الكتابة الذاتية بين عالمين وسيلة للخلاص أم انتقام من الماضي وإدانة للذات؟

الكتابة الذاتية بين عالمين وسيلة للخلاص أم انتقام من الماضي وإدانة للذات؟

تعد رواية «الخبز الحافي» من أشهر الروايات العربية المعتمدة على السيرة الذاتية للكاتب المغربي محمد شكري التي يحكي فيها عن طفولته في عالم الهامش، داخل حواري مدينة «طنجة». كُتبت «الخبز الحافي» في 1972م وتُرجمت للإنجليزية والفرنسية في العام التالي، لكن لحساسية طرحها وجرأتها، لم تنشر باللغة العربية إلا بعد مرور عشر سنوات. وهي واحدة من ثلاثية روائية لشكري مع «الشطار» و«وجوه» وتشكل فصولًا من حياته القاسية، وتسببت في النقد القاسي له.

من الروايات المهمة العربية الأخرى رواية «رأيت رام الله» للفلسطيني مريد البرغوثي التي يحكي فيها عن حياته في مدينة رام الله ثم انتقاله للقاهرة للتعليم، وقصة حبه للكاتبة رضوى عاشور التي تزوجها في النهاية. حين يدون الكاتب سيرته الذاتية يواجه خيارين: إما التدوين المباشر الناقل لحياته وماضيه بمنتهى الصدق، مهما كانت حساسيته وقسوته وكشفه للمستور في أسرته ومجتمعه بما يصطدم مع القيم المحافظة والمنغلقة والمتشددة التي تسود في بلادنا، أو يلجأ الكاتب لتدوين بعض فصول من حياته بضبابية وتمويه، فيعمد لتغيير الأماكن والأسماء والوظائف؛ ليهرب من المساءلة الاجتماعية ممارسًا رقابة ذاتية على نفسه قبل الآخرين.

الكتابة على خط النار

الكتابة الذاتية رسخت أقدامها بقوة منذ زمن في الأدب الغربي، وعلى الرغم من أن تلك المجتمعات قد خطت خطوات نحو الحرية أوسع كثيرًا من مجتمعاتنا فإن لها أيضًا محاذيرها وحساسيتها. كثير من روايات السيرة الذاتية ترصد ظروفًا إنسانية وأزمات مرّ بها البطل/الراوي وأثقلت وجدانه، هي في صلبها قصته الذاتية.

تدور رواية «الأب» للسويسري «يورج أكلين» (1945م)، عن علاقة الابن «فالتر» بوالده المقعد. يتفاجأ «فالتر» ذات يوم باتصال من المصحة التي ترعى والده؛ لتخبره بقرار طرده؛ بسبب دأب الأب على إشعال الحرائق بواسطة أعواد الثقاب من دون سبب مفهوم! يزور فالتر والده، لكن الأب يعجز عن تقديم سبب لما يفعله. كانت وصية الأب أن يُحرق رماده وينثر من فوق تل. يحمل «فالتر» أباه المقعد على ظهره في رحلة للتل. هناك يتبادل الرجلان الحديث الذي يمتد عبر صفحات الرواية حتى النهاية. يحكي فالتر لوالده عن علاقته بصديقته، وخوفه من أن تتركه فيواجه الوحدة والمصير نفسيْهِما. يتناول يورج أكلين في هذه الرواية أزمة رعاية المسنين في سويسرا التي تعد من الدول الأغنى أوربيًّا. دق أكلين جرس مسؤولية الدولة عن المسنين، والمسؤولية الفردية للمواطنين المطحونين بين اللهاث وراء لقمة العيش والإحساس بالذنب تجاه المريض المسن الذي يوشك مشواره على الانتهاء ومغادرة أحبائه للأبد.

جون لوي فارنييه وآلام الأبوة

رواية «أين نذهب يا بابا»، للفرنسي جون لوي جون فارنييه، واحدة من أهم روايات الكتابة الذاتية التي ترصد تجربة الأبوة بعد الطلاق في الغرب الأوربي، وقد فازت بجائزة فيمينا. تعتمد رواية فارنييه على تجربة الكاتب الإنسانية؛ لكونه أبًا لطفلين معوقين، بعد هجران زوجته للبيت. الطفلان ماثيو وتوماس هما محور السرد. والسؤال: «أين نذهب يا بابا؟» يردده ماثيو طوال الوقت، وهو السؤال الوحيد الذي يستطيع نطقه.

يميل فورنييه لرؤية الجانب الإيجابي من تجربته ويجنح إلى السخرية من ذاته، محاولًا ألا يسقط في فخ القتامة. يشعر فورنييه بالحسد تجاه أطفال الآباء الطبيعيين، ولا يخفي ذلك في سرده لآلامه على القارئ، من دون السقوط في فخ البكائية. يقول: «كانت لي نظرة من مسابقات أجمل «بيبي»، فكنت لا أفهم لماذا نكافئ من لديهم أطفال أصحاء كما لو كان ذلك مسؤوليتهم! لماذا إذن لا نعاقب من لديه أطفال معوّقون»! «أين نذهب يا بابا» هي رواية الصراخ ضد المؤسسات المتسببة في إهمالها الطبي، في زيادة المعوقين وذويهم. السؤال نفسه طرحه المطرب الفرنسي ستروماييه في أغنيته «أين نذهب يا بابا»؛ ليعبر بها عن صرخة المجتمع الفرنسي المخنوق بمعاناة أفراده، وبأفق مسدود سياسيًّا وإنسانيًّا.

إيمان مرسال وأشباح الأمومة

تعددت الكتابات العربية عن الأمومة. فقد صدرت في الأعوام السابقة دواوين عدة، مفردة أو مشتركة، تتحدث عن تجارب الأمومة لشاعرات عربيات، وكاتبات، يختبرن أمومتهن للمرة الأولى أو لمرات لاحقة. من أهم هذه الكتب «عن الأمومة وأشباحها» للكاتبة المصرية «إيمان مرسال» وقد صدر عن سلسلة (كيف تـ). تتحدث فيه مرسال عن تجربتها الخاصة جدًّا في الأمومة التي تشبه تجربة «جون لوي فارنييه» في الأبوة التي سجّلها بكل ألم وصدق وعذوبة.

ترصد مرسال في كتابها التفاصيل الخاصة بظروف رعاية ابنها «يوسف» الذي يعاني حالةً مرضيةً خاصةً، سببت لها الخوف من إيذائه لنفسه أو الآخرين، وصعوبة السفر والانتقال به خصوصًا مع عملها الأكاديمي، واضطرارها للتنقل كثيرًا، مع صبي تجتاحه نوبات غضب عارمة. كما تحكي عن إحساسها بالذنب الذي تصفه بأنه يشبه «الديناصور». تقول: «الأم التي لا تشعر بالذنب تجاه أطفالها، هي تلك التي أتاها ملاك لحظة الولادة وشق صدرها واستأصل النقطة السوداء التي هي منبع الشر، حررها من هويتها السابقة، وشفاها من العدمية، أو الطموح، تمامًا كما يحدث مع الأنبياء في عملية تجهيزهم للنبوة».

خصصت مرسال جزءًا من الكتاب للحديث عن علاقتها بوالدتها، أما أغلب أجزائه فترصد علاقة البنوة والأمومة بين ثلاثة أجيال: الجدة، والبنت اليتيمة، والدة مرسال، والحفيد الذي نشأ في كندا حيث العالم الأول بكل صرامته وانضباطه. تُقدم الأم الشاعرة للمحاكمة، وتُسأل عن الكيفية التي تؤدي بها مهامها كأم وكيف توفق بينها وبين عملها الأكاديمي. تُقدم «مرسال» للمحكمة البراهين عن حبها لابنها: تحكي له «الحواديت» قبل النوم، عن قريتها البعيدة «ميت عدلان»، وتغني معه «توينكل توينكل» بصوت حزين، وهو ما يراه يوسف أجمل لحظات حياته، كما تقول في خاتمة كتابها، الذي أهدته للصغير.

وعن الهدف من كتابها تقول مرسال لـ«الفيصل»: لم أكن أهدف إلى إزاحة المتن العام الذي يكرس صورة الأم التقليدية، المضحية المؤثرة، وهو متن لا يمكن إزالته لكن يمكن زحزحته قليلًا. وقد أدهشتني النقاشات حول الكتاب. وأقول: إن تجربتي في الكتابة حول الأمومة ليست هي الأهم، بل توجد تجارب أخرى حتى لو لم يستطع الآخرون تدوينها كنصوص. كان من المهم تحديد مكاني في الكتابة عند اختيار لغة كتابي، نبرة الصوت، التي أردت بها أن أقول: إنني ليست عليمة بالأمور ولا أقدم دليلًا للأمهات الجدد. المهم هو الإخلاص لفكرة الكتابة نفسها، وإزالة الناتئ وغير المهم.

رغبتُ في نقد الخطاب النسوي العام، الغربي بالأساس. نحن لا نمتلك خطابًا عربيًّا في نقد الأمومة. ومن الجدير بالذكر أن الخطاب النسوي الغربي يتركز حول قضايا مهمة مثل المساواة في حقوق العمل بين الأُم والأب، وحقوق الأم المثلية، ونقد المجتمع الذي يضم «أمهات عازبات». إن كتابي «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها» هو محاولة لإيجاد علاج لجرح شخصي، ومحاولة للتصالح مع الخوف من الفقد؛ فقد الأم في حالتي والخوف من فقد الابن، والكتابة هي وسيلتي الوحيدة لعمل هذه المصالحة.

في كتابتي ليومياتي مع ابني، في الفصل الثالث، أردت للقارئ أن يرى الخيط الرفيع الخاص بالصراع مع المرض من جهة ومع المؤسسات من جهة أخرى. أردت أيضًا خلق صورة للابن الذي طالما كانت صورته شبحية. شغلني أيضًا سؤال أخلاقي مهم: هل من حق الأم الكاتبة أن تكتب عن طفلها؟ هل من حقك ككاتب أن تكتب عن أمك المريضة بالزهايمر وتكشف كيف تتدهور حالتها؟ لكن لم أصل لإجابة «أخلاقية» بالرغم من نقاشات مطولة مع محررتي الكتاب!

الكتابة الذاتية النسوية تحت سطوة السلطات

خزائن آني إرنو وأقفاص فاطمة قنديل

كتبت آني إرنو، الحائزة على جائزة نوبل 2022م، عن حياتها بأسلوب صريح وصادم؛ بوصفها كاتبة صريحة، لا تساوم ولا تهادن. في ثمانينيات القرن العشرين تصدرت إرنو المشهد الأدبي بأعمالها المنتمية للسيرة الذاتية، مثل رواية «المكان» التي فازت عنها بجائزة «رينودو» عام 1984م. في هذا الكتاب تسرد إرنو علاقتها بوالدها بأسلوب تقريري صريح أقرب إلى التحليل. فتكتب محذّرة القراء: «لا ذكريات غنائية ولا عروض منتصرة للسخرية، هذا الأسلوب المحايد يحدث بصورة طبيعية». الماضي هو المادة الخام لإرنو لكنها أيضًا تعود إلى حاضرها، وعلى الرغم من ذلك، وعلى الرغم من أنها تعد كاتبة سيرة غير عادية، فإنها لا تثق في ذاكرتها، فتشعر أحيانًا كأنها تنظر إلى نفسها في صورة فوتوغرافية قديمة أو في مشهد من فِلْمٍ. إنها لا تتظاهر بأن بوسعها الوصول إلى الماضي بصورة مطلقة، بل تفرغه وتفككه. تتساءل إرنو في حوار للفينينشال تايمز، نشرته أخبار الأدب المصرية، وترجمته رفيدة جمال ثابت: «ما جدوى الكتابة إن لم تنبش في الماضي؟».

كتبت إرنو كذلك عن تجربة الإجهاض السرية، بعد تخرجها من الجامعة، في روايتها «الخزائن الفارغة» التي ترصد فيها تعرض جيل كامل من الفرنسيات لهذه العملية الخطيرة قبل الموافقة قانونيًّا عليها 1975م. ولأنها امرأة تكتب عن نفسها توصف اليوم بأنها «فوق النقد»، و«الأسطورة الحية» حتى إن بعض النقاد شبهها بمارغريت دوراس. «هذه المكانة اكتسبتها بعد عمر مديد من العمل الدؤوب في عملية التذكر واستكشاف مناطق جديدة في أدب السيرة الذاتية».

انتقالًا من باريس للقاهرة، صدر مؤخرًا كتاب «أقفاص فارغة» للشاعرة المصرية «فاطمة قنديل»، وقد فازت عنه بجائزة نجيب محفوظ (2022م)، التي تمنحها الجامعة الأميركية بالقاهرة، وأحدث ضجة أدبية ولاقى احتفاء نقديًّا كبيرًا. بين «خزائن إرنو الفارغة» و«أقفاص فاطمة قنديل» الفارغة أيضًا، تمتد خطوط سحرية للتشابه. فإذا كانت إرنو قد كتبت عن تجربة الإجهاض فقنديل كتبت عن علاقتها بأخويها وأسرتها الصغيرة من خلال رحلة امتدت ما يزيد على ستين سنة، في ربوع القاهرة بين مجدها وقسوتها الشديدتين. هذه الخطوط تتمثل في الصراحة الشديدة والصدق المطلق في السرد، والكشف، من دون مواربة، عن أعمق آلام المرأة (الإنسان).

فاطمة قنديل

في «أقفاص فارغة»، تكتب الشاعرة المصرية فاطمة قنديل سيرتها الذاتية بشكل روائي ملحمي وإنساني وحميم. تقف فيه (الراوية/ الابنة) مع الأم في مركز دائرة الحكي، بينما يقف الأخوان على طرفيها. وتدور الكاتبة بين المركز والطرفين ونقاط أخرى أبعد، وتدور معها حياتها. الأم التي تعيش حياة هادرة من الألم والشقاء والمعاناة تكتب سيرتها الذاتية، فتنقح الابنة السيرة وتبدي رأيها. تصوب وتنقح، ولا تظهر سيرة الأم للنور. لكن الابنة تكتب سيرتها الخاصة وكأنها تحقق رغبة الأم في قول كلمتها وسرد حكايتها؛ لمقاومة النسيان والزوال، والحكايات المعاكسة لما تريد قوله عمن كانت ومن صارت إليه.

تقول فاطمة قنديل لـ«الفيصل»، معلقةً على فكرة البوح في كتابها: «أنا بطبيعتي شخص اعترافي. في دواويني، مثل «أسئلة معلقة كالذبائح»، كتبت نصوصًا أكثر اعترافية من كتابي «أقفاص فارغة». كنت أشجع نفسي على استمرار الكتابة طوال الوقت. الكاتب دومًا في انتظار القارئ؛ فلا كتابة بلا قارئ. يجب أن يكون هناك دائمًا آخر، والآخر هو مساحة كبيرة من القراء، وليس شخصًا واحدًا يجلس على حافة مكتبي. كنت أُسأل، حين تحدثت عن البيوت التي سكنت فيها: لمَ نر البيت؟ سواء البيت الأول في السويس أو في السعودية، ثم مدينة نصر، ثم مصر الجديدة. أقول: البيت عندي مجموعة من العلاقات، البيت عندي هو بالأساس البيت الشعري بتعبير باشلار».

وتضيف: «تحدثتُ عن الطبقة المتوسطة من خلال أسرتي التي انهارت خلال السبعينيات، وما حدث لها من سقوط. ليس بسبب التحولات السياسية والاجتماعية لكن أفرادها بذاتهم مسؤولون عنها. وكل من كتبت عنهم ماتوا سواء في الحقيقة أو في داخلي. فالكتابة ليست خلاصًا، كما يدعي بعضٌ، بأنها ليست «فضفضة»، بل انتقال للحكي عبر وسيط له شروطه وهي الكتابة؛ إذا كنت تريد أن تصنع أدبًا»!

وعن هدف البوح تقول فاطمة قنديل: «أحكي مثلما فعلت شهرزاد؛ للإبقاء على حياتها في مواجهة الموت. وحين اخترت عنوان روايتي شغلتني فكرة الأقفاص، التي تشبه السجون، العلاقات التي نسجن أنفسنها فيها وتنتهكنا. العلاقات تظل تنتهك حياتنا باستمرار ولا بد من التخلص منها، كما قالت دوريس ليسينغ هي «سجون نختار أن نحيا فيها»؛ لذلك، الانتقال من بيت لبيت هو محاولة لقطع العلائق مع العلاقات القديمة، لكن في الواقع لا يمكن أن يقطع الإنسان علاقته بماضيه كلية».

عزة رشاد: إما التحايل أو تقليم أظافر النص

عن رؤيتها في كتابة السيرة الذاتية تقول الكاتبة والطبيبة عزة رشاد: «لأن الماضي هو الشيء الوحيد الذي لا يمكن تغييره ولا يمكن محوه، فلمقاربته في رأيي مسالك وغايات عديدة. ربما نحتاج إعادة قراءته وتحليله لكي نفهم أكثر ذواتنا بالأخص، ثم يأتي بعد ذلك أن نفهم الآخرين ونحلل الأحداث. وهذا ربما يكون وثيق الصلة بالحاضر؛ لأن الزمن قماشة واحدة يصعب فيها فصل الماضي عن الحاضر عن المستقبل، فصلًا تامًّا أو متعسفًا. ربما أيضًا نتأمل الماضي بغرض التصالح معه، والتخلص من ثقل حمله فوق الظهر كَخُرْجٍ ثقيلٍ يجعلنا نسير منحنين وعاجزين عن التطلع نحو مستقبلنا. التصالح ربما يستلزم التحرر من فكرة الإدانة، إدانة الذات أو الآخر».

عزة رشاد

سألناها عن تقييمها للكتابات النسائية الذاتية وهل تعدُّها كتابات تحت مظلة خاصة، تحت سطوة عالم أدبي يحتكره الرجال ويسيطرون فيه على فكرة «القيمة» وعلى الجوائز والمحافل الأدبية؟

فأجابت قائلة: «أشعر بالأسف حقيقةً؛ لأننا ما زلنا نتناقش حول مكانة الكتابة الذاتية. الكتابة الذاتية هي كالواقعية والتاريخية وغيرها، من الكتابات التي تشكل أعمدة الكتابة الروائية والتي لا يمكن الاستغناء عنها ولا يمكن النيل من مكانة أحدها لصالح الآخر، ولا من دور كل منها في التعبير عن الإنسان. المفاضلة يجب أن تكون على أساس واحد هو الجودة».

وعن كيف تواجه خوفها من الرقيب الاجتماعي والسياسي حين تشرع في كتابة عمل ما؟ تقول: بخصوص هذا الرقيب الذي أصفه بالضراوة، فإن الكاتب أمام خيارات بديلة محدودة: إما أن يقوم بتقليم أظافر النص، أي يخون الصدق ويضحي بالمصداقية، وإما أن يتحايل بطرق فنية ليقول كل ما يريده باستخدام الرمز مثلا، وهو الخيار الفني الأسهل، أو باستخدام التورية والمجاز وما شابه، لينتج نصًّا يصعب على فهم الرقيب، وهو ما يحتاج منه بذل جهود كبيرة، غير أنه، في الوقت نفسه، يصقل قدراته ويزيد مهاراته بدرجة هائلة».

علاء خالد وسؤال الكشف الكامل

الشاعر والكاتب علاء خالد من الكُتاب المعاصرين المهمين، وله أسلوب خاص في الكتابة يعتمد على مزج الشخصي بالروائي، والخاص بالعام. سجل فصولًا من حياته في كتابه «ألم خفيف كريشة طائر ينتقل بهدوء من مكان لآخر»، عن طفولته في الإسكندرية في حي «بولكلي» العريق. أما في روايته «متاهة الإسكندرية» فالبطل هشام يشبه «خالد» في السن، وعمله في الكتابة، والعيش في المدينة نفسها، وغير ذلك. وفي كتاب «أشباح بيت هاينرش بل»، الصادر عن الشروق، سجل تجربته الذاتية في السفر لألمانيا، في معتكف كتابي في بيت الكاتب الألماني «هاينريش بل» وعلاقاته بطاقم المنحة المستضيف، وبأصدقاء جدد من أنحاء العالم. كتب خالد عن ذاته وأفكاره ومشاعره الخاصة من دون التواري خلف بطل روائي يشبهه.

أما كتابه «مسار الأزرق الحزين» فهو الأخطر في الكتابة الذاتية، ويحكي فيه تجربته مع المرض. أصيب «خالد» بخطأ طبي جسيم، وضع حياته على المحك وجعله يعيد التفكير في الحياة والعلاقات، ويعيد تقييم الحياة والموت ذاتهما. الحياة على تخوم الموت، في المشفى، سجّلها بأدق تفاصيلها في الكتاب. وعلى الرغم من تطرقه للحديث عن الحب والفلسفة والسينما، فيبقى الكتاب شاهدًا على تجربة قاسية وحقيقية تمامًا، وهي وقت المرض والاقتراب من الموت.

عن الحدود التي يراها بين الواقعي والحقيقي والمتخيل في كتابته الذاتية يقول لـ«الفيصل»: «لا أفرق بين كتابة صريحة أو أخرى متخيلة عن نفسي، الاثنتان تخرجان من مكان واحد؛ فأي كتابة صريحة بها فراغات، أو تفتقد السياق الذي يمكن أن تظهر به، وهنا يظهر دور التخييل الذي يكمل هذه الفراغات بأحداث وربما بأسرار وسياقات مختلقة ليوفر السياق الجمالي للحقيقة. أعتقد أن أية تجربة مهما كانت متعددة وعميقة، فهي وحدها فقيرة، ليس لأنها فقيرة في ذاتها، ولكن لأنها تفتقد هذا «الآخر» الذي يمتزج بها ويجادل وحدتها؛ لذا التخييل داخل الكتابة بمنزلة «الآخر» لها، الذي يوسع من وحدة ذاتية الأفكار ويضعها في مكان التلقي العام، ولكن داخل إطار خاص، بل شديد الخصوصية، وهو ما يمنح الكتابة سريتها، أو بوحها، الذي يضعها في مكان «التصديق» بالنسبة للقارئ. حتى الآن لم أقل الحقيقة التي تعنيني. ربما عبرت عن بعض الحقائق التي سمح بها العقل أن تدخل في الكتابة، لكونها أصبحت من ركائز بنيانه، ولكن لا تزال هناك حقائق تقف في الظل، وتحتاج لمساحة شجاعة أكبر».