المقالات الأخيرة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

يصف موريس بلانشو الأدب كمنفى في الصحراء، حيث يصبح الكاتب ضعيفًا تسكنه المخاوف مثل تلك المخاوف التي سكنت بني إسرائيل عندما قادهم النبي موسى، امتثالًا لطلب «يهوه»، في رحلتهم عبر صحراء سيناء إلى أرض كنعان؛ فالصحراء فضاء هندسي مناسب لاحتواء مفاهيم من قبيل العزلة...

«الأعـدقاء»..

صورة تذكارية لـ«فاوست» وملائكته!

بواسطة | يناير 1, 2019 | الملف

كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬اهتمَّت‭ ‬الدراسات‭ ‬الميثولوجية‭ ‬لملحمة‭ ‬جلجامش‭ ‬بتركيز‭ ‬بحثها‭ ‬عن‭ ‬الدلالات‭ ‬الوجودية‭ ‬لأسئلة‭ ‬الإنسان‭ ‬القديم‭ ‬حول‭ ‬الحياة‭ ‬والموت،‭ ‬وبتقصِّي‭ ‬رحلة‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الخلود‭ ‬بوصفه‭ ‬نزوعًا‭ ‬بشريًّا‭ ‬طبيعيًّا‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الأديان‭ ‬السماوية،‭ ‬وانصبت‭ ‬على‭ ‬تجسير‭ ‬الهوة‭ ‬وتفسير‭ ‬المسافة‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الخلود‭ ‬المستحيل‭ ‬والعودة‭ ‬الخائبة‭. ‬ظاهريًّا‭ ‬يبدو‭ ‬هذا‭ ‬التفسير‭ ‬هو‭ ‬الفكرة‭ ‬الأساسية‭ ‬في‭ ‬الملحمة‭ ‬الرافدينية‭ ‬القديمة‭ ‬حقًّا،‭ ‬بيد‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الاهتمام‭ ‬المتواتر‭ ‬بفكرة‭ ‬الخلود،‭ ‬حجب‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬ما‭ ‬الاهتمام‭ ‬بفكرة‭ ‬أساسية‭ ‬أخرى‭ ‬هي‭ ‬المحرض‭ ‬الأساسي‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬الخلود،‭ ‬ولو‭ ‬سألنا‭: ‬ما‭ ‬ذلك‭ ‬المحرض؟‭ ‬فإنَّ‭ ‬الملحمة‭ ‬نفسها‭ ‬ستجيب‭: ‬موت‭ ‬الصديق‭ ‬‮«‬أنكيدو‮»‬‭.‬

ورغم أهمية هذه الفكرة في حد ذاتها، بيد أني لن أستغرق كثيرًا في تقصيها وسأكتفي بها منطلقًا نحو أزمة أو لنقل «خرافة الصداقة» في حاضرنا، وسأتجه قليلًا نحو التاريخ القريب والحاضر العراقي والتجربة الشخصية فهي تنطوي على أساطير من نوع آخر. أما ما صار يعرف في العقد الثاني من الألفية الثالثة بـ«الصداقات الافتراضية» فهذا شأنٌ آخر تمامًا!

في ظروف غاية في التعقيد والالتباس عاشها بلد كالعراق توالت عليه الحروب منذ الحرب الكردية في الشمال خلال السبعينيات مرورًا بحربي الخليج الأولى والثانية وصولًا إلى الغزو الأميركي للعراق وما جرَّه من حروب أهلية، ومن تنابزات وصدامات داخلية، حول الموقف مما يجري. جعلت من الصداقة فكرة تستدعي الرثاء أكثر مما تبدو جديرة بالاحتفاء. ولهذا لم تعد الصداقة في العراق من تلك الأعياد التي يجري الاحتفال بها سنويًّا بل هي مما يقام لها تأبينٌ دائم في ذكرى غيابها، ذلك الغياب الذي ينطوي على كل أشكال الموت من الموت العضوي إلى الموت المعنوي.

فمن مقاعد الدراسة إلى ساحات اللعب، إلى جبهات الحروب والخنادق، إلى المقاهي والفنادق، إلى جغرافيا المنافي التي لا تنتهي، كُتِبَ تاريخ تراجيدي من أحلام مهدورة ويفاعات مغدورة، شكَّلَت ذاكرة من كوابيس وآلام أحالت تلك «اليوتوبيا» التي طالما راودت أذهان الفتيان إلى «دستوبيا» يعانيها هؤلاء في كهولتهم.

ومنذ أن تشكَّلتْ صورة الصديق في الكتب المدرسية ما بين مثال «الخلِّ الوفي» وقصص البطولة والإيثار والعطاء، ونوادر ومشاكسات التلاميذ على مقاعد الدرس، تشكَّلتْ معها أولى الملامح الرومانسية للصديق الذي سيبحث عنها هؤلاء الفتية في الروايات والأفلام ويحاولون تقليدها أو ترقُّبها في المستقبل وفي الحياة اليومية. وهكذا نحتوا من تلك الملامح في مخيلتهم أيقونة «الفرسان الأربعة» وصداقات العصور الوسطى وعصر النبلاء قبل أن تطولها تفسيرات ما بعد الحداثة الغربية بتفسيرات تقوم على «شكوكية مثلية» بأثر رجعي، إزاء أية علاقة حميمة بين الذكور! صحيح أن الصداقة في جوهرها واحدة من تصنيفات الحبِّ الأفلاطوني. لكنها لا تحتمل الزج بها في تعقيدات مشكلة «الجندر» وبما أن الصداقة بين الجنسين في مجتمعاتنا، ليست ظاهرة واضحة بحيث يمكن دراستها، فهذا يعني أن نتجنَّب تلك التفسيرات فيما يتعلق بخصوصية مشاعر الصداقة الذكورية في المجتمعات العربية.

كان أفلاطون دقيقًا حين ميَّز بين «أيرويس» و«فيليا» و«آكابي»، فـ«فيليا» هي المعادل للمحبة والألفة الذكورية في محاولة الخلاص من وحشة «الفوبيا» بما تنطوي عليه من هلع. وبهذا المعنى فهي نموذج لعلاقة «البرومانس» على وفق التعبير الذي ابتكر في ثقافة ما بعد الحداثة الذي يمثل خلاصة لتداخل الثقافات وبنحتٍ لغويٍّ يعبر عن ذلك التداخل ليجسد ضربًا من «الأخوة الرومانسية» أو التآخي العاطفي، وهي تعبير ربما يجد معادلًا له في «الخليل» و«الأليف» في الثقافة العربية. والواقع أن هذه الصورة ستبقى الأثيرة ولعلها الوحيدة لدى شريحة كبيرة من البشر، وعادة ما تستمر إلى ما بعد الدراسة الجامعية قبل أن تتلطخ صورتها بالألوان الحارة والباردة للحروب والمنافي.

وهكذا فإن صورة الصداقة لم تعد صورةً نمطيةً مكرَّسة ومُقدَّسة، بل هي أشبه بتلك المدارس الأدبية المتحوَّلة، والقائمة على دحض إحداها الأخرى أو المنبعثة من أطلالها، من المرحلة الرومانسية إلى الواقعية، وصولًا إلى مرحلة سريالية الواقع نفسه! والفانتازيا الافتراضية. لكنها ستغدو، بمرور السنوات، بانوراما للتاريخ الشخصي، وربما الجمعي، تضمُّ الكثير من «الزملاء» «والرفاق» والقليل، وربما الأقلّ، من الأصدقاء. بانوراما هي حصيلةُ رحلةٍ شاقةٍ فعلًا، كتلك التي أوردها التوحيديُّ نقلًا عن أحد الحكماء وهو يصف رحلة البحث عن الصديق، حين سئل: «من أطول الناس سفرًا؟ قال: من سافر في طلب صديق».

تؤرخ تلك الصورة لنفسها خلال المرحلة الرومانسية بالأسود والأبيض، تمامًا مثل لوني أحلام المنام، لكنها ما إن تصبح ملوَّنة، حتى تبدو أقرب للواقع منها للحلم، لكن إلى أيِّ مدى يبدو مثل هذا الاقتراب من الواقع ممتعًا؟ وبخاصة عندما تلوِّنُ الوقائع تلك الصورة بألوان الدماء وحرائق الحروب، فتنزف صورتها حتى تستنزف في الحروب والمنافي.

الحروب وأخوة الدم

أن تكون جنديًّا في سنوات الحرب الطويلة، فهذا يعني أنك في مواجهة مصير مزدوج إزاء الموت، والمحنة، والحاجة الإنسانية للآخر، وعندها يصبح المصير الفردي، في لحظة ما، مصيرًا جماعيًّا، وهنا تعود صور الملاحم من جديد، لتجمع بين «صداقة جلجامش وأنكيدو» وبين «رفقة أوديسيوس وآخيل» وبين «أخوة التضحية بين هكتور وباريس» و«المنافسة والقربان بين قابيل وهابيل» وسيكتسب الصديق تسمية لغوية أخرى تتمثل في «الرفيق» رفيق السلاح ورفيق المصير والمسير، أتذكر أن روايات الألماني «ريمارك» التي تقارب أجواء الحرب العالمية الأولى من جبهات الحرب إلى المدن المنكوبة، كانت تتناقل بين الضباط والجنود خلال الحرب العراقية – الإيرانية وهم يقرؤونها فوق الدبابات في ظهيرة هادئة، وكانت روايات «للحب وقت وللموت وقت» و«ثلاثة رفاق» على نحو خاص نموذجًا تقريبيًّا لمحاولة استحضار فكرة الإيثار بين رفاق السلاح في حياتهم وإجازاتهم الوجيزة، وفي كيف يكون الحب مقاومة للموت. وإذ يزدهر موت الأصدقاء خلال الحرب، فإن الصداقة لن تثمر إلا المراثي! مرثية لبطولة، ومرثية لعمر غالته أغوال المنايا في مقتبله، وقبل ذلك مرثية للذات نفسها.

إلى جانب الحروب الخارجية، كان ثمة حرب داخلية «ثقافية باردة» نجد جذورها في خصوصية مفهوم الأجيال في الثقافة العراقية، فكل «جيل» يبدو وحدة اجتماعية متآلفة في الظاهر، لكنها متنافرة في جوهرها بل متصارعة غالبًا، سواء بين شعراء الجيل نفسه أو بين هؤلاء وشعراء من جيل آخر. فقد يحدث الشقاق والفرقة بين جيل وآخر حول شكل القصيدة، فيصنف الشعراء بعضهم، إلى أنساب وأعراق: «شعراء عموديين» و«شعراء تفعيلة» و«شعراء قصيدة نثر» وإلى تسميات أخرى تستحدث عادة في تاريخ الاختلاف الفني للقصيدة، ولا يبقى مثل هذا الاختلاف في حدود من الجدل الثقافي، لكنه سيؤول إلى انعزال اجتماعي أكثر من كونه عزلة ثقافية، وستجدهم في المقهى كلًّا في زاويته، وكأنهم كلٌّ في معقله! وربما كلٌّ في صفحته الثقافية أو منبره الثقافي، هذه الحدود «الإقليمية» جعلت من نشوء صداقة بين الأجيال أمرًا عسيرًا وأحالت أية مودة ممكنة إلى ريبة دائمة بل ربما وحشة متبادلة! وجعلت النديَّةَ والاختلافَ يتحولان إلى نوع من الكراهية والعداوة. ففي العراق اتخذ مصطلح «الجيل الشعري» منحًى متطرفًا من كونه تصنيفًا تاريخيًّا لجماعة أدبيَّة ما، ليغدو موازيًا لما يمكن وصفه «القبيلة الشعرية» أو «الحزبية» تحت وطأة الفهم الراديكالي للأدب متأثرًا بجدل الأيديولوجيات المتصارعة، وهذا ما قادَ فكرة الصداقة والتآلف بين الأجيال، إلى منحى إبدالي لا اقتراحي، بمعنى أن كلَّ جيل يأتي ليعلن عن نفسه داحضًا وبديلًا لما سبقه. بل تعدَّاهُ إلى تصنيف نوعي داخل الجيل الواحد نفسه.

فإن غدا أصدقاء المدارس والجامعات في الذاكرة مجرَّد زملاء، وأصدقاء الخنادق والحروب رفاقَ سلاح مُدمَّر وقديم. والأتراب من المجايلين قد فرقتهم الثقافة! فأين هم الأصدقاء؟ الأصدقاء بلا نعوت وتوصيفات إضافية؟ يبدو أن الصداقة تكمن في مكان آخر! وهنا تعود عقدة جلجامش للظهور من جديد، ليصبح موت الصديق حافزًا إلى البحث عن الخلاص من أرض الموت وحديقة عزرائيل الأثيرة، فلعل المنفى مكان بلا حروب، وجهة أخرى للخلاص، لكنه سرعان ما ستبدو جبهة أخرى لحروب من نوع آخر، حروب أهلية مجازية صغيرة، تلك الحروب التي تتداخل فيها المسافات بين خطوط التماس، وتنحسر فيها الأرض الحرام، لتؤدي في نهاية المطاف إلى التباس المعنى والدلالة بين الصداقة والعداوة.

في المنفى يستيقظ «فاوست» من سُباته، متجسدًا في صورة السياسي الطامح لكل شيء على حساب أي شيء، أو المثقَّف المسكون بروح الإحباط من محدوديته والباحث عن طاقة أخرى بفعل الحسد والكراهية. بيد أن توصيف «المنفى» نفسه لا يبدو توصيفًا دقيقًا لحالة التيه العراقي المتواصل، بفعل تاريخ من الشقاق، الشقاق العتيد الذي يعزو الجاحظ جذوره ودوافعه عند العراقيين إلى «ميلهم للفطنة والتنقيب والترجيح بين الرجال والأمراء وميلهم إلى الطعن والقدح» ويقرُّ أن العراق ما زال أهله موصوفين بقلة الطاعة، وبالشقاق على أولي الرئاسة» وهكذا فإن المنفى العراقي، هو في واقعه «شتات» وهو سفر خروج بل حالة تيه من أرض شقاق إلى عالم من بَدَاد. فهؤلاء المنشقُّون أنفسهم ليسوا كتلة واحدة، وإن وُجِدوا في مكان واحد، ففي دمشق كان أغلب العراقيين أيام المعارضة لنظام صدام، ينتمون إلى تنظيميات سياسية دينية وعرقية ويسارية وقومية، وكان لكل مجموعة من هؤلاء عالمها المختلف بل المتنافر، فأصبحت الحياة الحزبية محفلًا آخر لاختبار الصداقات، في حقبة يزداد فيها الولاء تعقيدًا وازدوجًا، بين ما هو عاطفي وما هو «عقائدي» فولاء الفرد محكومٌ بالجماعة، وعليه أن يحافظ على شروط المودة والألفة تبعًا لخيارات تلك الجماعة! وهكذا بدت الصداقات بين الأفراد المنخرطين في جماعات متنافرة نوعًا من قصة حب أفلاطوني محظورة! ومطرودة خارج أسوار جمهورية الفيلسوف الإغريقي، ليحل محلها ما هو أكثر من مجرد خلاف وخصومة. ولعلَّ قصيدة الشاعر الراحل «وليد جمعة» المتذمِّرة من هذه الحالة التي تحمل عنوان «الأعدقاء» تعدُّ نموذجًا ممتازًا لتلخيص ذلك الالتباس، هذا النحت اللفظي من مفردتين متناقضتين: ملائكة وشياطين، فاعلي الخير ومرتكبي الشر، صنَّاع الجمال ومروِّجي القبح، جعل الشخصية الاجتماعية تتسم بملامح مسوخية هي خلاصة كيمياء «فاوستية» تجعل الشيطان قادرًا على أن يعيش متنكرًا بالملائكة في روح وضمير شخص واحد.

يقول وليد جمعة في قصيدته:

«اقترحتُ الأصدقاء.

أيُّهمْ؟

لا تحرجُوني،

بعضُهمْ في مَوقعِ الجرذ،

وبعضٌ آخر في موقعِ الخنزير

شخصٌ واحدٌ في مَوقعِ الضبع-

وبعضٌ قَنْفذَ الروحَ احترازًا أو عصابًا،

والبقايا زُعماء!»

وهكذا تتحول المسوخية في عصر الالتباس إلى «ضرورة مرحلة» كما يرى فرويد «كل من الصديق الحميم والعدو البغيض كان دائمًا من المتطلبات التي لا غنى لي عنهما في حياتي العاطفية. لقد دأبتُ على خلقهما من جديد، وعادة ما كان يتكرر المثل الطفولي في نموذج الصديق والعدو في الشخص نفسه».

بئسَ الْمُقتنى

مثلما تحولت صورة المودة، إلى بانوراما تشمل كلًّا من: الصديق والزميل والرفيق، فإنَّ بانوراما الكراهية ستشمل بدورها: العدو متنكرًا بهيئة الند والخصم. وعلى صعيد تجربتي الشخصية حاولت دائمًا تجنب الوقوع في مأزق المتنبي العظيم ومحنته وهو يغادر مسقط رأسه إلى مدن أخرى، مكابدًا ومعانيًا ظروفًا اضطرَّته إلى المداهنة التي خلقتْ له هذا الأسى العميق:

وَمِن نَكَدِ الدُنيا عَلى الحُرِّ أَن يَرى

عَدُوًّا لَهُ ما مِن صَداقَتِهِ بُدُّ

إلا أن تجنُّبَ هذا الخيار من شأنه أن يقود إلى محنٍ أقسى وَنَكَدٍ أمضّ يتلخَّص في إبدال الاسمين في الشطر الثاني وإعادة ترتيبهما على نحو معكوس في البيت الشعري ليصبح: «صَدِيقًا لهُ مَا مِنْ عَداوتِهِ بُدُّ» بيد أني لست مفتونًا بالعداوات، ولا بصانع أعداء، لكنني انتفعت من الأعداء، في أحيانٍ كثيرة، أكثر مما انتفعتُ من الأصدقاء، ربما مسترشدًا ببيت آخر للمتنبي العظيم، صاحب التجارب الخلاقة في كسب الأعداء وخسارة الأصدقاء، بعد فشل محاولته في المداهنة المؤقتة كما في البيت السابق، لكنه سرعان ما يجدُ الأمر يستوجب المواجهة ويستحقُّ المجازفة:

ومنَ العَدَاوةِ مَا يَنَالُكَ نَفْعُهُ

  وَمِنَ الصَّدَاقةِ ما يضرُّ ويُؤلمُ

ولا ننسَ أنَّ أبا الطيِّب كان يعرف تمامًا أنَّ «عَداوةَ الشُّعراءِ بئسَ الْمُقتنى». وإذ شكَّلت الهجائيات والإخوانيات في الشعر العربي، كلتاهما، تراثًا يؤرخ لما هو شخصي وعام في الوقت نفسه، في طبيعة العلاقات والتناقضات لحقبة ما، فهذا لا يعني أن كل الإخوانيات تؤرخ لصداقة دائمة ولا كل هجاء يعبر عن كراهيٍة وعداوة أبدية. وتاريخ الهجائيات الكلاسيكية الكبرى بين جرير والفرزدق، نموذج واضح لذلك، فالبلاغة الأدبية، لم تجعل من الندية عداوة أبدية، إنها خصومة ومباهلة نبيلة، ولم تمنع هذه «النقائض» الفريدة الأوَّل من رثاء خصمه عندما رحل قبله، ولعله كان يرثي في الواقع شطرًا مهمًّا من تاريخه الشخصي، فراح يقدِّم مرثية مبكرة لنفسه، مستعدًّا للانصراف من العالم بعدما انصرف ندُّه «الحميم» وصديقه «اللدود» منها. قائلًا وهو يسمع نبأ رحيله: «والله ما تصاول فحلانِ فمات أحدهما إلا كان الآخر سريعَ اللحاقِ به» فلم يعشْ جرير بعد الفرزدق إلا يسيرًا. ويروي البلاذري في أنسابه، أن جريرًا مات بعد الفرزدق بأربعين يومًا فقط!

وفي عالمنا المشحون بالتنوع والتنافر والاختلاف، تتجه مثل هذه التوصيفات إلى مسارب أخرى تقود إلى تباين وتغاير فخلاف. فيما تبقى صورة الصداقة لوحة أسطورية تواقة للعودة إلى تلك الملحمة الرافدينية القديمة، وتنحسر عن الحاضر تلك الصورة البطولية وروح الفروسية لتحل محلها ملامح «فاوستية» فبعد الغزو الأميركي للعراق عادت تلك المقولة التراثية المنسوبة لأكثر من صحابي وحكيم لتغدو عنوانًا عريضًا يجسد العزلة الأخلاقية في تلك المرحلة: «ما ترك لي الحقُّ من صديق» حيث ثمة أصدقاء سقط عن أرواحهم القناع، وأسفرت وجوههم عن ملامح أعداء، فغادروا حتى المنطقة الملتبسة في النحت اللغوي المسوخي لـ«وليد جمعة» فلم يعودوا حتى «أعدقاء» وهم من سميتهم «فقهاء المارينز» أولئك دبَّجوا النصوص والفتاوى لتسويغ الغزو، وأولئك الكشَّافة الصغار الذين لم يتوانوا في أن يكونوا أدلاء للأعداء في تدمير بلادهم. فحين يوقِّع أكثر من 300 «مثقف» من المنفيين، على رسالة موجهة إلى «جورج بوش» يشكرونه فيها على غزو بلادهم! واصفين الاحتلال بالتحرير! فَلَكَ أن تُحصي بين هذا الحشد عدد «الأعدقاء» الموتى والأعداء الأحياء!

هذا الالتباس المعقَّد بين الصداقة والعداوة، عادة ما يؤدي بالشخص المصدوم بهذا الواقع إلى اتقاء الأمرين معًا، معتكفًا إلى نوع من العزلة الاجتماعية، أو متطلِّعًا إلى إيجاد صداقات في تاريخ آخر، تاريخ روحي لا شخصي، وقد لا أبالغ إذا قلتُ: إنني صرتُ في أحيانٍ كثيرة أجدني منتميًا إلى صداقة امرئ القيس أو المتنبي أو أي شاعر في الثقافات الإنسانية الأخرى في قرون غابرة أو عقود ماضية أكثر من أُنسي لأولئك الذين جمعتني بهم ظروف تاريخية وشروط حياتية!

قِيلَ لأحد الزاهدين عن طلب الأصدقاء: «لم لا تتخذ أصدقاء؟ قال: حتى أفرغ من الأعداء، فوالله لقد شغلوني بأنفسهم عن كل صديق يعينني عليهم، وإحالة العدو عن العداوة أولى من استدعاء الصداقة من الصديق».

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *