المقالات الأخيرة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

يصف موريس بلانشو الأدب كمنفى في الصحراء، حيث يصبح الكاتب ضعيفًا تسكنه المخاوف مثل تلك المخاوف التي سكنت بني إسرائيل عندما قادهم النبي موسى، امتثالًا لطلب «يهوه»، في رحلتهم عبر صحراء سيناء إلى أرض كنعان؛ فالصحراء فضاء هندسي مناسب لاحتواء مفاهيم من قبيل العزلة...

أشكلة الجنون أركيولوجيًّا في قصص لطفية الدليمي

بواسطة | مارس 1, 2021 | دراسات

من تلك الثيمات المستبعدة والمهملة التي نأى الأدب الرسمي عن توظيفها والتعبير عنها ثيمة الجنون؛ لما فيها من عقبات ومصدات على الكاتب أن يتحمل أعباءها كي يتجاوزها، مادًّا جسورًا جديدة تساعده في اقتناص ما فيها من غنى فكري. وليس في طرق ثيمة الجنون عقبة مثل عقبة الغنى الفكري الذي يهدي الكاتب إلى أشكال مبتكرة وأصيلة، ثم عقبة الشكل الذي به يستطيع التعبير بحرية وامتلاء.

وهو ما نجد مثاله متجسدًا في قصص الكاتبة لطفية الدليمي التي اختطت لنفسها مسارًا سرديًّا خاصًّا وهي تتعامل مع ثيمة الجنون بطريقة غير اعتيادية، وفق قوالب مبتكرة منذ بواكير كتاباتها القصصية. وهو ما يدلل على موهبة أصيلة ووعي عال بأسرار الكتابة السردية مع القصدية الإبداعية في تسخير الشكل لصالح المضمون وبتوازنية لا ينفصل فيها أحدهما عن الآخر.

بيد أن مراهنة القاصة لطفية الدليمي على الثيمات، ومنها ثيمة الجنون، جعلتها تهتدي إلى توظيف أشكال وتقانات في الكتابة القصصية غير مألوفة، ومنها تقانة المتوالية السردية التي اتخذتها وسيلة فاعلة في أشكلة الجنون وتمثيل تشظياته. وبناء المتوالية السردية على شكل حبكة شجرية ذات وحدات فرعية مسببة أو سببية، هو ما يناسب المنظور الأركيولوجي في التعامل السردي مع ثيمة الجنون. وقد تفردت لطفية الدليمي في استعمال المتوالية السردية في مجموعتها القصصية «موسيقا صوفية»، حفرًا في المتضادات ورصفًا للمتناقضات ثم الجمع بينها. فيغدو العالم هو الجنون بعينه وتصبح المعقولات غير منفصلة بحدود عن اللامعقولات فيندمج المعتاد بالعجيب والمألوف بالغريب والمتوقع بالمفاجئ.

ولا غرو أن وراء هذه الرؤية الفلسفية أبعادًا جمالية، رسمتها الكاتبة بعناية مبتغيةً فكّ لغزِ المكانِ وفهمَ شفرةِ الزمانِ اللذين بهما تنفرج أزمةُ الذات الحائرة في وجودها ووجود من/ ما حولها. ولكي نفكك أشكلة الجنون لا بد من الارتكاز على مهيمنات ثقافية، منها ننطلق في الإلمام بتشظيات هذه الثيمة. ومن تلك المهيمنات: الموسيقا والمرآة والماء والأسطورة والمرأة.

الجنون والموسيقا

تستجيب الموسيقا للمتغير الثقافي معبرة عن الصراع وعدم الرضا وعدم الاستقرار، وقد تُستعار من ثقافة إلى ثقافة لكنها تظل محافظة على شكلها. وتُراوِح وظائف الموسيقا واستخداماتها بين أن تكون عبارة عن شعائر وقد تبدو وسيلة للترويح والامتاع، معبرة عن تطلعات الفرد والجماعة في الحياة أو مخاوفهما منها قلقًا واحتجاجًا وصراعًا. وقد وظفت لطفية الدليمي الموسيقا في قصص «رابسوديات العصر السعيد» واضعةً يدها على ثيمة الجنون من خلال اعتماد شكل إيقاعي يتتابع، عاكسًا أشكلة الجنون كفوضى حواس وتشتت لغة، ما بين إنتاج أفعال الإنجاز وإنتاج أفعال التقرير، باتجاه أسطرة الأسطورة واستعارة الاستعارة. وبالتوالي الموسيقيّ يتجسد الوهم الذي يصفه بورديو بأنه «استثمار ومبدأ للإدراك، لكنه هو كذلك ما يعطي معنًى واتجاهًا للوجود. إنه اهتمام بالأشياء التي يتحكم وجودها وثباتها بكيفية مباشرة أو غير مباشرة في وجودي وثباتي الاجتماعيّ وكذا هويتي وموقعي الاجتماعي»(١).

ويوصف التوالي بأنه فلسفة تغدو فيه الكتابة عبارة عن ممارسة فكرية تجعل المضمون المعبر عنه عدميًّا، سواء إذا ما استجوبناه بالنسبة للفكر أو إذا ما استجوبناه بالنسبة لمصير الكينونة التي تنشره(٢). ويبنى الجنون في قصص «رابسوديات العصر السعيد» على أساس وهمي في شكل موسيقيّ متوالٍ ينماز بعدم استقرار الحركة وعدم ثبوتية السكون. ومثلما أن الرابسودي كنمط شعري لا قالب له كذلك تكون القصص في حركتها وسكونها متأرجحة لا مستقر لها. ولا تخضع الرابسوديات إلى ترتيب معين في أرقامها فمن 2 إلى 13 إلى 19.

وفي القصة الأولى «الرابسودي رقم 2» يكون الجنون موسيقيًّا فيه أزمة الذات المؤنثة أزمة نفسية فهي تبدأ بالأرجحة والتماوج، والساردة تتساءل متحيرة: «متى متى يتوقف كل شيء؟»(٣) وشعورها باللاتوازن والارتعاش وعدم الاستقرار وفقدان الثبات يجعلها توالي توظيف الأفعال الحركية (أسير/ أعدو/ أبلغه) مندمجة بالأفعال الذهنية (أفكر/ أعرف) في إشارة إلى إضاعتها البوصلة في الخروج من المحنة التي هي فيها. ولأن اسمها أميمة تغدو ابنة أيوب الصابرة التي عليها أن تتحمل همها مضاعفًا ككينونة محاصرة ووحيدة «أنا وحدي أتعرض لبشاعة الرعب وحدي دونما أصدقاء يمنعونني من الانتحاب، دونما أحد يحول بيني وبين الأسى المميت».

ويتأرجح الكون، وتتداعى الأفكار، والأسئلة تتلاحق كما يطغى الفكر على السرد. فالحياة ليست السعادة والحرية بل هي الضنى والسجن. وما من مخرج سوى جنون الوهم الذي به تبلغ الحقيقة «أُوهِمُ نفسي ثم أتجه نحو الشرفة وأحلم. وأمامي شيء واحد ثابت رصين قضبان الحديد المزخرفة على واجهة الشرفة».

اللوعة والحزن وطلب النجدة هي دلائل وعيها بالجنون، الذي يجعل أميمة تتوهم قدوم شيء أو حدوث أمر ما «يلزم ضرورة باتخاذ موقف وتموقع بالنسبة إلى هويتي وإلى التعارضات التي تكونها في فضاء لا يملك إلا معنى العلائقي»(٤). وباستماعها إلى رابسوديات فرانزليست تترك الحاضر وتعيش في المستقبل، وقد أوهمها وعيها أنها الآن تعيش جوًّا فيه الرجل/ أنيس هو الفرح الذي سيغدر مستقبلًا، ووجوده ليس إلا مقدمة لحزن سيوصل إلى تعاسة أبدية «كنت أبكي لأنني وحيدة وخائفة ومدركة أن ذلك الفرح الذي أرتديه مثل عباءة واسعة ليس لي وما هو إلا أكذوبة زائلة لا تليق بي وأنني منقوعة في الحزن مثل إسفنجة بحرية»، وتغدو أميمة امرأة لا تعرف التعبير عن أساها سوى بالموسيقا والبكاء.

ولأنها كينونة هشة ممزقة فلا جدوى في تأسف أنيس لها وهو يستملي بهشاشة وتضرع أن تصفح عنه «لا أريده أن يأتي الآن فما جدوى أن يعود لجمع شظايا المرأة التي حطمها جنونه الأخير؟ ما نفع شظايا المرايا في الحب المهشم؟».

ويجعلها صوت الموسيقا كيانًا بلا قالب كالرابسودي مستجلبًا جنونها متخذًا صورة ضوئية تحاول عبرها اصطياد إشعاعات لا تقدر عليها، فتميل إلى التمويه والمراوغة وقد لبست قناعًا يحجب حقيقتها «نحن وزماننا نشبه تلك الرابسوديات العجيبة التي صاغها فرانزليست لانتفاضات الروح»، وهي مكشوفة ساعة الفرح أو الحزن وهي في منظور نفسها ليست دمية، وتتذكر أنها حين كانت تهتم بمظهرها كانت غيرة أنيس تزداد، فقررت ألا تغريها المظاهر والأزياء والحقائب، متسائلة: «لماذا يرى رجل نفسه أدنى من أن يستحقني فيحدس تهديد الآخرين له؟ تلك كانت إحدى نغمات رابسودية عصرنا السعيد الحزين».

وجنونها مزاج متبدل فهو الجراح والمراح وهو الصخب والهدوء، يجتمع الحلم والشعور الرومانسي بالتذكر والاستشراف التراجيدي، فتعاودها مجددًا مشاعر الارتجاج والتأرجح، وترى أشباحًا تنظر لها فتركن إلى حقيقة أنها امرأة تعيسة.

والقصة التي تلي هذه القصة هي توال للقصة التي قبلها، مستكملة تواتر وعي أميمة بجنون العالم من حولها فتعود إلى سماع موسيقا الرابسودي، ويتداعى وعيها حول موضوعة المعرفة التي بها ستفهم لِمَ العالم من حولها مصطخب ومجنون؛ «بدأت أجمع قطرات المعرفة عمرًا بأكلمه لا يمنحنا سوى قطرات ثمينة من المعرفة».

وفك شفرة المعرفة يتطلب الصدق فتقرر ترك التفكير في المعرفة، مديرة ظهرها للصدق ومن ثم لا ينبغي لها أن تسمع الموسيقا التي بها يتوهج وعيها ويأخذها صوب العالم الذي تزدريه؛ «كلما أمعنت في الصدق وتألقت مميزات إنسانيتي أمعنوا في التوحش والقسوة، فلتهمد الموسيقا إذن، وليتوقف كل شيء، أغمض عيني من جديد على شناعة الألم من دون أن أحلم بشيء»، وبالأحلام تنتهي القصة وقد تؤكد لأميمة عدم جدوى كل شيء.

وتستكمل القصة الثالثة وعنوانها: «الرابسودي رقم 13» دوامة اللاعقل، فبعد أن انتهت القصة السابقة بانهزام وفتور تبدأ هذه القصة بانتهار الذات ومؤاخذتها انتفاضًا على كل الأشياء التي بدت متأرجحة بالنسبة إليها، لكن أوار ذلك الانتهار والانتفاض سرعان ما سيذوي فتنتكس أميمة مجددًا، وقد أدركت أن لا جدوى من الموسيقا التي غلبها الصمت، واجدة نفسها حبيسة ذاتها وعلى التوالي ذاته، الذي شهدناه في القصتين السابقتين. تنتهي القصة وأميمة كينونة ذاوية هيمَنَ عليها التأسلب فانهارت قواها، «سئمت إغماض عيني على الحلم المهدد، كرهت استسلامي للجانحة، لا أريد هذه الغشاوة التي تحجب صورة الإنسان وصورة أنيس أيضًا».

وتأتي القصة الرابعة وعنوانها: «الرابسودي رقم 19» وأميمة تستمع لرابسودي جديد لكن بلا تتابع المقطوعات، كدلالة على حالة اللاستقرار العقلي الذي تمرّ به رُوحها. وهنا تفطن إلى أنها ابنة أيوب الصابرة فتتداعى في ذهنها ذكرى الثوب الذي اشتراه لها أنيس، وتداهمها الموسيقا فتتعرى الذاكرة، وتتبدى المشاعر، ويتحول الحس إلى تجريد فتنتفض على جسدها؛ لأن لا بقاء إلا للروح التي تجد في الرابسودي قلقها ولا توازنها، فتضطرب مع صخب الموسيقا، وينتابها انتحاب وعويل وخفوت وإيقاع وهمود واشتعال.

الجنون والماء

كثير من الحكايات القديمة إنما تتأتى قدسيتها وخلودها من تراكمها الجينالوجي الذي ينعكس في اللاوعي، في التصرفات السلوكية المختلفة. وتوظيف هذه الحكايات في بناء القصة القصيرة عند لطفية الدليمي هو بمنزلة إشارات لسانية وسيميائية تحاول تقديم الذرائع أو المبررات التي بها نفهم ثيمة الجنون، وما يكتنفها من ملامح فكرية إزاء الوجود والعدم والحياة والموت والواقع الحاضر.

وهو ما نجده في مجموعة «سليل المياه» التي فيها الماء رمز أسطوريّ لكل ما هو خارق وعجائبي. وتُبنَى المجموعةُ على التقانة نفسها أي تقانة التوالي السردي التي بُنِيتْ عليها المجموعتان السابقتان: «رابسوديات العصر السعيد» و«موسيقا صوفية»، بيد أن هذه المجموعة تتخذ من الماء فاعلًا سرديًّا يشظي العقل ويبعثر ثباته.

ففي القصة الأولى وعنوانها «الطوفان» يحتل النهر بؤرة الأحداث، دافعًا بها باتجاه التأزم من خلال تكرار أوصاف ومسميات مائية مثل: (دمدمة النهر/ حراس الماء/ هدير الأجراف…) ويتجلى جنون هذا التصوير المائي في عجائبية الحكايات التي تستدعيها القاصّة من التراث؛ مثل: حكاية البنات الثلاث اللائي غرقن في النهر وأخريات خطفهن الغجر بعد أذان المغرب، وأيوب ابن الماء وعشقه لزكية وكائنات الغرير، التي تسرق الرضع من المهود والأرض التي سميت أرض الأفاعي.

والنهر هو الجنون الذي يجمع الخير بالشر فيأتي بالقوة والمتع في سنوات الرخاء، ولكنه في سِنِي الفيضان يأتي بالكوارث والنذر «جارفًا الأكواخ والزرائب وجذمات الشجر وأعمدة الخشب وجلودًا وفروات كبائش وقرون بقر وملابس غرقى ومهود أطفال غرقى»، وحكاياه هي الأساطير التي تدلل على أن العالم بحيواته وأشيائه أكثر جنونًا منه. وتجتمع في النهر المجنون المتناقضات فهو الجدب والفيضان. ويهيمن جنون الماء على الفعل البشري الذي مثله حسين العبدالله وأيوب النهري ورجال آخرون، «مياهه تعلو تعلو حتى امتزجت بملح شجر الصبير وحرقة حليب التين وحموضة نسغ الرمان ومرارة النارنج، ثم منحته هذه المذاقات مجتمعة قوة فوق قوته، فارتفعت مياهه بدفقات متسارعة إلى أعالي النخل، وتذوقت طلائع الماء حلاوة الجمار في قلب النخيل».

والنهر فاعل سردي أنسنه السارد العليم فاستبطن دواخله كما في هذا التداعي الحر، الذي فيه النهر كائن حيّ يتكلم ويتحدى ممتلكًا قدرات فوق بشرية «سوف يفهمون عندما يرون غريني الأحمر يخصّب أراضيهم البور، ولكن أنَّى لهم أن يفهموا عظمة هذا الطمي الأحمر وهم يواصلون الدعاء والصلوات ليوقي الله طوفاني ويرحمهم من جنوني»، كما تأنسنت البساتين والمراعي التي صارت تنادي النهر أن يغمرها بجنونه، «دعك منهم تعالَ واغمرني بروائح الجبال البعيدة، واتركْ بذور نباتات السفوح وبيوض فراشات البراري ها هنا في أحضاني فقد جفت عروقي وسئمت خمود مياه الجداول وركود الشتاء» كترميز إلى أن عقل الإنسان أوهن من أن يسيطر على لا عقلانية ما حوله. وإذا كانت إرادة الإنسان ضعيفة ومتهاوية؛ فإن إرادة البساتين قوية وقد صارت هي والمطر والنهر فاعلًا سرديًّا. وكأن في الجنون أسطورة إخصاب وولادة، وفي العقل واقعية الموت والاندثار.

وتنتهي القصة وجنون النهر قد انتصر على عقل الإنسان، وتعيد القصة التالية، وعنوانها: «سنوات القحط»، للإنسان بعضًا من قوته وكبريائه، ممثلًا بأيوب الذي تصالح مع النهر وقد اتخذه أبًا وأمًّا وملاذًا، وهو يتنبأ أن «ستكون الأرض سجني والقرية عذابي» وصحيح أن للماء هيمنة بها ستتفكك شفرة الجنون، لكن أيوب هو ابن الماء الذي احتضنه النهر واضعًا أمامه ماضيه وحاضره ومستقبله «أنت ابن الماء فلا تذهب إلى أرض الناس، واحذر ذئاب التراب وأفاعي الظل».

هكذا كان على أيوب أن يعيش بعيدًا من الناس، وفي الآن نفسه كان عليه أن يحذر بنات الجرف «المخلوقات العجيبة اللامرئية التي حكت له أمه عنهن بنات بأجساد بيضاء كالجبن يختفين في مغاور الأجراف… فإذا نُودِيَ عليهن رددن الإجابة.. يقلدن أصوات الناس ويَسحرن الرجال» فقرر أيوب أن يمتثل لنصيحة النهر ويحذر البشر باحثًا عن أمه في قرية الشيخ عبدالدايم.

والمفارقة أنه سيجد جنونًا لا يقلّ عن جنون النهر، فالممارسات تحكمها معتقدات بالية والناس على خلاف مظاهرهم، فالشيخ شيطان أَمْرَدُ في صورة عبدالدايم، والرجال يستعبدون النساء في صورةِ زكيةَ، التي أَلْقَتْ بنفسها في النهر؛ كي لا يستعبدها تاجر بِيعَتْ له. وهو ما يزيد في كُره أيوب لعالم الرجال فيقف إلى صف النساء.

وإذ تنفرج الحبكة والمطر يغمر الأرض، فإن القصة التالية «شفيع الظامئين»، ستُتمِّم قصة أيوب الذي صار كالمجنون يحمل حكايات النهر ويتخفى في ثياب النساء، «يضج الصبيان بالضحك وهم يلاحقونه ويسحبون عباءته ويترنمون أغنيات ساحرة»، ليصير هو نفسه أسطورة «لم تحتجب عنه النساء فقد كن يعاملنه كما تعامل امرأة مسترجلة بينما عيون النساء والرجال ظلال الشهوات فيهرب منهم ومنهن إلى فتاة الطوف ووجه أمه».

ويرمز انتصار الجنون ممثلًا في أيوب على العقل ممثلًا في الشيخ عبدالدايم، إلى أن العقل هو أصل الشر الذي لا تقضي عليه إلا الفطرة والبراءة، ممثلة بالسحر الذي تملكه شخصية نجمة التي ظهرت في نهاية القصة كأمل قادم، ينتصر فيه الضعفاء والمغلوبون، فتَتَوَكَّد نبوءة النهر ويصدق جنونه.

الجنون والمرأة

قد لا نبالغ إذا قلنا: إن غالبية الشخصيات الأدبية هي ذكورية، وما ذلك إلا لأنها أكدت نفسها بالجنون، فتحررت من أسوار العقل وقواعده الأخلاقية الرتيبة، كما في شخصيات أوديب ودونكيشوت وفاوست وهاملت… بينما تكبَّلت الشخصيات الأدبية الثانوية التي هي في الغالب نسوية بالعقل مؤكدة ذاتها به. ولو أتيح لها أن تؤكد ذاتها بالجنون لغَدَتْ ظاهرة بأدوار مركزية عظيمة، كما هو الحال في شخصيات مثل: عشتار وفينوس وشهرزاد وزنوبيا وكليوباترا ودزدمونة وجوليت وغيرها.

وسبب الإحجام عن توكيد المرأة لذاتها بالجنون هو أن الجنون خطير، وأنه يرسم مسالك الشك، وهنا يكمن خطره في الممارسة العقلية حتى إنه ليس بالإمكان إقصاؤه أو تهميشه. وكان دريدا قد أكَّد أن العقل أكثر جنونًا من الجنون، والجنون أكثر عقلانية من العقل؛ لأنه أقرب إلى المنبع الحي والصامت والهامشي الذي ينبثق منه المعنى، فيغدو القول: «أنا لا أتفلسف إلا داخل الرهبة أي الرهبة المعلنة بأنني مجنون»(٥). وبالطبع يحتاج إثبات هذه المسألة أدلة منطقية تجعلنا نتيقن من أن الإنسان كائن مجنون يتسم بالانفلات. ولنا أن نتصور عند ذاك فاعلية هذا الانفلات بالنسبة لكائن هو امرأة امتلكت حريتها فاستعادت سيادتها على حين غفلة.

وهو ما يتجسد في مجموعة «أخوات القمر» التي تضم خمسة نصوص هي: (أخوات الشمس يدخلن منازل القمر/ ادخل المحاق/ مقاطع من قصة أخوات القمر/ اقتفاء الأثر) وهي تحفل ببنية رمزية ذات شفرات، قسَّمها عالم الاجتماع بازيل برنتاين إلى شفرات مقيدة وشفرات محكمة… وهي شفرات اجتماعية في جذورها أكثر منها لسانية، وبمجرد تعلمها يكون لها عواقب مختلفة على المتكلمين. وإذا كان مستخدم الشفرة المحكمة أكثر حرية وأقل تقيدًا وقدرة على التعميم وعلى الترميز؛ فإن مستخدم الشفرة المقيدة محدد في المعاني التي تتضمن الحالة الراهنة وهو يتلفظ ذلك إشاريًّا مستخدمًا كثيرًا من الضمائر والأشكال(٦)، وعلى وفق مفهوم الإرجاء في القبض على المعنى واستدعاء الفكر تبدو الغرابة في شفرات هذه النصوص أنها شفرات مقيدة بالجنون الأنثوي الذي يهدم الأسس الذهنية لليقين معيدًا بناءها من جديد، وبما يجعل القصص موصوفة بأنها قصص نسوية.

ومن جنونها تتشكل واقعية التخييل كاشتغال تقاني، يموضع الشخصية المؤنثة في علاقات ذات وظائف وبتعاقب زماني ورابطة سببية محتملة أو ضرورية.

وتحفل أول القصص وعنوانها: «أخوات الشمس يدخلن منازل القمر» بشفرات مقيدة تعبيرية وأخرى محكمة استعارية، هي الأكثر بوصف «الاستعارة حاضرة في كل مجالات حياتنا اليومية. وأن التصورات التي تتحكم في تفكيرنا ليست ذات طبيعة ثقافية صرف، فهي تتحكم أيضًا في سلوكياتنا اليومية البسيطة قبل تفاصيلها»(٧).

والمهيمن في القصة هو الجنون الذي يجعل الساردة دكتورة هدى تتحرى العالم من حولها، فتجده أنثويًّا مجنونًا، ممثلًا في «سلمى وحياة» خاصة، وفي النساء عامة. ويصدم هذا العالم النسوي المجنون هدى، فتهرب إلى الحلم، حيث الشمس والقمر كائنان فيهما يكمن سر الأنثوية ومأساتها الأزلية…

ختامًا

تعكس قصص لطفية الدليمي عالمًا غريبًا وساحرًا، فيه الإنسان عقل مجنون، والعالم جنون معقول؛ ولا سبيل لفهم أحدهما إلا بفهم الآخر. وهذه الثنائية التضادية هي سر المداومة التي هي دائمة بينهما لا تنتهي. ولأن لا إنسان من دون عالم مجنون يجعله لا عقليًّا في عقلانيته ومتعقلنًا في جنونه، يغدو كائنًا متضادًّا من خير وشر وعقل وجنون، غير أن تبعات هذا التضاد على المرأة أقوى أثرًا وفاعليةً منه على الرجل. والسبب سطوته التي تجعله يتحكم أكثر من المرأة في إخضاع نفسه رُوحًا أو جسدًا أو كليهما معًا لتأثيرات ذلك التضاد، ناهيك عن تحكمه في المرأة أصلًا. وهذا بالضبط ما تمثلته لطفية الدليمي في قصصها، متعاملة مع ثيمة الجنون تعاملًا تفكيكيًّا أركيولوجيًّا، به تشظت الشخصيات، فخسرت جانبًا مهمًّا من إنسانيتها، في سبيل أن تظل محافظة على الجانب الآخر فيها سليمًا.


هوامش:

(١) معجم بورديو، ستيفان شوفالييه وكرستيان شوفيري، ترجمة الزهرة إبراهيم، النايا للنشر والتوزيع، دمشق، 2013م، ص290.

(٢) بيان من أجل الفلسفة، آلان باديو، ترجمة مطاع صفدي ، بيروت، د.ط، د. ت، ص7، وص11.

(٣) ينظر: موسيقا صوفية وقصص أخرى، وقد نشرت في مجلة الأقلام العدد 11 و12، 1988م، ص114، 126، كما نشرت قصص (رابسوديات العصر السعيد) في مجلة الأقلام، العدد الخامس، مايو 1988م، ص35، 41. لن نحدد صفحات النصوص المقتبسة؛ لأن جميعها وردَ موسيقا صوفيةً مجموعةً في مجلة الأقلام العراقية… ونشرت قصص موسيقا صوفية وقصص أخرى في مجلة الأقلام العدد الخامس، مايو 1988م، ص35، 41.

(٤) معجم بورديو، ص291.

(٥) إستراتيجية تفكيك الميتافيزيقيا، ص68.

(٦) ينظر: اللسانيات والرواية، روجر فاولر، ترجمة أحمد صبرة، مؤسسة حورس الدولية للنشر، الإسكندرية، 2009م، ص174.

(٧) الاستعارات التي نحيا بها، جورج لايكوف ومارك جونسن، ترجمة عبدالمجيد جحفة، دار توبقال للنشر، المغرب، ط2 ،2009م، ص21.

المنشورات ذات الصلة

الكشف عن روح الشعب الأدب المترجم بوصفه ممارسة للدبلوماسية الثقافية

الكشف عن روح الشعب

الأدب المترجم بوصفه ممارسة للدبلوماسية الثقافية

استيراد وتصدير المنتجات الأدبية بوصفها عنصرًا من عناصر سياسة الشؤون الخارجية هو الأساس الذي تقوم عليه هذه المقالة. ومن...

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *