المقالات الأخيرة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

يصف موريس بلانشو الأدب كمنفى في الصحراء، حيث يصبح الكاتب ضعيفًا تسكنه المخاوف مثل تلك المخاوف التي سكنت بني إسرائيل عندما قادهم النبي موسى، امتثالًا لطلب «يهوه»، في رحلتهم عبر صحراء سيناء إلى أرض كنعان؛ فالصحراء فضاء هندسي مناسب لاحتواء مفاهيم من قبيل العزلة...

محمد الشريف فرجاني: حركات اليسار تلتقي مع الليبراليّة المتوحشّة وتدافع عن بعض أشكالها

ذكر أن راشد الغنوشي انتقل من اعتبار الثورة فتنة إلى الاندراج فيها

بواسطة | يناير 1, 2020 | حوار

بأيّ معنى تكون الثورة، وهي المحيلة على التغيير والتجديد والتقدّم، محافظةً؟ ما هي ظروف نشأة الثورة المحافظة وأهمّ خصائصها وتحوّلاتها؟ بأيّ معنى يمكن أن نعتبر الثورة المحافظة قضيّة راهنة؟ وما هي صلاحيّة المفهوم في تحليل الوضع السياسي العربي الراهن وتحوّلاته؟ وهل يمكن قياس الثورة المحافظة الناشئة في الغرب على الوضع السياسي العربي الحالي؟ وما هي مظاهر ذلك؟ كيف ارتبط المفهوم بما يمكن أن نسمّيه «الكونيّة الزائفة في مقابل» الكونيّة الحقيقيّة؟

تمثّل هذه الأسئلة أبرز عناصر الحوار الذي جمعنا بالبروفيسور محمّد الشّريف فرجاني، أستاذ العلوم السّياسيّة والدّراسات العربيّة في جامعة ليون الثّانية بفرنسا، ويهتمّ أساسًا بالبحث في علاقة الدّينيّ بالسّياسيّ في المجال العربيّ والإسلاميّ. من أهمّ دراساته وقد صدرت بالفرنسيّة أطروحته حول «العلمانيّة وحقوق الإنسان في الفكر السّياسيّ العربيّ المعاصر»، ثمّ بحثه في «محاور البحث في الإسلاميّات والعلوم السّياسيّة المطبقة على العالم العربيّ وإشكالياتها»، وكذلك كتابه «الإسلام السّياسيّ والعلمانيّة وحقوق الإنسان»؛ وكتاب «سبل الإسلام، مقارنة علمانيّة للوقائع الإسلاميّة»، وكتاب «السّياسيّ والدّينيّ في المجال الإسلاميّ» (تُرجِمَ إلى العربيّة)، وكتب -أيضًا- عن «الدّين والتّحوُّلات الدّيمقراطيّة في حوض البحر الأبيض المتوسط وهو كتاب مسبوق بآخر صدر بعنوان «السّجن والحريّة»، وصدر له كذلك «العلمنة والعلمانيّة في الفضاءات الإسلاميّة» (صدر بالعربيّة)، ليكون أحدث إصدارته: «في إسلام الأمس وإسلام اليوم».

هنا حوار معه حول كتبه وعدد من القضايا:

● أستاذ الشريف فرجاني، في الآونة الأخيرة كنت في مؤتمر دولي في روسيا، وكتبت مقالًا بالفرنسية وآخر بالعربيّة وأثرت في هذه المناسبات وغيرها ما يُسمّى الثورة المحافظة، وهو مفهوم ظهر منذ سنة 1927م في الأطر الفنيّة والأدبيّة، ودخل مجال العلوم السياسيّة بعد الحرب العالميّة الثانية في الغرب، ولكنّه غير متداول كثيرًا في السياقات العربيّة والإسلاميّة؛ لذلك من الضروريّ اليوم تقريب هذا المصطلح من السياقات المهتمّة بالسياسات العربية.

أنت أشرت إلى مقالات صدرت أخيرًا، ولكن قبل ذلك كان هناك مقال كتبته في موقع المسبار للدراسات والبحوث حول صعود اليمين المتطرف والثورة المحافظة، وهذه المقاربة بدأت منذ سنتين تقريبًا، وأنا أتناول بالدرس ظاهرة الإسلام السياسي من زاوية ما يمكن أن يكون لها من علاقات مع الثورة المحافظة التي تبلورت في بداية القرن العشرين وتحديدًا في ما بين الحربين العالميتين. وهذه الفكرة التي طرحت لأوّل مرّة بصورة منظَّرة ومباشرة سنة 1927م بقلم هيغو هوفمنستال في خطاب حول «الآداب والفضاء الروحي للأمة» والمقصود به الأمّة الألمانيّة، لا يمكن فهم الكلمات باعتبارها فضاء روحيًّا للأمّة، ولكي نفهم ذلك يجب أن نتمثّل الوضع الذي كانت عليه ألمانيا بعد الحرب العالمية ونتائجها من خلال معاهدة فرساي (1920م) التي فرضت شروطًا مجحفة على ألمانيا، واعتبرها الشعب الألماني مهينة وتَحُدُّ من سيادة بلاده، ونظر إليها باعتبارها مؤامرة ضد ألمانيا ودورها التاريخي، وسنرى كيف أن هذا المناخ سيساعد هتلر على كسب ثقة الشعب الألماني وجره وراء أيديولوجيته النّازية. ونجد من بين مُنَظِّرِي الثورة المحافظة في حقبة ما بين الحربين من التحق بالنازيّة، فهناك علاقة بين الثورة المحافظة والفاشية والنازية، وإن لم تكن علاقة تماهٍ كلِّيّ فإن هناك امتدادات تربط بينها، ومن ذلك أن أطرافًا من هؤلاء التحقوا بهذه الأيديولوجيات فيما بعد. من أمثال مارتن هايدغر الذي مَثَّلَ مع أوسفالد شبينغلر وكارل شميت أهمّ مُنَظِّرِي الثّورة المحافظة. حتى نتبين طبيعة هذه الثورة، لا بد أن نعود إلى مميزاتها ونبحث في التّصورات التي استندت إليها.

● بدأ الاستعمال الاصطلاحي لهذا المفهوم سنة 1949م في أطروحة الدكتوراه التي أنجزها أرمن مولر تحت إشراف أحد كبار الفلاسفة وهو كارل ياسبرز، وهي حول الثورة المحافظة في ألمانيا.

هذا صحيح، ولكن لا يعني أن الاستعمال السّياسي مرتبط بهذه الأطروحة، وإنّما هو سابق لها، وهي عادت إلى أركيولوجية المفهوم وبحثت في كيفية نشأته وتبلوره وتطوّره، ولكن النشأة كانت في حقبة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية كما بيَّنْت ذلك، وليس سنة 1949م، فذلك عمل أكاديمي يبحث في المفهوم السابق بطبيعته لتلك الحقبة.

● نعم لذلك هو في عنوان أطروحته حدد التاريخ الزمني، بين 1918 و1932م، وهو ما يعني نهاية الحرب العالمية الأولى إلى صعود اليمين القومي الاجتماعي في ألمانيا، وبالتالي فهذا إيحاء بأنّ ما يسمى الثورة المحافظة التي نُظِّرَ لها بعد ذلك أي سنة 1949م، مَثَّلَتْ تمهيدًا للنازية والفاشية.

لم ينظّر لها وإنما وقعت دراستها دراسة أكاديميّة، ولكن التنظير موجود قبل ذلك لدى شبنغلر وهايدغر وكارل شميت، أي لدى مُفَكِّرِي الثورة المحافظة قبل الحرب العالمية الثانية.

● هل يمكننا الوقوف على أهم خاصيات ما يسمى الثورة المحافظة؟

الخاصية الأولى هي الانتقال من رفض الثورة إلى تمجيدها؛ أي التحول من الموقف الذي يعتبر الثورة فوضى وسقوطًا للمدنية والحضارة، وهذا نجده في الكثير من الكتابات حول الثورة، وبخاصة الثورة الفرنسية، التي اعتبرها المحافظون الذين انتقدوا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواطن أكبر جريمة ضدّ الإنسانيّة ارتُكِبتْ في تاريخ البشريّة، إلى الموقف الذي يمجِّد الثّورة وينوِّه بها ويعتبرها وسيلة للخروج من الانحطاط الذي مَثَّلَتْه الأنوارُ والحداثة والديمقراطية وإعلانات حقوق الإنسان، ويدعو إلى تبنِّيها واعتبارها وسيلة خلاص ألمانيا والحضارة الغربيّة والبشريّة، فألمانيا في هذا الفكر تُعتبر هي المنقذ للبشريّة. ونحن نلاحظ الشيء نفسه في انتقال راشد الغنوشي مثلًا في تونس من اعتبار الثورة فتنة وفوضى إلى الكلام اليوم عن الثورة وحكومة الثورة والاندراج في الثورة، فالمقارنة مهمة جدًّا هنا.

الخاصّية الثانية هي اعتبار حقوق الفرد وحرياته خاضعة للجماعة، أي لا حقوق للفرد بمعزل عن الانتماء إلى الجماعة، فالحقوق والحريات هي حقوق الأمّة، وهذا ينعكس على مفهوم الحرية، التي لا يُنظر إليها إلا باعتبارها تحرُّرًا من هيمنة كيان آخر. هذه الخاصية تتأسس على تصور ماهوي للجماعة باعتبارها كيانًا منغلقًا، وفي نزاع مستمر مع الآخر في إطار ما يسميه صاموئيل هنتنغتون الحرب بين الثقافات وصدام الحضارات. وهذا الاعتبار يؤدّي إلى تصور للهويات على أنّها «هويات قاتلة» على حد تعبير أمين معلوف، أو «هويات متنازعة» كما يسميها كارل شميت، وهو أيضًا من مُنَظِّرِي الثورة المحافظة؛ وقد اعتبر أن السياسة هي فن تحديد من هو العدو ومن هم الأصدقاء في علاقة بتصور للهويات على أنها هويات متنازعة، أي أنها هويات نقية ومنغلقة والآخرون يتآمرون عليها. ومن هنا كانت هذه الخاصية مشتركة بين كل تعبيرات الثورة المحافظة السابقة والراهنة باعتبارها تنطلق من المفهوم التآمري للتّاريخ، فالآخرون يتآمرون على هويتنا ويتربّصون بها للقضاء عليها. وفي هذا، نجد ما هو مشترك أيضًا مع حركات الإسلام السياسي والحركات السلفيّة، والحركات القومية الشوفينية اليوم سواء كانت في الفضاءات العربية أو في غيرها من الفضاءات مثل: الهند وروسيا والصين والعديد من البلدان التي تتنامى فيها الثورات المحافظة.

عصر المنابع الصافية لهوية الأمة

● هذا سيؤدّي إلى ميزة أخرى وهي ضرورة الخلاص من هذه التحولات نحو التقدم من أجل العودة إلى الماضي.

هم لا يعتبرونها تقدمًا بل انحطاطًا؛ فالأنوار انحطاط وكذلك الديمقراطيّة والمجتمعات الحديثة انحطاط بالنسبة إلى عصر ذهبي وماضٍ مجيد يجب إعادة الارتباط به، وهنا نشير إلى مفهوم الانحطاط لدى شبينغلر ونقد الحداثة لدى هايدغر، ونجد في ذلك أقوى تنظير لنقد حقوق الإنسان والحداثة وتمجيد «العصر الذهبي» الذي يختلف من تعبير إلى تعبير آخر حسب المراجع الثقافية والحضاريّة الخاصة بكل هوية للجماعة المرجع، وهو ما يسمّونه بعصر المنابع الصافية لهوية الأمة والجماعة المرجع، ويتميز لدى كل الثورات المحافظة بتصوّر لما يجب أن يكون عليه النظام الاجتماعي، الذي يجب أن يتماهى مع النظام الطبيعي للأشياء؛ إمّا بالعودة إلى ما يسمى العصر الذهبي الإغريقي القديم والروماني القديم، أو النظام الربّاني الذي حدّد ما يجب أن يكون عليه نظام الجماعة البشرية ونظام الكون، وهو نظام تراتبي يعتبر أنّ المساواة حالة غير طبيعيّة.

● وهنا يُتَحايَلُ على هذه القيم بمحاولة الحديث عنها باعتبارها شعارات، وتغيير مدلولاتها بمصطلحات قديمة.

هذا صحيح، فهم انطلقوا من رفض مقولة حقوق الإنسان ومقولات الحرية واعتبارها إباحيّة وخروجًا عن النظام الطبيعي للأشياء، وتنظيرًا لخرق النظام الطبيعي أو الرباني وتعويضًا لحقوق الله أو الحقوق الطبيعيّة بحقوق الإنسان. هذا هو المنطلق، ولكن عندما فرضت تلك المقولات نفسها على الجميع، وعليهم هم أنفسهم، تغيّر الأمر، وأصبحوا يَهتَمون بها بعد أن كانوا يهاجمونها؛ فعندما لحقهم الاضطهاد من طرف خصومهم، ووجدوا أنفسهم ضحايا القمع والاستبداد الذي مارسته عليهم الدكتاتوريات التي تتظاهر بتبنِّيها للحداثة، فتحوا مظلّة حقوق الإنسان؛ لذلك نجد أن تنظير تلك المقولات ومفهوم المجتمع المدني لدى الحركات المحافظة كلّها، بما فيها الحركات الإسلامية في المجال العربي والإسلامي، يقوم على إفراغها من محتواها الحداثي ليضعوا مكانه مضامين قديمة، ومن ذلك أنّهم ينظّرون لمفهوم الحرية على أنّه حقّ الجماعة قبل الفرد.

● هذا السياق المفهومي والتاريخي عَرَفَ نوعًا من المدّ والجزر، فبعد أن ظهر في حقبة ما بين الحربين، انكفأ بعد الحرب العالميّة الثانية أمام المقولات التي هاجمها في البداية ثم أصبح يمجّدها فيما بعد ليعيد فيها النّظر؛ لنلاحظ لاحقًا عودة الثورة المحافظة من جديد في حقبة الثمانينيات، من خلال السياسات العالمية الليبراليّة لدى تاتشر وريغن، لِتَخْفِتَ شيئًا ما بعد ذلك وتعود مع بداية الألفية الثالثة في سياقات متجدّدة. بِمَ تفسِّر هذا المد والجزر بين الثورات المحافظة والموجات الأخرى من النزوع نحو الحريّات التي تعقبها في كلّ مرّة؟

هناك نوع من المد والجزر حسَب الظروف القاهرة التي تفرض نفسها على أتباع الثورة المحافظة، ومن المهم الإشارة إلى أن نتائج الحرب العالميّة الأولى لعبت دورًا في ظهور الكثير من الثّورات المحافظة، وإن كان من الصعب إثبات وجود علاقات عضوية مباشرة بين البواعث التي تأسست عليها تلك الثورات في الكثير من البلدان غربًا وشرقًا، فيصعب مثلًا أن نقول: إن هناك علاقات بين الثورة المحافظة في ألمانيا وظهور حركة الإخوان المسلمين في نهاية العشرينيات في مصر أو ظهور حركة محافظة في الهند تدعو إلى التخلص من تأثيرات الثقافات الأخرى والعودة إلى الهوية الهندوسية النقية، وقد تأسست هذه الحركة سنة 1924م، أي في الحقبة نفسها التي تبلورت فيها الثورة المحافظة في ألمانيا، وكان لها أتباع حتى في إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وغيرها من الفضاءات المسيحيّة. ومع ذلك يمكن القول: إن الحقبة التي أعقبت الحرب العالميّة الأولى حملت مميزات مشتركة لدى أغلب بلدان العالم، وأنها أثّرت في ظهور الثورات المحافظة بشكل أو بآخر. ولعلّنا ندرك حجم الإحباط والبؤس الذي خلّفته الحرب في نفوس النّاس، وهو ما دعاهم إلى أن يرفضوا الواقع ويتعلّقوا بنوع من المحافظة والانكفاء على ذواتهم، ونذكر هنا تلك المعاني التي عبّر عنها ميخائيل نعيمة في قصيدته، وهي تُرَاوِح بين الإحساس بالعدميّة ووطأة ما خلّفته الحرب من بؤس ودمار وخراب، وهو يقول:

«أخـي، إن ضـجّ بعد الحرب غربيٌّ بأعمالـه

وقـدّس ذكر من ماتـوا وعظّم بطشَ أبطالـه

فلا تهزج لمن سادوا، ولا تشمت بمن دانا

بل اركع صـامـتـًا مثلي بـقـلـب خاشع دامٍ

لـنبكي حظَّ مـوتــانــا

أخـي، إن عاد بعد الحرب جنديٌّ لأوطانـه

وألقى جسمه المنهوك في أحضان خلَّانه

فلا تـطـلـب إذا ما عُـدتَ لـلأوطـان خـلَّانــا

لأنّ الـجـوع لم يترك لنا صـحبـًا نـنـاجـيهـم

ســوى أشـباح مـوتــانــا».

هذه الموجة من الإحباط هي التي مَهَّدت لانتعاش الثورة المحافظة، وهذا الأمر نفسه نجده في كتابات ألكسندر سولجينيتسن في روسيا، الذي كتب «أرخبيل غولاغ» حول القمع في الاتحاد السوفييتي في المدة ما بين عامي 1918م و1956م. هكذا كانت نتائج الحرب العالميّة الأولى انتصارًا للثورة المحافظة، ودعمًا لمن تبنَّوْا فكر الفاشية والنازيّة والحركات الشوفينية. ونحن نذكر كيف أنّ حركة الإخوان المسلمين في العالم العربي وكل الحركات القوميّة الشوفينية في العالم تماهت مع الفاشية والنازية إبان الحرب
العالمية الثانية.

وقد عرفت هذه الحركات نوعًا من الجزر مقارنة بالمد الذي عرفته في حقبة ما بين الحربين الأولى والثانية، وقد ارتبط العالم بعد الانتصار على النازية والفاشية وعلى حلفائهم وذيولهم، بعودة قوية لدور الدّولة في ضمان المستوى الاجتماعي مع ما سُمِّيَ بدولة الرَّفَاهية التي أخذت على عاتقها تأمين الحقوق والخدمات الاقتصادية والاجتماعية والثقافيّة، وقد رافق ذلك تشكل المجموعة الاشتراكية التي كانت تراهن على دور الدّولة في ضمان تلك الحقوق على حساب الحرّيات.

● عادة ما يلمس المُطَّلِع على الثورات المحافظة وتاريخها وكيفية اشتغالها، ارتباطها بشكل واضح بمقولة الشعبويّة التي تتمظهر بتبني الحركات المحافظة للمطالب الاجتماعية والاقتصاديّة والدّفاع عنها بشكل نضالي، لتتخلّى عنها بعد ذلك عندما تصل إلى الحكم، وتتبنى أعتى نظريات الليبرالية المتوحشة. بِمَ تفسِّر هذا التناقض الصّارخ بين خطاب الثّورات المحافظة وممارساتها؟

حتّى نفهم ذلك، يجب أن ننظر في تعاقب الحِقَب والنّماذج التي مرت بها تلك الثّورات المحافظة، أي منذ حقبة ما بين الحربين وصولًا إلى النّماذج المعاصرة، مرورًا بحقبة ما بعد الحرب العالميّة الثّانية، ثمّ حقبة السّبعينيات فالثّمانينيات. وتلك المراحل تثبت أن تعبيرات الثّورة المحافظة تسود حينًا وتَخفِتُ حينًا آخر، وهو ما عبّرتُ عنه سابقًا بالمدّ والجزر، ولكنّها تبيّن أيضًا أن الأمر يتعلّق أساسًا بمسألة دولة الرَّفَاهية التي دافع عنها كاينز (John Maynard Keynes) في إطار ما يمكن أن يعتبر هرطقة ليبيرالية. فكاينز كان ليبراليًّا ولكنه نادى بضرورة أن يكون للدولة دور اجتماعي وهو ما لم يكن موجودًا في الليبرالية الكلاسيكية ولذلك قلت: إنه يمثل هرطقة في السياق الليبرالي ساعد على انتصارها بعد الحرب الثانية أزمة الثلاثينيات الاقتصاديّة، إضافة إلى ما كان للدولة من دور اجتماعي في المنظومة الاشتراكيّة. وقد تَبَنَّتْ الدّول المستقلة عن الاستعمار هذا التصور من منطلق الاقتناع بأهمّية دور الدّولة في النّهوض والبناء وتأمين الحقوق الاجتماعيّة والاقتصاديّة لمواطنيها. إلَّا أنّ ذلك سينتهي في السّبعينيات مع ظهور الليبرالية الجديدة التي سوف تهجم بصورة لا سابق لها على الدّور الاجتماعي للدّولة معتبرة إيَّاه مدخلًا للكليانية وللقضاء على الحرّيات؛ وقد عبَّر الرّئيس الأميركي ريغن في خطابه الذي ألقاه عندما دخل البيت الأبيض، قائلًا: «الدولة ليست الحلّ بل هي المشكل»، وأكَّد على وجوب التقليص من دور الدولة. وقد كان ذلك منطلقًا للسياسات الليبراليّة الجديدة في أميركا، وقد تواصلت فيما بعد مع جورج بوش الأب والابن، لتُفرض اليوم بصورة لا سابق لها مع ترمب، كما انتصرت أيضًا في بريطانيا مع مارغريت تاتشر، ثم مع تيريزا ماي، واليوم مع جونسون، وفي الهند وفي الصين وفي روسيا وفي كل دول أوربا الشرقية. لقد تزامنت تلك الهجمة على دور الدّولة مع عودة جديدة وقوية للثورة المحافظة، في ارتباط وثيق بين الظاهرتين. وكان ما عرفته حقبة بداية التسعينيات، بعد سقوط جدار برلين، مراهنة على أن الانتصار على المنظومة الاشتراكية سيؤدي إلى انتصار الرأسمالية على صعيد عالمي وفي ارتباط بها انتصار الدّيمقراطية، وقد عبّر عن ذلك فرانسيس فوكوياما في كتابه «نهاية التاريخ»، ولكن هذا التفاؤل سرعان ما تراجع نتيجة ما آلت إليه التّطوُّرات في أوربا الشّرقية من تصفيات عرقيّة وعودة قويّة للشوفينيّة والمحافظة الدّينية، وحلَّت مكانه تلك النظرة التشاؤمية التي جاء بها هنتنغتون في كتاب «صدام الحضارات» وتنامي نزعة الحروب بين الهويّات، وبالتالي عودة انتشار الثورات المحافظة.

الليبرالية المتوحشة

● هذه الثورات المحافظة في جوهرها ضد القيم الكونيّة، ولكن كأنّها ضد تطوّر مفهوم الدولة الحديثة أيضًا، هل هذا صحيح؟

الدّولة الحديثة تصدّت للثورة المحافظة منذ البداية وانتصرت عليها؛ لذلك فتلك الثورات تحاول دائمًا أن تثأر منها، ولذلك أيضًا هي تنتعش من أزماتها بشكل متواصل، وتعود مجدّدًا في كلّ مناسبة تسمح لها بذلك؛ فأزمة الدولة الحديثة اليوم توفر الأرضية لعودة تعبيرات الثورة المحافظة، وهي تراهن على اندثار الدولة الحديثة لتحقيق حلمها بنظام يعادي تصوراتها، وتعتمد في ذلك على نتائج الليبرالية الجديدة المتوحشة، التي توافرت لها الظروف من خلال اندثار الاتحاد السوفييتي وسقوط جدار برلين حتّى تَتَعَوْلَمَ. فالليبرالية الحديثة كانت منحصرة في بعض الدول وهي أساسًا الولايات المتحدة الأميركيّة وكندا وبريطانيا، وأدّى سقوط المنظومة الاشتراكية إلى فتح الباب أمامها نحو فضاء العولمة؛ وقد سعت في إطار هذا الفضاء الواسع إلى فرض نمط من الثقافة والعيش يصفه بنجمين بربار في كتابه بـ«مكدلة» للعالم –World McDonalization- في استعارة لتسمية بعض المنتوجات الأميركيّة التي تغزو العالم والتي تبدأ بـ(Mc) مثل ماكدونالد وماكنتوش وغيرها، وقد اعتبر أن في ذلك قضاء على الخصوصيات الثقافية والاجتماعية والسياسية لمختلف المجتمعات باسم كونيّة زائفة ومشوّهة تريد أن تفرض على العالم بأكمله نمط مجتمع ما وهو المجتمع الأميركي، أو جزء منه لأن المجتمع الأميركي نفسه ضحية لهذا النّمط. وفي المقابل فإنّ بربار يسمّي مقاومة تلك الكونيّة الزّائفة «جهادًا»؛ لأنّه تفطّن إلى أنّ تلك المقاومة لا تتأسّس على نوع من التضامن بين المجتمعات البشريّة، بل هي مقاومة على أساس هويّات منغلقة تعتبر نفسها نقيّة، وتنظر إلى الآخر بعين الرّيبة والرّفض، وهو لذلك يسمّيها هويّات «قبليّة». وقد جاء كتاب بربار بعد كتاب «صدام الحضارات» لهنتنغتون، ليقول له: إنّ مآل العالم ومستقبل البشرية ليس الصدام بين الحضارات، وإنّما هو بناء كونيّة جديدة قوامها فيدراليّة الخصوصيّات، أي الكونيّة التي تبنى انطلاقًا من التجارب الخاصة بالشعوب والأمم لصهرها في إطار كونيّة يبنيها الجميع معًا، ولا يفرضها طرف من الأطراف على الآخرين انطلاقًا من خصوصيّته هو، كما سار الأمر إلى حد الآن مع الأنظمة الاستعماريّة والإمبرياليّة الجديدة التي تمثّلها الولايات المتحدة الأميركيّة، فتلك كونيّة زائفة؛ لأنّها تنطلق من خصوصيّات ثقافة محدّدة تعتبرها معيار الكونيّة، وتريد أن تفرضها على الآخرين وتمحو خصوصياتهم.

● لعلّ هذه العولمة الزائفة بنتائجها المأساوية مثَّلتْ جانبًا ممّا تجنيه الشّعوب على أنفسها، وهو أمر يمكن ملاحظته منذ نشأة الثّورة المحافظة، مرورًا بأهمّ مراحلها التّاريخيّة إلى اليوم، فما زالت الشعوب تذهب إلى صناديق الاقتراع وتقوم بانتخاب القوى المحافظة، وسواء كان ذلك عن ثقة أو إيمان أو جهل أو غياب وعي، فإنّ النتائج دائما تأتي ضدّ مصلحة الشّعوب، وتؤدّي إلى الإضرار بحرياتها الفرديّة وحقوقها الاجتماعيّة والاقتصادية والثّقافية. فما الذي يحصل في عقول هذه الشعوب؟

من السهل جدًّا على الحركات الهويّاتية والمحافظة والدينية والشوفينية القومية أن تتلاعب بمشاعر الناس الذين هم ضحايا هذه الكونيّة الزائفة.

وهذا الأمر يتواصل في ظل ما نلاحظه من غياب الوعي بالعلاقة بين الثورات المحافظة والليبراليّة الجديدة في كل الكتابات التي نقرؤها وفي جُلِّ الخطابات السياسية التي نسمعها، وليس هناك تركيز بما فيه الكفاية على ضلوع تلك الثّورات المحافظة في النتائج المأساويّة التي يعاني تبعاتها كلّ الشعوب بما في ذلك شعب الولايات المتحدة الأميركيّة والشعوب الأوربيّة، فليس هناك شعب لا يعيش مآسي الليبرالية الجديدة. ونحن نرى تعبيرات الثورة المحافظة في كل المجتمعات من أقصى اليمين في أوربا إلى المحافظين الجدد في أميركا إلى الحركات القومية الشوفينية في بلدان الجنوب… كلها تستثمر الغضب من نتائج عولمة الليبرالية الجديدة، وتأخذه في الحسبان، كما فعل هتلر في ألمانيا فيما بين الحربين الأولى والثانية، وقد ربط بين القومية والاشتراكية في خطابه، ونلاحظ اليوم الربط بين المسألة الاجتماعية والثورة المحافظة لدى الإسلاميين والقوميين الشوفينيين، وأذكر في هذا السّياق الكلمة التي ألقاها هتلر بمناسبة عيد الشغّالين في الأوّل من شهر مايو 1927م، ويمكن أن نتبيّن من خلالها بوضوح استثماره للأوضاع المأساويّة التي تسبب فيها النّظام الرأسمالي، يقول: «نحن أعداء النظام الرأسمالي الحالي الذي يستغِلّ الضعف الاقتصادي، بأجوره الظالمة، وتقييمه الجائر للإنسان استنادًا لثروته ولما يملكه عوضًا عن ذاته وإنجازه، ونحن عازمون على القضاء على هذا النظام بكلّ السبُل». وهذا الخطاب هو ما نجده في خطابات جميع الثورات المحافظة أمام الأزمات الاجتماعية الناجمة عن الرأسمالية المتوحشّة، وتشترك جميعها في التأكيد على المسألة الاجتماعية للتحقير من مسألة الحريات والمساواة، وهنا مكمن الداء الذي تلتقي عنده الشعبويات اليمينية واليسارية.

● هذا الخطاب صحيح أنه لم يتواصل لاحقًا بعد الوصول إلى السلطة ولكنه يلتقي الخطاباتِ الاشتراكيةَ واليسارية والتقدمية بصورة عامة، وهنا نلاحظ كأنه للوصول إلى السلطة تُستَخْدَم الحقوق والحريات الاجتماعية والاقتصادية ولكنّه عند الوصول إلى الحكم يمارس ضد ذلك.

علينا أن ننتبه إلى أن حركات اليمين المتطرف اليوم هي التي تتحدّث عن ضحايا الليبراليّة الجديدة، هذا ما تقوم به في فرنسا مارين لوبان، وما يقوم به اليمين المحافظ في أوربا الشّرقية وفي الهند وغيرها. في حين أنّنا نجد الحركات اليساريّة تلتقي الليبراليّةَ المتوحشّةَ، بل تدافع عن بعض أشكالها؛ من ذلك أن بعض اليسار في تونس يساند جانبًا من مواقف الإسلام السّياسي فيما يتعلّق بالطرح الاجتماعي، كما أنّ بعض اليساريّين لا يُخْفُونَ تحالفهم مع اليمين، متعلّلين بأنّه يثير المسألة الاجتماعيّة فيما يعِد به من سياسات. وقد تناسى هؤلاء أنّ الاعتبار الحقيقي للمسألة الاجتماعيّة يكون لدى الحداثي والاشتراكي الحقيقي ولدى الديمقراطيين بالربط لا بالفصل بين المسألة الاجتماعية ومسألة الحريّات والمساواة. فالحركات المحافظة، تؤكّد على أنّ مسألة الحرّيات ليست أولويّة مُلِحَّة الآن، وأنّها يمكن أن تخضع لتراتب الأولويّات، وهي، في حقيقة الأمر، إنّما تعلن التّضحية بالحريّات والمساواة باسم أولوية المطالب الاجتماعية، وتقول: إنّ الّذي يموت جوعًا لا تهمّه مسألة الحريات؛ لأنّها مسألة رفاهية، ويقول قيس سعيد، الرئيس التونسي الحالي في تونس: «الشعب لا يطالب بذلك، وإنما هو يريد الخبز والكرامة والشغل»، وقد وصفت إحدى الصحفيّات المرافقات له من يتحدّثون عن الحريّات والحداثة بكونهم «المرَفَّهون الذين لا يفكرّون إلَّا في مصالحهم ولا تعنيهم هموم الشعب الحقيقيّة». هذا هو نفسه ما كان مكمن الداء مع هتلر حتى مع موسوليني الذي كان يقول الشيء نفسه. والإشكال أن تكون الحركات اليساريّة طرفًا في هذا المسار الذي يقبل التضحية بجانب من مقولاته الأساسيّة في سبيل مطالب اجتماعيّة، ليلتقي بذلك مع تعبيرات الثّورة المحافظة الأكثر خطورة.

خطابات اليسار المتأرجحة

● لكن الحركات اليساريّة والتحرريّة الحقيقيّة التي تؤمن بالمساواة المطلقة وبالربط بين مسألة الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية ومسألة الحريات من دون تغليب جانب على آخر، ما الذي يجعلها اليوم تفشل في إقناع الجمهور الواسع بمشروعها وبضرورة الربط بين الأمرين؟

مشكلتها أنّها لم تستطع أن توفّق بين المطالب الاجتماعية ومسألة المساواة والحريّة، انظر إلى خطابات اليسار على مستوى العالم مثلًا، فهي تتأرجح، وتجد فيها دائمًا التركيز على مسألة العدوّ الخارجي، وبالتالي فهي تسقط رغم أنفها في نظريّة المؤامرة التي هي في صلب أفكار الحركات المحافظة، وتركّز على شعارات نضاليّة فضفاضة ضدّ الإمبرياليّة والصهيونيّة من دون الانطلاق من واقع المجتمعات التي توجد فيها لتنظر في مشاكلها من زاوية الارتباط الوثيق بين الحريّات والمسائل الاجتماعية؛ فأين تجد هذا الارتباط مثلًا في برامج اليسار وفي برامج الأحزاب المعارضة للإسلام السياسي اليوم؟ والحقيقة أنّها برامج تلتقي أفكارَ القوميين الشوفينيين والإسلاميين في اعتبار أولويّة المسألة الاجتماعيّة على مسألة الحريّات والمساواة. هذا يعني أن اليسار لم يستطع أن يوفق بين المسألتين، وبهذا سينتهي إلى عدم الوفاء بالوعود في كليهما كما فعل هتلر والفاشية. لذلك أعتبر أن الأزمة التي عليها الحركات الحداثيّة بصورة عامة تكمن في أنها لم تتخلّص بما فيه الكفاية من تلك المقابلة بين المسألة الاجتماعيّة ومسألة الحقوق الفرديّة والمساواة.

● هذه المعضلة التي تبدو لدى الحركات اليساريّة والحداثيّة عمومًا، التي من المفروض أن تكون ضدّ كلّ الثورات المحافظة، أليست نابعةً أساسًا من إشكال في مستوى الخطاب الذي تقدّمه، والذي يفتقد إلى إستراتيجيّات واضحة، وهو ما يجعل تلك الحركات غير قادرة على الاستقطاب؟

المفروض أنّ هذه الحركات اليساريّة والحداثيّة تناهض الثورة المحافظة، ولكن هل الوعي لديها متحقّق بأن الإسلام السياسي والحركات القومية الشوفينية تنخرط في إطار الثورة المحافظة؟ هل نجد أثر الوعي بهذه المسألة في خطاب النخب السياسيّة اليوم؟ الجواب: لا، فهي غائبة تمامًا وليس هناك وعي بأن هناك ثورة محافظة كونيّة اليوم، وأنّه لا يمكن مقاومة الليبراليّة الجديدة من دون مقاومة تعبيرات الثورة المحافظة بمختلف أشكالها، فهذا الوعي منعدم في خطابات الحداثيين الرّاهنة، وفي جُلّ الخطابات التي تتنافس مع حركات الإسلام السياسي ومع الحركات القومية الشوفينية، من دون أن تقطع تمامًا مع الأرضيّة التي تنتعش في ظلها حركات الثورة المحافظة. أمّا الشعوب فهي كلّها تعيش تحت وطأة الحياة اليوميّة ومآسيها التي لا تسمح لها بأن ترتقي تلقائيًّا إلى نظرة استشرافيّة للمستقبل، وأن تفهم الأسباب الكامنة وراء مأساتها. وأعتبر أنّ هذا الدور يجب أن تضطلع به النخب السياسيّة، فهي التي وجب أن تنطلق من تلك المآسي لتبحث في أسبابها الحقيقيّة وفي الوسائل التي تمكّنها من علاجها من دون الوقوع مرة أخرى في مآسٍ جديدة.

● ولكن هذه النخب السياسيّة اليوم، وأنت تتحدّث عنها بصفة كونيّة، أصبحت أبعد ما تكون عن هذه المسائل!

لاحظ أن الأحزاب الاشتراكيّة الديمقراطيّة تتبنى وصفات الليبراليّة الجديدة، وفي الآن نفسه تريد أن تقاوم حركات اليمين المتطرف والحركات الشعبويّة، من دون أن تدرك أن تلك الوصفات تقوّض أسس الديمقراطيّة؛ وقد سبق لبيير بورديو أن عَبَّرَ عن ذلك حين أشار إلى وجود «إكليروس» جديد، يريد أن يفرض وصفاته على حساب الدّيمقراطية، وهو يصف بذلك النخب الخادمة لليبراليّة الجديدة من خلال صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والبنك الأوربي والخبراء الذين نجدهم في كل الوزارات وفي مكاتب رؤساء الدول وكلّ الإدارات، فهؤلاء يقولون: إنّهم يعلمون أكثر من غيرهم الطريقة المناسبة لإيجاد الحلول المثاليّة للأزمات، ويعتبرون أنّ على جميع الدّول أن تطبّق وصفاتهم من دون نقاش ولا تفاوض، وهي في الحقيقة إملاءات على الدول. هؤلاء يسميهم بورديو «اليد اليمنى» للدولة التي تكسر «يدها اليسرى»، أي يد الخدمات الاجتماعيّة التي تؤمِّن الحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة، فليس هناك وعي حقيقيّ بهذا الترابط بين الثورة المحافظة والليبيرالية الجديدة لدى النخب السياسيّة. من هنا تأتي أزمة النماذج السياسية التي تستند إلى أيديولوجيّات ظهرت في القرنين 19 و20، ولم تَعِ بعد أن الوصفات التي تبلورت في ظل أوضاع تلك الحقبة لم تَعُدْ تستجيب لحاجيات العصر الذي هو مطبوع بالعولمة، أي عولمة الليبراليّة الجديدة وعولمة الثورة المحافظة، وأنّه لا بدّ في المقابل من عولمة الإجابات عن الليبرالية الجديدة وعن الثورات المحافظة.

● أليست الثورة المحافظة في بعض أشكالها هي ثمرة التقاء أو تلفيق وترميق بين الأفكار التقدميّة اليساريّة والأفكار اليمينيّة المحافظة؟

كان هذا منذ بداية ظهور الثورة المحافظة، فقد كانت نوعًا من التلفيق بين ثورة الأنوار والحداثة والحقوق والمحافظة، وبالتالي فهي تواصل هذا الترميق والتلفيق. والثورات المحافظة سواء كانت دينية أو قومية أو قبليّة، لا يمكنها ألَّا تتأثر بالحداثة فهي نتيجة لها ورد فعل لها؛ وبالتالي فإنّ ما يجب التأكيد عليه لمواجهة مختلف تعبيرات الثورة المحافظة هو تجنّب الفصل بين المسألة الاجتماعية ومسائل المساواة والحرية، والارتقاء بالتضامنات التي أفرزتها الحداثة في إطار الدولة القومية إلى البحث عن تضامنات كونية في مستوى العولمة، وليس باسم الكونيّة التي جاءت بها الحداثة الغربيّة والتي كانت مهّدت للاستعمار والإمبرياليّة الجديدة، ولا يجب أن نقاوم الكونيّة المزيفة بالانكماش على الهويات القاتلة، بل على الضد يجب مقاومة تلك الكونية الزائفة بكونية أرقى منها، يجب أن تكون الكونية الحقيقية منطلقًا وأساسًا لسيرورة واضحة، وهدفًا لمطالب الحركات الخصوصية – للشعوب المستعمرة وللأقليات التي تعاني الحيفَ والتمييزَ، والتي لا يمكن فصلها عن كلّ الحقوق الفرديّة. فيجب أن تصاغ هذه المطالب والحقوق لا من زاوية العداء للكونية وإنما من زاوية البحث عن كونيّة تجمع بينها وتؤمّنها جميعًا، فلا نضحي بالكونيّة؛ لأنّ أنماط الكونية كانت مشوّهة وغير وفية لمفهوم الكونيّة، ولا بدّ من التركيز على أن الكونية تُبنَى عبر هذه السيرورة. ومن المهم جدًّا الوعي بأنّ مقاومة الثورات المحافظة تبدأ بمقاومة كل أشكال الهيمنة على العالم؛ لذلك فالتصفيق لخطاب ترمب مثلًا عندما يتهجَّم على حركات الإسلام السياسي لأنهّا مسَّت مصالح أميركا، أو التصفيق لبوتين عندما يحارب داعشًا ويقف مع النظام السوري لمصالح إستراتيجيّة تخصّ بلاده، لا يمكن أن يؤدّي إلَّا إلى دعم الثورات المحافظة؛ لأنّ مقاومة أي تعبير من تعبيرات الثورة المحافظة لا يمكن أن يكون بالتحالف مع شكل آخر من أشكالها عملًا بمقولة عدوّ عدوّي صديقي، فذاك مكمن الفشل؛ لأنّ تلك المقولة ليست دائمًا صائبة.

المنشورات ذات الصلة

مصطفى محسن: اشتغال عالم الاجتماع على المسألة الاجتماعية ينبغي ألّا يفهم منه تحوله إلى واعظ أو داعية إلى ثورة

مصطفى محسن: اشتغال عالم الاجتماع على المسألة الاجتماعية ينبغي ألّا يفهم منه تحوله إلى واعظ أو داعية إلى ثورة

يتحدث عالم الاجتماع المغربي الدكتور مصطفى محسن عما يميز مساره النقدي من ترحال موضوعاتي، يصفه بأنه ضروري لحرفة عالم...

المستشرق الإيطالي جوزيبي سكاتولين: لا بد للحوار بين الأديــــان أن يكون جادًّا وحقيقيًّا وليس لأغراض شكلية أو لتوظيف سياسي

المستشرق الإيطالي جوزيبي سكاتولين: لا بد للحوار بين الأديــــان أن يكون جادًّا وحقيقيًّا وليس لأغراض شكلية أو لتوظيف سياسي

جاء المؤتمر الدولي في ميلانو الذي عقد في مايو الماضي لتكريم المستشرق الإيطالي جوزيبي سكاتولين، تتويجًا لجهوده بوصفه...

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *