المقالات الأخيرة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

يصف موريس بلانشو الأدب كمنفى في الصحراء، حيث يصبح الكاتب ضعيفًا تسكنه المخاوف مثل تلك المخاوف التي سكنت بني إسرائيل عندما قادهم النبي موسى، امتثالًا لطلب «يهوه»، في رحلتهم عبر صحراء سيناء إلى أرض كنعان؛ فالصحراء فضاء هندسي مناسب لاحتواء مفاهيم من قبيل العزلة...

الكاتب العربي إن لم يجد عدوًّا، اخترعه

قلْ لي مَن عدوك، أقل لك: من أنت!

بواسطة | يوليو 1, 2020 | تحقيقات

إنّ أفضل طريقة لمواجهة مخاوفنا تكمن في التحدّث عنها. وإنّ أهم مخاوفنا تظهر في اعتبار الآخر عدوًّا. وإنّ أفضل طريقة للدفاع هي الهجوم! قال سارتر: الآخرون هم الجحيم. كأكثرية نقول: نعم، الآخر هو المعتدي! لكن هل دقّقنا في إجابتنا، وكم من تصرفات قصدنا بها أو لم نقصد عدوانًا، جعلتنا أعداء بطريقة أو بأخرى، وفي الحقيقة لقد جعلتنا المبادرين بالاعتداء من دون سببٍ ظاهر أو باطن، لمجرد أن الآخر مختلف عنا. العداء موجود في الواقع بشكلٍ كبير، على الرغم من كلمات المحبة والسلام والصداقة والتسامح.

وُجِّهَ السؤال التالي لعددٍ من المشتغلين في الحقل الأدبي؛ لنستطلع وجهة نظرهم،: لكل كائن حي عدو طبيعي، باستثناء الكائن البشري. الإنسان؛ هو الكائن الوحيد الذي لا يوجد له عدو طبيعي يفترسه؛ لذلك كان من الضروري إيجاده. كيف تخترعين/ تخترع أعداءك؟

ولكي لا أكسب أعداء أكثر، سترد أسماء المشاركين وفق تسلسل الأحرف الأبجدية. كما ستنقل إجابتهم كما هي بالحرف والفاصلة حرصًا على السلام الثقافي.

مثلث الرغبة

يعارض رينيه جيرار سيغموند فرويد في موضوعة اللاشعور التي تنتج الدوافع والرغبات. ويذهب إلى أن مثلث الرغبة المتكون بين: الراغب وموضوع الرغبة والوسيط؛ هم الأساس في الرغبات ومن ثم العنف البشري، ففي سعيك لأمر ما، تثير رغبات الآخرين في الأمر ذاته؛ ومن هنا تنشأ العداوات، وكأن العداء أمرٌ محتم. هذا ما يوضحه لنا الروائي السوداني أمير تاج السر: «ربما لا أكون فهمت السؤال جيدًا، هل هو سؤال عن عدو بيئي؟ أم عدو من جنس الإنسان نفسه؟ ذلك الذي يوجد أو لا يوجد، وقد نسعى لاختراعه؟ أظنني أختلف مع مسألة عدم وجود عدو طبيعي أو بيئي لافتراس الإنسان، فالعدو موجود وبشدة، والحيوان المفترِس هو بالضرورة عدو للكائن البشري. الزلازل والأعاصير والفيضانات والأمراض والأوبئة، أعداء شرسون.

سأترك هذا الشق، وأتحدث عن اختراع الأعداء البشريين، أو اختراع ما يمكن أن يزلزل استقرار شخص ما، وحتى استقرار شعب كامل كما شهدنا في الحروب، فأنت حين تعارض سلطة بلادك أو تدلي بوجهة نظرك في خلل ما، اخترعت ببساطة عدوًّا لن يتقبل آراءك، وسيسعى لسحقك، وطبعًا الأمثلة كثيرة ومرعبة، حتى وأنت حاكم لدولة ما، تخترع أعداء لك ولدولتك، حين تصنع جيشًا، وتحاول تقويته بالعتاد، أنت قد تصنعه لتدافع عن أرضك، لكن الجار يفهم أنك صنعته للهجوم عليه. الأب في البيت قد يكون عدوًّا لابنه حين يأبى الانصياع لطلباته، ويبدأ الابن في حشد العداء المعنوي تجاهه. الذكاء والموهبة عدوان لصاحبهما حين يوقعانه ضحية لعنف ما، وكنت قد كتبت مرة عن يوم إعلان النتائج في امتحانات المدرسة الابتدائية في أيامنا، حين كان الفاشلون يدفنون عصيهم في حوش المدرسة، وينبشونها ويطاردون بها الطلاب المتفوقين، وقد يؤذونهم كثيرًا. الطلاب المتفوقون لم يفعلوا شيئًا أو لم يؤذوا أحدًا، لكن الذكاء اخترع لهم أعداء.

لو طبقنا المسألة على النشاط الأدبي للمبدعين، في أي مجال مثل الكتابة والرسم وحتى التمثيل والغناء، نجد اختراع العدو قائمًا وبشدة، فالمبدع المتمكن النشيط، الذي ينتج باستمرار في مجاله، يحيط به آلاف الأعداء الذين اخترعهم، وصيرهم وقائع تتبعه، تحصي أخطاءه، إن أخطأ، وتقلل من شأن إبداعه، وتنتهز أقرب فرصة لإزاحته عن الطريق، الذي يطمح الفاشلون المعتدون، أن يستولوا عليه. إذن صناعة الأعداء، صناعة رائجة، وستظل رائجة، مهما حاولنا القضاء عليها، قد نبتكر هجومنا أيضًا، لكن لن يستطيع بكل تأكيد، أن يقينا من تكالب الأعداء الذين نخترعهم في كل خطوة».

اعرفْ نفسك أو عاديها

يستقرئ الصحافي السوري بديع صنيج مقولة سقراط “اعرفْ نفسك” وينطلق منها، عادًّا الإنسان عدو نفسه، وأن هذه العداوة لها نتائجها الإيجابية، فالانتصار على النفس والانتصار لها في الوقت نفسه، هو المحدد في خلق شخصية إنسانية راشدة.يقول صنيج: «أعتقد أن أفضل عدو اخترعه الإنسان هو نفسه، لا سيما مع الأزمات الوجودية التي يعيشها؛ إذ بات الكشف عن ذاته هو المحور الرئيس الذي تتمحور حوله حياته كلها. أصبح من الرفاهية بمكان أن يبحث الإنسان عن عدو لنفسه خارجها، وبخاصة أن افتراسه للآخر لا يُغذيه وإنما يُخفف من عدد خصومه، بينما افتراس ذاته يُقويها ويزيد معرفته عنها، لذا كنوع من اكتشاف الذات باتت النفس البشرية ساحة معركة ضارية بين مكوناتها الأساسية، بين واقعها والمأمول منها، ومن وجودها الهَش وتماثلاته في الآخر، بحيث إن العداوة للذات، وتاليًا معرفتها بطريقة أفضل، سهلَت بشكلٍ أو بآخر تصنيف البشر وقراءة الآخر بنظرة أقرب للصواب، وهو ما أتاح للإنسان مُصادقة «الناس أعداء أنفسهم»، أي: الساعون لمعرفة أنفسهم أكثر عبر العداء لها وافتراسها بأقصى ما تتيحه المعرفة البشرية من وسائل للسَّبْر.

بالطبع هذا الموضوع ينسحب على كل ما يُضمره الإنسان من مخاوف تجاه أي شيء وأي شخص، بمعنى سعي الإنسان لمُصادقة مخاوفه وكوابيسه وجحيماته المادية منها والروحية، وخَلْخَلَتِها من خلال معرفتها، والتعمق في سبر أغوارها، لا سيما أن العَداء مواجهةٌ، وليس هروبًا، وإشهارُهُ بحاجة إلى شجاعة العارِف، وعطاء الكريم، وهو ما لا ينسجم مع الجَهل أو البخل أو حتى الازدراء؛ إذ ينبغي الاعتراف والمعرفة والعرفان للذات وللآخر، في محاولة جادة لتحديد سَمْت العدو وملامحه ونقاط قوته وضعفه، وتاليًا المناورة واللعب ومُداورة الواقع من أجل السعي لتحقيق النصر، الذي ما إن يتحقق حتى يفرض الدخول في معركة جديدة، ضمن متوالية غير منتهية، ومعالِمُها مُتبدلة متغيرة باستمرار، لكن جوهرها واحد، هو الانتصار للذات في مواجهتها لنفسها، ومواجهة الآخر سواءٌ أكان يُشبِهُنا أو يختلف عنا».

الأنا والآخر

جان بول سارتر

يقول ميخائيل باختين: الوعي أشد خطورة من اللاوعي. وعندما يكتشف الأسد النباتي، أن الآخر الذي فيه ليس إلا مجموعة من الخراف المهضومة، كما يقول بول فاليري، فماذا يفعل في اختلال العلاقة بين النظرية والتطبيق؟ يقدم لنا أستاذ علم الجمال في جامعة حلب الدكتور سعد الدين كليب وجهة نظره في العداوة عبر الأنا والآخر: «يكتشف جوردان، في مسرحية البرجوازي النبيل لموليير، أنه كان يتحدث نثرًا طوال عمره السابق دون أن يدري، فيغتبط أيما اغتباط بهذا الاكتشاف العظيم. ولعلنا لا نختلف كثيرًا عن السيد جوردان، ونحن نكتشف هذه أو تلك من المسلمات والبدهيات الفلسفية والفكرية عامة. وقد يكون مفهوم الأنا والآخر واحدًا من تلك المسلمات، حيث يضرب في عمق التاريخ الإنساني بقدر ما يتجول في الشوارع الآن!

فلم يحدث أن نجا المجتمع الإنساني، ولا أعتقد أنه سوف ينجو يومًا، من التبعات السلبية لذلك المفهوم بشتى أشكاله ومستوياته الثقافية، سواء أكان ذلك عبر التمييز العنصري أم عبر الاستعلاء والإذلال والتهميش أم عبر الحروب المدمرة. وليس هذا فحسب، وإنما أيضًا عبر الأذواق التي كثيرًا ما تكون تعبيرًا جماليًّا عن مفهوم الأنا والآخر الثقافي. فتبدو العيون السود مثلًا، بالنسبة إلى ذوي العيون الزرق، دليلًا على التوحش والبربرية، وتبدو العيون الزرق، بالنسبة إلى ذوي العيون السود، دليلًا على اللؤم والبخل والخسة، وكذا هي الحال في لون البشرة ولون الشعر وشكل الأنف، وفي الألبسة والأطعمة والفنون والطقوس أيضًا. نلحظ هذا في الحضارة اليونانية وفي الحضارة العربية وفي القرون الوسطى وعصر العولمة أيضًا؛ ونلحظه كذلك في الاستشراق وفي الاستغراب على السواء. وعلى الرغم من الانعكاسات السلبية الطاغية لذلك المفهوم فإنه لا أنا من دون الآخر، ولا آخر من دون الأنا؛ سواء أكان ذلك بالمعنى النفسي الخاص أم الثقافي العام. فلا تتحدد ملامح الأنا من دون ملامح الآخر، وهو ما يعني أن الآخر ذو فاعلية في تكوين الأنا، مثلما أن الأنا ذات فاعلية في تكوين الآخر أيضًا. وما يزيد الأمر تعقيدًا هو أن الأنا هي آخر في أي علاقة مجتمعية من أي مستوى كان.

وبهذا المنظور لا يمكن لصورة الآخر أن تنجو من طبيعة الأنا وتصوراتها، غير أن صورة الآخر ليست كلها من صناعة الأنا. صحيح أننا نصنع صورًا للآخر مرذولة وقبيحة، في حال الخصومة أو العداوة، ولكن أصل تلك الصور يكمن في طبيعة الخصومة أو العداوة نفسها أولًا. أما كيف نخترع أعداءنا ثقافيًّا فهذا يرتبط بأسئلة أخرى كثيرة، وهي كيف نبني ذاتنا الثقافية، وما المنظور الذي نرى من خلاله العالم، وما المشروع الذي نسعى إلى إنجازه، وما العقبات التي نواجهها أو يضعها الآخر أمامنا. أسئلة لا تكاد تنتهي، ولكن بالتأكيد كلما اتسعت رؤيتنا الثقافية للعالم اتسعت مساحة الأنا ومساحة الأصدقاء الذين هم الآخر
بمعناه الإيجابي».

ألعاب العداوة

ميخائيل باختين

يقول أفلاطون: «إننا دمى الإله، ويجب أن نلعب حياتنا بطريقة جيدة»، فهل العداوة نوع من اللعب؟ هذا ما سنعرفه مع الشاعرة المغربية عائشة بلحاج: «يخلق الشاعر أعداءه من باب الانشغال الوجودي الصرف، وليس لدافع الميل العدواني المجاني؛ فيعادي نفسه أولًا لاستفزازها، وعندما لا يكون مشغولًا بالاقتيات من لحمه، يحاربُ مثل «دون كيشوت» طواحين الهواء، بسيفٍ خشبي؛ وكأن الطواحين سبب تعاسة الكون. تارةً ينصب الحياة عدوًّا، محملًا إياها مسؤولية خيباته الكثيرة، وأحيانًا يجعل الزمن وحده المذنب، في كل عثرة؛ وما أكثر عثرات الشاعر. للمرأة، قد يكون الرجل العدو، إذا فشل في أن يكون حبيبًا جيدًا. لا أعرف إن كانت المرأة عدوة الشاعر الخائب في الحب، لكن بالنسبة لها فجلد الحبيب الفاشل، واجبٌ أخلاقي؛ وفي ذلك تجلد نفسها؛ لأنها آمنت بالحب، بالرجل، بالحياة، بالزمن، بنفسها. ومقابل ذلك، ستُحمله صخرة سيزيف، وتقفُ أعلى القصيدة، تتشفى في ألمه.

الآخر كيفما كان، بالنسبة للشاعر، قد يُصبح في حالات متطرفة العدو؛ حينها يكون الأمر قد تجاوز العداوة السطحية، لكل ما هو خارج الذات، إلى عداوة مدمرة، يتخذ فيها الشاعر موقفًا نهائيًّا بإقصاء الآخر من جزيرته المعزولة؛ ليصبح روبنسون كروزو آخر، ويضرب الحجر ليلًا من أجل القليل من الدفء. الخوف، عدو كبير للشاعر، إنه ما يجعله صغيرًا، وضئيلًا، أمام نفسه؛ ما يكشفه أمامها؛ لذا يجلد الخوف، محاولًا الانتقام من جهة، والثأر لنفسه من كل المواقف المهينة، التي وقع فيها بسببه. ومن جهة أخرى، يحاولُ ترويضه؛ يفككه، قطعة قطعة ليبتلعه. ومن دون شك، لا ينتصر الشاعر أبدًا في معاركه، بل تصبح قصائده تسجيلًا للهزائم، واعترافًا أو محاولة اعتراف في صيغ مختلفة».

الجانب المظلم للقمر

عندما كتب الروائي ر. ل. ستيفنسون روايته «دكتور جيكل ومستر هايد» كان يريد أن يكشف أغوار النفس البشرية وأن الخير والشر توأمان وعلى ما يبدو أن الروائي الجزائري محمد جعفر أحب أن يشاركنا بقصة من سيرة حياته، تكشف لنا أن العداوة والانتقام تلعب دورًا مهمًّا في بناء الشخصية: «لست طيبًا كما أعتقد، يرد ذلك على بالي في أكثر من مناسبة، وحينها لا بد أن أستدعي من الذاكرة تلك اللحظات أو المواقف التي كنت فيها شخصًا آخر حيث مارست توحشي وتلبسني شيطان العداء والبغض، ويمكن لقصة حصلت معي منذ أكثر من عشرين سنة أن تعبر عن حالي تلك. حال لا يمكنها أن تعجبني كما لا يمكنني أن أنكرها.

كأي فتى يعيش شبابه الأول وقد فتن بإحداهن، وكان يعجبني أن أرافقها في الذهاب والعودة من مدرستها. كنت حينها في السنة الأخيرة من دراستي الجامعية، وعقب أحد اللقاءات سمعت صديقة تقول لها دون أن تنتبه: إنني أسير خلفهما، دعك منه، إنه غير مناسب، وليس من مقامك. اخترقت هذه الكلمات سمعي وأصابتني بتعاسة تضاعفت حين تخلت عني فتاتي. ولا أظنني نسيت هذه الحادثة بسهولة، فقد استعدتها بعد أقل من عام، وكنت حينها قد تخرجت، وعينت في المدرسة نفسها معلِّمًا، لأكتشف أني سأدرس تلك الصديقة النمامة التي لم أنسَ ملامحها يومًا.

بصراحة حتى أكون منصفًا، فلقد كانت فتاة شديدة الجمال ومن بيئة اجتماعية مرموقة، مع ذلك، وبصفتي معلمًا لها، كان من السهل عليَّ لفت انتباهها؛ وسريعًا تلقفت إشارتي مع إشعار بحماستها. وعن طريق صديقة من خارج المؤسسة استطعت أن أفوز بموعد معها. لأجدها تنتظرني في المكان الذي اتفقنا عليه. توجهت صوبها وسألتها بمكر، هل أنت هنا بانتظاري. وحين أجابت بنعم، رددت أقول لها متأسفًا، وشعور غريب، هو مزيج من القسوة والتشفي والاستطاعة يغمرني، كان الأجدر بك أن تلتفتي لدروسك، لا أن تسعي خلف مدرسك. لأقوم بتجاوزها في الحين، ثم إمعانًا في الانتقام عمدت إلى التقرب من أقرب زميلاتها، وأما النشوة البالغة فجسدتها تلك الحسرة التي راحت تشي بها عيناها. ولا أفهم اليوم أي حقد ذاك الذي راح يغشاني حينها، وسول لي أن أتغافل عن جمالها المشرق والطاغي؟ وأي عمى أصابني حتى أفرطت في السعي خلف الانتقام؟ وهل حقًّا كنت أحتاج كل ذلك لأعتدَّ وأثق بنفسي، اعتداد وثقة أنقذاني من مهازل كثيرة مماثلة، وجعلا مني هذا الشخص الذي يشبهني؟».

إذا لم يجد الشخص من يعاديه، يخترع له عدوًّا

الأعدقاء، مصطلح نُحت من كلمتي: الأعداء والأصدقاء، كما نحت إميل حبيبي مصطلح «المتشائل» من المتفائل والمتشائم. ومن هذه الكلمة، سندخل إلى ما أمدنا به الناقد المصري محمود الغيطاني الذي سلط الضوء على العداوات المجملة بأقنعة الصداقات في الوسط الأدبي والثقافي، وكأن لسان حاله يقول ما قاله المتنبي:

«ومن نَكَدِ الدنْيا على الحُر أنْ يَرَى عَدُوًّا لَهُ ما مِن صَداقَتِهِ بُدُّ!» الكائن البشري فعليًّا ليس له عدو من الطبيعة، لكنه يحيا على اختراع عدوه، كأنه لا يستطيع الاستمرار في الحياة من دون عداءات متكررة وكثيرة. في مجالنا الإبداعي على سبيل المثال نرى الكثيرين ممن يعادي بعضهم بعضًا من دون أي أسباب: كأن ترى من يعادي غيره لمجرد أن الآخر مميز في مجال ما، أو لأنه ناجح، أو لأنه منتج وله العديد من الإصدارات. هنا تجد أن الآخر قد نصَّب من نفسه عدوًّا له لمجرد نجاحه، رغم أن هذا العدو لو تخلى عن كسله، واهتم بكتابته ربما يكون أفضل ممن يعاديه، لكنه يصر على الكسل والفشل، ويكن العداء لمن لا يفعل مثله. أحدهم قال ذات مرة لآخر: ما هذا الغيطاني؟! يظن نفسه يفهم في كل شيء. هذا شكل من أشكال العداء، ولو كان صاحب الجملة قد عمل على نفسه بجدية؛ لكان أفضل مني.

ثمة عداءات أخرى نراها من جانب المبدعين تجاه النقاد الذين يقولون رأيهم بجدية حينما يتناولون أعمالهم؛ فالمبدع لا يمكنه تقبل إظهار النقد لمساوئ العمل، وباتوا يظنون أن النقد لا يعني سوى المدح، رغم البون الشاسع بين المفردتين؛ لذلك ترى عددًا لا يستهان به من المبدعين يقاطعون ناقدًا ما، ويكنُّون له العداء لمجرد أنه أبدى رأيه النقدي فيما يكتبونه، ورغم أن بعض المبدعين يرون أن فلانًا/ الناقد؛ لا يوجد ناقد يفهم في النقد مثله إلا أن هذا الرأي ينقلب تمامًا للضد من المبدع نفسه حينما يتعرض الناقد نفسه الذي كان يفهم في النقد لعمل هذا المبدع، ويرى فيه قصورًا، حينها يصبح هذا الناقد جاهلًا، وحاقدًا، ويبدأ العداء.

أظن أن الطبيعة البشرية قائمة على صناعة العدو، وإذا لم يجد الشخص من يعاديه، فهو يخترع له عدوًّا؛ كي يكون مشحونًا دائمًا، سواء كان هذا الشحن يؤدي إلى معنى إيجابي أو سلبي، ولعلنا رأينا أن أميركا حينما انتهى عداؤها الضخم مع روسيا بعد الحرب الباردة اخترعت لها ولمواطنيها عدوًّا جديدًا وهو الإسلام السياسي. للأسف ثمة كائنات لا يمكنها الحياة من دون عداءات».

حبوب السعادة

قال جبران: حينئذٍ قالت المطرة: حدثنا عن المحبة، فقال المصطفى: إذا المحبة أومت إليكم، فاتبعوها، وإن كانت مسالكها صعبة متحدرة. إذا المحبة خاطبتكم، فصدقوها؛ وإن عطل صوتها أحلامكم وبددها، كما تجعل الريح الشمالية البستان قاعًا صفصفًا. هي المحبة التي سيعادي بها الروائي المصري وحيد الطويلة أعداء الحياة ويفضحهم: «لا أريد أن أخترع شيئًا أكثر من حبوب السعادة، التي تجعل الناس كلها في حالة من البهجة. أتخيل لو حدث ذلك وفعلتها! سأجد جرابيع وقساة قلوب لا ينامون دون إفساد هذا الموضوع. لا بأس إذًا، فلأخترع ما يمكن أن يقضي على الأمراض والفقر، لن أنسى ما حييت يوم أمرني أبي أن أذهب إلى القصاب؛ سيعطيك الكوارع، عدْ بها وأعطِها إلى أمك. طبختها أمي وجلسنا للعشاء. قبل أن يمد ملعقته قلت له: إن فلانًا طلب من القصاب زوج الكوارع، لكنه أعطاها لي. كانت هناك في عينه نظرة، احترتُ في وصف تلك النظرة، ولم تسعفني اللغة، قلتُ: نظرة الفقر والانكسار.

صمت الرجل، وبعد ربع ساعة كنتُ في قلب دار الرجل المسكين أعطيه الطنجرة بطبختها. كانت وصية أبي، إن جلس بين أولاده لحظة العشاء: لا تمنحهم بل شاركهم. نعم، يجب أن نخترع أدوية للأسى، للقلوب الكسيرة. وحتى لا أكون مثاليًّا، فإنني أودُّ أن اخترع دواءً للنذالة والحقارة. أن تقسم مصروفك بينك وبين آخر لسنين. لن تعطيه قلبك قبل نقودك وتقول: إنك سوف تغني لأطفالك. من الممكن أن ينتظروا أما هذا النذل، فلا يستطيع. وحين تمر بضائقة ككل البشر الذين تعرفهم، ينهشك بقسوة. هو لا ينهش أعداءه بقدر ما يقطع أوصالك علانية. قد يحب أعداءه، لكن أنت، لا يحبك بل يكرهك؛ لأنك تأخرت عن ميعاد فاتورة الكهرباء.

لا بأس من اختراع دواء لنخاسة الجوائز والكتابة الرديئة التي يروجون لها.  نعم، نعم، لا بد من اختراع دواء يشفي شيخ النقاد من مرض توزيع الجوائز على الأحبة؛ من تعيين الجهلة حراسًا على قلب الثقافة.لا بد من اختراع دواءً لهؤلاء الذين لا يملكون أدنى درجات الاحترام لأنفسهم، ليخرجوا من أماكنهم بعد أن عسكروا فيها لِما يقرب من عشر سنوات.

من يخترع لنا دواءً للخجل، كي يخجل كل هؤلاء من سيرتهم. من يخترع لنا دواءً نشفى به من التفكير به. لعله دواء الفن والكتابة الحلوة، التي ستعيش على الرغم من أنف الجميع، التي يجب أن نسعد أن تكون متعتنا القصوى لحظة تميل بخدها وحاجبها ناحيتنا».

بعد الاطلاع على آراء المشاركين معنا، نكتشف أن كلمة العدو كلمة خداعة، فليست بهذا السوء، فكما تُعرف الأشياء بأضدادها، تصبح كلمة العداوة مسبارًا لكشف ذواتنا وذوات الآخرين، ونصل من خلالها إلى أعماق النفس البشرية، فرفض العدو والآخر لن يقود إلا إلى الإلغاء، فالحياة البشرية مبنية على ثنائيات ضدية، والعداوة التي من نتائجها الحتمية العنف الذي قال عنه القدماء ووثقه رينيه جيرار بــ«أن السلام هبة العنف» أو لنقل: السلام هبة العداوة.

المنشورات ذات الصلة

في مناسبة عام الشعر العربي.. شعر بلا نجوم يبحث عن قراء ومنصات بلا تصفيق أو لايكات

في مناسبة عام الشعر العربي.. شعر بلا نجوم يبحث عن قراء ومنصات بلا تصفيق أو لايكات

في مناسبة عام الشعر العربي، مبادرة وزارة الثقافة السعودية، تستطلع «الفيصل» آراء عدد من الشعراء العرب، حول راهن الشعر...

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *