المقالات الأخيرة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

يصف موريس بلانشو الأدب كمنفى في الصحراء، حيث يصبح الكاتب ضعيفًا تسكنه المخاوف مثل تلك المخاوف التي سكنت بني إسرائيل عندما قادهم النبي موسى، امتثالًا لطلب «يهوه»، في رحلتهم عبر صحراء سيناء إلى أرض كنعان؛ فالصحراء فضاء هندسي مناسب لاحتواء مفاهيم من قبيل العزلة...

عبدالله هوشة.. أُودِعُكَ أُمَّكَ الأرضَ

بواسطة | يوليو 1, 2019 | شخصيات

سألتُه، وقد أطال الوقوف أمام إحدى رسومي مكتّفًا ساعديه ومائلًا قليلًا، ما إذا كان يحتاج أن أشرح له شيئًا؟ أجابني: «شكرًا، سمعتك وأنت تشرح للزوار، أريد أن أفهم الرسوم كما أراها أنا لا أنت». وبعد صمت قصير: «ولا أحد آخر» أضاف مبتسمًا! كان ذلك في معرضي الأول – 1971م، في المركز الثقافي العربي في اللاذقية، وكان الرجل الذي توقّف عند كلّ لوحة على حدة، مصادفة، يشغل منصب مدير المركز! بعد انتهاء المعرض بأيام فوجئت بزيارته الأولى لبيتنا بصحبة صديق له قريب لأمّي (ج.ع). استقبلتهما (خالدية) في غرفة الضيوف، فهكذا زيارات كانت تخصّها. ما لا أنساه من تلك الزيارة أنّه عندما قال (جلال) لأمّي ضاحكًا: «ما رأيك أن نضمّ (منذر) إلى حزبنا؟». أجابت بضحكة مقابلة: «لمَ لا.. إن كان يرغب!».

«لمَ لا!.. أمّي!. إنّهما شيوعيّان!، وأنت تعلمين معنى هذا؟ ثمّ هل نسيت أنّ أبي قوميّ سوري!». بعدها، وعلى مدى صداقة امتدّت ما يقارب نصف القرن، سنواتها الثماني عشرة الأخيرة، صداقة كل يوم، بل كل ساعة، لم يُبدِ (عبدالله هوشة) أيّ رغبة بضمّي لحزبه. وكأنّه منذ وقفته الطويلة المائلة أمام رسومي تلك، عرف أنّني لا أملك طينة الحزبيين، وبالتأكيد، طينة المناضلين السياسيين.

آخر زياراتي له في مكتبه في زاوية قاعة المكتبة المركزية لجامعة تشرين، التي قام، هو خريج جامعة القاهرة، قسم المكتبات والوثائق عام 1964م، بتأسيسها وتوسيعها على مدار السنوات الخمس التي كلّف بالعمل مديرًا لها، كانت في أواخر عام 1980م. استغربت، ليس لطفه، فقد عرفت هذه الصفة الغالبة عليه منذ زمن، بل حرصه الزائد، كأنّه كان ينتظر الفرصة، لأن يشرح لي وجهة نظر في الظرف العام للبلد، كنت قد سمعتها منه في لقاء سابق جمعنا في بيت (إلياس مرقص) حيث ظهر وقتها خلاف ما، وهو الأمر الذي لم أفهمه إلّا عندما وصلني خبر ملاحقته وتخفّيه.

تخفّيه، تخفّيه لمدة تزيد على عشرين عامًا، وأين؟ في بلد الألف فرع أمن ولا أمن، والمليون عنصر أمن ومخبر، المنتشرين في كلّ مدينة وبلدة وقرية، من شمال سوريا إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، لا ينامون -عين الأمن لا تنام- ولا يكلّون ولا يملّون. تخفّيه الذي استحق وصفه بالمستحيل. ولكن ليس بالنسبة لي!..ذلك لأنّي، رغم زياراتي النادرة لدمشق، فقد حدث ورأيته، أكثر من مرّة، يمشي الهوينى – كيف لي الآن، أن أتصل به، كما اعتدت أن أفعل كلّ هذه السنين، وأسأله: أيّهما الأصح، أن أكتب الهوينى أم الهوينا؟ في شوارعها، أو يقف متأملًا أمام واجهات محلاتها، إحداها كانت في (الصالحية)، قلب العاصمة الصاخب! عند باب صيدلية (القنواتي)، من يصدق؟! هو نفسه صعق لرؤيتي، آخذًا إيّاه بالأحضان. في حين أن بعضًا من معارفه، كما روى لي، كان يتجنبه، إذا التقاه، في مصادفة مماثلة، مجرّد التعرف إليه وإلقاء التحية، وكان هو أوّل من يعذرهم.

وفي زيارة أخرى لي للعاصمة، ربما في أواسط التسعينيات، اتصلت، بصديقي اللاذقاني (م.ك). ومن لديّ من أبناء بلدياتي فيها سواه؟ لأخبره أنّني قادم لبيته. فقد كان يطيب لي الغداء، من طبيخ زوجته (و.ع) بنت اللاذقية بدورها، كلّما سافرت إلى دمشق وتوفّر لي بعض الوقت. فما كان منه إلّا أن استمهلني قليلًا، على غير عادته، ليعود ويقول لي جوابه المعتاد: «تعال.. ماذا تنتظر!». وعندما وصلت، عرفت مباشرة سبب ذلك التردد، (عبدالله هوشة) بلحمه وعظمه وربطة عنقه يجلس عندهم على مائدة الطعام. فعرفت أنّ (ميشيل) قد سأله: ما إذا لديه مانع من مجيئي، فللمُلاحَقُ دائمًا ظروفه وحساباته، أجابه (عبدالله): «والله، مشتاق لمنذر كثيرًا».

لا أدري كيف، بعد ظهوره للعلن، وعودته للحياة في اللاذقية، وجدت نفسي منذ عام 2002م صديقًا حميمًا له. لا أذكر الآن التفاصيل، ولا ريب أنّه كان هناك أكثر من دافع، وصرنا نبدو للآخرين كثنائيّ لا يفترق الواحد عن الآخر، معًا دائمًا، أينما ذهبنا، ومع من كنّا، وفي حال مصادفة أحدنا وحده في مكان ما، فالسؤال الجاهز كان: «أين صاحبك؟»، الذي تطور مع السنوات وصار عند بعض الأصدقاء المقربين: «أين غريمك؟» الصفة التي سجّل (أبو يوسف) اعتراضه الرسمي عليها، حتّى إن كانت تقال مزاحًا، إلّا أنّني أنا (منذورة) الاسم الذي يطيب له مناداتي به، لم أعترض!. لأنّه إضافة لابتعادي التام عن مشاغله الحزبية، وتأكيدي، المرّة تلو الأخرى، بأنّ اهتمامي بالشأن العام، وكتابتي عن إشكاليات العلاقة القائمة بين المجتمع والسلطة في سوريا، يأتيان من الثقافة أولًا والثقافة أخيرًا، باذلًا كل الجهد لأن أحصرهما، إمّا تحت خطّ السياسة، أو فوق خطّ السياسة، فقد زادت مع الأيام نقاط خلافي مع النهج السياسي الذي كان يتبعه حزبه، أو لأقل بدقيق العبارة، الذي كانت تتبعه قيادة الحزب وتجرف كلّ أعضائه وراءها.

لكن ذلك لم يمنعه من تبنّي اقتراح لي باسم جديد لهذا الحزب، ليقدمه في مؤتمر الحزب السادس، أخبرني، لاحقًا، أنّهم لم يوافقوا عليه – لفقر مخيلتكم السياسية، قلت له- كما رافقته مع العديد من الأصدقاء، إلى اللقاء العلني، لأوّل مرة في تاريخ الحزب، الذي عقد في (حرستا – دمشق)، مايو 2005م، وأعلن فيه (عبدالله هوشة) أمينًا أوّل للحزب، بحُلَّته الجديدة وباسمه الجديد (حزب الشعب الديمقراطي). وللأسف، تبيّن بعد مدة زمنية ليست بطويلة، أنّ كلّ هذا، وليس منصب الأمين الأوّل فحسب، كان شكليًّا وفارغًا أكثر منه حقيقيًّا وواقعيًّا. كما أوضح (عبدالله) بقلمه وبكلماته، في رسالته بتاريخ 10/6/2007م التي أعدُّها وثيقة تاريخية لا مثيل لها في الأدبيات السياسية السورية: «تصويب أوّلي لما ورد في تصريح الأمين الأوّل التاريخي الرفيق العزيز(ر.ت)». التي وجّهها: «إلى جميع الرفاق في الحزب والمتعاطفين معه وإلى القوى الحليفة والصديقة، وإلى الرأي العام أيضًا». ناقدًا وناقضًا الأساليب الفردية التي استمر (ر.ت) في ممارستها، داخل الحزب وخارجه: «ما دام الأمين الأول التاريخي مصرًّا على أسلوبه في العمل، وعلى إخضاع اللجنة المركزية لآليات عمل مخالفة لروح المؤتمر السادس ولوثائقه التي حملت طموحًا كبيرًا لتجديد الحزب بكلّ المعاني، الفكرية والسياسية والتنظيمية، ولتحويله إلى مؤسّسة لا تتحكّم فيها شخصية واحدة أو فرد واحد، أيّا كانت تلك الشخصية ومن كان هذا الفرد». السؤال الآن: أيّ درس؟!

أذى على جميع الأصعدة

كنت من القلة الذين شهدوا وعاينوا مقدار الألم الذي عاناه (عبدالله هوشة) إثر تلك الطعنة، والأذى الذي تلقّاه على جميع الأصعدة. ومع ذلك تراه يخاطب طاعنه، بـ«الرفيق العزيز»، «الرفيق الغالي»، وإذا أراد تكذيبه في نقطة ما، فهو يستخدم تعبير: «جانبت الصواب»! أو لأكون صريحًا؛ طاعنيه. فقد كان يشعر بمرارة شديدة، حاول، دائمًا إخفاءها، حرصًا منه على إخلاصه لحزبه، تجاه عدد غير قليل من الرفاق، الذين تعاملوا مع (الأزمة)، بحيادية كما ادعوا، ولكن بسلبية وصمت كما الحقيقة، هو القائل في مقدمة الرسالة: «حين يصبح الصمت موقفًا غير أخلاقي». تاركوه، وحده، بعد كل هذه السنين التي كرسها للحزب والرفاق، ينزع شوكه بيده، ويخيط ضفّتي جرحه بمسلته.

في العام ذاته، أصابه السرطان لأوّل مرّة في رئته اليسرى. ولا آتي بهذا، كدليل على ما أقوله إطلاقًا، ولكن ذلك ما حدث! ولحسن الحظّ هذه المرّة، اكتشف الورم وهو ما زال طفلًا! بل جنينًا، أقصد صغيرًا جدًّا. وهنا، لم يتوانَ رفاقه في الحزب في القيام بواجبهم الرفاقي على أكمل وجه، وأخذ كلّ شيء على عاتقهم، مقدمين كلّ أنواع الدعم، المادي والمعنوي. هو بنفسه روى لي، في أكثر من مناسبة، وبامتنان عميق، ما فعلوه لمساعدته وكيف زاروه جميعًا في المشفى، ومن بينهم الرفيق العزيز (ابن العم) وكأنّ شيئًا لم يكن. عاش من حينها (عبدالله هوشة) معلّقًا، كرسالته التي لم يجب عليها الأمين الأوّل التاريخي وكذلك اللجنة المركزية، على الجدران الصامتة للحزب، فليس هو خارجًا عنه وليس هو عضوًا فيه، حتى بدأت.. (الثورة).

بالنسبة لنا، نحن أصدقاءه، كانت المظاهرات التي تمرّ من أمامنا، لحظة خرافية، لحظة لم نكن نصدق أنّنا سنحيا ونشهدها، إلّا أنّها بالنسبة لـ(عبدالله هوشة) كانت تعني شيئًا أكثر من خفقان القلب وذرف الدموع ونحن نراهم يتدفقون في الشارع حاملين لافتاتهم ومرددين شعاراتهم: (سوريا منحبك) (واحد واحد.. الشعب السوري واحد) (بالروح بالدم نفديكي يا درعا)، يضحك ويبكي (أبو يوسف) «من أين للوادقة هذا التعاطف الوطني!». (الثورة) كانت بالنسبة له، المعنى الحقيقي لحياته كلّها، بل، دون أدنى مبالغة، كانت حياته كلّها. ما تعلّم وناضل وأحبّ وصادق وعادى ولُوحِقَ وتخفَّى وخاف وعاش «تحت الأرض» وفوق الأرض، لأجلها.

نعم، فعلت (الثورة) بنا ما فعلت. الآن سيأتي أحد ويقول: «لا، ليست الثورة من فعلت بنا هذا، بل النظام، بل روسيا وإيران، بل قطر وتركيا، بل أميركا.. بل العالم برمته!» ولن أنسى من سيقول: «نحن، نحن من فعل هذا بأنفسنا» وطبعًا، موضوعنا الآن ليس هذا، رغم تأثيره الطاغي فينا كبشر وفي حياتنا الطبيعية، التي ما عادت طبيعية، وعيشنا اليومي المحفوف بالمخاطر، والمليء بالمذلات، الذي بات لحظيًّا وآنيًّا، فقد أنهت الخلافات في الرأي، والتبدّلات في المواقف والاصطفافات السياسية، التي نجمت عن الوقائع الجديدة للبلد، صداقات تاريخية كان يخال أنّها ستدوم مدى الحياة، وفرّقت رفاقًا وأصحابًا كانت توثقهم ذكريات نضالية مشتركة، وروابط فكرية وإنسانية مسلّم بها. نعم، ريح صرصر شديدة البأس، كنّا، (أبو يوسف) وأنا وأصدقاؤنا جميعًا من دون استثناء، في مهبّها وفي دوامتها. فقد وجدت نفسي، رغم موافقتي لحدّ التطابق لأغلب الآراء والأفكار، بالتأكيد ليس كلّها، التي كان (أبو يوسف) بتجربته النضالية ومتابعته الحثيثة للأحداث قادرًا على استخلاصها، كما لا يستطيع أحد منّا أن يفعل، على خلاف معه في عدّة قضايا، اثنتين منها، يمكن لي الآن عدّهما رئيسيتين؛ الأولى، عامة، فاجأني أنّه تعامل معها كأنّها تمسّه شخصيًّا، وهي أن المعارضة السورية، (التقليدية) حسب بعض التصانيف، التي يرسم (التجمع الوطني الديمقراطي-1980م)، ووليده (إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي-2005م) إلى حدّ ما، أفضل صورتين لها، هي برأيي، معارضة أخلاقية، مبدئية، مثالية، وأيضًا، لو بمبالغة أظنّها في محلّها، كما وصفتها يومًا في مقال سابق لي: (تم القضاء على المعارضة السورية.. انبسطوا- صحيفة السفير 24/4/2007م)، «طهرانية».

وكانت حجّتي على هذا، ليس فقط ما تردّده المعارضات السورية منذ نشأتها، بداية السبعينيات إلى اليوم، بكلّ بياناتها وتصاريحها، بأن النظام الشمولي السوري قد ألغى السياسة في المجتمع، وصحّره، إن لم يكن قد ألغى المجتمع نفسه. بل أيضًا الأداء السياسي والإعلامي المخيّب لرموز هذه المعارضة بعد 2011م. ورغم قبول (أبو يوسف) بهاتين الفكرتين، فكثيرًا ما سمعته يردّدهما أمامي وأمام الجميع، لكنه كان يرى أن النضال والتضحيات الكبرى التي قدمتها أحزاب هذه المعارضة كافة، عملًا سياسيًّا بامتياز، «شئت أم أبيت يا منذر» وأن غضّ النظر عن هذه التضحيات وتجريد هذا النضال من مضمونه السياسي، وتحميل المعارضة أيّ مسؤولية في ما أوصل سوريا والشعب السوري إلى هذه الكارثة، عمل لا أخلاقي أكثر منه أيّ شيء آخر.

دور بارز في تجميع القوى

أمّا القضية الثانية، التي لم أكن أفاتحه بها إلّا بخجل ومواربة، لأنها أقرب لأن تكون تدخلًا في قراراته الحياتية، وسلامته الشخصية، من قبل شخص تصل معرفته بهذه الأمور إلى درجة الجهل التام، كما تبيّن لي لاحقًا، وهي أنه بما يعرف عنه من قدرة تنظيمية، وخبرة قيادية في أصعب الظروف، وذلك الاحترام والتقدير الذي يكنّه الجميع لاسمه ولتجربته، فإنه يستطيع أن يلعب دورًا بارزًا في تجميع القوى الوطنية المعارضة في اللاذقية وتوجيهها على نحو منظم فعال هي في أشدّ الحاجة إليه. وما أظنه جوابًا مفحمًا عن سؤالي ذاك، ستجدونه في نهاية ما سأقصه عليكم لتوّي. فقد اصطحبني (أبو يوسف)، لا أذكر تمامًا في أيّ عام، ربما خلال الأزمة التي وقع فيها النظام السوري بعد اغتيال (رفيق الحريري) وخروج الجيش السوري من لبنان، وتلويح الولايات المتحدة بوضع سوريا في دول محور (الشر)، وما أدراك ما محور الشر، لاجتماع عقد في بيت أحد المعارضين السياسيين، غايته المعلنة إنشاء تجمع وطني، يعمل أعضاؤه على تمكين الوحدة الوطنية، والحفاظ على السلم الأهلي، تجنّبًا لاحتمال نشوء نزاعات طائفية أو مناطقية في المستقبل، وبالرغم من أهمية الهدف، وكثرة الشخصيات المعروفة التي وُجدت في الاجتماع، والجو الوطني الذي ساد فيه، فقد كان الانطباع الذي خرج به (عبدالله) عند نهاية الاجتماع في غاية السلبية. وقتها علّلت هذا، بيني وبين نفسي، بالحزبية الضيقة التي تربّى عليها، وبالشعور بالريبة والشك الذي عاشه طوال مدة تخفّيه. ولكن بعد انقضاء ما يقارب الخمسة عشر عامًا، وبعد رحيل (عبدالله هوشة) بأيام لا أكثر، يخبرني أحد مؤسّسي هذا التجمّع بأنّه تمّ بناء على طلب أحد فروع الأمن؟!

أمّا مقالي، الذي أثار، ضدّي ومعي، تلك الزوبعة، حتّى غدوت، أنا، وأعوذ بالله من كلمة أنا، صاحب 18 كتابًا، منها كتابان في الشأن السوري العام والخاص، إضافة لمئات المقالات قي شتى ضروب الكتابة، لا أعرف سوى به: (ليتها لم تكن)، فلم ينبس بحرف حوله، كما أنّي لم أسأله قط. قلت: إنّ (الثورة) السورية كانت تعني لـ(عبدالله هوشة)، ما لم تكن تعنيه لأيّ منا، مهما صدقناها ومهما بلغ انحيازنا لها. فقد كان مصرًّا عن سابق عزم وتصميم ألّا يدير لها ظهره، مهما تبدلت أحوالها، ومهما تراجعت مكتسباتها. أو بالعكس، كان، كلّما أصابها عجز، ووقعت بها هزيمة، يزيد اندفاعه نحوها، ويزيد إيمانه بانتصارها. ولكن مع تراكم الأخطاء واستفحال الانحرافات، ومع اكتساح الحرب لكلّ معطيات الثورة وأهدافها، وكثرة التدخلات والارتهانات والاحتلالات، وارتفاع تكلفة الثورة من الخراب والموت والتشريد، راح يظهر على ملامح وجهه تعابير ألم حاد، وراحت نبرة صوته تنمّ عن قلق لم نعهده فيه من قبل، لا على الثورة فحسب، بل على السوريين كبشر وكشعب، وسوريا كدولة وكبلد وكوطن. وأحسب أنّه من وقتها بدأ يشعر بتسلل الهزيمة إلى روحه، كما بدأ يطفو فوق كلامه بيننا، يأسٌ أشبه ببقعة زيت كامدة، تترقرق كلّما ألقى أحدهم حجرًا عليها، وهو الأمر الذي آلمنا جميعنا، مع أنّنا من دون استثناء كنا قد سبقناه منذ زمن لذلك. كنت أصيح به، وإن بمزاح: «يحقّ للجميع أن يقدموا المراجعات، ويعترفوا بالأخطاء، ويحقّ لهم أن يندموا، ويردّدوا (ليتها لم تكن)، ما عدا أنت! أنت خلقت للثورة كما خلق المسيح للصلب!». غير أنّ هذا ما عاد يكفي أن يتكلّف (المعلم المتألم) رسم الابتسامة على فمه!

عاد لينتقم

قبل معرفته بعودة السرطان إليه، وهذه المرّة، عاد لينتقم، وقبل وفاة شريكة حياته في السراء والضراء، السرّاء القليلة والضراء الكثيرة، قبل كلّ هذا بأشهر عديدة، ولم يكن الألم الذي بدأ من جانبه الأيمن قد اشتدّ بعد، أسرّ لي، وهو يصعد بجانبي في السيارة، متنهّدًا، بدل جملته المعتادة التي حملها معه من أيام دراسته في مصر: «يامنتا كريم يا رب»، تلك التنهيدة الطويلة: «إنني أموت يا (منذر)». أجبته: «بعيد الشر عنك (أبو يوسف)، ألف بعيد الشر، عارض ويزول». غير أنّني، أقسم، كنت أرى ملاك الموت يحوّم فوق رأسه، ثم يطلّ من عينيه الزيتونيتين. حتى إنّه بعد عيادتنا لصديق، في حيّ (الزراعة)، (شيكاغو) اللاذقية كما يطلقون عليه، أخطأت وعبرت بسيارتي تقاطع نيران محلي، كان هادئًا حينها، فرموا علينا، ونحن يا غافل لك الله، قنبلة يدوية، سقطت على مسافة نصف متر من سيارتنا، مخترقة بشظاياها كامل الجانب الأيمن للسيارة، ومحطّمة زجاج نافذة المقعد الأمامي، حيث كان يجلس (أبو يوسف). وقد استطعت التحكم بأعصابي والسيارة بآنٍ، وابتعدت بها من ساحة المعركة، إلى حيث من الممكن أن نتوقف وننظر إلى ما آل إليه حالنا، وحال سيارتي الصينية الجديدة. فإذا بالدماء تسيل من أذن (أبو يوسف) اليمنى، إضافة لخدوش صغيرة على وجهه نتيجة نثرات الزجاج التي انقذفت في كلّ صوب داخل السيارة. تصوّروا، مجرد تصوّر، لو أصابتنا تلك القنبلة إصابة مباشرة، وأدّت إلى انفجار السيارة أو تحطّمها! ماذا كان سيحصل لنا؟ وماذا كان سيقال وسيكتب في حال موتنا! أيّ خبر عاجل سيحتل شريط الأخبار. إلّا أنّه، رغم نجاتنا من هذه الواقعة، ما كان هناك مهرب من الموت أمام (أبو يوسف)، فالإصابة الثانية بالسرطان كانت تنتظره، ولا يكتشفها، إلّا وهي تغطّي رئته اليمنى على نحو شبه كامل، مع انتقال الورم إلى قصبات الصدر اليمينية، وبعض فقرات الظهر خلف الورم مباشرة، مسببًا، من الجهتين، آلامًا لا تطاق، لم تقدر أقوى المهدئات، التي كانت تصيبه بالدوار والغثيان، سوى على تخفيفها قليلًا ولمدة زمنية قصيرة. قال لي، وهو يشيح بنظره عن شاشة التلفاز، وكان قد اضطرته خطورة إصابته، أن يبطل اهتمامه، كلّ يوم وكلّ ساعة، بما يجري من أحداث: «والله.. إنه عالم لا يندم الإنسان على مغادرته».

صباح السبت 8/12/2018م، عند الساعة الثامنة صباحًا، غادرت روح (عبدالله هوشة) جسده التعب، بعد أن أشبعته عذابًا وألمًا. فحمله أهله وأصدقاؤه إلى مقبرة (الروضة)، شرق مدينته اللاذقية، حيث غمروه بالتراب وأودعوه بطن أمّه الأرض.

«جميعنا يا (عبدالله) طعام للأرض. سقتنا وأطعمتنا طوال حياتنا. لنموت، ونقوم بردّ جميلها، أو سداد دينها، بأن نطعمها أجسادنا. من هنا يأتي حرصنًا أن نسرع بدفن موتانا، لتكون دافئة وطازجة ما أمكن». خطر لي هذا وأنا أتنقل بين القبور المتزاحمة، ريثما ينتهون من طقوس الدفن. بالنسبة لي، بتّ أعرف من أسماء أصحاب هذه القبور أكثر ممن أعرف أسماءهم بين الأحياء. إلّا أنّ ما هالني، وهو ما لم أكن قد تنبهت له من قبل، أنّه بين كلّ قبرين أو ثلاثة، قبر (ملازم شرف) شهيد الوطن، أو ربما قبر واحد لأخوين شهيدين.. ولكن ماذا لو كانت هنا أيضًا قبور باقي الشهداء، أولئك الذين دفنوا بلا ضريح ولا اسم؟ ترى، تحسّبًا لكلّ هذا، سُمِّيتْ هذه المقبرة.. (الروضة)! أمّا أنا فقد حرصت أن أكون آخر مودعيه، لأمسك بيده وأهمس بأذنه: «مع السلامة أبو يوسف». وليشدّ على يدي ولأسمعه يجيب: «الله يسلمك، منذورة».

اللاذقية 15/1/2019م

المنشورات ذات الصلة

جائزة الملك فيصل العالمية

جائزة الملك فيصل العالمية

مُنح الأديب ورجل الأعمال الكويتي محمد الشارخ جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام، لمبررات منها: قيامه بإنتاج أول برنامج...

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *