المقالات الأخيرة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

يصف موريس بلانشو الأدب كمنفى في الصحراء، حيث يصبح الكاتب ضعيفًا تسكنه المخاوف مثل تلك المخاوف التي سكنت بني إسرائيل عندما قادهم النبي موسى، امتثالًا لطلب «يهوه»، في رحلتهم عبر صحراء سيناء إلى أرض كنعان؛ فالصحراء فضاء هندسي مناسب لاحتواء مفاهيم من قبيل العزلة...

قبور الكتّاب والشعراء.. بين الرماد والسياحة

بواسطة | مارس 1, 2022 | تحقيقات

شواهد القبور التي يُنقش عليها أسماء الموتى وتواريخ حياتهم، تقليد تمارسه بعض الشعوب والمجتمعات على اختلاف ثقافاتها منذ العصور الأولى. وبحسب الباحث الأنثروبولوجي المصري أحمد أبو زيد، تتبدى شواهد القبور كإحدى المصادر التسجيلية، للمظاهر الإثنية والدينية واللغوية للتاريخ العام، ولحيوات الأفراد… و«تعد النقوش الكتابية القديمة من المصادر التاريخية المهمة التي تنقل لنا صورة موثقة للحياة الاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات القديمة، فهي وعاء لحمل الثقافات والحضارات»(١).

عندما ننظر إلى مضامين الكتابات المسجّلة على شواهد القبور، وتلك المعروضة في بعض المتاحف في عدد من الدول، نجدها قد تميّزتْ بالتنوع في النصوص التي سجلتْ عليها. وهي إما: البسملة أو آيات أو سور كاملة من القرآن الكريم، أو حديث نبوي، أو شهادة التوحيد، أو الأدعية، وتميزت بالخطوط (الفارسية والكوفية والعثمانية) والنقوش.

سياحة أدبية وروحية

يشرح المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه كيف أن الفن انبثقَ من القبر؛ فأول جامع تحف فنية كان القبر، وأول لوحة فنية كانت الكفن، وما ذلك إلا لإحياء الذِّكر. ويسأل: ألا تُحوَّل الورود التي تبعثر على قبر المغني جيم موريسون (1943-1971م)، زاوية من مقبرة Père-lachaise، إلى هيكل (…)؟(٢) ففي الذكرى الخمسين لرحيل موريسون، لا يزال ضريحه، مقصدًا للمعجبين. وذكرى رحيله موعد سنوي لعشاقه، لوضع الورد وإضاءة الشموع على قبره، وزيارة عدد من الأماكن التي قصدها خلال الأشهر الأخيرة من حياته. وإلى جانب موريسون، يرقد في المقبرة الشهيرة الواقعة في الطرف الشرقي للعاصمة الفرنسية باريس، عدد من أعلام الأدب والفن، من بينهم موليير، وأوسكار وايلد، وإديث بياف، ومارسيل بروست، وفريدريك شوبان.

وليس قبر موريسون وحده من «أساطير الحياة اليومية» كما شاء أن يسميها الناقد الفرنسي رولان بارت، فقد خاضت الأوساط الثقافية والأكاديمية في فرنسا معركة حول قبر الشاعر آرتور رامبو حيث وجّه عدد كبير من المثقفين الفرنسيين عريضة تدعو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إلى أن ينقل جثمانه إلى مقبرة العظماء «البانثيون» إلى جوار عظماء فرنسا أمثال روسو وفولتير وزولا وهوغو… وهذا الأمر أثار حفيظة عشاق رامبو الذين عدّوا هذا الطلب مخالفًا لتجربة وحياة رامبو، الذي كان متمردًا ضد المؤسسات الرسمية.

كتب الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين(٣) «أسلم رامبو الروح في 10/11/1891م، ثمّ حُمِلَتْ جثة (التاجر جان آرتور رامبو) من المستشفى في 11/11/1891م، ودفنت في مدافن العائلة في شارلفيل مسقط رأسه… والشاهدة التي وضعت على قبره، تشير إلى «قبر التاجر جان آرتور رامبو». أما الشاعر آرتور رامبو، فقد انتظرت شاهدة قبره سبعًا وخمسين سنة بعد موته، لكي تحل محلّ الأولى، فقد وضعت اللوحة النحاسيّة التالية، في الساحة الرئيسة التي تضمّ قبره في شارلفيل: «هنا/ 10 تشرين الثاني (نوفمبر) 1891/ عند رجوعه من عدن/ الشاعر/ جان آرتور رامبو/ واجَهَ نهاية مغامرته الدنيويّة».

وقد نصبتْ هذه اللوحةَ «جماعةُ مرسيليا الأدبيّة» في 10/10/1946م.

كُثر هم الذين زاروا قبر رامبو ووضعوا الورد عليه، وكتبوا عن «السياحة الأدبية». ربما أبلغ تعبير عن الزيارات ما كتبه الشاعر البيروفي خوسيه لويس أيالا «لا شيء في مقبرة شارلفيل،/ ولا الريح حتى/ أهو فصل آخر في الجحيم؟/ أنظّم شاهدة القبر،/ والحارس العربيّ العجوز يخبرني/ لا أحد يزوره/ غير اليمام والمطر»(٤).

وبشكل من الأشكال، تتحول قبور المشهورين، ومنهم الأدباء والشعراء والفلاسفة، إلى معالم سياحية وأدبية يقصدها الزوار والسائحون، سواء قبر كافكا في براغ، أو قبر ابن عربي في دمشق، أو قبر محمود درويش في رام الله فلسطين، أو كارل ماركس في لندن، ومحمد إقبال في لاهور. وثمة قبور لأدباء يختلط فيها الأدبي بالديني… فقبر ومزار جلال الدين الرومي في مدينة قونية التركية، يعد منذ مئات السنين مهوى أفئدة أهل التصوّف في الشرق والغرب، يزور ضريحه عشرات الآلاف سنويًّا يتقاطرون عليه من كل جهات الأرض سواء من المسلمين أو غيرهم، وبخاصة الغربيون.

وما يُميّز ضريح الرومي، إلى جانب مئذنته ذات الطابع المعماري العثماني، قبّته الخضراء المزخرفة بخزف فيروزي. بعد سقوط السلطنة العثمانية وإلغاء مصطفى كمال الخلافة عام 1923م، عمد أيضًا إلى إلغاء كل الزوايا والتكايا وحوّلها إلى متاحف، فتحول ضريح الرومي عام 1926م إلى «متحف العصور القديمة لقونية»، قبل أن يأخذ عام 1954م اسمه الحالي «متحف مولانا». وكتب على قبره: «لا تبحث عن مرقدنا بعد الوفاة، إنما مقامنا في صدور العارفين من الأنام». وثمة قبور لشعراء في إيران، تأخذ منحى بين الديني والشعري؛ نجد أن قبر أهم شاعر فارسي على الإطلاق، وهو سعدي الشيرازي، يعدّ في الوقت نفسه «مزارًا دينيًّا». وكذلك نجد مزارات دينية/ شعرية فارسية أخرى عند قبر الشاعر حافظ الشيرازي وقبر الشاعر الفردوسي في مدينة طوس الإيرانية. ويحظى ضريح الشاعر والفلكي الإيراني عمر الخيّام، في مدينة نيسابور، بإقبال كبير من عشّاق الأدب والشعر، الإيرانيين والأجانب. أُنشِئ الضريح عام 1963م بأمر من الشاه الإيراني رضا بهلوي، حيث صمم طرازه المعماري على شكل خيمة، نسبة للقبه «الخيّام». وزيّنت جوانب الضريح برباعيات الخيام التي اشتهر بها أكثر من مؤلفاته الأخرى.

قبور مزعومة

أحيانًا تتحوّل القبور إلى نوع من هوس، فهي لها وقعها الاجتماعي والثقافي، ولكنها مزعومة أو افتراضية أو تعبّر عن متخيّل جماعة من الجماعات… فمع أن كثرًا يقصدون قبر أبي الطيب المتنبي الكائن على بعد 2 كم شمال قضاء النعمانية في محافظة واسط العراقية، لكن يعتقد أنه ليس قبره، إنما قبر شخص آخر يدعى أبا سورة ولا يعرف عنه الكثير. هناك «دراسات بهذا الخصوص، منها واحدة للمؤرخ عماد عبدالسلام رؤوف، بعنوان: «دير العاقول»، مبينًا أن تلك «الدراسة وغيرها رجحت أن يكون قبر المتنبي إما بالقرب من بغداد في المنطقة التي تعرف باسم جرجرايا، أو في منطقة تقع غرب قضاء النعمانية تدعى بالصافية، على الرغم من أن الغموض يكتنف الموضوع… فإن الروايات والحكايات تقول: إن جثة المتنبي وجدت عائمة على ضفاف دجلة قرب قبره الحالي، و«تسميته أبا سورة جاءت بالنظر لقذف نهر دجلة جثته على إحدى جوانبه بفعل تيار مائي قوي يدور حول نفسه». و«دوران الماء حول نفسه يدعى سورة ومنه أطلقت التسمية على قبر المتنبي، فبات يعرف بأنه أبو سورة».

أما ما كتب على قبر المتنبي، فمنه:

«ما رأى الناس ثاني المتنبي أي ثان يرى لبكر الزمان/ كان من نفسه العظيمة في جيش وفي كبرياء ذي سلطان». وكذلك الكتابة الآتية: «مالئ الدنيا وشاغل الناس أبو الطيب أحمد بن الحسين الجعفي الكوفي المتنبي، شاعر العربية الأكبر ولد في محلة كندة بالكوفة سنة 303 هجرية، وتوفي مقتولًا عام 354 هجرية وهو القائل: وما الدهر إلا من رواة قصائدي إذا قلت شعرًا أصبح الدهر منشدا/ فدع كل صوت غير صوت فإنني أنا الطائر المحكي والآخر الصدى».

وكذلك:

«أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي

وأسمعت كلماتي مـن بـــه صمم

الخيل والليل والبيداء تعرفني 

والسيف والرمح والقرطاس والقلم».

قبر المتنبي، يبدو ضائعًا أو مزعومًا، وقبر امرئ القيس يبدو متعددًا أو بـ«منازل كثيرة»… عام 2007م صدر كتاب عن بلدية إسطنبول، أكد وجود قبر امرئ القيس في تلة هيديرليك، التي كانت تعرف أيضًا باسم تلة تيمورلنك. أعدتْ تركيا مشروعًا لإعادة ترميم الضريح أملًا في جذب السياح العرب وغيرهم من المهتمين بالتراث العربي والشعر الجاهلي. تقول معلومات نشرها موقع «دار الوراق»: إن صاحب قصيدة «قفا نبك» ذهب إلى القسطنطينية، بناءً على نصيحة الغساسنة؛ لطلب النجدة من الإمبراطور البيزنطي ضد خصومه في الجزيرة العربية، بعد مقتل والده أسد، وما كان من الإمبراطور، بسبب وشايات، إلا أن سمّمه عبر تلبيسه عباءة مسمومة ما لبثت أن قتلته في منطقة أنقرة حيث دُفن.

الشاعر والناقد الفلسطيني عز الدين المناصرة أصدر كتابًا، بعنوان: «امرؤ القيس.. ليس امرأ القيس: قصة امرئ القيس الكندي- شاعر العربية الأول»، يتضمن خلاصة عامة وهي أن امرأ القيس (الشاعر)، لم يزر قيصر الروم (جستنيان) في القسطنطينية، وأن الذي زار قيصر الروم، هو امرؤ القيس- (ملك فلسطين الثالثة، جنوب فلسطين، والبتراء، وأيلة، وتيران)؛ لأن هناك 28 شخصًا تاريخيًّا، يسمون امرأ القيس…

تضاربت الأبحاث والمعلومات حول قبر صاحب «قفا نبكِ»؛ بسبب كثرة الأسماء والحكايات التي راوَحَت بين مصادر شفهية وانتحال، وأخرى تستند إلى الآثار هنا وهناك. في المقابل تحول قبر الشاعر الإسباني الغرناطي غارثيا لوركا حكاية وقضية بسبب كثرة القتلى والمجازر خلال الحرب الأهلية الإسبانية. بحسب المتابعين لهذا الملف، تعدّ لحظات إعدام لوركا من أكثر اللحظات الحزينة في التاريخ الإسباني والإنساني، حيث أوقفه جنود نظام الجنرال فرانكو أمام جدار، وصوبوا نحوه بندقيتين أطلقتا الرصاص على جسده بينما كان يردد: «ما هو الإنسان يا مريانا/ من دون حرية/ كيف أستطيع أن أحبك/ إذا لم أكن حرًّا/ كيف أستطيع إهداءك قلبي/ إذا لم يكن ملكي».

سرت أخبار كثيرة حول مكان قبر لوركا، أمضى المؤرخ الإسباني ميغيل كابايرو بيريز ثلاث سنوات في دراسة أرشيفات الشرطة والجيش لربط أحداث الساعات الثلاث عشرة الأخيرة في حياة مؤلف «عرس الدم». يقول المؤرخ كابايرو: إنه تعرّف إلى هويات الشرطة والمتطوّعين الستة الذين شكلوا فرقة الإعدام وثلاثة سجناء. ونشر نتائج بحثه في كتاب بالإسبانية عنوانه: «آخر 13 ساعة في حياة غارثيا لوركا»، موضحًا أنه قرّر درس الأرشيفات بدلًا من جمع مزيد من الشهادات الشفهية؛ لأن سبب البلبلة والتشويش في هذه القضية، هو هذه الأقوال التي يتفوّه بها شهود مفترضون يولفون الروايات. وأشار كابايرو إلى أن نيّته في البداية كانت التأكّد من معلومات جمعها في ستينيات القرن الماضي الصحافي الإسباني إدواردو مولينا فاخاردو، الذي كان عضوًا في حزب الكتائب المناصر لفرانكو. وإن هذا الصحافي بسبب انتمائه كان يستطيع الوصول إلى أشخاص مستعدّين لقول الحقيقة. والأرشيفات تؤكد أغلب ما نقله مولينا فاخاردو، ويُفترض أنه كان مصيبًا بشأن المكان الذي دُفن فيه لوركا أيضًا. والمكان خندق حفره شخص يبحث عن الماء في منطقة ريفية قرب مزرعة تقع بين قريتَي فيثنار والفاكار. وتبعد المنطقة 500 متر فقط من قطعة الأرض التي حدّدها المؤرخ الإيرلندي أيان غيبسون عام 1971م، لكن أعمال الحفر التي أُجريت فيها عام 2009م لم تعثر على أي رفات أو عظام.

وثمة إشكال حول قبر الشاعر الإيرلندي، وليام باتلر ييتس، الذي توفي في 28 كانون الثاني (يناير) 1939م في فندق «إدييال سيجور» في روكبرون- كاب- مارتان الواقعة في مقاطعة ألب- ماريتيم الفرنسية على البحر المتوسط قرب الحدود مع إيطاليا. وقد دفن في مقبرة جماعية ونبش رفاته في عام 1946م ووضع في صندوق لحفظ العظام. ولم ينقل النعش الذي يفترض أن يكون ضم رفاته إلى إيرلندا إلا في عام 1948م بسبب مشكلات قانونية واندلاع الحرب العالمية الثانية. وُورِيَ الرفات في الثرى في باحة كنيسة في درامكليف في شمال غرب إيرلندا. وتحوّلت مقبرته- التي حفر عليها أحد أبياته الشعرية «ألقِ نظرة باردة على الحياة وعلى الموت أيها الفارس وامضِ في طريقك»- إلى محج يستقطب آلاف الأشخاص سنويًّا. إلا أن رفات ييتس قد يكون لا يزال في روكبرون- كاب- مارتان.

عادت التساؤلات حول مثواه الأخير إلى الواجهة مع اكتشاف دانييل باري، نجل دبلوماسي فرنسي كبير، وثائق في صندوق في قصر تملكه العائلة. وتنبه باري إلى وجود إشارات إلى اسم الشاعر في الوثائق فقرر تسليمها إلى سفارة إيرلندا في فرنسا. ومن بين هذه المخطوطات تقرير عن التحقيق الذي أجراه موظف في وزارة الخارجية الفرنسية في عام 1948م للتحقق من جدوى نقل رفات ييتس. وتشير هذه الوثيقة إلى أن رفات الشاعر الموجودة في صندوق العظام «مخلوطة بشكل عشوائي مع عظام أخرى»، وتؤكد أنه «يستحيل إعادة البقايا الكاملة والأصلية لييتس».

لا فضيلة للجسد

ثمّة من يسعى إلى جعل قبره للآخرين مزارًا يقصده الزوار، في المقابل هناك بعض المثقفين والكتاب والشعراء الذين لجؤوا إلى التوصية بحرق جثامينهم. ثمّة من يقول إن هذه التوصيات تأتي في إطار «الانشقاق» عن التقاليد الدينية الموروثة والتوجه العلماني والحداثوي الغربي، ولكن لا أحد ينتبه إلى أن فعل الحرق يلتقي مع الطقوس الهندوسية في الهند. حين رحل المخرج السينمائي الفلسطيني ناصر حجاج في فيينا، أوصى بحرق جثمانه، كتبتْ زوجته عبير حيدر في الفايسبوك: «نزولًا عند رغبته، سوف يتم حرق جثمانه ونثر جزء من رماده لاحقًا في مخيم عين الحلوة وعند قبر والدته فاطمة في صيدا، وجزء آخر في قريته الناعمة شمال فلسطين المحتلة، وجزء في سوريا التي تضامن مع شعبها المظلوم حتى آخر نفس، وجزء فوق تراب تونس حيث عاش سنين طويلة من عمره فيها»، قبل حجاج ركزت بعض وسائل الإعلام بقوة على وصية المعماري العراقي، رفعة الجادرجي، التي قال فيها: «كتبت وصيتي وهي في إنجلترا، أريد أن أحرق، لا أدفن، كي لا أدنّس الأرض»، وهو سبق وقال «أنا وزوجتي قررنا ألا ننجب أطفالًا لأن البشر يخرّبون الأرض». ولم يكتب عن كيفية التصرف برماد الجثمان.

المفكر الفلسطيني الأميركي إدوارد سعيد، أوصى بحرق جثته ونثر رماده في لبنان، وهو ما تم في 30 أكتوبر 2003م، فنقل رماده إلى مقبرة برمّانا الإنجيلية في ضهور الشوير (جبل لبنان)، وكتبت تفسيرات كثيرة متناقضة حول الحرق والدفن والمعنى والمغزى والسبب، وبعضهم أدخل المسألة في بوابة التأويلات الأسطورية والخرافية، وبدأ يفسر النار والرماد فكريًّا وأدبيًّا، وقال الروائي إلياس خوري: إن «إدوارد سعيد كان يرغب في أن يدفن بأرض عربية وقد اختار لبنان».

أيضًا، أوصى الروائي الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز، بحرق جثته لتتحول ذرات من الرماد المتناثر على أرض كولومبيا والمكسيك. وكان ماركيز في كتابه «قصص ضائعة»، قد كتب مقالًا بعنوان «أبهة الموت»، عن الروتين، ومأساة البيروقراطية في وكالة لدفن الموتى. بفعل الاعتياد والتعامل اليومي مع الموت، يفقد الموت هيبته، ويُعامل الموظفون الموتى وذويهم معاملة آلية باهتة. يذهب ماركيز ليشهد مراسم حرق جثة صديقه، فيجد التوابيت المشتراة من عائلات الموتى لتضم جثامين أحبتهم، وقد صارت بلا جدوى بعد انتهاء مراسم الدفن، فتعمد الوكالة إلى بيعها من جديد لعائلات موتى آخرين.

وأوصت الفنانة المكسيكية فريدا كاهلو بحرق جثمانها؛ كي تتخلص من الجسد الذي آلمها كثيرًا، ونُثر رماده وحُفظ المتبقي منه في جرة داخل «البيت الأزرق» الذي تحول فيما بعد إلى متحف يضم لوحاتها ليحكي قصة المواجع التي لم تنته. أيضًا أوصى دييغو ريفيرا بحرق جثمانه ومزج رماده مع رماد كاهلو.

وصايا أخيرة

عدا قصص قبور الشعراء وأشكالها ورمزيتها، هناك الكتابات والتعابير التي تخطّ على الشاهدة. كثر من الأدباء والشعراء والفلاسفة، على مر العصور، أوصوا بكتابة أبيات شعرية أو أقوال على شواهد قبورهم، وكانت تنتقى بعناية لتحدد وجهة نظر الشاعر في الحياة نفسها. هل يمكن عدّ ما هو مكتوب على شاهدة قبر شاعر أو فيلسوف أن تلك الشاهدة هي آخر نصوصه؟ بعض الكتّاب اختاروا أن يوردوا نصًّا أثيرًا لديهم سبق أن كتبوه، آخرون هيؤوا جملة خاصة لموتهم ادخروها لتكون منقوشة على بيتهم الأخير، كأن هؤلاء حين يكتبون في وصاياهم عما ينبغي أن يكتب على قبورهم، يطبقون قول الشاعر اللبناني سعيد عقل: «أقول الحياةُ العزمُ، حتى إذا أنا انتهيتُ تَوَلّى القَبرُ عزمي من بَعدي»… في المقابل يقول الروائي الجزائري واسيني الأعرج: «القبور أيضًا تموت بالنسيان». وهناك مئات الأقوال أوصى بها الكتّاب لتدوّن على شواهد قبورهم، فقد أوصى أبو العلاء المعري أن ينقش البيت التالي على شاهدة قبره: «هذا ما جناه أبي علَيّ وما جنيت على أحد!‏».

كتب صبحي الياسيني، قائمقام معرة النعمان في مجلة «الرسالة» (عدد 588) أن هذا البيت ليس له وجود على قبره ذي الكتابة الكوفية المشجرة، ولا يوجد على شاهد الضريح سوى الكلمات الآتية: «هذا قبر أبي العلاء بن عبدالله بن سليمان». وقد محا الزمان كلمات: «هذا قبر أبي»، وكتب على ظهر الشاهد: رحمة الله عليه. وقد وجد بجوار ضريحه حجر مستطيل الشكل بقياس 50*30 مسطّر عليه هذان البيتان بخط ثلث حديث:

«قد كان صاحب هذا القبر جوهرة… نفيسة صاغها الرحمن من نطف/ عزّت فلم تعرف الأيام قيمتها… فردَّها غيرة منه إلى الصدف». وقد علمت من ثقة في المعرة أن هذا الحجر حديث، جدد عام 1903م بذيل آخر مكتوب بالخط الكوفي أتى عليه الزمان فجدده أهل الفضل. وكان أمر بناء الضريح تكتنفه الصعوبات لعوامل شتى منها تبدل الحكومات المتعاقبة على البلاد السورية، فكأن رغبة أبي العلاء التي أبداها في ترك قبره وعدم الاحتفاظ به قد تحققت بقوة خفية لا يمكن التغلب عليها؛ إذ يقول: «لا تكرموا جسدي إذا ما حل بي… ريب المنون فلا فضيلة للجسد».

وقال: «إن التوابيت أجداث مكررة… فجنب القوم سجنًا في التوابيت».

وأوصى أحمد شوقي أن يكتب على قبره من قصيدته «نهج البردة»: «إن جل ذنبي عن الغفران لي أمل… في الله يجعلني في خير معتصم». وكتبت أبيات على قبر الشاعر السوري بدوي الجبل من قصيدته «الشهيد» يقول فيها: «أطلّ على الدنيا عزيزًا: أضمّني إليه ظلام السجن أم ضمّني القصر/ وما حاجتي للنّور النّور كامن بنفسي لا ظلّ عليه ولا ستر/ وما حاجتي للكائنات بأسرها وفي نفسي الدنيا وفي نفسي الدهر».

الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري طلب أن يُكتب على شاهد قبره بيت من مطلع قصيدته الشهيرة «دجلة»: «يا دجلة الخير حييتُ سفحكِ عن بعدٍ فحييني، يا دجلة الخير، يا أمّ البساتين».

الشاعر الفلسطيني محمود درويش، أبى إلا أن يبقى شاهد قبره في ذاته دعوة للحياة «على هذه الأرض ما يستحقُّ الحياة»… وكتب الشاعر السوري محمد الماغوط‏، على ضريح زوجته: «هنا ترقد آخر طفلة في التاريخ‏ الشاعرة الغالية سنية صالح»‏.

الشاعر الإنجليزي جون كيتس، كان خياليًّا في عباراته المكتوبة على قبره، الموسومة بـ«هنا يرقد من كان اسمه منقوشًا على الماء». وكتب على قبر الفيلسوف إيمانويل كانط عبارة وردت في نهاية كتابه «نقد العقل العملي»: شيئان يملآن عقلي بإعجاب ورهبة لا انتهاء لهما ولا أمد وهو شعور لا يفارقني كلما أمعنتُ التفكير بهما: السماء المطرّزة بالنجوم من فوق رأسي والقانون الأخلاقي في داخلي. أما مُنظّر الشيوعية كارل ماركس فكُتِب على قبره: «يا عمال العالم اتحدوا، لقد فسر الفلاسفة العالم بطرق متعددة، لكن الهدف هو تغييره». وقد خُرّب قبر ماركس مرتين: في المرة الأولى رسم الصليب النازي على القبر وسكب الدهان عليه، وفي المرة الثانية كتب على القبر عبارة «شريعة الكراهية» و«مهندس الإبادة» باللون الأحمر.

وكُتب اسم كونراد على شاهدة بطريقة لا هي بولندية ولا إنجليزية (جوزيف تيودور كوجينوفسكي= اسمه الحقيقي)، كما نقش على الشاهدة عبارة «النوم بعد التعب، الميناء بعد البحار العاصفة، الراحة بعد الحرب، الموت بعد الحياة، كلها تبعث الكثير من السرور»، وهذان البيتان من قصيدة «الملكة الجنية» للشاعر البريطاني إدموند سبنسر.‏

وأوصت الروائية فرجينيا وولف (التي ماتت منتحرة) أن يكتب على قبرها: «أيها الموت! برُغمَ إرادتك سأُلقي بنفسي، لا مهزومة ولا مُنحنية». وكتب على شاهدة قبر الشاعر روبرت فروست: «كنت في شجار عاشق مع العالم». الشاعرة سيلفيا بلاث (التي ماتت منتحرة أيضًا) آثرت أن يكتب على شاهدتها هذه الجملة: «حتى وسط ألسنة اللهب المضطرمة يُمكنُ غرس زهرة اللوتس الذهبية». واختار الروائيّ اليوناني نيكوس كازانتزاكي عبارة مغرقة في الزهد والتصوّف: «لا آملُ شيئًا، لا أخافُ شيئًا، أنا حر».

وكُتِب على شاهدة قبر الشاعر والروائي الأميركي تشارلز بوكوفسكي كلمة «لا تحاول»، مرفقة برسم أشبه ما يكون لملاكم في معركة الحياة. وكانت حياته بحسب الكاتب مارك مانسون(٥) مثالًا على حياة إنسان انتقل من التسكع والتشرد والفقر إلى الشهرة والنجاح ليس بفضل قناعته بأنه إنسان فريد واستثنائي، بل بسبب عدم مبالاته وقناعته التامة بأن هذه الحياة لا تستحق المحاولة.


هوامش:

(١) أحمد أبو زيد، مقالة نشرت في مجلة «الكلمة».

(٢) حوار مع ريجيس دوبريه: ماذا تبقى من المقدس؟ ترجمة: سعيد بوخليط.

(٣) 150  عامًا على مولد رامبو هنا يرقد التاجر. الشاعر – مجلة «العربي» الكويتية.

(٤) ترجمة وليد السويركي.

(٥)  مارك مانسون «فن اللامبالاة»، ترجمة الحارث النبهان.

المنشورات ذات الصلة

في مناسبة عام الشعر العربي.. شعر بلا نجوم يبحث عن قراء ومنصات بلا تصفيق أو لايكات

في مناسبة عام الشعر العربي.. شعر بلا نجوم يبحث عن قراء ومنصات بلا تصفيق أو لايكات

في مناسبة عام الشعر العربي، مبادرة وزارة الثقافة السعودية، تستطلع «الفيصل» آراء عدد من الشعراء العرب، حول راهن الشعر...

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *