المقالات الأخيرة

“لقاء مارس 02: تواشجات” دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

“لقاء مارس 02: تواشجات”

دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا

فيما يشبه الالتزام الأخلاقي والجمالي، تبنى لقاء مارس السنوي، الذي تنظمه مؤسسة الشارقة للفنون، في دورته الجديدة التي انتهت أنشطتها قبل أيام، طيفًا واسعًا من القضايا والموضوعات والنقاشات وعروض الأداء، التي لئن اختلفت وتعددت وتنوعت، إلا أنها تذهب كلها إلى منطقة واحدة،...

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

رسائل تبادلها فيصل دراج ومحمد ملص بين موسكو وباريس

المأساوي الجليل.. وفاء لزمن مضى كان يحتفي بالأحلام

بواسطة | يناير 1, 2019 | رسائل

تبادل الناقد الفلسطيني فيصل دراج والمخرج السينمائي محمد ملص الرسائل، خلال المدة الزمنية 19681975م. جمعت بين الاثنين صداقة منذ سنوات الشباب، عندما كانا يعملان معلمين في إحدى المدارس السورية. سيسافر فيصل دراج إلى باريس لإنجاز رسالة الدكتوراه، في حين اتجه محمد ملص إلى موسكو لدراسة السينما. تقذف الرسائل بقارئها في خضم تلك اللحظة الزمنية، بكل ما تموج به من قراءات واهتمامات وأفكار وأحلام وأوهام حتى. وتعكس الرسائل الاهتمامات التي كانت تشغل الناقد والمخرج السينمائي، في تلك المرحلة الباكرة، كما تحفل بأسماء الكتب والأفلام والأماكن.

«الفيصل» تنشر هنا مقاطع من بعض الرسائل التي تبادلاها، وأيضًا مقتطفات من مقدمة طويلة كتبها الناقد فيصل دراج، للكِتاب الذي يصدر قريبًا ويضم بين غلافيه الرسائل.

هذه رسائل عن (شباب) مضى، كان يرفض ولا يعيّن ما يرفضه، ويندفع إلى رغبات صعبة التحديد. وما بين الرفض، الذي كان له شكل العادة، والرغبات الأقرب إلى الأحلام، التبس الطريق، وهرب الوقت وغدا رخوًا، أكثر من مرة.

لم أكن أدري عن الرسائل التي تبادلتها مع محمد ملص، شيئًا كثيرًا. نسيتها مع أشياء أخرى، اخترقتها أربعون سنة وأكثر. فلست إنسانًا أرشيفيًّا، ولم تسمح لي حياتي، تلك المضطربة القلقة، أن أنظِّمها وأن يكون لديّ أرشيف. فالعناية بالأرشيف، كما العناية بالأحلام، تحتاج إلى حياة مستقرة. وقد رضيت بنشر هذه الرسائل، وفاءً لزمن بريء مضى كان يحتفي بالأحلام. ما يدعوني إلى ذلك ماثل، ربما، في سطوة الحنين التي تربطني، أو تربطنا، بزمن غريب، لم نكن نعلم أنه حافل بالمعجزات. فامتلاك حاضر يسير إلى المستقبل، يأخذ اليوم شكل المعجزة، وترويض الحاضر الذي يعيش في المستقبل، قبل أن يأتي، يثير اليوم الدهشة. كان هناك في الماضي عائلة موحَّدة، لم يسمح لها الحاضر أن تستمر كما كانت.

وعن هذه الرسائل القليلة، ينبعث مأساوي جليل، يضيء الفرق الشاسع بين بناء الأحلام واندثارها، تلك الأحلام التي كانت آباء لنا، وكنا أبناء لها، قبل أن يمر الزمن ويفصل الأبناء عن الآباء، ويحمل الأحلام، صامتة باردة، إلى مكان مجهول. يدور هذا المأساوي الذي أدعوه بـ(الجليل) في فضاء زمني طويل، عالجه التفكك والخيبة والانحدار. يتراءى في ذكريات الماضي ما كان وانصرف، مخلِّفًا لوعة وأسئلة محبِطة، أما ذكريات الحاضر فتتراءى فينا حيث المنصرِف: نحن، لا الذكريات البعيدة.

مدخل إلى صداقة

تبدأ صداقتي مع محمد ملص في خريف 1968م، في مدرسة ابتدائية من دمشق القديمة، كما يمكن أن يقال. مدرسة قريبة من منطقة (باب الجابية)، في تاريخه القديم، ومن حي (الميدان)، العتيق المنغلِق على نفسه، وبينها وبين ساحة (الحجاز) مسافة سهلة. كنا نعلّم الصبية اللغة العربية والتاريخ، ونواصل تعليمنا الجامعي، ونعلم أننا نسعى إلى «العلم» قبل الجامعة وبعدها، وأن الجامعة بناء من نور… كان هناك (سطح المدرسة)، الذي يصعد إليه (الأساتذة) في الفُرص، ويتعارفون في بداية الفصل الدراسي ويتبادلون الكلام. على هذا السطح كان يقف، ذات خريف 1968م شاب بسيط الأناقة؛ قليل الكلام يدعى: محمد ملص، يحمل في يده أوراقًا وينظر إلى اتجاه ما.

في هذه المدرسة، كما في مدارس ابتدائية أخرى، كان (المعلمون الشباب) يتعارفون بطرق مختلفة منها: الانتساب إلى الجامعة؛ إذ لكل معلم فرع علمي انتسب إليه، والكتب التي تُقرأ في أوقات الفراغ، وبعض الكلام الذي يشد بعض (المتحزّبين) إلى بعضهم، وكانت الأحزاب السياسية عملة متداولة في ذاك الزمان.

بدأ التعارف بيننا ثقافيًّا، إن صح القول، فقد نظرت إلى الأوراق التي يحملها، ونظر إلى كتاب أحمله، لست أدري لماذا، كان عنوانه: «أرض البشر»، رواية مترجمة للفرنسي سانت أنطون أكزوبري، أصدرتها دار الكاتب المصري، التي كان يشرف عليها طه حسين، قبل إغلاقها. قال بصوت خفيض أقرب إلى الهمس: إنك تحب الأدب، قلت: أحب الروايات. قال: إنه يحب الأدب والسينما، ثم أكمل: أنه ذاهب إلى موسكو، لدراسة الإخراج السينمائي، ومستعد لبيع مكتبته التي تحتوي روايات وكتبًا فكرية… وإنه سيبيعها بثمن معقول. لم أكن أدري أن ذاك (السطح المدرسي)، المغمور بشمس خريفية، سيكون بداية لصداقة طويلة، ترتفع وتنخفض، وتتباعد وتتقارب، وتحتفظ ببعد حميمي. جاءت الصداقة، ربما، من تقارب طبعينا الظاهري، من ميل إلى الاعتكاف والبعد عن الآخرين، وربما أتت من خصوصية اللحظة الثقافية، التي تداخلت فيها سريعًا أصوات الكتب وصور الأفلام، وتوّجت باسم مدينة، كان له جاذبية في ذاك الزمان، هي موسكو.

اتفقنا على أن أقتني كتبه ومكتبته. كان لمحمد ملص فضيلة منذ البدايات، عنوانها: إتقان العمل خير من إتقان الكلام، فكان يقرأ كاتبًا، ويكتب قارئًا، ويتابع أفلام إيزنشتاين وتاركوفسكي وتروفو. لم يكن يميل إلى السينما العربية، ويحتفظ بدفتر مذكراته، الذي لا ينتهي، ويستشيره وهو يتأمل مشاريعه، التي قد يتحقق بعضها، بقدر ما يستشير طفولته، تلك الحاضرة الكثيفة المتمادية، المستعصية على النسيان.

هامش خاص عن زمن خاص

ما التقيتُ محمد ملص، في تلك الحقبة البطيئة في زمنها الروحي؛ السريعة في زمنها الفيزيائي، إلا وحدثني عن كتاب يقرؤه، وعن سؤال يشغله، عن فكرة يقترحها الواقع وتستقر في «دفتر ملاحظاته». أذكر أنه كان منجذبًا، في وقت، إلى روايات حليم بركات، حين كان غيره ملتفتـًا إلى «أدب الواقعية الاشتراكية». وبعد مدة سيسهب في الثناء على عمل الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال». كان آنذاك قد مر بتجربة موسكو، وتعرّف إلى الروائي المصري صنع الله إبراهيم وانغمس في فلم توثيقي عنوانه، ربما، «الكل في مكانه وكل شيء على ما يرام سيدي الضابط». لم أرَ الفلم، وإن كنت أذكر أن محمدًا حدثني لاحقًا عن (فكرة فلم طويل) موضوعه شاب يلتحق بالخدمة العسكرية، يُقص شعره (وأشياء أخرى) منذ البداية، وتوقف طويلًا أمام (تحولات الإنسان) التي بدت له مزيجًا من تربية وصناعة. كنا نرى في الرواية شهادة على الواقع، تنفُذ إلى أعماقه وتنقده وتحرّض عليه بإشارات توقظ الفكر والإحساس، وتزهد في الخطابة والبلاغة.

ولهذا، شجعني، بحماس لا اقتصاد فيه، في منتصف السبعينيات الماضية، على قراءة روايتين مصريتين ظهرتا في دمشق: نجمة أغسطس لصنع الله إبراهيم، التي واجهت القمع السلطوي بالفن، والزيني بركات لجمال الغيطاني، ذلك العمل الفريد في بنائه وإتقانه، الذي وصف (المستبد النموذجي) في الأزمنة المختلفة. ما كان يجذب في العملين هو «الفني» فيهما، لا الأيديولوجي المباشر، الذي بارك، أكثر من مرة، كتابات لا قيمة لها. ومع أنني قرأت جورج لوكاتش، الناقد الأدبي الماركسي، غير مرة، فإنني لم أعمل، ولم أكترث، بـ(تطبيق) تعاليمه على الرواية العربية، ولم أعمل على تطبيق تعاليم غيره، فما كان يجذبني إليه هو الفيلسوف فيه، ومحاولته أن يقرأ الرواية بلغة فلسفية، مشتقة من هيغل قبل أي مرجع آخر.

واقع الأمر أن احتفالنا المبكر بالثقافة، الاحتفال الغاضب الغامض المدرسي، اختصر عندنا الواقع إلى كتب وإشارات فنية، لكنه استولد أيضًا ذاتية مبكرة، تميل إلى الرفض وتتطيّر من الاتّباع. إذا كان عندي، أو عندنا، (تحزّب)، بالمعنى الدقيق للكلمة، فلم يكن الموقف السياسي المباشر، إنما كان تحزّبًا في الفن و(النقد).

أسئلة ناقصة وإجابات أكثر نقصًا

لست أدري، تمامًا، الأسباب التي كانت تدعو شابَّيْنِ، جاءَا من بيئة اجتماعية عادية، إلى ذلك الاندفاع العفوي، وراء ما يدعى بكتاب أو ثقافة، أو إلى تلك الإيمانية الغامضة التي كانت تقنعهم بأن خلاصهما قادم، وأن هذا الخلاص، الذي يتجاوزهما إلى غيرهما، مرتبط بشيء غامض يدعى: الثقافة، وأن قضيتهما ماثلة في التثقيف الذاتي، وفي الركض وراء (المعارف) في أشكالها المحتملة.

كانت هناك «الرواية»، التي بدت مدخلًا إلى الواقع والسياسة، نلاحقها في أعمال عربية وروسية وأوربية وأخرى مترجمة من أميركا اللاتينية (الناس والسلاطين لجوزيه دو كاسترو) وإفريقيا «لا وقت للراحة لأتشبي»، وهناك القصة القصيرة التي كنا نحاول التعرّف إليها حقيقية في أعمال يوسف إدريس، وزكريا تامر، وتشيكوف، وأو. هنري، والجزائري محمد ديب، والمسرح الذي كانت تشدنا إليه، قراءة كتابات سعد الله ونوس، وميخائيل رومان، وبيتر فايس، وماكس فريتش وبريشت، ذلك «الصنم» الجميل الذي كنا ندور حوله طويلًا ولا نقبض على سؤاله الأساس، ونضيف إليه، ارتجالًا، توفيق الحكيم، حتى نبدو (مثقفين كبارًا). وكان لنا حظ من الفلسفة نعثر عليه في كتب عبدالرحمن بدوي (التي لا تنتهي)، وفي ملخصات مصرية عن هيغل، ثم كتابات ماركس الشاب و(الأيديولوجيا الألمانية)، وصولًا إلى كتابات الفرنسي غارودي والألماني المستقر في أميركا هربرت ماركوزه، والإنجليزي كولن ولسن، الذي اشتهر في بلادنا ولم يشتهر في بلاده، وكان عندنا جان بول سارتر، الذي احترفت (دار الآداب) ترجمته، حتى بدا (فيلسوفًا قوميًّا عربيًّا) إلى أن جاءت حرب عام 1967م وأسقطت «قوميته».

السؤال: لماذا هذا الاندفاع الحار المتعدد الخيارات؟ هل كان ما يطربنا هو القراءة، أم (الرغبة في القراءة)، كما لو كانت الرغبة تساوي الشيء؟ هل كان عندنا من الأساس النظري ما يتيح فهم نيتشه أو سارتر أو جون ديوي، الذي كنا نمر على اسمه من وقت لآخر؟ وإذا افترضنا أنه كانت (الرغبة) فما أسبابها؟ ما الذي يدفع شابًّا إلى الاقتصاد في مصروفه اليومي كي يشتري كتابًا سيقرؤه بعد زمن؟ أو ربما لا يقرؤه أبدًا.

كان محمد أكثر وعيًا مني، وهو يعود مرة بعد أخرى إلى المأساة الفلسطينية، ويرتبك أمام الإجابات محتميًا (بلغة رمزية)، في زمن أيديولوجي مسيطر أدمن عبادة اليقين وتبسيط الأسئلة المعقدة، منذ أن اعتقد (الكثير من العاقلين) أن رحيل الاستعمار يستدعي، بلا تعب، معركة ذي قار… وإذا نظرنا اليوم إلى ذلك الجيل الطموح القلق الصادق الذي تكوّن، ثقافيًّا، أو اقترب من (خياراته الوطنية الكبرى) في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، أي الجيل الذي أنتمى إليه أنا وملص، وجدنا أنه واقع بين هزيمتين تاريخيتين: هزيمة 1948م التي أودت بفلسطين، وحرب 1967م، التي أرادت الانتصار لفلسطين وانهزمت قبل أن تنصرها… والمحصلة مثقف يلتف حول ذاته، يسمع ويرى ويعرف، ويظل ملتفًّا حول ذاته، إلى أن يصبح هذا (الالتفاف الذاتي) منهجًا في الحياة. كان ملص يوقظ هذه الذات ويسائلها، وهو يعود إلى طفولته في فلمه «أحلام المدينة»، ويعود إليها مجددًا متوسلًا ذكرياته عن والده الراحل مبكرًا في فلم «الليل». عاد ملص إلى ذكريات الصِّبا، في رواية وحيدة عنوانها: «إعلانات عن مدينة كانت تعيش قبل الحرب»، حيث الصبيُّ السوريُّ الناحلُ يجاوِر لاجئين فلسطينيين، وحيث الصبي، الذي أصبح شابًّا طويل القامة، يعبِّر عن ارتباطه الدائم بشعب سقطت عليه مأساة مدوِّية، يُدعى: الشعب الفلسطيني.

فيصل دراج

الرسائل

موسكو 5/1 1969م

ذاكرة شهرين من الزمن.

بعيدًا عن الأفكار والنظريات؛ المثير بالنسبة لي خلال متابعتي للحياة في موسكو؛ هو أن النتاج الفني ليس في متناول الجميع فقط؛ بل مثار اهتمام ومتابعة من الجميع أيضًا، وأنه ليس موجهًا لشريحة محددة. فالباليه كفنٍّ مثارُ اهتمام الجميع. بالطبع يحتل الاتحاد السوفييتي مكانة دولية مهمة في هذا الفن؛ وأسماء رواده وراقصيه معروفة. فهم رواد برعوا بإخلاص صوفي عجيب في تفانيهم؛ كالراقصة الرائعة بليسيستسكايا التي تؤدي هذه الأيام عروضها الأخيرة لتجاوزها سن الأربعين.

لقد أحب الناس هنا هذه الفنانة وقدرها؛ وتوّجها كراقصة أولى لمرحلة طويلة؛ ولأدوار عديدة؛ ومنها «بحيرة البجع» بالطبع. لقد أحسست بمتعة كبيرة في تصفحي لصورها في أدوار عديدة؛ وفي الوقت ذاته شعرت برهبة تشدك إلى عالم أكثر نقاءً وروحانية لما تتركه في النفس من أن الإنسان يكون أكثر سعادة حين يجد نفسه؛ مهما كان الثمن الذي يدفعه من جسده وأعصابه وعمره؛ والذي لا يمتلكه إلا مرة واحدة في الحياة.

صديقي العزيز!

لقد أتى شتاؤنا وشتاؤنا قاس. ففي هذا الليل وصلت البرودة إلى حد أن تجمد الماء في أنفي. بي حيرة من الصور في داخلي؛ وبي رهبة من الرؤى الجديدة… بي خوف من تفتيت تجربتي وإعادة رصفها بقوة جديدة وعمق أكبر. وبي شعور بالحاجة للإطلال على الماضي كله، لكني أحتاج أن أمتلك نفسي. فالتجربة الراهنة في هذه الغربة وفي هذا البلد مثيرة وغنية، وتدفعك لاحتضانها بعمق.

يقول عبدالوهاب البياتي في «هبوط أورفيوس»:

« وينام الناس في أسحارها دون قبور

كالعصافير على حائط نور

وأنا أحملها فوق جبيني من عصور لعصور

أرتدي أسمالهم… أنفخ في ناي الوجود

الطريق أمامنا يا صديقي شاق وصعب. الأهم أن نعود دائمًا لأنفسنا ونحاول التأكد من أن أحاسيسنا حقيقية وأصيلة.

طريقنا أن نكتشف وسط الجدران المحطمة، ومن خلال أنقاضها، فكرًا وطريقًا. حتى يكون وجودنا تعبيرًا عن موقف يماثل في أخلاقيته وصدقه استمرارنا كوجود حي. تبقى هناك قضية قادرة على أن تستنزف الحياة من داخلنا… هي أن نحيا وأن نستمر في الحياة بصورة لا تتطابق مع مواقفنا الفكرية ولا تشكل ردنا على انفعالاتنا النفسية والروحية من هذا العالم.

محمد

باريس 20/3 1970م

صديقي البعيد!

الساعة الآن الواحدة ليلًا، المدينة تغوص منهكة في بحر الليل. أضواء الشارع باهتة، أشعر بغربة عميقة، فأغوص في معطفي، وأصرُّ نفسي وأمشي بثقل وبطء.

هذا اليوم أرسلت هدية إلى والدتي بمناسبة عيد الأم، الأم والغربة وأمطار باريس والليل تحقن قلبي مصلًا باردًا ثقيلًا، فأشعر أنني مبلل بالأسى. كنت قبل قليل أتجول في الحي اللاتيني لأزجر عدم الرضا بقضم متوالٍ لسندويتش تونسي: وأتسكع أمام الحوانيت ومخازن الكتب. عندما يكون الإنسان في البيت يتمنى أن يكون في غابة، وحينما يصل إلى الغابة يتمنى أن يرجع إلى البيت. تذكرت هذا وأنا أسير في الحي الشهير. لا يجمّل هذه المدينة إلا نهر السين، الذي تسبح فيه بهدوء أضواء المدينة المختلفة، فأقف ثوانيَ لأتساءل: هل يسبح السين في عالم من الأضواء، أم تسبح الأضواء في السين.

محمد ملص

الليل للغريب مخيف، مُطارد كريه، ذئب كاسر وسفاح، أنحني وأنوء تحت سقف الليل القاسي، ثم يجثو الإنسان ماشيًا، يموء ويموء من جرح عميق دماؤه لا ترى.

العالم شرائح متعددة، المترو يزحف باردًا أمامي. سكير عجوز، يروي لي عن حبه لجولييت، ثم يشرب نخبي، يقول في صحة من لا يصغي إلى قصة حبي، ثم يقول لي من جديد: هل يمكنك أن تغني بلا كلمات، فيبدأ بترديد لحن بحبل صوته، الذي يعلو ويهبط، ثم يلهث، ويسترد لهاثه ليقول لي:

ألا ترى أنني أغنّي بلا كلمات… الرجل يقول: إنه يشرب بصحة صديق له بعيد، كان دائم الغضب والعبوس، وحين جاءه الموت ابتسم. أنتقل إلى مترو آخر، المرأة التي تقطع التذاكر، عجوز جاوزت الخمسين، تقول لي: لا تبدو مرحًا، فالشباب لا هموم له!

أقول لها: شاب بلا أرض، إنسان لا وجه له، تسألني:

أليس لك أرض؟

فأجيب:

لا! فأنا لاجئ فلسطيني، إن هذا محزن إذن يا سيدتي! الهموم لا علاقة لها بالعمر، إنها مشكلة ظروف، شروط لا أكثر.

شاهدت فلم سام بيكنبا الأخير «كلاب القش» إنه فلم رائع، كنت أريد أن أكتب لك عنه ولكنني متعب، ومتعب أيضًا من جميع أنواع الكلاب التي تتجول في الشوارع والمكتبات والبيوت.

قرأت كتاب لبولجاكوف اسمه «شيطانيات وبيوض منذرة بالسوء»، لم يعجبني، سأكتب لك عنه قريبًا، وسأرسل لك قريبًا مجلة الطليعة.

بلا تاريخ.

رحلة إلى ڤيلنوس.

فيصل العزيز!

دعني أحدثك عن مغامرتي في الخروج من موسكو؛ والسفر بعيدًا عنها.

كان صديقي «أليغييز» الليتواني؛ قد دعاني لزيارة مدينته « ڤيلنوس»(1). فعاد إلي اليوم منتصرًا؛ وهو يلوح ببطاقة القطار. لقد استطاع أن يتجاوز ضرورة الحصول على الفيـزا المترتبة على الأجانب مثلي؛ إذا أرادوا التحرك أبعد من خمسين كيلو مترًا بعيدًا عن موسكو.

أحس بشيء غامض يجعلني مترددًا في هذا السفر. وفي الوقت ذاته لدي شيء من الفضول يجعلني أتعلق به. فتعلقي هذا يعود إلى رغبة عارمة للهروب من موسكو؛ والبحث عن شيء جديد! كما أن «ڤيلنوس» تتردد في داخلي كشيء جميل؛ ولها في نفسي دلالات وصور.

ما إن عاد أليغييز هرعنا إلى محطة القطار على الفور، حيث لم يكن قـد بقي إلا دقائق قليلة لتحرك القطار. وركضنا إلى الرصيف الطويل لنلحق بعربتنا. فلم يكن أمامنا إلا أن ندلف أي عربة لنصير أخيرًا داخل القطار الذي بدأ بتحركه.

لكن هذا كله لم يكن يعني بالنسبة لي؛ أننا قد تجاوزنا الصعوبات لتحقيـق هذه الرحلة؛ وكان لدي الشعور بأنه ما يزال أمامي الكثير.

كان المساء الآن في أوله بعد. السماء رمادية تمنح هذا المساء شيئًا من البهاء. وعَبْر نافذة العربة كان بياض الثلج المفروش على الجانبين يتربع على الأمكنة بسطوة.

أقف وراء النافذة وأترجرج مع الاهتزازات الرتيبة، مشدودًا إلى رؤية الأشياء وهي تمر من أمامي وتبتعد، ثم تهرب، فتتولد في داخلي إيقاعات من التشوق لم أكن قد ألفتها بعد.

رائحة العربة تتربص في داخلي كطعم لسفر طويل؛ لم أعتده فـي حياتي. فشعرت بتوجس من هذه العتمة؛ التي بدأت تزحف بسرعة وتبدد الصور التي تعبُر من أمامي.

رحلة القطار ستستغرق الليل الطويل كله. فالمسافة حوالي الألف كيلو متر؛ مما جعلني أحس أني هارب بحق، ومدفوع وراء مغامرة خاصة. فقد تمردت على الحق المسموح لنا كأجانب بالسفر خارج موسكو من دون إذن رسمي. وتركت الدوام والدروس في المعهد. وتواطأت مع أليغييز بأنه في حال الإمساك بنا، فكرة ساذجة لتبرير هذه الجريمة؛ بأن أدعي حاجتي تصوير لقطات في أحياء ڤيلنوس القديمة، التي كان يحدثني عنها أليغييز والتي بدت لي تشبه دمشق القديمة، التي يجب علي تصويرها في فلمي القادم. لذلك كان لا بد من زيارتها لاستطلاعها مبدئيًّا.

ساد الظلام الآن كليًّا.

باريس.. أوائل عام 1972م

عزيزي محمد

من الغريب والجميل في الوقت نفسه، أن يكون لفكرينا منحى واحد، فقد كنت أفكر هذا الأسبوع بما تفكر فيه أنت، وربما في رسالتي التي أرسلتها إليك منذ يومين، تجد ملامح مشابهة لما تقول في رسالتك. لا شك أن هذا المسار الذي سارت فيه صداقتنا؛ ناتج عن سببين، أولهما أن معرفتنا قامت على قاعدة ثقافية، وأن كلًّا منا لم يرَ من الآخر إلا جانبه الثقافي.

إن ذلك الإلحاح على البعد الإنساني والأصيل هو شيء رائع. مشاكلي هذا العام؛ لم تُتِح لي وقتًا لرسائل متكاملة، مشاكل نفسية ومالية وعاطفية، حياة بلا منطق قائمة على الرهان والمغامرة أفسدت لي كل العام الفائت.

ربما أن رسائلي كانت إليك مجدبة؛ لأن عالمي الثقافي والنفسي هذا العام كان إذا أردت يا صديقي مجدبًا. استولى عليّ حنين إلى الأهل والعائلة ودمشق، وإلى المعلّم الابتدائي الذي كنته.

في هذا الجو الخانق ضاع ماركس وضاع البحث وفقدت أشياء كثيرة. الآن تركت تولوز، لكني تركت فيها تسجيلي، مع كل ذلك أصبحت في السنة الثانية؛ أي الأخيرة من الدكتوراه. وأنجزت %40. والحقيقة أن عملية تراكم الثقافة يا صديقي مسألة لم تعد تجذبني، لا أجد فعلًا شيئًا جديدًا.

قرأتُ ماركس أولًا ومن دون عمق، ثم ركضت لاهثًا لقراءة عالم الثقافة المعاصر. غارودي بكل موضوعية مفكر خفيف صنعه أولًا دعاة الأحزاب الشيوعية، ثم صنعته من جديد دُور النشر البرجوازية، وفي كلا الحالين كان صورة مصنوعة ليس فيها أي شيء حقيقي. ماركوزه ما خلا كتابه العقل والثورة؛ يقدِّم تمارين ثقافية، تزويج ماركس وفرويد، البولوني آدم شاف، شارح بسيط وسيّئ لماركس.

أدرجت في الفهرس حول الأطروحة 200 (مفكر) وكلما انتهيت من أحدهم زاد احتقاري لعالم الفكر وزاد احترامي لماركس. في عالم الماركسية المعاصر، وإذا أردت منذ لينين حتى الآن؛ لا نجد أكثر من ثلاثة أسماء تستحق لقب مفكر أو فيلسوف ماركسي هم: غرامشي، وجورج لوكاش، ولويس آلتوسير على الرغم من قلة إنتاجه.

بالنسبة لقدومك إلى باريس تخبرني طبعًا قبل قدومك، بالنسبة لإنسان غريب لا يعرف باريس ولا يعرف اللغة (يَهْلَك) وينفق يوميًّا (100 ف) على الأقل، أما حالك فهو غير ذلك. يا صديقي تحتاج فقط إلى الوصول إلى باريس. بالنسبة للطعام والشراب والنوم والدخان والمواصلات أنا أؤمّنها لك بكل رحابة صدر، ولا شك أننا سنقضي وقتًا ممتعًا وسنتحدث في أشياء كثيرة؛ وسنرى أشياء كثيرة. ونحن في انتظارك.

دمت لي أخًا وصديقًا.

موسكو 10/10 1968م

صديقي!

بدأت أغوص في بحار مبهمة. فأنا أتوق إلى فراق الأشياء التي كانت مزروعة في داخلي. لقد غادرتني مدينتي وتركتني مثقلًا بالأحاسيس اللّزجة، فصارت اللحظة الحاضرة أشبه بإبرة الحاكي تنغرس بي، وهي تقول: إن هذه الطائرة ذات المحركات الأربع، تحملك الآن وهي لا تدري أتطير بك أم بعد لحظات ستطير معها. وحين لاحت موسكو بوجهها الليلي بدت لي كغول يفتح بطنه الكبيرٍ ويبتلعني، وأخذ لهاثه يبعث القشعريرة في جسدي. وفي الصباح أخرجتني أرنبًا في عالم من القطط. يعجز عن أن يفهم أي شيء من حوله، فلم يتبقَّ لي بعدها إلا الحيرة.

ها أنذا يا صديقي أجول في شوارع موسكو! وبعدها لن يبقى لي إلا أن أقضي الساعات الطويلة، بحثًا للعثور على البيت الذي وضعنا فيه؛ حيث سنعيش وسنتعلم وننام داخله.

يعود الليل، ثم يعود من جديد، فلا ينبعث في داخلي إلا صوت هذا الارتطام الغامض. فأبدو كمكوك عتيق يسعى أن ينسج شيئًا ما… لقد ثملت بالأحاسيس إلى حد أني لم أعد أدرك كُنْهها. قد يتوهم أحدنا أنه اكتشف نفسه، وأنه (يعرف ما يريد)، لكن ذلك يبقى رهنًا بالارتطام الحقيقي مع العالم في مرجل الحياة الذي يغلي. عندها يعود ويرى أن ما عرفه عن ذاته، يترجرج في تلك الحرارة.

فماذا ستفعل؟

تملّكتني لحظة شوق غامرة للخلاص من ذلك الإبهام الذي استقبلَتني به موسكو؛ لأبدأ بتذوق طعم هذه الغربة… وموسكو تستعد لاستقبال شتائها القاسي.

يتناهى إليَّ الآن صوت موسيقا بروكوفييف فتهب حبيبات القشعريرة على جلدي. ويمّحي من ذاكرتي الدوران العبثي للأسطوانة السوداء.

في رواية «الوضع البشري» لمالرو، ثمة صورة لذاك الألم الذي يشبه هذا الألم المتقوقع في داخلي وأحاول الخلاص منه… في تلك الرواية يموت الأبطال، لكن لكل منهم ميتة خاصة به. الإرهابي العقائدي (كيو) يموت ويتحول جسمه إلى شظايا تلطم سيارة (تشاي كان شيك)، أما (تشن) الذي يعي أنه قد فقد نصفه الأسفل، وأن الشرطي المرتزق الذي يلكزه ككتلة لحمية مبهمة، يتساءل:

هل قُتل تشاي؟ يموت كيو! وتموت ماي بموت حبيبها. ويموت الأب بموت ابنه… فلا يبقى إلا الألم من الوضع البشري.

بلا تاريخ

دمشق

أيها الصديق البعيد!

عذرًا لتأخري في الكتابة لك يا محمد! بم توحي إليك ثلوج موسكو؟ وما تشعر به وأنت ترى متاحف ومسارح موسكو وتتذكر حارات وأزقّة باب سريجة؟

كيف تسير الأمور معك؟ هل ما زلت أرنبًا بين القطط، أم أنك أصبحت قطًّا أهليًّا؟

عندما يطوِّح بي الخيال، أتأمل قبضة ثلج من موسكو، وأراني متجولًا في الساحة الحمراء وساحة مايكوفسكي. وهنا أسألك أيها الرفيق البعيد، أيهما أجمل الحقيقة أم الخيال؟ عندما يتجسد الحلم هل يفقد شيئًا من نقاوته وروعته؟! كل الأحلام تموت في بدايتها، أو في نهايتها.

كيف يتغلب الإنسان على الشعور بالغربة؟ وما معنى الحنين إلى الوطن الذي قرأنا عنه كثيرًا في القصص والروايات.

اليوم بدأ عندنا شهر رمضان المبارك. هل تحنُّ إليه أم تراه عادة من عادات العالم الثالث؟

أرى أن شهر رمضان يبعث في نفسي رعشة ورهبة وإجلالًا، بل وخزاتٍ طويلة تلجُ إلى أعمق أعماق نفسي. فأتساءل: هل هذا الشعور نتيجة للتربية المتوارثة، أم أنه رد فعل يفصح عن قصور الإنسان وعجزه. هذا العجز الذي يبدو جليًّا في ليلة ممطرة أو مرض ثقيل، ويبدو جليًّا أكثر حين نتفكّر في عظمة هذا الكون وأسراره.

والآن دعك من أسئلتي. ما مدى نجاحك في تعلم اللغة الروسية؟ أسألك ذلك لأعرف إن كان باستطاعتك أن تمدنا بجواب عن بعض الأسئلة. ناقش كثير من المفكرين الماركسيين في الشهر الأخير كتاب روجيه غارودي «واقعية بلا ضفاف» وكتابه الأخير «هل يمكننا أن نكون شيوعيين اليوم؟». المهم أن أفكاره تثير جدلًا يوميًّا، ويعتبره البعض أنه تحريفي، وأن تعريف الواقعية الاشتراكية في كتابه «واقعية بلا ضفاف»، تعريف فضفاض ومائع، بل إنه نحر معنى الواقعية الاشتراكية كلَّه.

أريد جوابًا استنادًا إلى رأي النقاد السوفييت إذا أمكن.

ذلك أن كتبهم المترجمة إلى العربية جملة بديهيات لا أكثر.

بالنسبة للكتب التي أريدها سأكتب لك أسماءها الآن، أما عن الثمن فتقول لي ما هو، ثم أرسله لك بالبريد أو أرسل لك بعض الحوائج إذا أردت، ولك الشكر.

الكتب المطلوبة هي:

1- «المشاكل الفلسفية لفيزياء الجزيئات الأولية». بالإنجليزية.

2- «مشاكل علم الجمال المعاصر».

3- «المنطق ونظرية المعرفة ووحدة الأضداد» للفيلسوف ب. كيدروف بالفرنسية، وهناك كتاب سنوي يخرج كل عام باسم «العلم والإنسانية»، وأي كتاب عن فلسفة العلوم أو المنطق الرياضي باللغة الإنجليزية أو الفرنسية.

ولك ألف شكر.

* **

موسكو 29 / 3 1969م

صديقي فيصل!

يقول الشاعر الروسي الكبير ألكسندر بلوك: «الزمن يغفر للفنان كل الذنوب ما عدا ذنبًا واحدًا هو خيانة روح عصره…». فقد كان همُّ بروست أن يكتشف كل إنسان في ذاته رؤية جديدة للأشياء والناس.

لم ألتقِ بذاتي بعد. لم أمسك بها بعد. لم أكتشف العلاقة بينها والعالم المحيط بعد. فالإمساك بالذات هو الطريق لرؤية العالم والإبداع، ولكي أكون الشيء الذي أحلم به.

في الماضي كان حواري مع ذاتي أخرس. حين أطلُّ اليوم على هذه الذات أحس وكأني أطل على صندوق زجاجي لا قعر له. حين أتأمل زجاجه أرى الغبار المتراكم على حوافه… فالأشياء التي عشتها حتى الآن أشبة بركام بارد. كل ما أريده هو أن أعثر على الوسيلة التي تجعلني أرى العالم وأن أستبصر علاقتي بالأشياء المحيطة بي.

أقف اليوم أمام الحاضر برعب وذهول محاولًا وعيه وامتلاكه كي لا يفلت مني. فأصبو أن أتمكن من الوصول إلى التطابق بين الوعي وعلاقتي به. أعترف أن كل شيء لم يحقق ذاته بالشكل المطلوب. كأن كل ما رسمته لنفسي، وأنا أقدم على تجربة الحياة في بلد أجنبي، كان كأنه كذب على الذات. فالكثير من الطلبة المحيطين بي قطعوا شوطًا كبيرًا، وما زلت أدور في حلزون منخور. الذي يريد أن يصنع من ذاته شيئًا ما، لا بد له من العمل! لكن كل الأشياء ما تزال تبدو لي بعيدة. ولا تبدو أمامي القدرة على بناء شيء.

حين تعيش في مدينة كموسكو فإنك تغرق في عالمها، قد تنسى مشاهد تشييع الموتى مثلًا! فقد انتابني ذهول كبير وأنا أسير في موسكو حين لاحظت للمرة الأولى تكتلًا من الوجوه الحزينة، من ذوي الشعر الكثّ والأبيض الملوث بصفار دخان مديد، يلبسون ملابس فقدت ألوانها، ويسيرون بأقدام تزحف بلا رغبة نحو سيارة تحمل صندوقًا للموتى. وبدلًا من الصوت النحاسي لمؤذن ما، كان يتناهى حفيف آلات النفخ وهي تنشج حزنًا.

توقفت وتأملت المشهد الذي كان كافيًا ليحسسني بالنهايات. ثم ركضت فتاة صغيرة بفرح وهي تردِّد: أريد أن أرى حزن هؤلاء الناس! فتساءلت مع نفسي:

ترى هل الحزن واحد في هذا العالم؟!

تولوز.. رسالة بلا تاريخ

أخي العزيز محمد!

سلام وتحية.

ما كنت قد عبَّرت لك عنه كان مزيجًا من الاحتقار والغضب واليأس، فأن ترى تلك الكوميديا السوداء في الوطن العربي؛ شيء يخلع القلب. مجموعة من المهرجين يقودون مصير أمة مهزومة، لا شك أن وجود هؤلاء الأقزام يضاعف الهزيمة أو يوطدها ويؤبدها إذا أردت. ومما يزيد الصورة قتامة، تلك الجماعات البشرية التي تأكل وتشرب وتصفِّق وتعيش على العادات.

ماذا نفعل في تلك الصحراء البشرية؟ وهل هناك مكان نرمي به بعض البذور التي نحملها، إذا كنا نسقي بأنهار الوحل العائمة، وماذا ننتج في مجتمع سحابه لا يمطر وأرضه رملية؟

لا يزال امرؤ القيس يعشعش في كل رأس، وسيف عنترة البتار يلمع، في حين أن النابالم وصواريخ الفضاء أحالت شاعر القبيلة وفارسها إلى مهرج بلا بنطال.

يا رفيقي إننا بحاجة إلى مجتمع جديد، وإنسان جديد، إن العالم المعاصر أضحى من التعقد بحيث يحتاج إلى مضاعفة العمل ومضاعفة التخصص. لقد نام كل شيء، إنه موت في الحياة لن يعطيك إلا الحزن والاغتراب.

لست أدري ماذا أكتب لك عن الأخبار الأدبية والسينمائية، إذا كنت تهتم بشيء خاص يمكن أن أتابعه باستمرار لك. أبرز خبر عامٍّ هذا العام هو كتاب سارتر الجديد عن فلوبير بعنوان «أبله العائلة» وهو كتاب يقع في ثلاثة أجزاء، 2000 صفحة، بدأه سارتر منذ عشرين عامًا، وقد قام بتطبيق التحليل الماركسي والتحليل النفسي على حياة فلوبير وأعماله. أفضل ما في فرنسا أبحاث النقد الأدبي، صدر حديثًا كتاب رائع كما يقال اسمه «بيوتيقا دوستويفسكي» لمؤلف سوفييتي. لا تزال ضجة هذا العام هي ألكسندر سولجنستين، صُوَرُه في كل مكان، طباعة فخمة لروايته، وخاصة الدائرة الأولى، دراسات مستمرة عنه، صدر له كتاب اسمه «الكاتب وحرية الرأي»، وصدر عنه كتاب اسمه: «أديب سوفييتي بوجه إنساني».

أعتقد أنه صهيوني. على كل حال تأتي قيمته هنا فقط من كونه أداة ضد الاتحاد السوفييتي. شاهدت هذا الأسبوع فلم فيسكونتي الأخير: «الموت في فينيسيا» المأخوذ عن رواية بالاسم نفسه لتوماس مان، الرواية لها طابع ذهني، إن عظمة فيسكونتي أنه استطاع تشخيص هذه المشاعر والأحاسيس التي تملأ هذه القصة القصيرة. فيسكونتي أعطى الفلم مضمونًا سياسيًّا واجتماعيًّا واضحًا. أرجو أن تسأل لي إن كان هناك كتب فلسفية تصدر عن أكاديمية العلوم بالفرنسية أو الإنجليزية.

سأحاول أن أكوِّن لك مجموعة كتب فنية وأرسلها. أنتظر الحصول على منحة وعندها يمكن أن تطلب ما تشاء. سأذهب إلى باريس هذا الأسبوع وأبقى حتى نهاية الشهر. عنواني هو نفسه حيث تحوّل لي الرسائل إلى باريس. آمل أن أُنهي أطروحتي العام القادم، أحدثك عن عملي في رسالة قادمة.

موسكو 18/11 1970م

فيصل!

أستطيع القول: إنه قد بدأت في حياتي هنا مرحلة أكثر صعوبة. وهي في جوهرها أكثر امتلاءً وأكثر قلقًا. وهي تحضن في داخلها انكسار قشور العفوية والغربة، التي كانت تميز وجودي في هذه المدينة. وتضعني اليوم وجهًا لوجه أمام الهدف الذي جئت من أجله. قد تكون أكثر تعقيدًا وأقل متعة.

ليس سهلًا أن تفكِّر في كل لحظة، بمسؤولية أن تكون مخرجًا سينمائيًّا! وليس سهلًا أن يبتلعك هذا ويتمفصل داخل حسك وعظمك وجلدك، وأن تواجه هذه المسؤولية في كل لحظة.

أريد في البداية أن أكرِّس طاقتي بشكل جدي لمشروعي هذا، لذلك اعتكفت على الأقل في البداية عن مشاهدة أي عمل مسرحي أو حضور أي حفل موسيقي. وغرقت في مشاهدة كمية كبيرة من الأفلام ابتداءً من لوميير ووصولًا إلى الحرب والسلام… فأخذتْ هذه الأفلام تترسب في داخلي في تجربة يصعب الكتابة عنها في مثل هذه الفترة. ستظل تجربة الحياة في موسكو، بالنسبة لي تجربة حية، ثرة، عميقة، وترفدني بكثير من الوعي والإدراك اللذين أصبو لهما.

شعور الشك بالذات، من أقسى المشاعر التي يواجه بها الإنسان نفسه، خاصة حين تصرعه المواجهة اليومية والامتحان الدائم. فمن السهل أن يجتاز الإنسان امتحانًا ما، وقد يستطيع أن يواجه صعوبة امتحان آخر… لكنه من الصعب أن يبقى دائمًا في مواجهة مع أن يكون مخرجًا سينمائيًّا، وأن يقف أمام تصوره لهذا الاختيار متسائلًا كل لحظة عن المتابعة أو التوقف. وعن القلق في النجاح أو الفشل.

لقد لفت نظري آلان روب جرييه الذي كتب سيناريو فلم «العام الفائت في مارينباد» وأخرجه آلان رينيه. لقد شعرت أنه يستخدم إمكانيات السينما الفنية في التعبير عن قضايا جدية وحساسة وبأسلوب قريب من التشكيل الشعري. في العام الماضي شاهدت فلمه الآخر «قطار أوربا السريع». وأحسست أن الدفق الشعري الذي اتصف به فلم «الخالدة» كان مفقودًا تمامًا، والفلم رغم جدية وقوة الموضوع الذي يعالجه هو فلم يدعو لتأمل كبير.

كتبت كوظيفة للمعهد سيناريو بعنوان «ليلة شبيهة بغيرها» وهو سيناريو روائي لفلم قصير، وهو ليس للتنفيذ، لكنه مرحلة من المنهج الذي يتبعه المعلم في إعدادنا…

تولوز.. بلا تاريخ

الأخ محمد!

سلام وبعد.

نلهث في البحث عن أفضل العوالم، ونحنُّ إلى صباح قادم لم يأت بعد، فنظن أن ما نريده سيولد قريبًا. أحيانًا قد يتجسد الحلم، ويولد الصباح المنتظر، فنجد أن الحلم ولد مشوهًا، وأن الصباح الجديد لم يحمل معه شيئًا.

هذه الدوامة تمزق الإنسان، تخلع منه القلب وتتركه يراوح في عالم أسود لزج، بين الحلم والواقع؛ هوة لا تتجاوز أشواق الإنسان، تُخنَق قبل قدومها. عندما كنت مراهقًا قبل عشر سنوات كنت أعود إلى البيت في المساء، واليدان في جيوب المعطف والخيال مطلق السراح، حسرة وحرقة وحسد لأناس يدرسون في الغرب. وأقول: هل يجيء يومٌ أرى فيه ضباب باريس وشوارعها الضيقة. أنهار الثقافة، ممرات وردهات السوربون، ثم جاء يوم ووصلنا، لا أرى في الحياة جديدًا، وما أريده لم يأت بعد. الحياة متاهة وكثرة البحث تقتل الإنسان. ربما نرى بالقلب ما نريده، في حين أنه يجب أن يُرى بالعين، وأن نتعامل معه باليدين والعقل والجسد ومعايير الفعل والإنجاز والتراكم الكيفي والكمي…

الفن تعلّم أم معاناة، هل يمكن أن يصبح الفنان فنانًا عن طريق الدروس والتعليم، أم أن الفنان كيان فردي وتركيب نفسي يؤديان به إلى الإبداع؟ أعتقد أن الفنان يرى العالم رؤية مختلفة عن رؤية إنسان عادي، ينفُذ إلى جوهر الواقع، يشرحه، يُجزِّئه ثم يعود لتركيبه من جديد في رؤيا جديدة، ويقذفه إلى الجمهور كخلق وإبداع. إنه يظهر جروحًا لم نرها، وينير عالمًا لم نره، ويطرح مشكلة لم نعرفها، وهذه الجروح والعوالم والمشاكل نراها كل يوم، لكننا عاجزون عن رؤيتها بغير الفنان، فالفنان موهبة وبحث وثقافة وربما تعلّم.

أقول هذا بعد رؤية فلم ياباني اسمه ‹بيت العنكبوت›، كيف تعيد خلق العالم بالكاميرا، كيف تحرك عالم الإنسان الداخلي بالصورة واللون، كيف تجعل الإنسان يفكر بالكاميرا.

عالم الفنان عالم عجيب.

الفلسفة دائرة مغلقة من الأفكار، ليس عندي شيء أحدثك عنه، نفهم الحياة بالمعاناة وليس بالكتب، الكتب تزوِّدني بالألفاظ، والحياة بالمعنى. تصدر هنا مجلات كثيرة جدًّا ورائعة عن السينما، ولكن باللغة الفرنسية. إذا أردت أرسلها لك شهريًّا.

موسكو 27 / 4 1971م

العمل السينمائي الأول الذي طلبه المعلم «الماستر» تالانكين منا؛ وفقًا للمنهج الخاص بمعهد موسكو يشترط أن تروي حدثًا لا يتطلب الحوار. وأن يكون الحدث واقعي ويحصل في الأماكن الطبيعة فقط (أي ليس داخل الأستُديو). وأن يكون متصلًا مع شروط الحياة والعيش في البلد الذي ينتمي له الطالب. بالأمس شعرت وأنا في قاعة العرض بعد انتهاء الفلم الذي شاهدناه؛ أن شاشة السينما هي أكثر الأشياء حساسية وقدرة؛ وهي أدق المرايا في الكشف عن الذات الحقيقية والخفية لصانع الصورة. فقد يستطيع المبدع أن يختفي وراء الكلمات؛ لكنه لن يكون قادرًا على الاختباء وراء الصورة التي صنعها.

حين عدت من سوريا حاملًا الصور التي صورتها هناك للفلم الذي أريد تحقيقه الآن، بدا لي أن هذا «الرشز» (المواد المصورة) يتضمن كل شيء لتحقيق الفلم. وحين شاهدت المواد المصورة لأفلام الطلبة الآخرين بدا لي أنها تفتقد للكثير مما يمكن له أن يحقق تلك الأفلام التي طمحوا لتحقيقها.

بالأمس عرضنا الأفلام بشكلها الأخير. لا أعرف لماذا خرجتُ بعد العرض وأنا أشعر بصفعة على وجهي!… فقد بدا لي أنهم قد حققوا ما كنت أعتقد أنه ناقصًا؛ وأنجزوا أشياء جيدة وجميلة. وأني ما كنت أعتقد أنه بلا نقصان كان ناقصًا.

ليس هذا تقييم، وليس المقصود الجودة أو السوء؛ بل القراءة لما ترى؛ والاستقبال بلا خيال. فاستيقظت في الليل وكتبت في دفتري: «مشكلة فلمي كونه قصة مصورة».

يبدو لي أنه لا بد لي من طلاق بيني وبين القصة الأدبية. ورؤية العالم ببصرية محضة. السينما يجب أن تولد في داخلي من جديد على أنقاض فلمي الأول».

بدت لي هذه الكلمات التي كتبتها بكل نزقها؛ يجب أن تشكل مسارًا وجدانيًّا يعتلج في داخلي منذ فترة. ربما أكون بهذا قد وضعت أصبعي على المشكلة الأساسية في داخلي.

وأنا إذ أتناول هذه التجربة الأولى بصرامة؛ فلأني أحس أنه يجب الاستعداد للتجربة الثانية خلال الأيام القليلة القادمة. ربما للمعلم (تالانكين) رأي آخر. فقد عمد دائمًا وبصورة غير مباشرة على تشجيعي على الكتابة، ودائمًا كان يصف ما أقدِّمه له من نصوص أنها أدب بصري. كما لا يمكنني أن أنسى أستاذي العجوز (فيلونوف) مدرس المونتاج الذي عمل مع (إيزنشتاين) وكان شريكًا لـ(كوليشوف) مكتشف المونتاج في السينما. فبعد أن شاهد المواد المصورة في سوريا لفلمي هذا؛ خرج من صالة العرض ودمعة على طرف عينيه؛ وقال لي: فاحت لدي رائحة الواقعية الجديدة الإيطالية! وقد كان لعرض فلمي «حلم مدينة صغيرة» قبل أيام في القاعة الكبرى للمعهد على جمهور واسع من الطلبة والأساتذة؛ أن ذقت ولأول مرة طعم شيء جديد هو صوت الأكف بالتصفيق.

بلا تاريخ باريس

محمد يا صديقي البعيد،

العلاقة بين الفنان والفيلسوف موضوع طريف وشائك في الوقت نفسه، والذي أراه أن الفنان يمكن أن يطرح فلسفته في الموضوع المعالج، ولا يمكن أن يكون ذلك إلا في جملة من أعماله، فالتعبير بالصورة عن فكرة ما، يحتاج إلى جهد مستمر متواتر. وهو عمل لا يصل إليه إلا القلائل جدًّا.

يحزن الفنان عندما يرى أن ما يريده لا يصل إلى الآخرين بالوضوح المطلوب، ومن هنا يشرع هو بعمله من جديد، فإذا انتهى منه بدأ بعمل ثالث، أي أن ما يعبِّر عنه الفيلسوف بوضوح وإتقان وخلال سطور معدودة، يعرضه الفنان خلال آلاف الأمتار وخلال صور جميلة ملونة. برغمان فيلسوف رائع وفنان حقيقي مدهش، إنه يعبِّر عن الفكرة خلال سلسلة من الأعمال والرموز، ولكنه يقدم فكرته كما يريدها كاملة من دون نقص، من دون اغتراب، إنه يصافح فكرته بوضوح، فهو يتناول دائمًا مشكلة الموت والجنس والزمان. وقد عبَّر عن هذه الأفكار في أفلام عديدة. فهو فيلسوف حقيقي. إنك ترى أفكاره تنبض بالحياة وتتنفس وتتحرك من دون غموض ولا تعثر، ونلمس ذلك بوضوح في فلمه الرائع: «الصمت». هذا الفلم معجزة، إنه تصوير ذكي وبارع لمشكلتَيِ الجنس والموت اللتين تتصارعان داخل الإنسان منذ مولده حتى مماته.

بالنسبة لدراستي جيدة. بدأت هذا الأسبوع بتحضير الدكتوراه وعنوانها «الدِّين ومشكلة الاغتراب عند ماركس»، وعلى هذا فأنا مضطر لقراءة ما له علاقة بالدِّين وبالاغتراب، مشكلة الاغتراب تأخذ أهمية كبرى الآن؛ إذ إن فهم مشكلة الاغتراب، من خلال ما كتبه ماركس يثير خلافًا كبيرًا، فإن ماركس قد شرح مُشكلة الاغتراب في المخطوطات الاقتصادية الفلسفية عام 1844م. وهنا يبدو ماركس فيلسوفًا مهتمًّا بالإنسان فقط، إنه ذو نزعة إنسانية كاملة، ثم عاد في كتاب «رأس المال» فشرح مشكلة الاغتراب انطلاقًا من ماهية الاقتصاد السياسي البرجوازي، أي كما يقول البعض سقط في الميكانيكية الاقتصادية.

فالتوفيق بين مفهوم الاغتراب عند ماركس الشاب وماركس في مرحلة النضج يثير خلافًا كبيرًا، فالبعض يرى أن ماركس في مرحلة الشباب كان هيغيليًّا، وهو يتابع فلسفة هيغل، (هيبوليت) وآخر يرى أن ماركس الحقيقي هو فقط في رأس المال، ويجب حذف مرحلة الشباب (آلتوسير)، وثالث يرى أن مؤلفات ماركس متكاملة ليس فيها انقطاع (غارودي)، ثم هناك مشكلة الاغتراب والمجتمع الصناعي.

باريس.. بلا تاريخ

عزيزي محمد!

يكون الكاتب أصيلًا عندما يستطيع التعبير عن عصره، وكلمة المفكر بالنسبة لي تشمل كل من يعمل في حقل الثقافة، الأديب، الفنان، العالم. من ينشغل بالتعبير عن همومه الخاصة، هو فنان زائف.

أقول هذا بعد أن رأيت أعمال سينمائيين كبار، إنهم كبار؛ لأنهم من ثوار هذا العالم، إنهم ضمير العالم كما يحلو للبعض أن يقول أحيانًا. رؤية العالم من خلال منظورٍ أخلاقيِّ المضمون هي رؤية محافظة.

إن الفنان السينمائي وهو يحمل راية الفن السابع، يمكنه أن يأخذ دورًا طليعيًّا في النضال الأيديولوجي. توني ريتشاردسون في فلمه الرائع «نيد كيلي» عبَّر عن الصراع الطبقي في أيرلندا، وعن رؤية البرجوازية التي ترى في المناضلين أناسًا لم تحسن تربيتهم وأخلاقهم، ثم أظهر قوى القمع التي تقتل كل المتمردين باسم القانون والأخلاق والدين، وأنهى فلمه بأن التاريخ يسير لصالح المستَغلين والثوار. هذا موضوعه، أما أصالته فهي التعبير عن هذه الرؤية السياسية بتكنيك متقدم، الغناء الشعبي والتصوير والحوار الدقيق، ثمة الواقعية الشعرية لمضمون سياسي، في تطابق بين شكل ومضمون متقدمين.

ميلوش فورمان نفَذ إلى قلب البيروقراطية في فلمه «قص البستوني»، النخبة، أي الحزبيين الذين يخرجون من قلب الشعب كمعبِّرين عن مصالحه، ثم يصبحون طبقة جديدة، لا جسور بينها وبين الشعب. فلم سيرجي ليوني «كان هناك ثورة» يدافع عن عفوية الجماهير في النضال، وكيف أن الفلاح البسيط إذا عرف أول الدرب سار حتى النهاية، على عكس المثقف الذي يبدأ مع الثورة، ونادرًا ما يسير حتى النهاية. الآن يعرض فلم ليلوش الجديد «المغامرة هي المغامرة» إنه فلم فيه كل الذكاء والفن لكن للتجارة، إن ليلوش لا يرى في السينما إلا أداة للتسلية اللطيفة عن المتفرج، ووسيلة لخلق رصيد في البنك، إنه أغنى فنان سينمائي في فرنسا. وتدعمه الحركة الصهيونية دعمًا ماديًّا كبيرًا. بدأ هذا الأسبوع عرض فلم غودار الجديد «كل شيء يسير بشكل حسن» الذي كانت الرقابة قد أوقفته. مع عدم إعجابي بالسينما الفرنسية، إلا أن المنحى الذي سلكه غودار مثير للفضول، فهو يرى في السينما أداة للصراع الأيديولوجي. ولكن هل الحديث عن هذا الصراع في ذاته يشكّل فنًّا؟

يقول غودار: إن فلمي ليس عن السياسة، بل هو السياسة بعينها، إن أي عمل فني لا يرى الظواهر من خلال الصراع الطبقي هو عمل رجعي، والسينما ليست للتسلية، بل للدفاع عن مصالح الطبقة العاملة.

موسكو 26/2 1972م

أحس بتعفن اللعاب في فمي صمتًا.

إني كتلة باردة هرمة من دم يتخثر، ومرمي كأحد قطع الأثاث في هذه الغرفة الميتة، حيث يسيح من حولي زمن مذاقه مر. قرأت مجلة سورية من الصفحة الأولى إلى الصفحة الأخيرة، فشعرت أني أزداد غثيانًا، وأني أغوص في وهدة موحلة تفوح بالرعب والإهانة… فالكلمات تحسسك بالذل، والكوابيس تقفز من وراء السطور وهي أقوى من أن تكون قادرًا على تحملها، كلمات ملأى بالغبار السام، والأحرف قطع من صفيح محترق. والأفكار هذيانات لدغتها الهزائم. ربما لا يحتاج المثقف إلى اختصاصي ليكتشف معه هذه التوجهات للدكتاتوريات من راضعي حليب البراغماتية الأميركية.

ترى هل هو الجهل أم العمالة؟

التراجيديا العجيبة التي تحدث في غزة اليوم، يقابلها كوميديا مولييرية بحتة في الضفة الغربية. الليل علامة مبهمة، والظلام بلا سَدَفٍ وبلا أعماقٍ وبلا سطوح. آه! أيتها العتمة ما أشبهك بالأسى الذي يدب في أعماق الروح. الغربة أشبه بعبور على سِرَاط مصنوع في أحدث معامل (نيو سوبر جيليت)، سِرَاط يطل على أربع هاويات. فعليك أن تختار. وإذا كان هناك فرق بين هاوية الجنة والنار، فإن هاويات الغربة الأربع لا فرق بينها. في كل الأحوال ليس أمامك إلا أن تستمر، فالسقوط لا يقل عذابًا عن العبور. كنت يا صديقي في رحلتي إليك في باريس تبحث عن شيء ما مفقود في وجهي، وكنت أبحث عن الشيء المتبدل في وجهك. فقد بدا لي أنه حين كنت في دمشق كان الحزن في عقلك، وفي باريس صار في عينيك. لكن كلانا كان يحس أن دمشق ثالثتنا دائمًا… وأنها كانت تتسرب في مطر باريس، وفي الكرسي الثالث في غرفتك، حيث تجالسنا أكثر من نصف الوقت في زيارتي لك ولباريس، في منحدرات مونمارتر، وخلف الأرغن في (نوتردام). كانت في ذعرنا وفرحنا وكآبتنا، ولكن غاب عنا في كل ذلك أي نوع من الحنين.

باريس 1/ 10 1973م

عزيزي محمد دمت سالمًا.

الآن أقطف العنب في بوردو، أطير وأمشي وأبحر للوراء. في بحر الريف الفرنسي، يعانق الإنسان هنا جملة عوالم، تصفق اليدان فتتطاير هذه العوالم كغيوم بيضاء سارحة. وفي لحظة زمان كثيفة يتعانق الحلم والماضي والحاضر وطيف أيام قادمة وشتات أيام مضت، فلا أعرف أيًّا أحتضن منها. لا تخضع لا لمنطق الزمان ولا لمنطق المكان. في ساحة ترقص أمام العين حزمة من الصور، حزمة كالحلم لا تخضع للمنطق، لكنها ترسم بوهن صورة ذلك الغريب الحائر أرى صورًا عديدة، ربما سأكتبها بعفوية وبلا تكلف، سأرسم ما يطفو على وجه الشعور، وسأكتب ما يحرك أو يحركه اللاشعور، في هذه اللحظة يتلاقى عالَمانِ فقط، وجودي الجسمي، حجم إنسان في الريف الفرنسي ومجموعة صورة حارقة تكسر وجه الصمت، إذا حدقت جيدًا أرى عينَيْ والدتي الذابلتين، إنهما عينان أفرزتا دمعًا حتى الشبع، أرى وجه صديقي محمد، وجه لطيف يبحث عن عالم رآه يومًا ما في حلم، أرى صورة صديقي محمود البداوي وقد صرَّ نفسه في يوم شتوي، أرى نفسي طفلًا أركض تحت المطر، وأرى وجه والد هدّه التعب ينتظر بعينين بارقتين مجيء ولد ضيَّعه السفر، وأرى وأرى وأرى…

في مثل هذه اللحظات المسكونة بالحنين، لا أذكر من عوالم الكتب شيئًا، ولا أرى في الماركسية إلا كتابًا بين كتب أخرى كثيرة، جاءت واستمرت وبقي العالم كما هو.

عزيزي محمد!

الصفحة الأولى من هذه الرسالة، كتبها صديقك وهو شارد حزين، الآن يكتب لك وهو صاح، ربما الفرق بين الاثنين قليل، لست أدري على أية حال أيهما أفضل! كتبت لك مرتين ولكن لم أتلقَّ جوابًا، لست أدري ماذا تفعل وما هي مشاريعك، أتمنى كثيرًا أنا أرى أحد أفلامك، أتمنى أن أرى كيف يجسد صديقي الحالِمُ رُؤَاه، كيف يعبر محمد ذلك الإنسان الشاعر عن فكره بصور. التعبير عن الفكرة بصور شيء رائع، ربما أعبِّر أنا عنها بسلسلة من السطور ذات الكلمات المجردة الغامضة، أنت تجعلها تحبو، تتحرك، تحقنها بمجموعة من الصور الحية، تلقي عليها ظلالًا ولونًا وموسيقا، الفكرة تحبو، ذلك قمة الإبداع.

عندي الكثير لأقوله لك، لكن الصمت بيننا قد تطاول، ربما سنرقع ذلك الصمت اللامرغوب في رسالة أخرى.

تتوالى الفصول، ويهطل المطر، وتزرع الغيوم من جديد في بحر السماء ونحن نقف في ميناء الغربة ونكتب للأصدقاء، ونقرأ كتبًا عن الاغتراب.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *