا متسبّبون بشكل أو بآخر فيما نعيشه من أوضاع.

مثل هذه التوجّهات نلمسها في كتبه العديدة ومن ضمنها: «نقد الصحوة الدينيّة» (1986م)، و«تيّارات الصحوة الدينيّة» (1987م)، و«الحركة الدينيّة: حوار من الداخل»، و«العمامة والصولجان» (1997م)، و«اعتدال أم تطرّف؟» (1998م)، و«الخروج من مدار بن لكن» (م2006)، و«دوائر متداخلة» (2015م)، و«طرف الخيط» (2015م)، وغيرها من الكتب، إضافة إلى عشرات المقالات.

في هذه السياقات تستضيف مجلّة «الفيصل» الباحث والكاتب خليل عليّ حيدر للحديث عن شيء من اهتماماته ومشاغله، فكان الحوار التالي حول قضايا «الصحوة الدينيّة» وارتباطاتها بالإسلام السياسي، وتعلّق كلّ ذلك بالمسألة الطائفيّة التي وظفتها قوى سياسيّة في المنطقة العربيّة واعتمدت كورقة في السياسات الإيرانيّة وفي غيرها من السياسات أيضًا، من دون التغافل عن الأبعاد الفكريّة والثقافيّة والتاريخيّة المرتبطة بمثل هذه الإشكاليّات.

«الصحوة الدينيّة» والإسلام السياسي

  اهتممت في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي بما يسمّى «الصحوة الدينيّة» من جهة تفكيكها ونقدها وبيّنت مدى تعلّقها بحركة الإخوان المسلمين. كيف يمكن لك بيان هذا التعلّق وبخاصّة أنّ هناك الكثير من المغالطات «الاصطلاحيّة» في هذا الموضوع حول محاولات التمييز بين الأمرين؟

  للإخوة في مجلة الفيصل جزيل الشكر والثناء إذ أتاحوا لي فرصة اللقاء مع القراء بعد عقود عديدة من نشر كتابي الأول عن الإسلام السياسي بعنوان «مستقبل الحركة الدينية»، دراسات الوطن 1985م، الكويتية. الذي جمع، مع كتب لاحقة، من مجموعة ما نشرت في صحيفة الوطن من مقالات حول الظاهرة التي سميت بـ«الصحوة الدينية». قد نختلف الآن حول التسمية التي تستحقها -عبر مساراتها ومآلاتها وما فعلته بالمجتمعات العربية ومجتمعات العالم الإسلاميّ، وما فشلت في إنجازه- إلا أنها كانت في مختلف مذاهبها، في العالم العربي وإيران وباكستان وأفغانستان وشمال إفريقيا وفي أوربا، حركة مدمرة أجهضت جوانب أساسية من محاولات تحديث العالم العربي والإسلامي. وقد استفادت هذه الحركات في انبعاثها الجديد -خلال الأزمنة الحديثة والقرن العشرين والسنوات الأخيرة- من تقدم المواصلات والاتصالات وسهولة التعبئة السياسية والوصول إلى الأرياف والبوادي، واستفادت كذلك من انتشار التعليم وظهور المدن وتأسيس الجامعات وتشكل الشرائح المتوسطة التي أسهمت في تنامي الظاهرة الدينية المعاصرة، إضافة إلى ما تتميز به هذه الحركات من تنظيم حزبي وقيادة هرمية وأيديولوجية شمولية ولجان متخصصة وإعلام مطبوع ومسموع ومرئي وغير ذلك.

تأسست جماعة «الإخوان المسلمين»، أبرز وأقوى هذه الجماعات، عام 1928م، أو نحو ذلك، في مصر، وامتدت منها إلى دول أخرى عربية وغير عربية، وهي اليوم في إنجلترا وألمانيا وأميركا ربما أقوى مما هي في دول عربية كثيرة. وعلى الرغم ممّا تعانيه حركة الإخوان اليوم فإنّها لا تزال متماسكة ومؤثرة وجماهيرية كما كانت، غير أن الجماهير المصرية والعربية والإسلامية هي التي تغيرت عما كانت عليه عام 1928م، وبخاصة بعد ما سمي بالربيع العربي عام 2011م. وهذا ما جعلني والكثيرين ممن يدرسون الإسلام السياسي و«الصحوة الدينية» يهتمون بالإخوان لما للحركة من جاذبية فكرية في مجالها، ومن تأثير وامتداد وقدرة على التشكل والتلوّن واللعب في الخفاء وكسب الجماهير في العلن، مستفيدة من تعثر ما طمحت له الدول العربية من تقدم ونهضة، ومستفيدة أيضًا ممّا في العالم العربي والإسلامي من سذاجة سياسية وتعجل واقتناع بالوعود، وانتشار الفقر والبطالة وغير ذلك من أسباب.

كان أبزر ما شعر به مرشد الحركة، عند تأسيسها، بعض أشكال الفراغ فدفع بجماعته تحت مؤثرات المرحلة وما فيها من أنظمة شمولية وحركات فاشية لأن تجمع بين دفتيها كل ما يتمناه الجمهور من حركة سياسية اقتصادية اجتماعية رياضية… إلخ. وظلت الحركة إلى اليوم تتلقى الدعم في كل المجتمعات الإسلامية من «جيش لا آخر له من المتعلمين وغير المتعلمين، وفقراء المدن المقتلعين من الأرياف الذين تمتلئ نفوسهم غضبًا واحتقارًا تجاه سكان المدن والنخب الحاكمة والقيم والقوانين السائدة فيها، ومن الطلاب السذج سياسيًّا، والكثير من الحالمين أو المستفيدين الآخرين والذين يبحثون عن حلول مثالية سحرية سريعة لمشاكل سياسية واقتصادية واجتماعية معقدة. فلا عجب أن تسحرها الوعود الجميلة، والمنجزات البلاغية وأن تسير خلف شعارات وكتب وأشرطة الإسلاميين في أي اتجاه مشوا… إلى أن تصدمهم الحقائق»(١).

  في كتاباتك حول «الصحوة الدينيّة»، منذ ثلاثة عقود، استشرفْتَ مآلاتِها. كيف يمكنكم اليوم، وبخاصّة بعد التحوّلات السياسيّة في العقد الأخير في الكثير من الدول العربيّة، تقويم ذلك الاستشراف؟

  التحولات السياسية في العقد الأخير، في الكثير من الدول العربية -التي حاولت الأحزاب السياسية الدينية وبخاصة جماعة الإخوان الاستفادة منها والهيمنة الكاملة على المنطقة- أثبتت أن تغيرًا قد حدث في موقف نسبة كبيرة من شعوب المجتمعات العربية إزاء تيار الإسلام السياسي وأحزابه. وفي مصر خاصة كان الانقسام عام 2013م حادًّا والمشهد دراميًّا ونفور الملايين من جماعة الإخوان واضحًا. تمنيت نتائج أفضل لتحرك الشعب الليبي بعد أربعين عامًا من تسلط الرئيس القذافي ولكن النتيجة كانت دامية، ولا يزال المستقبل غامضًا. إن الدكتاتوريات العربية وغير العربية لا تحطم الحاضر فحسب وإنّما تدمر المستقبل كذلك؛ لأنها تحرم الشعوب من ممارسة العمل السياسي والنضج الاجتماعي وتسبب ضمور تقاليد المشاركة في الحياة العامة وفي مؤسسات المجتمع الميتة، ما عدا القوى الأمنية والجيش؛ بسبب عسكرة كل جوانب الحياة وحاجة النظام للقمع.

فوجئت كالكثيرين بالأداء الهزيل لحركة الإخوان وقياداتها في مصر خلال فترة هيمنتهم، وبخاصة فشلهم في فرز زعيم أقوى من «محمد مرسي» الذي لم يكن أداؤه مقنعًا وبخاصة من قبل حركة عمرها أكثر من ثمانين أو تسعين عامًا. بعد هيمنة الإخوان المسلمين على حكم البلاد كادت مصر أن تدخل نفقًا مجهولًا عام 2013م. وكان من الممكن بسهولة أن ينشأ تحالف بالغ الخطورة له ثلاثة أطراف قوية هي مصر وإيران وتركيا، وربما دول أخرى عربية وخليجية وغيرها. وهو وضع كان سيقلب تاريخ المشرق العربي ومستقبله، وبخاصة دول الشام والعراق والمنطقة الخليجية.

وحول مآلات «الصحوة»، اليوم، فالواضح لكل دارس وباحث، بل للإسلاميين أنفسهم، أن التيار مأزوم وممزق من الداخل، بين توجهات وقناعات ومدارس، وبين تجارب الماضي وضغوط المستقبل وبين الحمائم والصقور!

لا تستطيع جماهير العالم العربي اكتشاف خطورة شعارات «الصحوة الإسلامية» وعدم واقعيّتها بالسهولة نفسها في كل البلدان والأحوال؛ فللتيار الديني، كما هو معروف، وسائله ومغرياته لجذب شرائح المجتمع. فعلى سبيل المثال، أغرق زعماء الثورة الإيرانية الجمهور بين عامي (1978: 1979م) بالوعود والإغراءات، وأعطوا الريفيين والشباب والعاطلين على وجه الخصوص «الشمس بيد والقمر بالأخرى»، وها هي القيادة الإيرانية، منذ أربعين عامًا ونيف، أبعد ما تكون عن تنفيذ وعودها.

  هناك انحسار سياسيّ واضح، خلال السنوات الأخيرة، لحركات الإسلام السياسي. كيف تتوقّعون مستقبلها؟

  أتساءل دائمًا عن هذا «الهدوء المريب» للتيار الديني وجماعات الصحوة! هل هو انحسار فعلًا أم كمون، وتغيير جلد، أم شيء ما لا نعرفه؟! هل يمكن لهذا التيار الذي كان ملء السمع والبصر، ومهيمنًا على الناس والإعلام والمساجد، أن يخسر مصر ودول الخليج مثلًا، وأن تقوم في وجهه فجأة كل هذه الحواجز الإقليمية والدولية، وأن يخسر كل هذه الأموال؟ لقد تلقى التيار منذ انتهاء تحولات 2011م ضربات موجعة، وهناك معاناة داخلية مجهولة ضمن الأحزاب والجماعات والقيادات. ولكن هل جرت كذلك تحولات داخل مجتمعاتنا وثقافتنا ومناهج تعليمنا؟ هل فُتحت أبواب النقاش حول الإعلام أو التعامل مع التراث أو علاقة الدين بالدولة والسياسة؟ هل درسنا بعمق ما جرى في عام 2011م و2013م إلى اليوم. أشكّ أن هناك جهودًا فكرية لم تبذل وحوارات لم تجر وقضايا لا يزال من الصعب الاقتراب منها.

إن توازنات المشرق العربي في هذه المرحلة قائمة على علاقات وثيقة بين مصر والدول الخليجية، ولكن هل الأمور بخير إن كانت العراق وسوريا ولبنان واليمن خارج الحسابات؟ الحاجة مُلِحّة لظهور تيار سياسي وثقافي واقعي مضاد للتعصب وغير معادٍ للدين وقادر على اجتذاب الشباب بتوجهات منفتحة على العصر. ولكن أين العالم العربي وسط معاناته، ومن كل هذه الأماني! توقعاتي أن تلجأ الصحوة وجماعاتها إلى إعادة ترتيب أوراقها ومحاولة الاستفادة من كل خلاف وانقسام. وهناك كذلك النموذج التركي ومدى قدرته على تهميش أو تبديل الإسلاميين العرب. ثمة رصيد هائل في العالم العربي والإسلامي من الفهم المنغلق والاستعلائي للدين الذي يشارك فيه الأميون والمتعلمون والأطباء والمدرسون والمهندسون على حد سواء. ثمة أوهام سياسية وهناك الكثيرون ممن يروجون للحلول السهلة والمرتجلة لمشاكل التخلف والفقر، وهناك من الدول من تصرف عليهم بسخاء أحيانًا ومجانًا أحيانًا أخرى؛ ولهذا وغيره من المستبعد أن تزول الظاهرة على الرغم مما يبدو عليها من انحسار وتراجع.

علاقة الإسلام السياسي بالمسألة الثقافية

  من الواضح تمامًا من خلال إجابتك أنّ المسألة فيها بعد فكريّ وثقافيّ عميق، فكيف يمكن تحديد علاقة تيّارات الإسلام السياسي بالمسألة الثقافيّة؟

  أشكر الأخ المحاور ومجلة الفيصل على تسليط الأضواء على هذا الجانب غير المدروس في مجمل نشاط التيار الديني الثقافي وجماعاته، وأتمنى أن ندرس عطاءه الفكري والأدبي والفني والإبداعي عمومًا. فما من تيار عربي وطني أو قومي أو تقدمي أو غيره، إلا وقدّم للثقافة العربية بعض أبرز الروائيين والشعراء والنقاد والكُتّاب والبُحّاث. وهكذا برزت في ثقافتنا شخصيات فكرية وأدبية خلال القرن العشرين وما قبله. لكن يصعب على القارئ والباحث أن يصدق أن جماعة بحجم الإخوان المسلمين في مصر وسوريا والأردن والسودان -وما عايشته هذه الجماعة من ظروف سيئة وملاحقات، ونفي وهروب وضغوط- لم تعط الأدب الروائي أو الشعر أو الفكر السياسي أو السينما أو الفني التشكيلي أعمالًا، بل حتى عملًا واحدًا، يتناسب مع انتشارها وثقلها السياسي، وقد تحدّثت عن ذلك في مقال بعنوان «صحوة دينية… أم فكر عقيم؟».

لقد تحدث الإسلاميون طويلًا عن ضرورة أسلمة المعارف والعلوم، وانتشال الفكر العالمي من براثن الصليبية والماسونية واليهود، واليوم بيد المؤسسات والبنوك والشركات الإسلامية مئات المليارات، فلماذا لا نرى مؤسساتهم البحثيّة ومبدعيهم ومفكريهم وقواميسهم وموسوعاتهم التي تبز الموسوعات الغربية؟ بل لا نجد حتى تفسيرًا موضوعيًّا موسعًا للقرآن الكريم يحل محل تفسير «في ظلال القرآن» البالغ الانحياز لتيار الإسلام الحركي وتوجهات سيد قطب التوسعية وآرائه. وأين مجهود التيار الديني في مجال خدمة قواميس اللغة العربية أو دراسة تاريخ الإسلام وإعداد الدراسات عن المجتمعات الإسلامية والشخصيات المعاصرة، وعن مشاكل هذه المجتمعات؟ لا عذر لمن يتحجج باضطهاد الإسلاميين وملاحقتهم؛ ففي ألمانيا وإنجلترا وأميركا جحافل إسلامية من الأساتذة والمختصين في كل مجال، وفي بنوك هذه الدول ما يكفي وزيادة للتمويل ودعم مشاريع تجديد وتقوية الانتشار وترسيخ الجماعات. أين حديث «الإسلاميين» عن أسلمة علم النفس وعلم الاجتماع والعلوم السياسية وغيرها؟!

ثمة في الواقع جهد بذله الإسلاميون في مجال ما اعتبروه «الأدب الإسلامي» ومطبوعات وروايات وقصائد، ولكنها لم تخلق واقعًا أدبيًّا أو روائيًّا أو شعريًّا أو مسرحيًّا أو نقديًّا، وبقيت من قبيل الأدب الشعبوي. قد يكون أدب الجماعات الإسلامية وما يطلقون عليه مصطلح «الأدب الإسلامي الملتزم، شبيهًا بالأدب الاشتراكي الملتزم الذي تبناه التيار الاشتراكي باسم «الواقعية الاشتراكية» وقامت عليها الثقافة في المعسكر الاشتراكي لعقود عدة حتى عام 1990م. وخلاصة مثل ذلك الأدب أن الفن والأدب لا بد أن يعكسا الحقيقة الاجتماعية، ولا بد أن يصفا التطورات الثورية في المجتمع»(٢). ومن مخاطر هذا الالتزام الأدبي والفكري بالأيديولوجية الرسمية أن الإنتاج «قد يتجمد» ضمن قوالب معينة بسبب تدخل الدولة، «مما يقيد الخلق والابتكار، ويسقط الخلق والإبداع إلى مستوى الدعاية المبتذلة»(٣). ومما ينذر بتشديد الرقابة الدينية، في ظل حكم الجماعات على الإنتاج الأدبي، دعوة معظم الإسلاميين إلى تشديد الرقابة والتحكم في مضامين النصوص التعليمية ابتداءً من المناهج المدرسية، التي هي بمنزلة مدخل الطالب إلى الأدب العربي.

ومما رسخته كتابات هذه الجماعات، مثلًا، في أذهان عامة الناس أن المسؤول عن تطرف وعنف أتباع الحركات هي السجون والتعذيب وغير ذلك. والواقع يقول: إن كتب وخطب المرشد حسن البنا دعت منذ البداية إلى استخدام العنف عندما تحين اللحظة المناسبة. وكانت جماعة الإخوان المسلمين أول من دعت علنًا، على لسان مرشدها، إلى ما أسماه «إتقان صناعة الموت». وأكد في بعض رسائله الدعوية المطبوعة والمنشورة إلى أن استخدام القوة والعنف قد يكون ضروريًّا لتحقيق أهداف الدعوة وتحقيق النصر، وهذا يثبت أن جواز استخدامهم للعنف لم يتأسس بتأثير السجون والتعذيب والاعتقال كما يزعمون.

إن ثقافتنا الدينية في أزمة، وما تطرحه القيادة في المملكة العربية السعودية حول تنقية النصوص وتغيير عقلية التعامل مع الاجتهاد هي محاولات جادة لانتشال الشباب في العالم العربي وفي الغرب من الانزلاق نحو التعصب والإرهاب، كما كشفت لنا بوضوح قدرات «داعش» على تجنيد الشباب مع زوجاتهم للقدوم إلى بادية الشام، و«الجهاد» في الموصل وحلب ودير الزور وسيناء. إننا منذ عقود لا نزداد نضجًا واستفادة من تجاربنا، وينعكس ذلك على الجماعات الإسلامية التي تخاطب بدورها كتلة بشرية لم ترتفع بمستواها الفكري. وقد لاحظ بعض الباحثين العرب أن «الأفغاني وعبده كانا أكثر رحابة حتى تجاه الماضي الإسلامي وأكثر انفتاحًا على الحضارة الغربية ومنجزاتها، وأكثر اعتدالًا وليونة تجاه معاصريهما»(٤).

المسألة الطائفية

  تحدّثت عن أزمة الثقافة الدينيّة، وهي أزمة أدّت إلى معضلة الإسلام السياسي ومعضلة الطائفيّة، وهما أمران مترابطان عندك، ولكن في الأغلب لا يُركَّز كثيرًا على علاقة الطائفيّة بالإسلام السياسي عمومًا غير أنّه في كتاباتك تشير إلى ذلك في كثير من المواضع. كيف يمكننا فهم مثل تلك العلاقة؟

  للأسف استفادت الجماعات الشيعية في العراق ولبنان والبحرين والمنطقة الخليجية من بعض السياسات الرسمية التي وسعت الفجوة بين الطائفتين، وأعطت المزيد من القوة للتوجهات الانعزالية والتباعد السياسي. كان رجال الدين الشيعة، ممن يسمون بالعلماء والمجتهدين، يهاجرون من إيران إلى العراق ولبنان والمنطقة الخليجية تحت تأثير ضغوط النظام الملكي القاجاري والبهلوي في إيران، وكان -ولا يزال- في هذا دعم قوي للشيعة في هذه الدول وتسهيل في بعض الأحيان لتأسيس بعض النشاطات وبعض الجماعات الدينية حول العلماء والمجتهدين المهاجرين إلى العراق ولبنان مثلًا، الذين لهم مكانة متميزة لدى الشيعة، ولكونهم «مراجع تقليد»؛ فمرجع التقليد يتبعه الكثير من المتدينين الشيعة ويدفعون له خُمس دخلهم السنوي للصرف على المدارس الدينية ورجال الدين ونفقات الدارسين فيها. وكلما ازداد عدد التابعين لهؤلاء العلماء المراجع، ازداد «الخمس» وارتفع عدد الطلاب، وتحول الفقيه إلى مرجع أعلى، مما يصعب على أية سلطة زمنية الاقتراب منه أو التضييق عليه؛ وذلك لانتشار شعبيته وحرص السلطات على كسب رضاه. ويتحكم بعض كبار المراجع بالأوقاف الدينية، كما يلقون الدعم من التجار وملاك العقار، حيث يتزاوج أبناء وبنات الطرفين في أحيان كثيرة، ويشكلون كتلة اجتماعية من العلماء، وتجار البازار أطاحوا عام 1979م مثلًا بنظام الشاه كما هو معروف.

حاول المفكر الإيراني اليساري أستاذ علم الاجتماع الدكتور علي شريعتي (1933– 1977م) أن يؤسس حركة إسلامية تتجاوز الانقسام المذهبي وتجتذب شباب ومثقفي إيران، وبذل جهدًا فكريًّا وكتابيًّا وخطابيًّا واسعًا داخل الجامعة وخارجها، وله اليوم رواد ومعجبون وكان يفكر بأهداف أخرى للثورة وإيران. لم يكن تحليل شريعتي الأيديولوجي هو الأكثر فاعلية في جذب الشباب لقضيته، بل كان خطابه البسيط حول الإسلام والمجتمع والتغيير الاجتماعي. وقد كان أغلب أولئك الشباب، رجالًا ونساءً، من عائلات دينية تقليدية، وكانوا متأثرين بالمناخ، غير الديني، الحديث في إيران وغيرها وكانوا يحاولون التمسك بمشاعرهم الدينية وفي الوقت نفسه يواصلون مشوار الفكر والممارسة العصرية التقدمية. كان شريعتي ينتقد الزعماء الدينيين المحافظين انتقادًا شديدًا، ويميّز بين «إسلاميين مختلفين» وبين التشيع العلوي والتشيع الصفوي الذي كان سائدًا في عصره ويعتبره زائفًا ورجعيًّا. وبذلك فقد كان يقارن بين فكرته عن الإسلام الثوري وإسلام رجال الدين الشيعة. وبخلاف القومية الرسمية السائدة التي كانت تروج لماضي إيران قبل الإسلام كانت «العودة إلى الذات» تعني بالنسبة إلى شريعتي العودة إلى التشيع الخالص والجذور الإسلامية. وهو ما عبّر عنه هوما كاتوزيان حين أكّد أنّ «العودة للجذور» تعني العودة إلى الجذور الثقافية، التي هي في حالة إيران ليست العودة إلى إيران قبل الإسلام، والتي لا تؤثر في جموع الشعب الإيراني، وإنما العودة إلى جذورنا الإسلامية(٥).

  كيف كانت الطائفيّة من أبرز العوائق أمام فكرة التعدّد والحريّة والمواطنة في المجتمعات العربيّة؟

  أعتقد أن السبب الرئيسي في هذا الوضع، أي كون الطائفية من عوائق التعددية، هو عدم نضج الطرفين والطائفتين، السنيّة والشيعيّة، في العالم العربي مذهبيًّا وسياسيًّا. لقد استغلّت قوة خارجية، وهي الولايات المتحدة، النظام المتسلط (في العراق) لسنوات طويلة، وهو نظام عانى منه السنّة والشيعة على حدّ سواء، ولكن ما أن سقط النظام حتى برز التعصب والفساد والانحياز الطائفي على الجانبين لأسباب لا يمكن تجاهلها البتّة. فقد تدخلت القوى المحسوبة على الحرس الثوري الإيراني لتحريك الكتلة الشيعية بما يمهد لإقامة سلطة دينية على حساب أهل السنة والمسيحيّين والعلمانيين والليبراليين وغيرهم، ووجد الطرح الطائفي استجابة لدى قوى شيعية مؤثرة وبخاصة بعد أن ساد الانقسام والجري خلف المصالح. وجاء الدور لأهل السنة غربي العراق في الفلوجة و«هبت» و«الموصل» والشمال مع تدخل تنظيمي القاعدة ثم داعش الذين توعّدوا الشيعة بأشنع انتقام، مما زرع الرعب في النفوس. غير أن التنظيمين الإرهابيين انقلبا على أهل السنة بعد اتهام السنة بالكفر والتصوف وموالاة الغرب وغير ذلك! وتوالت جرائم الإرهاب المريعة في مدن العراق حتى مساجد أهل السنة.

إنني لا أصدق أن العراق الذي مضى على تأسيس دولته الحديثة قرابة القرن وكان دائمًا موطنًا لكبار الساسة والمثقفين عاجزًا عن قيادة مصيره، وتبرز في الميدان قيادات دينية كمقتدى الصدر أو غيره! أين مثقفو العراق وساسته وأساتذته وقياداته التي كانت تعاني وتشتكي طوال سنوات حكم صدام حسين؟ لماذا يعجز العراقيون رغم البترول والمال والأرض والماء في إدارة بلادهم؟ ولماذا فعلت الطائفية ما فعلته بالعراق ولبنان وسوريا بدلًا من أن تزدهر فيها جميعًا التعددية والتنوع الثقافي والاعتدال السياسي؟ صحيح أن ثمة تدخلًا إيرانيًّا بوسائل مختلفة في العراق، وبشكل علني في لبنان وسوريا، ولكن أين صمود هذه الشعوب؟

  هل يمكننا اعتبار الطائفيّة ورقة سياسيّة تتغلّف بالديني والإثني والعرقي وتوهم بالخصوصيّة وهي في الحقيقة تُؤَجِّجُ الصراعات وتديم الأزمات؟

  ينبغي أن ندرك ضرورة التمييز بين التنوع الطائفي، وهو أمر طبيعي وله في اعتقادي فوائد ثقافية واجتماعية، وبين الطائفية وهي الاستغلال السلبي والمغرض لهذا التنوع بالإيحاء لكل طرف أن «مصالحه مهددة» وأن الطرف الآخر سيسلبه حقوقه إن لم يقدم على أخذ الحيطة والحذر وإبداء الشك في أقواله ومبادراته. ولا شك أن التصدي للطائفية يزداد تعقيدًا خلال السنوات الأخيرة لاهتمام الجميع بالهوية المذهبية والكيان الاجتماعي ومخاطر التذويب، ومن الصعب في الواقع الارتفاع دائمًا بالوعي السياسي وعدم الانخداع بالأوهام التي تروجها بعض الشخصيات لمنافع انتخابية أو مالية أو انتقامية، وربما كان أفضل علاج لهذا كله المصارحة بين الشعب والقيادة السياسية وتوفير الحماية القانونية لكل الفئات والطوائف والتصدي للشائعات.

إن مناهج التعليم والثقافة الدينية والتوعية الإعلامية أبرز أدوات تقوية التماسك الاجتماعي، ونحن بحاجة ماسة إلى تطوير عميق في المجالات الثلاثة، وبخاصة أن التنوع والتعدد لا يمكن تجاهلهما في مجتمعاتنا بعد أن بقينا عقودًا لا نكترث بهما. يكتفي العديد من الكتاب والمؤلفين بتوجيه أصابع الاتهام إلى الاستعمار في خلق المشكلة الطائفية، والحقيقة أنه ربما استفاد من هذه الانقسامات، كما في بلاد الشام والعراق ومصر وغيرها، غير أن الانقسام الطائفي بين المسلمين وظهور مختلف الحروب الأهلية في القرن الهجري الأول مثلًا لا يَدَ للاستعمار البريطاني أو الفرنسي فيها؛ ولذلك يجب علينا أن نتحمّل مسؤوليّتنا.

يشير بعض المفكرين العرب إلى القبلية كمنشأ للطائفتين. فالباحث كمال صليبي في دراسته التاريخية للطوائف اللبنانية يصل إلى أن هذه الطوائف في سلوكها الاجتماعي قبائل مقنَّعة. ويرى الدكتور خلدون النقيب أن علاقة المواقف السياسية بالقضية المذهبية ظاهرة مغرقة في القدم في مجتمع الخليج والجزيرة العربية. ويضيف: «إن التحرك الزيدي السياسي في اليمن جاء تمثيلًا للقبائل العربية القحطانية الجنوبية المنافسة للقبائل العربية العدنانية،» ولذلك كان اعتناق بعضها للمذهب الزيدي في القرن الرابع عشر يمثل امتدادًا لهذا الموقف التاريخي. ولكن المنافسة بين قحطان وعدنان لم تقف عند هذا الحد، فالقبائل التي اعتنقت الوهابية في نجد كانت تنتمي إلى ربيعة بن عدنان.. ثم إن القبائل العمانية التي اعتنقت المذهب الإباضي كانت في أغلبها تنتمي إلى الأزد وقضاعة (وهي قبائل جنوبية).

ربما كان ما يجري على أرض الواقع مساندة علنية من جانب بعض الأحزاب الدينية حسب مذهبها في العراق ومصر ولبنان لمن يماثلها في المذهب أو الدين. حتى توزيع الزكاة من جانب بعض الدول الخليجية يأخذ في الحسبان الانتماء المذهبي. وفي الكويت تبرز الطائفية عارية في الانتخابات البرلمانية وانتخابات الجمعيات التعاونية، حتى جمعيات النفع العام؛ إن كان في مثل هذه الجمعيات «نفع خاص»! وقد روى لي صديق متوفى وكان أستاذًا للعلوم السياسية أنه تحادث مع مرشح انتخابي كان بعيدًا من الأطروحات الطائفية، في دورات انتخابية عديدة، ثم بدأ يبرز ميوله الطائفية ويناصر الطائفة علنًا. فلما سأل الأستاذ هذا المرشح عن سبب هذا التحول قال: كنت دائمًا أخسر أصوات المنطقة بالشعارات الوطنية العامة وصرت اليوم أفوز بالدعم الطائفي.

إن استغلال الانتماء المذهبي في الانتخابات البرلمانية أمر شائع في دول كثيرة. وإلى جانب الطائفية هناك القبيلة حيث تنقسم المناطق القبلية حسب تركيبتها وتسبقها أحيانًا وبشكل سري انتخابات فرعية.

الاستحواذ الإيراني على التشيّع

  قادنا الحوار حول المسألة الطائفيّة إلى توظيفها سياسيًّا، كيف يمكننا أن نقرأ، سياسيًّا وتاريخيًّا، معضلة استحواذ «قم» على «النجف»؟ وكيف ترسّخت فكرة أنّ التشيّع إيرانيّ في حين أنّه في الأصل لم يكن كذلك؟

  تثار هذه القضية بسبب خلفية العلاقات التاريخية بين إيران والعالم العربي التي كانت للأسف سيئة في معظم الأحيان، وخلال الأزمنة الحديثة، وقد أثرت فيها، منذ قيام الدولة الصفوية عام 1502م، هيمنة العثمانيين على العراق وبلاد الشام ومصر عام 1517م، وجرى خلالها احتلال العراق أحيانًا، إذ كانت العراق، كحالها عبر التاريخ، مسرح الصراع بين إيران والدول العربية. وقد تجدد هذا الصراع في القرن العشرين مع ظهور الدولة العراقية الحديثة وتنامي المشاعر القومية العربية من جانب، وتأسيس النظام الملكي وأسرة بهلوي في إيران من جانب آخر، وظهرت بعد ذلك مشاكل مثل شط العرب والمشكلة الكردية، وفي النهاية تصارع الشاه مع صدام حسين، ثم النظام البعثي مع نظام رجال الدين في حرب طاحنة بعثت الاختلافات القومية والطائفية بقوة كما هو معروف.

هناك بالطبع مخاوف طائفية لدى الشيعة لكونهم أقلية ترى نفسها مظلومة في بعض المجالات كالتعليم والحرية المذهبية والتوظيف وغيرها، ولحسن الحظ تتجه الدول العربية عمومًا نحو المساواة السياسية والاجتماعية وتقليص التمييز. ولا تعني هذه الاختلافات وهذه الشكاوى أن الشيعة أو السنة محقون دائمًا؛ فالقضية متداخلة، فهناك التدخل من خلال أحزاب كحزب الله في لبنان، وهناك التمييز داخل إيران ضد أهل السنة والبهائيين، فنادرًا ما تسند لأهل السنة في إيران مناصب وزارية أو دبلوماسية ولا ينعمون بالحريات نفسها الممنوحة للإيرانيين الشيعة، أما البهائيون فيعاديهم النظام بلا رحمة.

كانت روسيا القيصرية قبل عام 1917م تقدم نفسها في العالم العربي حاميةً للمسيحيين الأرثوذكس، وكانت فرنسا تدافع عن الكاثوليك الموارنة، وبريطانيا عن الدروز. وللباحثين أن يتساءلوا: هل كان لدى المسيحيين العرب شعور بالانتماء لروسيا أو لفرنسا، أم كانت مشاعر المسيحيين الودية تجاه هاتين الدولتين وليدة مخاوف طائفية لكونهم من الأقليات، إلى جانب الخدمات والمساعدات المقدمة للمسيحيين والتهجم على «النصارى» من جانب الإسلاميين المتشددين في لبنان وسوريا ومصر وأماكن أخرى؟ ثم إن مشاعر التعاطف والإعجاب بإيران وثورتها وشعاراتها وقائدها وتصريحاته وغير ذلك، كانت طاغية في الوسط الشيعي والسني على حد سواء، وقد تراجع ذلك كله عبر الأربعين عامًا من حكم ولاية الفقيه وما فعلته بالإيرانيين، وما فعله حزب الله بلبنان، والتعبئة السياسة المتشددة ضد الدول الخليجيّة.

  هل فعلًا هناك شعور لدى المواطن العربي الشيعي أنّه جزء من إيران؟ أم إن هذا يدخل فيما يروّج سياسيًّا وإعلاميًّا؟

  لا نستطيع ولا يحق لنا الاكتفاء بلوم إيران على استخدامها ورقة المذهبية لتحقيق أهداف سياسية، فهذا شائع في مناطق ومذاهب أخرى من العالم. كل ما تفعله إيران في هذا المجال هو الاستفادة من الثغرات الطائفية والشد والجذب المذهبيّين اللذين ولدت منهما «الصحوة الدينة»، واستجابت لها الحكومات في الحياة العامة والأوقاف والتعليم والقانون والترخيص ببناء المؤسسات الدينيّة… هناك مثلًا قوانين عربية عادلة ومنصفة للجميع، أي لكل الطوائف، ولكنها لا تأتي للأسف إلا متأخرة. وقد كتبت مرارًا عن موسوعة إسلامية عربية بالغة الأهمية تتجاهل كل ما له صلة بالتشيع والإباضية، فهل هذا مما يوحّد الصف الطائفي في وجه من يبث التفرقة؟ من جهة أخرى، ما تفعله إيران منذ عقود أمر أشد خطورة في سوريا وغزة ولبنان واليمن وعموم الجزيرة العربية. نحن في حاجة ماسة إلى دراسة دور الدين والمذهب وعلاقتهما بمجتمعنا وفكرنا وكلّيات الشريعة في بلدنا وبإعلامنا؛ كي لا تجد التعبئة المذهبية أي مجال لاختراق المجتمع، وأن نهتم بالتوعية قدر اهتمامنا بالأمن والاستقرار السياسي والعسكري.

  كيف تستعمل إيران التشيّع ليكون مدخلًا للتأثير في المنطقة العربيّة؟

  العلاقة المذهبية بين المسلمين معقدة ومتنوعة كما هو الأمر بين الطوائف في الشرق والغرب. ولحسن الحظ لم تقع في مجتمعاتنا، ضمن العالمين العربي والإسلامي، حروب دينية طاحنة كالتي اشتعلت بين الكاثوليك والبروتستانت مثلًا في دول غرب أوربا الحالية قبل أن يضع الأوربيون حدًّا لها ويتخلّون، إلى حدّ كبير، عن التعصب الديني والمذهبي. لم تكن الفتن المذهبية الإسلامية بين الشيعة والسنة فحسب، وإنّما كانت تقع مرارًا بين مذاهب أهل السنة أنفسهم ويستخدم كل طرف سلاح التكفير ضد الفريق المخالف.

…وعندما نجحت الثورة في إيران، عام 1979م، بقيادة رجال الدين فيها، عقد الإيرانيون العزم -وبخاصة بعد بروز مدينة «قم» الإيرانية مركزًا روحيًّا ومذهبيًّا للنظام الجديد- على إخضاع سائر الشيعة خارج إيران لنفوذ المرجعية الإيرانية: آية الله الخميني ثم آية الله عليّ الخامنئي، ووظفت القيادة الإيرانية كل إمكانياتها المالية والمذهبية وأجهزة الدولة السياسية والدعائية والدينية لربط الشيعة العرب خاصة، وغيرهم، بإيران ومؤسساتها الجامعية والدعائية والإعلاميّة وغيرها.

لقد اكتشفت إيران أن قيادتها للشيعة، وبخاصة شيعة العالم العربي في البلدان الخليجية ولبنان والعراق، لن تتحقق إلا بالسيطرة على مدينة النجف العراقية حيث مرقد الإمام علي بن أبي طالب وكليات دراسة الفقه الشيعي المسماة بالحوزات الدينية، ولِمَا للمدينة من قدسية ومكانة مذهبية وفقهية وتأثير في عموم الشيعة، ومَنْ يدرس في حوزتها مِنْ طلاب يتخرجون بعدها فقهاء، ويكون لهم تأثير كبير في التوجيه الفقهي والسياسي.

لقد تناولتُ بالتفصيل جوانب من هذه العلاقات المذهبية ودور المرجعية في كل من إيران والعراق في كتابي «العمامة والصولجان»، ولا مجال هنا للخوض فيها. لقد نجحت إيران خلال أربعة عقود من السيطرة على المرجعية الشعبية في البلدين، ولم نعد نسمع صوتًا مستقلًّا لفقهاء ومراجع الشيعة في القضايا السياسية، إلا إذا كانت آراؤهم مطابقة لمواقف إيران وآراء الولي الفقيه، أما لبنان فكما لا يخفى يتولى الأمر فيها «حزب الله» الموالي في كل صغيرة وكبيرة لإيران.

أما عن ترسخ فكرة «أن التشيع إيراني» -في حين أن ظهوره وتطوره كان في الجزيرة العربية ومع بدايات الإسلام في القرن الأول الهجري ثم في العراق- فقد ساهمت فيه بعض الصراعات والمواقف العربية كذلك، والحرب العراقية الإيرانية، وبعض الكتب والمؤلفات، مثل كتاب «وجاء دور المجوس». ولا يمكن في اعتقادي معالجة بعض ذيول هذه القضية ما لم تتغير السياسة الإيرانية تجاه العالم العربي خاصة.

  هل يمكننا أن نقرّ بأنّ قبول الديمقراطيّة والتعدّديّة السياسيّة والفكريّة والتركيز على قيم المواطنة في المجتمعات العربيّة تشكّل أحد أهمّ السبل للخروج من مآزق «الصحوة الدينيّة» ومحاولات الهيمنة الإيرانيّة ومقاومة التطرّف ومخلّفات الطائفيّة؟

  كان «التوحيد» أو « التقريب» بين المذاهب، وبخاصة بين السنة والشيعة، أهم الأفكار المطروحة في الحياة السياسية العربية، منذ مدة طويلة على امتداد القرن العشرين، ومنذ نهاية الحرب العالمية الأولى وزوال الدولة العثمانية. وما ينبغي أن نركز عليه في هذا القرن هو التعددية الثقافية والمذهبية والسياسية. لا بد أن نتجنب تسلط أي فئة أو مذهب على آخر، وأن يتعلم كل طالب في المدرسة وكل إنسان ومواطن تقبل الآخر والتعايش معه بوصفه مختلفًا لا مخطئًا منحرفًا، وأن الحكم على مذاهب المسلمين وغيرهم ليس وظيفة الناس ورجال الدين والدعاة ومراجع التقليد والحكومات. إذا رسخت مثل هذه الأفكار في مجتمعاتنا فستتراجع الطائفية وتفشل دعوة التسلط والهيمنة، وتفشل معها محاولات إخضاع العالم والعقل العربي لمثل هذه النداءات.


هوامش:

(١) خليل علي حيدر، «اعتدال أم تطرف؟» الكويت، دار قرطاس، 1998م، ص 94.

(٢) موسوعة الهلال الاشتراكية، القاهرة، طبعة 1970م.

(٣) المرجع نفسه، ص 518.

(٤) د. أحمد عرفات القاضي، «تجديد الخطاب الديني»، القاهرة 2008م، ص 14.

(٥) هوما كاتوزيان، «الفرس: إيران في العصور القديمة والوسطى والحديثة»، ترجمة أحمد حسن المعيني، لبنان، 2014م، ص 428 – 429.

المنشورات ذات الصلة

مصطفى محسن: اشتغال عالم الاجتماع على المسألة الاجتماعية ينبغي ألّا يفهم منه تحوله إلى واعظ أو داعية إلى ثورة

مصطفى محسن: اشتغال عالم الاجتماع على المسألة الاجتماعية ينبغي ألّا يفهم منه تحوله إلى واعظ أو داعية إلى ثورة

يتحدث عالم الاجتماع المغربي الدكتور مصطفى محسن عما يميز مساره النقدي من ترحال موضوعاتي، يصفه بأنه ضروري لحرفة عالم...

المستشرق الإيطالي جوزيبي سكاتولين: لا بد للحوار بين الأديــــان أن يكون جادًّا وحقيقيًّا وليس لأغراض شكلية أو لتوظيف سياسي

المستشرق الإيطالي جوزيبي سكاتولين: لا بد للحوار بين الأديــــان أن يكون جادًّا وحقيقيًّا وليس لأغراض شكلية أو لتوظيف سياسي

جاء المؤتمر الدولي في ميلانو الذي عقد في مايو الماضي لتكريم المستشرق الإيطالي جوزيبي سكاتولين، تتويجًا لجهوده بوصفه...

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *