المقالات الأخيرة

“لقاء مارس 02: تواشجات” دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

“لقاء مارس 02: تواشجات”

دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

فيما يشبه الالتزام الأخلاقي والجمالي، تبنى لقاء مارس السنوي، الذي تنظمه مؤسسة الشارقة للفنون، في دورته الجديدة التي انتهت أنشطتها قبل أيام، طيفًا واسعًا من القضايا والموضوعات والنقاشات وعروض الأداء، التي لئن اختلفت وتعددت وتنوعت، إلا أنها تذهب كلها إلى منطقة واحدة،...

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

الأدب العربي والتحليل النفسي في مطلع القرن العشرين

معاوية نور في صحبة سيغموند فرويد

بواسطة | نوفمبر 1, 2021 | مقالات

انطوت حياة الكاتب والناقد السوداني معاوية محمد نور (1909- 1941م)، الذي تمر ذكرى رحيله الثمانون في شهر ديسمبر المقبل، على مفارقة مأساوية من الصعب مقاومة إغراء ذكرها في مستهل مقال كهذا يتطرق إلى موقع هذا الأديب في مشهد تفاعل أدباء النهضة العربية مع نظرية التحليل النفسي ومؤسسها النمساوي سيغموند فرويد (1856-1939م) خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي.

معاوية الذي درس الأدب الإنجليزي في الجامعة الأميركية في بيروت، ثم انتقل للإقامة في العاصمة المصرية وحقق حضورًا لامعًا في مدة وجيزة في أبرز صحفها ومجلاتها الثقافية في تلك الحقبة، عبر طائفة غنية ومتنوعة من المقالات والدراسات التي كان يكتبها باللغتين العربية والإنجليزية؛ هذا المثقف الطليعي الذي اتسم بالحيوية والجسارة والطموح تدهورت صحته العقلية فجأة وهو لم يتخطّ العقد الثاني في عمره، وحُجز بمصحة للأمراض العصبية في القاهرة قبل أن ينقل إلى بيت عائلته في العاصمة السودانية، حيث عزل في غرفة قصية، إلا أنه كان يخرج من حين لآخر إلى ضوء النهار وقد تحول إلى رجل شاحب وسقيم يلبس الزي الشعبي السوداني (الجلباب)، ويهيم على وجهه وهو يحمل القرآن الكريم ويردد آياته؛ هو الذي عاش متمثلًا وممثلًا روح العلمانية الغربية في كل ملمح من شخصيته (في لغته، وقراءاته، وكتاباته، حتى ملبسه، وهواياته، وعلاقاته الاجتماعية،… إلخ).

وبعد وقت قصير -وهنا مكمن المفارقة العبثية- عمل أهله كل ما في وسعهم لأجل معالجته فعرضوه على (فكي/ فقيه) فأخذ هذا يعالجه بالأعشاب والطلاسم، وفي مرحلة تالية راح يمزق ظهره بالسياط زاعمًا أنه سيخرج الأرواح الشريرة الكامنة في بدنه. إلى أن ساءت الحالة الصحية لمعاوية أكثر، ثم مات.

تلك النهاية المفجعة بوقائعها العبثية ما كان لأحد أن يتوقعها آخر محطة في المسار الأدبي الواعد لمعاوية نور الذي «بشر العالم العربي بأمل كبير لم تنجزه المقادير» وفق قولة الشاعر والناقد المصري عباس محمود العقاد (1899- 1965م)، ولكنها تبقى نهاية ممكنة بالطبع. فالعديد من أدباء العالم كانت نهاياتهم شبيهة أو ربما أعقد من نهاية الأديب السوداني، وغالبًا ما فُسّرَت تلك النهايات بوصفها رد فعل أو استجابة لما تعرض له هؤلاء الأدباء من اضطهاد اجتماعي أو سياسي، أو نتيجة لحساسيتهم الفائقة أو بسبب تعرضهم لهزات عاطفية عنيفة، … إلخ.

والشاهد أن الروائي والمؤرخ اللبناني- الإنجليزي إدوارد عطية (1903- 1964م) فسر ما حصل لتلميذه وصديقه معاوية بأنه نتيجة فشله –معاوية- في التوفيق بين طموحه الفكري وبيئته الاجتماعية المتخلفة، إلى جانب أنه اختبر الفقر والعوز وهو في مصر وقد عجز عن تدبير ما يكفي من مال للعيش والعلاج. وكل تلك التفسيرات، التي قد تصدق أو لا تصدق، هي من بين ما ورثه الذهن الإنساني الحديث من تركة رواد التحليل النفسي، مثل فرويد ويونغ وسواهما، الذين أنفقوا أعمارهم بحثًا واستكشافًا في مجاهل وألغاز النفس البشرية بهدف فهم واستيعاب ما يصدر منها من أفعال، وما تتجلى عليه من أحوال، وما تنتهي إليها من مآلات. ويمكن القول: إن معاوية كان من أوائل –إن لم يكن أول- أدباء النهضة الأدبية العربية احتفاءً بجهود أولئك المحللين النفسانيين، وقد سجل افتتانه بفتوحاتهم في كتاباته بطرائق شتى، وأراد أن يكون بمنزلة جسر رابط بينهم وبين الثقافة العربية.

الترجيح واليقين

وقبل التفصيل في ذلك تلح على الذهن قصة قصيرة كان كتبها معاوية تحت عنوان «إيمان» ونشرها في جريدة مصر (13 سبتمبر 1930م)، لعل ذكرها هنا يستكمل موضوع هذه الفقرة من المقال. وتحكي القصة عن جلال أفندي الذي يستمع بشغف لأحاديث المتكلمين حوله في المكتب والترام والمنتديات، ثم يأخذ الآراء التي تروق له من دون تثبت ويتبناها تبنيًا، وبخاصة إذا سمعها من متكلم قوي وحازم وأكيد في حجته وشخصيته.

يأخذ جلال أفندي هذه الآراء فيعيد ترديدها على أصحابه، وكأنما هي له وهو يتعصب لها ويذود عنها. وتروي القصة كيف أمست حياة الأفندي في النهاية مزيجًا من الآراء المتناقضة في مسائل كالتوظيف في دواوين الحكومة والموسيقا والرقص والكيمياء والفيزياء، وكيف تحول من شخص يؤمن بكل شيء إلى شخص يشك في كل شيء، ثم كيف راح أفراد مجتمعه يسخرون منه حتى اضطرب كيانه العصبي وصار لا يأكل ولا يشرب، وأخذ يهيم في الطرقات بعدما اعتراه مس من الجنون، ثم مات.

فيودور دوستويفسكي

يصعب القول: إن معاوية تنبأ عبر هذه القصة بالطريقة التي سيموت بها فليس من شبه بينه وبين شخصية بطل القصة، بل هما مختلفان بعضهما عن بعض كل الاختلاف مع أن هناك تشابهًا واضحًا بين ظروف وفاة معاوية وبعض ملامح القصة: الاختلال العقلي فالموت.

ولكن هذه القصة تمثل ترجمة أو تجسيد لرؤية معاوية التي ما انفك يرددها حول «نسبية المعرفة»؛ إذ كان يلح على أهمية ألّا نأخذ الآراء والنظريات بوصفها ثوابت ويقينيات، فهي له مجرد «مسألة ترجيح وقوة واتزان في القول»، وفي رأيه ليس من الحكمة في شيء «تشيع الإنسان للنظرة الفلسفية تشيعًا مطلقًا، في حرارة وجزم وإيمان».

ويمكن رؤية هذا الموقف المبدئي لدى معاوية في تعليق له يتصل بموضوع هذا المقال، كما يتصل بواحد من أسبق المثقفين العرب تفاعلًا مع نظريتي «النشوء والتطور» و«التحليل النفسي»، وهو سلامة موسى (1887- 1958م)؛ فلقد أخذ عليه معاوية عدم التزامه الروح العلمية ونبرته اليقينية في حديثه عن مدرسة فرويد النفسية. قال معاوية في مقالة له بعنوان «عالم القيم والنظريات..» نشرتها السياسة الأسبوعية (18 أكتوبر 1930م): «يحزنني حقًّا أن أرى رجلًا كالأستاذ سلامة موسى يكتب في العلم، وعلم النفس بنوع خاص، أحدث العلوم وأصغرها، كتابة فيها من صيغة الجزم ما يخرجها من حيز العلم النظري، فلقد لخص لبعض كتاب التحليل النفسي من مدرسة فرويد وأتباعه فأعطى كلامه بالعربية عن النظريات صيغة «النهائية» كأنما العلم استقر لدى فرويد وأتباعه، والقارئ العربي المسكين يحسب أن هذا الذي ينقله إليه سلامة موسى إنما هو علم النفس الحق الذي لا علم بعده ونحن نعلم أن فرويد وأتباعه إنما يكونون مدرسة واحدة بين علماء النفس العديدين».

بيد أن كل ذلك لا ينفي انجذاب معاوية انجذابًا عميقًا إلى فرويد أو إلى مجال التحليل النفسي في عمومه، وما قصته القصيرة (إيمان) إلا واحدة من مجموعة قصص كتبها ونشرها بهدف توطين وترسيخ ما كان يسميه «القصة النفسانية» في تربة الأدب العربي، وقد قال ذلك: «أرمي في كتابة هذه الصور والأقاصيص […] إلى درس الشخصيات درسًا سيكولوجيًّا، درسًا يعنى بالنتائج والأسباب، كما يعنى بالدوافع والأزمات».

فرويد ودوستويفسكي

«إن الدرس الصحيح هو درس الإنسان نفسه» هذا قول للشاعر الإنجليزي ألكسندر بوب (1688-1744م) استعاره معاوية في مقالة له بعنوان «كيف نفكر» (جريدة مصر، 8 مارس 1931م) بينما كان يتحدث عن أن البشر حققوا طفرات نوعية في المعرفة العلمية وأحاطوا علمًا بأشياء كثيرة في الطبيعة ولكنهم ما زالوا يجهلون أنفسهم؛ إذ ليس من شيء أصعب من درس النفس ولا أعسر منه منالًا لطالبيه، يقول معاوية، ويضيف موضحًا في المقالة نفسها: «لأن الإنسان أدق من أي آلة عرفها العالم […] غير أن الممارسة تذلل كل صعوبة فالقارئ الذي يعوّد نفسه مجابهة صعابه النفسية التي تنشأ بينه وبين نفسه، وبينه وبين الناس، وبينه وبين منطق الحياة وظروفها لواجد في مثل هذه المحاولات لذة وإمتاعًا […]، فليس أمتع ولا ألذ من سرور الاستبانة والاكتشاف عند الإنسان».

ولعل شغف معاوية بالسيكولوجيا هو الذي جعله ينظر إلى الفن بوصفه «تاريخ للنفس في أعلى ساعات نشاطها وفي أحرج لحظات حياتها وفي أثمن تجاربها وصراعها بين العوامل المتضادة والقوى المتنافرة» كما ذكر في مقالة له بعنوان: «الأدب العالي والقصص الفرنسي» نشرها في جريدة السياسة الأسبوعية (26 إبريل 1930م).

ولقد كان معاوية قارئًا نهمًا، وكان يقرأ في كل شيء تقريبًا، ولكن بدارسة تجربته يمكننا أن نرى استغراقه الواضح في قراءة مقالات وكتب علم النفس، إلى جانب عنايته الفائقة بكتب السير والتراجم، ولا عجب فكتب السير والتراجم هي بمنزلة البعد الأدبي للتحليل النفسي.

ويبدو أن تعلق معاوية بعلم النفس وعلمائه كان شائعًا في الوسط الأدبي بالقاهرة، وهو ما نستشفه بقراءة استطلاع كانت مجلة «الدهور» اللبنانية أجرته في عددها العاشر (ديسمبر 1934م) بعنوان: «لمن أو لماذا تكتب- تنظم؟» واستنطقت عبره مجموعة من الأدباء نذكر منهم: بشارة الخوري، ومحمود تيمور، وإيليا أبو ماضي، وخليل مطران، وعمر أبو ريشة، ومحمد الهمشري، إضافة إلى معاوية نور. ويلاحظ أن المجلة قدمت كل المشاركين بصفاتهم الإبداعية أو المهنية، وحين جاءت إلى معاوية وصفته بـ«أديب.. مهتم بنشر كتابات سيغموند فرويد».

ولا غرابة فلقد تأثر معاوية بكتابات عالم النفس النمساوي الشهير تأثرًا ظاهرًا، ولئن كان هناك من تفسير لكونه من أوائل من كتبوا باللغة العربية -إن لم يكن أولهم- عن الكاتبين النمساويين أرتور شنتسلر (1862- 1931م)، وشتيفان تسفايغ (1881- 1942م)، فذلك التفسير بلا شك لن يخرج عن شغفه بثلاثة أمور هي: علم النفس، والسير والتراجم، وسيغموند فرويد.

لا يتعلق الأمر بحقيقة أن هؤلاء الثلاثة (فرويد وشنتسلر وتسفايغ) من بلد واحد، وأصلهم واحد (يهود) ولكنهم أيضًا كانوا أصدقاء وتشاركوا الاهتمام بعلم النفس والفن؛ فشنتسلر هو طبيب وكاتب مسرحي وروائي، وكانت بينه وبين فرويد مراسلات معلومة، وتسفايغ هو الآخر كاتب مسرحي وروائي، وكان إلى جانب صداقته لفرويد من أبرع كُتاب التراجم، وقد ترجم لحياة صاحب كتاب «تفسير الأحلام»، كما كتب سيرته الذاتية، وفيها ذكر علاقته بفرويد والتحليل النفسي والسير الذاتية (انظر: شتيفان تسفايغ: عالم الأمس، ترجمة عارف حديفة، دار المدى- العراق).

وعندما كتب معاوية عن شنتسلر في مناسبة وفاته (جريدة مصر، 25 أكتوبر 1931م) قال عنه: إنه «كرس جميع رواياته وقصصه لتصوير الحياة في فيينا -عاصمة النمسا- تصويرًا سيكولوجيًّا، وتفرد بطريقة
خاصة في تشخيص أبطاله وتحليل ميولهم ونزواتهم، بل أصبح صاحب مدرسة في التحليل النفساني…». ولم ينسَ، في سياق المقال، أن يلفت الانتباه إلى تسفايغ، صديق شنتسلر.

ولعل من المفيد في هذا السياق أن نلفت إلى دراسة رائدة -في اللغة العربية- كتبها معاوية عن رواية «الإخوة كارامازوف» لدوستويفسكي، ونشرت في جريدة السياسة الأسبوعية (7 يونيو 1930م)؛ إذ يبدو واضحًا بين سطورها تأثره بتلك الدراسة الذائعة التي كتبها فرويد «سنة 1928م» عن الرواية نفسها وكاتبها حيث اتخذ الرواية أنموذجًا لتحليل نفسية دستويفسكي، وعدّها إلى جانب «أوديب ملكًا» لسفوكليس، و«هاملت» لشكسبير، من أكبر الأعمال الأدبية على مر الأزمان (راجع: سيغموند فرويد.. التحليل النفسي والفن، دار الطليعة ـ بيروت، 1975م).

وقد استخدم معاوية عبارات مماثلة في مقالته مادحًا الراوية التي بدت له كـ«إنجيل للعراك النفسي وقرآن للألم الروحي […] ونموذج حي للأدب العالي»، وأضاف «رجل مثل دستويفسكي يخطو أميالًا في اكتشاف النفس البشرية حينما يمشي فرويد ودوما وماكدوغال ومورغان وباسيل كنغ خطوات وخطوات، وإن القارئ الفهِم يجد في هذه القصة من حقائق النفس ما لا يجده في مئات من كتب علم النفس». وقول معاوية: إن دوستويفسكي ارتأى بعبقريته الفنية كثيرًا من الآراء الحديثة في علم النفس، هو ما قاله فرويد قبله.

قلب المعري

في كتابه «من الوجهة النفسية.. في دراسة الأدب ونقده»، الصادر سنة 1947م، عدّ محمد خلف الله سنة 1914م نقطة انطلاق لاهتمام نقاد وأدباء العالم العربي بالتحليل النفسي، واستنتج من قراءاته أن رسالة طه حسين «ذكرى أبي العلاء»، التي نوقشت في تلك السنة ونال عليها صاحبها لقب «دكتور»، تُعَدّ أول مصنف عربي أكاديمي في هذا الاتجاه، مع أن صاحب الرسالة لم يذكر في أي موضع منها أنه سيعالج مادته من وجهة نظر سيكولوجية، ناهيك عن أنه عرف بانزعاجه من استخدام منهج التحليل النفسي في تفسير الأدب.

أيًّا كان من أمر، بتتبع الصدى النقدي الذي خلفه كتاب «ذكرى أبي العلاء» في صحف ومجلات تلك الأيام يُلاحظ أن ذلك الصدى في معظمه تركز على مسألة واحدة، وهي كيف أن طه حسين ذهب إلى عدّ «المعري» فيلسوفًا؛ إذ خالفه في مذهبه هذا بعض من درسوا الأدب العربي القديم، ومنهم المستشرق الإنجليزي رينولد ألين نيكلسون الذي رأى أن «من الإسراف وصف أبي العلاء بأنه فيلسوف». وقد ردّ عليه عميد الأدب العربي عبر مقال تحت عنوان: «المعري: أشاعر أم فيلسوف؟» نشر في مجلة المجلة (يونيو 1938م). ويثير الانتباه في هذا السياق ما كتبه معاوية حول هذا الكتاب في جريدة السياسة الأسبوعية (1 مارس 1930م)؛ إذ أخذ على عميد الأدب العربي عدم اهتمامه بالبعدين النفسي والعصبي في شخصية الشاعر الذي عُرف بتشاؤمه!

كتب معاوية «وإنني لأعجب كيف حاول الدكتور طه حسين أن يجعل من المعري فيلسوفًا وحكيمًا […] ليس المعري بالفيلسوف ولا الحكيم، وإنما هو رجل تسيطر عليه أعصابه […]، فلقد عاش في عصر كثرت فيه الأضاليل الكاذبة […]، كان عصر مكر وغدر ووشاية […]، ثم تخيل كيف تصل مثل هذه الأشياء إلى قلب أعمى لا يبصر إنما يتخيل […]، فليس عجيبًا أن ينشأ في نفس المعري ما يسمى في علم النفس الحديث OBSESSIONS AND INFERIORITY COMPLEXES».

لم يكتفِ معاوية في مقالته التي جاءت تحت عنوان: «أبو العلاء كما أراه في فنه» بتسجيل ذلك التعليق اعتراضًا على وجهة نظر عميد الأدب العربي، بل قدم أمثلة عدة على ما يمكن أن يخلص إليه المرء حين يدرس «الدورة النفسية» للمعري، واستخدم في أمثلته مصطلحات ومفاهيم من المعجم السيكولوجي، وقد انتهى في مقالته إلى أن صاحب اللزوميات «لم يكن متشائمًا في صميمه واكتسب تشاؤمه اكتسابًا؛ بسبب فقده أمه وأباه والحالة الاجتماعية التي أحاطت به، وأوهام خياله ورزئه في بصره الذي أكسبه كثيرًا من «مركب النقص» و«استحواذ فكرة على الذهن»».

وبمناسبة ذكر المعري والتحليل النفسي نشير إلى أن قراءة كتابات معاوية تظهر أن أول مرة تحدث فيها عن السيكولوجيا وعلاقتها بالأدب تعود إلى سنة 1929م، حين كتب في الثامن والعشرين من شهر ديسمبر في ذلك العام في جريدة السياسة الأسبوعية عن ثلاث طرائق/ مناهج لدراسة الأدب، وهي (التاريخية، والنفسية، والفنية)، وفي حديثه عن «الطريقة النفسية» قال: إنها تذهب إلى أن «الأدب ما هو إلا تاريخ نفسي للأدباء والكتاب الذين كتبوه، فنحن لكي نقدر قطعة من الشعر أو النثر وجب علينا أن ندرس حياة هذا الكاتب أو الشاعر وهذا أمر لا غبار عليه […] أما أن تكون هذه المعلومات غاية في ذاتها كما صارت إليه في هذه الأيام الأخيرة فهذا هو الأمر الذي لا نقرّه ولا نفهم كيف يساعد في تذوق الفنون وتقدير الآداب».

وأكد معاوية أن حياة الأديب مهمة لفهم ما تنطوي عليه أعماله الأدبية، وقال: «نحن لا نقدر مقالات [تشارلز لام] مثلًا إنْ لم نعرف شيئًا عن حياته الحزينة وشيئًا عن طبعه الوديع، ولا المعري إن لم نعرف شيئًا عن أنه كان أعمى، إلى آخر المعلومات الهامة». وإشارة معاوية الأخيرة إلى المعري في هذا السياق تبين أنه فكر لثلاث سنوات تقريبًا في إنجاز دراسة نفسية حول تجربة الشاعر الضرير قبل أن ينجزها!

مسالك الوعي

في الأغلب الأعم، تشير المصادر المتصلة بموضوع تداخل الأدباء العرب مع علم النفس ونظرياته إلى كتاب «ابن الرومي» لعباس محمود العقاد الذي صدر سنة 1931م بوصفه من العناوين الرائدة في هذا الجانب، وربما كان معاوية نور من أوائل من أعطوا ذلك الكتاب تلك المكانة. تناول معاوية ذلك الكتاب من فور صدوره عبر مقالة حافلة بعبارات التقريظ والإعجاب نشرها في جريدة مصر (30 أكتوبر 1931م)؛ إذ وصف الكتاب بأنه «مثمر الصفحات زاهرها، جامع الجملة، قوي الوحدة» ولا نعرف أكان قربه من العقاد هو سبب احتفاله أم لأن الكتاب استجاب لنزوعه الشخصي الحار إلى التراجم والسير وعلم النفس؟

ولقد بذل معاوية مجهودًا واضحًا حتى يدرج معظم ما سجله العقاد من ملحوظات حول ابن الرومي وشعره وعصره في سياق المعارف المتصلة بعلم النفس، وراح يقتبس من الكتاب بعض الفقرات ويسبغ عليها مفهومًا سيكولوجيًّا، ولضيق المساحة نعرض نموذجين للتدليل:

أخذ معاوية الفقرة التي تحدث فيها العقاد عن تطير «ابن الرومي»، وقال معلقًا: إن العقاد «أجاد التعبير أتم إجادة عن الاصطلاح المسمى في السيكولوجيا MIND-SET». ثم عرض لقول العقاد: «أما تداعي الخواطر فصاحبه أبدًا يستخرج من الكلمة أو الفكرة غاية تؤدي إليه وتتقلب عليه، ومتى كانت طبيعته الحذر ومزاجه مركبًا على التشاؤم فليس أسهل من اتجاه خواطره السريعة إلى حيث ألفت طبيعته واستمر مزاجه»، وعلق معاوية قائلًا: «وهذا ما نسميه في علم النفس الحديث بـ NEURAL PATHS».

ولكي يعمق إحساس القارئ بالجهد الذي بذله العقاد لم ينسَ معاوية أن يشير في الجزء الأخير من مقالته إلى أن ما جمعه كتاب «ابن الرومي» من حقائق علم النفس الدقيقة إنما مرجعه «تبصر المؤلف بسراديب الروح ومسالك الوعي ومنعرجاته وأخاديده عن طريق البداهة لا عن طريق الدراسة، وما وصل إليه في هذا الباب هو نتاج استقامة النظر وصحة الإدارك لا نتيجة الاطلاع على كتب السيكولوجيا ومذاهب علم النفس […] وحسب الكتاب قيمةً أن فيه مثل هذه الاستطرادات النفسية التي تكون كتابًا في حد ذاتها».

ترجمة الذات

ولم يقتصر تجاوب معاوية مع التحليل النفسي على تلك التعليقات إذ حرص دائمًا على الترويج لـ«الرواية أو القصة النفسانية» وقال: إنها «أعلى صنوف الأدب القصصي»، وحثّ الأدباء العرب على الاحتذاء بتجارب كتّابها البارزين -من وجهة نظره- مثل دوستويفسكي ومارسيل بروست وجميس جويس، وعندما بدا له أن الاستجابة لدعوته محدودة توجه -هو الناقد- في مرحلة متقدمة من حياته (1930- 1931م) إلى كتابة هذا اللون القصصي، وقد حرص على تذكير القراء دائمًا بأن نصوصه تستلهم التحليل النفسي وتهتدي بتجارب المبدعين الذين كتبوا بإيحاء منه. نلمح ذلك في قصته «إيمان» الفائت ذكرها، ونلمحه أيضًا في تقديمه قصته القصيرة «المكان» التي وصفها بـ«القصة التحليلية»؛ إذ قال: «هذا اللون القصصي […] يعرض لأدق المسائل العلمية السيكولوجية المظلمة حتى للعلماء أنفسهم، ويمزج ذلك بنوع من الشاعرية والغموض العاطفي.. ويغلب في كتّاب هذا اللون القصصي أن يستثيروا نفوسهم ويكتبوا من معين حياتهم؛ فكأنهم يترجمون لأنفسهم مع بعض الزيادة والنقصان». (جريدة مصر: 11 نوفمبر 1931م).

في ضوء ما سلف، يصح القول: إن اهتمام معاوية بالتحليل النفسي كان اهتمامًا جوهريًّا وقد وظف كل إمكانياته كناقد وقاصّ وكاتب صحفي لأجل إشاعة مبادئه والمعارف المتصلة به وإبراز حضوره في الأدب الغربي وفي كتب التراث العربي، وعلى الأرجح صدر اهتمام الكاتب السوداني هذا عن إلحاح ذهني قوي للوصول إلى بواطن النفس البشرية وسبر أغوارها.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *