المقالات الأخيرة

“لقاء مارس 02: تواشجات” دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

“لقاء مارس 02: تواشجات”

دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

فيما يشبه الالتزام الأخلاقي والجمالي، تبنى لقاء مارس السنوي، الذي تنظمه مؤسسة الشارقة للفنون، في دورته الجديدة التي انتهت أنشطتها قبل أيام، طيفًا واسعًا من القضايا والموضوعات والنقاشات وعروض الأداء، التي لئن اختلفت وتعددت وتنوعت، إلا أنها تذهب كلها إلى منطقة واحدة،...

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

فؤاد المهندس وشويكار: أزواج المفاهيم الحداثية بين القومية المحدودة والعروبة الثقافية

بواسطة | يناير 1, 2021 | فنون

تقع ذكرى وفاة الفنان فؤاد المهندس الممثل الهزلي الشهير في مصر والعالم العربي في شهر سبتمبر، وللمصادفة فسبتمبر هو أيضًا شهر ميلاده. أما شريكته الشهيرة في المسرح والسينما، الفنانة شويكار فقد رحلت عن عالمنا منذ شهور قليلة، في شهر أغسطس الماضي. وبذلك تمتزج ذكرى النجمين لتجاور تاريخ وفاة كل منهما، مثلما امتزجا في الذاكرة البصرية العربية كثنائي فارق في تاريخ الكوميديا، وكزوجين تشاركا الحياة الشخصية لمدة خمسة عشر عامًا. ولعل مجموعة الثنائيات الطريفة هذه تدخل ضمن عشرات الثنائيات والازدواجيات، التي حددت ملامح إنتاج فؤاد المهندس الفني وعلاقته المفعمة بالدلالات بمنظومة التحديث العربي في النصف الثاني من القرن العشرين.

ازدواج المفاهيم عن الحداثة

كتبتُ في موضع آخر عن الازدواجية في أفلام فؤاد المهندس الكوميدية، التي تتسم بموتيفة التوأم، حيث يلعب المهندس دور شخص بسيط وصالح، ودور شبيه توأمي له يكون مجرمًا أو زعيم عصابة؛ أو يلعب دور شخص مصري من طبقة بسيطة أو متوسطة، وشخصية شبيه/ قرين له أجنبي وثري ومنغمس في الحداثة الغربية. وشَخَصْتُ في هذا الحضور القوي لثيمة الازدواج ما أراه انفصامًا في المشروع التحديثي الناصري، بين مجتمع يتصور نفسه فاضلًا مثاليًّا، ولا وعي مجرم قمعي دفين يتحكم في ذلك المجتمع. إلا أن تلك الازدواجية في أفلام فؤاد المهندس الكوميدية تتوازى مع ازدواجية المجتمعات العربية بشكل عام، بين مظهر تحديثي تغريبي بقدر ما، ومَخْبَرٍ تقليدي محكوم بتراث طويل لا يتأقلم مع التحديث من دون صراع وعراك باطني يفصح عن نفسه من آنٍ لآخر.

كامل الشناوي

في هذا المقال، أسعى للتأمل في ثنائيات أخرى يحفل بها إنتاج فؤاد المهندس -ولعل الأفضل أن نسميها أزواجًا من الظواهر والمفاهيم- تحكم موقفه من التحديث العربي، وتبرز نمطًا من الحداثة الثقافية ما زال رائجًا إلى اليوم، يمنح الأولوية الثقافية في بناء الهوية إلى نظرية قومية قُطْرية محدودة بحدود الدولة الوطنية، على حساب نظرة شاملة تنفتح على العروبة الثقافية، وتجعل أُفقَها المعرفي البلدان والشعوب الناطقة بالعربية كافة.

وتعبر هذه الأزواج المفاهيمية عن توتراتها على مستوى اللغة بين الفصحى والعامية، وعن حيرة وتساؤل عن لغة الحداثة: هل هي عامية أم فصحى؟ ولغة التقليد والأصالة: هل هي المحكية المصرية أم فصحى متمصرة؟ وتتوازى هذه الأزواج مع مصادفات زوجية في حياة فؤاد المهندس الشخصية: فهو الفنان الممثل الكوميدي المهرج، بينما والده زكي المهندس هو الأستاذ عالم اللغة العربية المحافظ. وهو الفنان الذي كانت تصفه الصحافة بـ«الأستاذ»، في مقابل زوجته الفنانة شويكار (المضمر وصفها بالتلميذة، مادام زوجها الأكبر سنًّا هو «الأستاذ»). وفي كلا الزوجين الشخصيين: الأب/ الابن؛ الأستاذ/ التلميذة، توتر لغوي بين الزوجين: العامية والفصحى، أو بالأحرى الفصحى ونقيضها.

تعتمد هذه الدراسة على زوج من الأفلام الكوميدية من بطولة الثنائي فؤاد المهندس وشويكار، وهما من سلسلة أفلام –على الرغم من انتمائها لنوع الكوميديا التهريجية أو الفارْس- تبدو كاشفة عن بنية التحديث التغريبي في النصف الأول من القرن العشرين العربي، وعن تصورات هذا التحديث عن اللغة وعن التفاعل مع العالم الخارجي. وتتميز بكونها بعيدة من أن تكون أفضل أفلام المهندس صنعةً أو أكثرها جماهيرية. وتكتسب لهذا أهميةً معرفية، من حيث كونها لا تسعى إلى تقديم رسالة أو تفصيل نظرية، بل هي أقرب للوجبة الخفيفة لا فذلكة فيها. ولذلك يبدو اللاوعيُ الحاكمُ إطارَها، والمضمرُ المُبْعَدُ من ظاهرها أقربَ إلى السطح، وأكثرَ قابليةً للاستخلاص والتحليل. أعتمد هنا على فِلْمي: «أنا وهو وهي»، و«نحن الرجال طيبون».

على الرغم من «التفاهة» البادية في هذين الفِلْمين، فإن التعامل الجاد معهما يسمح بالكشف عن تصوراتٍ تربط التحديث بالتغريب، وترى الحداثةَ في العامية، وفي البعد من المحيط العربي، وفي الاقتباس من اللغة الإنجليزية- الأميركية. وهو تصورٌ انتشر في محيط البحر المتوسط العربي في النصف الأول من القرن الماضي. تجلى ذلك في مفارقة كون والد فؤاد المهندس رائدًا من رواد مجمع اللغة العربية وثقافة الكتاب، بينما صار فؤاد المهندس رائدًا من رواد العامية وثقافة السينما والتلفزيون. وتجلت «عامية» المهندس في اختيارات شريكته في الأفلام والحياة، الفنانة شويكار، التي كانت دائمًا ما تلعب دور المرأة التي لا تجيد العربية، سواء كانت فصحى أو عامية.

بحلول الستينيات في مصر، صار فؤاد المهندس على المسرح نجمًا كبيرًا، ودعمته الآلة الإعلامية الضخمة للتلفزيون المصري، حيث صار المهندس واحدًا من أكبر أبطال مسرح التلفزيون، الذي أفرخ مسرح القطاع الخاص المسرحي في مصر منذ الستينيات. وفؤاد المهندس -بلا منازع- من بين نجوم كوميديا المسرح العربي في الستينيات، هو النجم الأكبر الذي ما زال بريقه يضيء ذاكرة الملايين من العرب إلى يومنا هذا. اعتمدت شخصية المهندس في المسرح والسينما على تجسيد نماذج من «الأصالة» المصرية المتعايشة مع الحداثة بسلاسة، من دون أن تقع في فخ الاغتراب أو التغريب أو التخلي عن الجذور، في مقابل شويكار التي كثيرًا ما كانت تجسد نموذج المرأة المستغربة، التي تلحن الكلام سواء بالفصحى أو بالمحكية المصرية، والتي أحيانًا ما كانت تُطعِّم كلامها بمفردات إنجليزية وفرنسية علامة على تفرنجها.

كانت سياسة المستويات اللغوية في أفلام المهندس (مثلما في مسرحياته) جزءًا من إستراتيجية لبناء ملامح الشخصية المصرية الحديثة المتأصلة في جذور قديمة متصورة للهوية. لم تكن تلك الإستراتيجية تعتمد فقط على المقابلة بين الحداثة المتجذرة في أصالة الفصحى، الساعية إلى تحديثها، والحداثة المتفرنجة، المستغربة، التي تستخدم عامية ركيكة ومفردات أجنبية. بل كانت أيضًا تقابل بين المصري/ العربي الذي يتحدث عامية أصيلة لا يخالطها معجم أجنبي، والمصري المغترب ثقافيًّا، أسير اللغات والثقافات الأوربية/ الأميركية الذي لا يجيد لا الفصحى ولا العامية.

أنا وهو وهي واللغة

أول أفلام الثنائي المهندس/ شويكار كان «أنا وهو وهي» (1964م) من إخراج فطين عبدالوهاب. وتظهر فيه المفارقة بين الفصحى والعامية في لمحة، لكنه ظهورٌ يلخص تعقيد المسألة اللغوية في علاقتها بالحداثة، وتصورات تلك الحداثة عن ملامح الهوية «الأصيلة». في الفِلْم، تسعى الشخصية التي تلعبها شويكار إلى إغواء الشاب الوسيم الذي يعجبها والذي يلعب دوره فؤاد المهندس. تتلاعب به شويكار لتجبره على ترك غرفته في الفندق المزدحم لتمضي بها الليلة وحدها، بينما ينام هو وحده في الصالون الملحق. كجزء من عملية الإغراء والتأكيد على شخصية شويكار بوصفها «خالية البال» وتفعل ما يحلو لها، تردد سطرًا بالفصحى من أغنية عاطفية اشتهرت وقتها في العالم العربي كله: «لا لا لا تكذبي». وهو أول جملة في مطلع قصيدة لكامل الشناوي: «لا تكذبي. إني رأيتكما معًا/ ودعي البكاء، فقد كرهت الأدمعا». ولعلها المرة الوحيدة في تاريخ شويكار السينمائي التي تنطق فيها بجملة فصيحة سليمة بالعربية الفصحى.

يجمع هذا الاختيار -كعلامة تميز شخصية شويكار- بين إشارة إلى شيء من التمكن من الفصحى، واحتفاء بالثقافة الدارجة التي تنتجها الدولة. فالأغنية/ القصيدة من تأليف شاعر مشهور بحكم تعاونه مع المطربين والسينمائيين وبحكم عمله في الصحافة، وهي من تلحين الموسيقار الأكبر محمد عبدالوهاب، وغناها في 1962م -عام ظهورها- نجمان من أكبر نجوم الغناء في بلاد النيل، وأكثرهما تمتعًا بدعم الدولة المصرية وانجذاب الجماهير: نجاة الصغيرة وعبدالحليم حافظ، ثم إن الأغنية تدور بوضوح حول موتيفة المعشوقة الخائنة، التي يفاجئها حبيبها مع عشيق آخر، ويلومها وينهاها عن نفي التهمة بقوله: «لا تكذبي». وبذلك تقود الأغنية فهم المشاهد إلى تمثل شخصية شويكار نفسها بوصفها امرأة اعتادت أن تخون زوجها، ولا ترى مانعًا في أن تغازل رجلًا غريبًا، وأن تقضي الليلة في مخدعه، حتى إن نام الرجل الغريب في الملحق واحتلت هي الغرفة الرئيسة.

لا تنفصل هذه العلامة المتفردة: الأغنية العربية الحديثة بالفصحى، عن تصور للحداثة يستدعي تحديث الفصحى، واستخدام مستوى لغوي سليم لكنه قريب في معجمه وتراكيبه البسيطة من الفصحى. تتأسس هذه الحداثة على أصالة ثقافية، تتمثل في اللغة الفصحى، وتنطلق منها لتثير المتعة الحديثة (الاستماع لأغاني الغرام وتمثل أحاسيس الغيرة وتصور حتمية حرية المرأة، إلى حد قبول تنقلها بين أكثر من عاشق). وعلى هذه الأرضية يلتقي المهندس وشويكار، فهي تترنم بهذه الأغنية في أول لقاء بينهما، ثم نفهم أن الغرام قد استبدّ بقلب المهندس عندما نراه وقد عاد إلى مكتبه بعد هذا اللقاء بعدة أيام، فإذا به يترنم بالأغنية نفسها.

أما السياق الأكثر رحابة لمفهوم العروبة اللغوية والثقافية -بل العرقية أيضًا- في فِلْم «أنا وهو وهي»، فيتفصل منذ اللحظات الأولى لالتقاء شخصية فؤاد المهندس بشخصية شويكار. إذ يفاجأ بها وقد تسللت إلى غرفته، وتشرع بعد دقيقتين أو ثلاث في مغازلته، رغبةً منها في وضعه تحت سيطرتها، حتى يخلي لها الغرفة. فتمضي نحو ثلاث دقائق في تأمل ملامحه وأجزاء من وجهه، وتشير لكل منها بوصفها أدلةً على أصوله المتعددة، وتعزو صفات حميدة نبيلة لكل حضارة تتوسم في جسده ارتباطًا عرقيًّا بها.

فتزعم شويكار أن عيني المهندس تشيران إلى عرق صيني ينحدر منه، وأن ذلك دليل على طيبة القلب ونبل الأخلاق؛ وترى في أنفه دليلًا على أصول رومانية وعلامةً على الشجاعة والإقدام؛ وفي شفتيه المكتنزتين دليلًا على أصول إفريقية وعلامة على القوة والعافية. إزاء كل هذا لا يبدي المهندس إلا تعجبًا وشيئًا من الشك. إلا حينما تبادره شويكار بقولها: «وقورتك (أي جبهتك) (…) عريضة شوية. يعني من أصل عربي». فيجيب المهندس: «ما هو طبعًا في أصل عربي». فتؤكد شويكار: «دليل الكرم». يعرض الفِلْم إذًا تصورًا للعروبة بوصفها وعاءً لغويًّا وعرقيًّا يستقبل تنوعًا في روافد الأصول العرقية وتعدديةً في الأصول الثقافية. وهي عروبة متسقة مع فكرة القومية العربية كما كان ينتجها الخطاب الدعائي الناصري في ستينيات القرن العشرين: فهي عروبة متجذرة في حركة عدم الانحياز وحركات التحرر الوطني، بدليل أن «المصري» هو جماع لأصول تنتمي للعالم الثالث ولبلاد التضامن الأفروآسيوي: الصين وآسيا، مصر وإفريقيا، مع تأكيد أن الأصل الذي لا شك في صحته هو الأصل العربي، تمشّيًا مع فكرة القومية العربية و«الاشتراكية العربية». وتأتي الإشارة للرافد الروماني في التصور المتخيل لأصول شخصية فؤاد المهندس لتنقض الفرضية «الشرقية»: فأنفه «القيصري»، أي الروماني، يجعله منتسبًا للغرب أيضًا.

نحن الرجال حداثيون

في فِلْم الثنائي المهندس/ شويكار «نحن الرجال طيبون» (1971م) من إخراج إبراهيم لطفي، كما في فِلْمهما الأشهر «إنت اللي قتلت بابايا» (1970م) يلعب المهندس دور مصري «أصيل» من الشرائح الدنيا في الطبقة المتوسطة، بينما تلعب شويكار في الفِلْمين دور الفتاة المدللة، ابنة الطبقة العليا العائدة من أميركا، التي تتحدث المحكية المصرية بلكنة أجنبية مطعمة بكلمات إنجليزية. بعد خمس دقائق من بداية «نحن الرجال»، يقدمُ مذيعٌ تلفزيوني شخصيةَ «فاتن» -التي تلعب دورها شويكار- بوصفها مخرجة سينمائية، تلميذة للمخرج الإنجليزي/ الأميركي الأشهر هيتشكوك، عائدة من هوليود لتعمل بمصر. فيقول: «التلفزيون العربي بيحتفل النهارده بعودة نجمة من نجوم الإخراج السينمائي في الجمهورية العربية المتحدة، بل وفي الشرق الأوسط جميعه، وذلك بعد غيبة عدة سنوات قضتها في الدراسة والبحث لتطوير السينما العربية والنهوض بالفِلْم العربي إلى مستوى الأفلام العالمية. وقد تتلمذت على يد مخرج الأفلام البوليسية المشهور، ألا وهو ألفريد هيتشكوك. الآنسة فاتن!».

يبدو تصور نمط الحداثة متجسدًا في شخصية شويكار نقيضًا للنمط الذي يجسده المهندس. فشويكار تمثل حداثة لا قوام ولا شرعية لها إلا بالانضواء تحت أستاذية الغرب، وتحديدًا رأسه الإمبراطوري الأميركي. فالمخرجة التي سوف تنهض بالسينما العربية في الفِلْم تلقت العلم في أميركا وتتلمذت على يد واحد من أكبر المخرجين في أميركا. وهي تتحدث بلسان معوج يخلط العامية بالفرنسية والإنجليزية. يرحب بها المذيع فتجيبه شاكرةً: «ثانك يو، ميرسي بوكو»، ثم تمد يدها إلى الكوب أمامها وتقول له «آلا فوتر»، بدلًا من أن تقول: «شكرًا، جزيل الشكر».

لكن المعجم الأعجمي ليس وحده العلامة الحاسمة على هذه الحداثة المستغربة. فهذه الحداثة تستمد شرعيتها من تمثل القيم والثقافات والعلوم الغربية عبر النقل والاستيعاب من خلال عملية التعلُّم. في الندوة التلفزيونية نفسها، لا تكتفي شخصية شويكار بتقديم المذيع لها بوصفها تلميذة لمخرج يتمتع بإعجاب عالمي، بل تؤكد أنها كانت «تدرس» الإخراج في مركز العالم بهوليوود، عاصمة صناعة السينما بالولايات المتحدة، أو كما يشرح خطيبها بكلماته التي تخلط أيضًا العربي بالأعجمي: «كاليفورنيا، يو أس إيه». توضح شخصية شويكار: «أنا كانت دراستي عن الأفلام النفسية البوليسية… يعني بتحلّ مشاكل معقدة مركبة… كونسيبشن… يعني غيرة، قتل، خنق».

تبدو هذه السياسة اللغوية مضحكة بسبب مفارقة سطحية: لمن لا يفهم معنى الكلمات الإنجليزية، يتسبب تجاور وتنافر المفردات العربية والإنجليزية في إثارة الضحك. لكن هناك مفارقة رديفة؛ لأن من يفهم الإنجليزية يدرك أن الكلمات الأعجمية لا تتوافق والسياق الذي تنطق فيه. فمثلًا تصف المخرجةُ المشاكلَ المعقدة بوصفها «كونسيبشن»، أي عملية بلورة مفهوم. المشكلة المعادلة لبلورة مفهوم ليست مشكلة؛ لأن البلورة يفترض أن تؤدي إلى الفهم، أي إلى حل المشكلة، ثم إن نماذج المشاكل التي تطرحها أفلام شويكار، من غيرة وقتل، لا يتناسب وصفها مع فكرة بلورة المفهوم التي توحي بإبداع فكر جديد، في حين أن الغيرة والقتل ثيمات قتلها النوع البوليسي بحثًا.

لكن للإنصاف، فالحداثة التي تمثلها شويكار -على ارتباطها بالتغريب واللحن- تقدم نموذجًا للمرأة القوية ذات الشخصية القيادية. فها هي في الفِلْم تعمل مخرجة لأفلام روائية وهو نموذج كان نادرًا في الحقبة التي ظهر فيها الفِلْم سنة 1971م؛ إذ تكاد صناعة السينما في العالم العربي آنذاك تخلو من المخرجات، ولا سيما في مجال الأفلام الروائية، ثم إن شويكار تخرج أفلامًا بوليسية على حد قولها -وإن كان المشهد الذي نراها تخرجه في الفِلْم داخل الفِلْم ينتمي إلى أفلام الرعب. وكلا النوعين السينمائيين: البوليسي والرعب يقتصران على نحو شبه مطلق على مخرجين رجال، إلا في استثناءات محدودة. إذًا بمعنى ما، فشخصية شويكار نسوية رائدة، تسبق عصرها.

يخصص فِلْم «نحن الرجال» دقيقتين محوريتين؛ لأنهما تقعان في منتصف العرض تقريبًا (الدقيقتين 47 إلى 49)، وتمثلان فِلْما داخل الفِلْم. تصحبنا الكاميرا داخل ستوديو تلفزيوني وتعرض لنا مشهدًا طويلًا من فِلْم تلفزيوني تخرجه شويكار/ فاتن. تظهر مفارقة صارخة بين الوعد الذي يقدمه الفِلْم: الزعم بأن شخصية شويكار سوف تساهم في تطوير السينما العربية وترفعها إلى مصاف الإنتاج العالمي، وما تتمخض عنه قريحتها كفنانة. فالفِلْم الذي تخرجه شويكار هو مسخ من أفلام الرعب الهوليودية الكلاسيكية، نرى فيه معركة يتصارع فيها كل من دراكولا مصاص الدماء الأوربي الشهير، وميّت يعود إلى الحياة -وإن كانا يشبهان شخصية فرانكنشتاين الطبيب المجنون، والوحش الذي صنعه- والقرد العملاق كينغ كونغ، وكلها شخصيات حفظتها الذاكرة الجمعية في ثقافة الغرب الدارجة لأفلام وروايات الرعب. وسبب الصراع هو دفاع دراكولا عن امرأة من عصر ما قبل التاريخ ترتدي جلد حيوان، يهددها القرد من جانب، والميت الحي من جانب آخر.

لو تناولنا هذا المشهد التهريجي بما يليق به من جد يكشف عن لا وعي الفِلْم، لَوَجَدنا أن المفارقة الكبرى ليست بين جدية النوع وهزل التناول، ولا بين افتراض مستوى فني راقٍ من مخرجة تزعم انتسابها لمخرج كبير مثل هيتشكوك، وهزال ما تقدمه فنيًّا. فنوع كوميديا التهريج يسمح بمثل هذا العبث. لكن المفارقة الحاسمة هي أن «الحداثة» المنقولة إلى العربية -أي شخصيات وموتيفات الرعب الأميركية- تتحول إلى مسخ ومسخرة، والأدهى هو أنها تصاب «بالعُجْمة». فالمشهد المصور لا تنطق به كلمة واحدة بأية لغة، بل تصدر الشخصيات أصواتًا حيوانية من زمجرة وزوم وزئير.

وكأن لا وعي المشهد يكشف عن استعارة حرفية: نقل ثقافة إلى ثقافة أخرى تعسفًا لا ينتج إلا مسخًا مشوهًا لا يفهم ولا يبين. وكأن الحيرة بين لغات الحداثة كما -تعن لنا في أفلام المهندس- بين فصحى ومحكية وعامية ركيكة متفرنجة وإنجليزية، تصل إلى أقصى مداها: صراع ينزل بالثقافات إلى مستوى الصراع بين الوحوش، لا تنفع فيه لغة للتفاهم لأن التواصل هنا بالقتال وحده. وربما لا نبالغ في تقصي دلالة المشهد الرمزية إن رأينا في المرأة التي من عصر ما قبل التاريخ تجسيدًا لثقافة عربية لم تكن قد دخلت بعدُ مرحلة الحداثة بِثِقةٍ، فبدت كأنها لم تلحق بحركة التاريخ، نهبًا لوحوش «أجنبية» ولا تجد من نصير إلا مصاص دماء…

تبدو ازدواجات اللغة والحيرة بين مستوياتها عَرَضًا لازدواجات التصورات عن الحداثة والتوترات التي تقع فيها الذات العربية في قلقها بين تصور وآخر. وتمثل سياسات اللغة في أفلام فؤاد المهندس وشويكار نموذجًا على هذه التوترات. ومع ذلك، في لحظة هزيمة المشروع التحديثي التغريبي في مصر، عام 1967م، ظهر المهندس ليقدم تصورًا معقدًا للعودة إلى العربية السليمة، قرينًا بفكرة تقدم الأمة حضاريًّا. حين قدم المهندس في مسرحية «سيدتي الجميلة»، عام 1969م، دور معلم الطبقات الراقية الذي يتبنى دعم فتاة من قاع المجتمع (شويكار) ليعلمها أخلاق الطبقات الراقية.

تصعد الفتاة سُلَّم مجتمعٍ تغلب عليه أرستقراطية عثمانية، لكن تؤكد عملية تعلمها أن رُقِيَّها مبنيٌّ على أصالة تقترن بالحديث بلغة عربية سليمة. وهكذا تبدأ الفتاة في التدرب على مخاطبة الباشا بلهجة سوقية ركيكة، قائلة: «أنت الكلب الكبير»، لينتهي تدريبها وقد صارت قادرة على مخاطبته قائلة: «أنت القلب الكبير». أما السر في عدم تسيُّد هذا المنظور لسياسات اللغة عند فؤاد المهندس، فلعله يكمن في القلق بين التوجهات المختلفة، وهو قلق يلازم جميع مشروعات التحديث العربية. أو لعله ارتباط المهندس بخطاب تدعمه الدولة يتبنى في المحصلة النهائية خيار القومية اللغوية المحدودة بحدود الدولة المستقلة.

المنشورات ذات الصلة

رئيس مهرجان الرياض المسرحي عبدالإله السناني: نسعى إلى تعزيز الوعي المسرحي.. وتقديم جيل جديد من المسرحيين السعوديين

رئيس مهرجان الرياض المسرحي عبدالإله السناني:

نسعى إلى تعزيز الوعي المسرحي.. وتقديم جيل جديد من المسرحيين السعوديين

أوضح الدكتور عبدالإله السناني، رئيس مهرجان الرياض المسرحي -الذي أقيم في المدة من 13 إلى 24 ديسمبر الماضي- أن قرار وزير...

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *